الاثنين، 18 أبريل 2011

قصة ( الحنبلي)

الحنبلي

1

في قرية نائية من قري محافظة أسيوط نشأ ..وتلقي تعليمه الأساسى ..وبقدرة فذة علي الحفظ والصم استطاع أن يلتحق بكلية الهندسة..وفي هندسة أسيوط اختار قسم العمارة..وبعد ثماني سنوات من الكفاح والنحت في صخرالملازم تخرج..خدعوك فقالوا كلية الهندسة خمس سنوات..هكذا يكتب الطلبة علي جدران وأبواب ومقاعد المدرجات..قصير..ومفتول العضلات ..وغليظ القسمات..ووجهه عليه غضب الوسامة والقبول..نعم هناك وجوه دميمة ولها قبول وحضوروجاذبية..أما وجه حافظ الدشناوي فوجه إرهابي ..وخصوصا بعد أن أطلق لحيته ليزيد الطين بلة..ومع ذلك لايتحمل رؤية امرأة قبيحة..الجمال هو معبوده..وكأن كل إنسان يعبد ما ينقصه..وكان شرطه الأساسي عندما أراد الزواج أن تكون ملكة جمال..إذن عليك بالمنصورة..هكذا نصحه أولاد الحلال.. حافظ ليس له أي تجارب عاطفية..سبعة وعشرون عاما وهو يعيش في قوقعة من الجدية والصرامة لايخرج منها..واضح.. وصريح ..وحاد..ولايعرف المراوغة..ولا الخبث..ولا اللف والدوران..مافي قلبه علي لسانه دائما..يكره التجمل كراهية عمياء..أو علي وجه الدقة لايجيده..ولم يحاول..هو راض عن نفسه هكذا..يكره أنصاف الحلول..ولايعرف من الألوان غير الأبيض والأسود..بمعني ياتحلبي ياكسر قرنك..هو الأبن الأكبر لأب يعمل بالفلاحة ..له أخوان يصغرانه..سعيد في رابعة طب ..وعبد الرحمن يعمل في النجارة بعد أن طفش من المدرسة بسبب مدرس رياضيات بغيض..دائما مدرسو هذه المادة بغيضون..ربما لو كان إقليدس حيا لفعل بهم ما فعله هتلر باليهود..
مازال المدرسون في مصر يعتقدون أن الخرزانة هي خير وسيلة لتربية وتعليم التلاميذ..ومازالت الحكومة تعتنق نظرية العصا والجزرة في حكم الشعب..ومازال المتدينون يعتقدون أن الجلد والرجم هو الوسيلة الناجعة للحد من انتشار الفاحشة..ومازال حافظ يعتقد أن الرجل لابد أن يكون سي السيد والزوجة لابد أن تكون أمينة..








2

للمرة الأولي يخرج حافظ عن طوع أبيه ..ويرفض بإصرار أن يتزوج من ابنة عمه رحاب..الأب كان قد اتفق مع أخيه علي كل شيء..ولم يبق إلا أن يطاطيء حافظ رأسه ويقول بخجل العذاري
- اللي انت شايفه يابا
ولكن حافظ تمرد ..وجعل رأس أبيه مثل السمسمة أمام من يساوي ومن لايساوي..
والأم تهمس في حزن مولولة
- آدي اللي احنا خدناه من تعليمه..عشان ما اتعلم وبقي باشمهندس نفسه كبرت علينا..وبقي يمشي من راسه ومن دماغه..إحنا اللي نستاهل ضرب الجزمة..قالوها زمان حكمة.. العليل لما يشفي بينسي جميل المداوي..

ومنذ تلك اللحظة كانت القطيعة(غير المعلنة) بين حافظ وأهله..وبعدها بعامين سيتقدم لخطبة غادة الحداد..ملكة جمال كما أراد ..ولكنها حاصلة علي دبلوم تجارة..من قرية تابعة لمدينة المنصورة..أخت رفعت الحداد زميل دراسته .. ورفيق حجرته في المدينة الجامعية.. كان حافظ مندهشا من أن يكون هناك رجل بكل هذا الجمال..العينان الخضروان..والبشرة البيضاء كنور لمبة النيون..واليد الناعمة كالزبدة..وعندما كانت تقع عيناه عليه وهو يقوم بتغيير ملابسه كان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم..ومع ذلك كان يحلو له أن يختلس النظر إليه..وفي أحلام يقظته كان يتخيل امرأة علي شاكلته..ويسخن ويرتعش ثم يرتخي ويبرد..ثم يغتسل ويصلي..ثم يستغفر ويقرأ القرآن..ويقول له رفعت بإعجاب
- صوتك في القرآن جميل قوي ياحافظ ..أنا بجد باحسدك عليه..بس عايز أقولك حاجة مش عارف حلال ولا حرام ..أنا كان نفسي يبقي صوتي حلو عشان ابقي مطرب..

ينسي حافظ ما كان عليه منذ دقائق ويعيش دور الواعظ
- يا أخي استغفر الله..الغناء حرام بأقوال جميع الفقهاء

بسذاجة يسأله رفعت
- ليه حرام ..واحد ربنا وهبه صوت حلو بيخلي الناس تبقي سعيدة ..أيه الحرام في كده

بغضب رقيق يجيبه
- السعادة في ذكر الله يارفعت..واضح من كلامك أنك تجلس مع زميلنا العلماني أحمد طنطاوي كثيرا..وأنا أحذرك منه..سيفتنك عن دينك..

- يعني أيه علماني
- العلمانية هي اللادينية..تقول بأنه لادين في السياسة ولا سياسة في الدين..أي أنهم ينادون بالا نحلال وترك الحبل ع الغارب للنساء..
- معقول طنطاوي عايز كده..ده مش بيسيب فرض..
- حيلة يقوم بها ليقنع ضعيفي الإيمان بأن ما يدعو إليه هو الإسلام الصحيح..وهو كفر بين..
- هو انت مع الإخوان ولا السلفية
بتردد يجيب حافظ إذ انه تذكر ملفه في أمن الدولة والإهانة التي تعرض لها علي أيديهم في بداية انضمامه للسلفية..
- بقلبي مع السلفيين ولكنني لست منضما لأي جماعة..

3

لابد من القول بأن حافظ شخص غير متعصب علي الإطلاق علي عكس ما يبدو من هيئته وكلامه..بل هو إنسان يميل إلي المرح والدعابة عندما يترك نفسه علي سجيتها.. وثقافته الدينية كانت ثقافة فقر بالأساس..كانت هي الثقافة الوحيدة المتاحة والمطروحة في قريته النائية في أوائل السبعينات(أولي سنوات طفولته..هو من مواليد عام النكسة..الجيل الذي لم يأخذ من مصر شيئا ولم يعطها شيئا في المقابل) ..لم يكن في المنزل تلفزيون..ولم يكن في قريته بأكملها بيت واحد به رواية لنجيب محفوظ أو كتاب لطه حسين..لم يكن هنالك سوي راديو عتيق علي حافة نافذة وسط دارهم الطينية..
(كان من المعتاد في الدور القديمة أن تكون حواف النوافذ عريضة وتتسع لوضع أشياء كثيرة منها صينية القلل والراديو كما كانت تتسع أيضا لنوم القطط )..
هذا الراديو لايذيع سوي إذاعة القرآن الكريم..المسجد المجاور أيضا كانت به مكتبة تحتوي علي كتب مثل تفسير ابن كثير وصحيح البخاري والداء والدواء..وكانت هناك الأضرحة التي تملأ القرية..وكان هناك تسليم الفلاحين الفطري بالمكتوب والقسمة والنصيب..حتي عدد الأقباط في قريته كاد أن يكون معدوما..باختصار كانت القرية أحادية الثقافة ..وهذا ماانعكس بوضوح علي شخصيته التي لاينطبق عليها سوي وصف الحنبلية..












4

أبوه أيضا كان حنبليا باقتدار..ولم يكن يحلو له إذا سنحت له الفرصة بإمامة المصلين في صلاة جهرية سوي قراءة السور الصعبة..ولم يكن نسيانه ومراجعة المصلين له سببا وجيها لاختيار آيات أكثر سهولة وأيسر حفظا..في حوالي الستين من عمره..لايكف أبدا عن تقديم النصائح للآخرين رغم أن أحدا لا يدعوه إلي ذلك..ومن المناظر المألوفة والمملة والمضحكة أن تراه واقفا يشرح لأحد في الميضة كيف يتوضأ وضوءا صحيحا..أو كيف أن طريقة ركوعه تبطل صلاته..أو أن الجلباب الذي يرتديه أطول من اللازم وهذا مانهي عنه الرسول لأنه علامة من علامات الكبر..وفي الفلاحة نفس الكلام..يتصرف كأنه مهندس زراعي..واعتاد دائما أن يقول لأخيه نهاية كل محصول وهو يضرب كفا بكف
- أنا والله العظيم باستغرب..مافيش حد في البلد مهمل زيك.. وعويل زيك..ومع ذلك مافيش أرض بتجيب محصول قد أرضك..

ومع ذلك لم يكن يتعلم..ولم يكن يتوقف عن الاهتمام بأدق التفاصيل..هناك دفتر صغير في حجم كف اليد في جيب الصديري يدون فيه كل شادرة وواردة..كراسة لحافظ بخمسة قروش(شلن)..كيلولحمة بخمسين قرش..نقطة لابن فلان الفلاني جنيه..
ومن المدهش أن يكون حافظ الوحيد بين أخوته الذي يرث كل تلك العادات بلا استثناء..

5
كانت معرفة (حافظ )للقاهرة – طوال فترة دراسته- قاصرة علي زيارته لعمته (بدوية) في الإجازة الصيفية..ونظرا لعدم إنجابها فكان يحظي – هو وأخوته- بعطفها الشديد..تزوجت في أواخر الخمسينات من عجوز قاهري كان يعمل بتجارة الأقمشة..وانتقلت معه للسكن بحي السيدة زينب..وكان الرجل غنيا – غني غيرفاحش-وكريما..بعد وفاة زوجته وهجرة أولاده في السبعينات لدول الخليج كان لابد من امرأة شابة تخدمه وترعي مصالحه..وكان يعرف أن عطاءه الجنسي لم يعد علي مايرام..لذا كان لابد أن تكون الزوجة قطة صعيدية مغمضة وقبيحة ليضمن وفاءها..وبلعبة قدرية غير مفهومة وقع اختياره علي بدوية..كانت قد اقتربت من الثلاثين دون أن يتقدم أحد لخطبتها..والثلاثين في تلك الفترة كانت سنا كبيرة جدا بالنسبة لامرأة..كانت قريناتها قد أنجبن أولادا وبناتا في سن الزواج..ولكنها أبدا لم تيأس..وكانت تعتقد أنها ماهي فيه سببه عمل عملته لها إحدي بنات الحرام اللائي يغرن منها ومن جمالها وجمال طباعها..وكانت دائمة اللف علي المقامات والأضرحة..ونصحها بعض الطيبين أن تزور مقام الطاهرة وام العواجز السيدة زينب..ومن العجائب أن يأتي العريس فور زيارتها بأسبوع..والأكثر عجبا أن يكون من نفس الحي..وبعد أن كانت (بدوية) مثار إشفاق نساء قريتها أصبحت بين عشية وضحاها مثار حسدهن..وكان المهر الذي دفعه التاجر للمرحوم أبيها حديث القرية لمدة تقترب من العشر سنوات..استطاع أن يبني به بيتا طينيا واسعا وجميلا.. لم يكن هنالك بيت في القرية يضاهيه سوي بيوت أعيانها..ومن المفارقات أن ماكان في يوم من الأيام مدعاة للفخر والزهو أصبح مدعاة للخزي والعار..عاشت بدوية مع زوجها الطاعن في السن حياة لم تكن تحلم بها..وتعاملت مع عجزه الجنسي باعتباره أمرا من الأمور الطبيعية..لم تتصور أبدا أن رجلا يستطيع أن يعطيها متعة أكبر من تلك المتعة الخاطفة والمبتورة..ومن الأيام التي لا تنسي عندما شاهدت – وكانت قد تخطت الستين- فيلما فاضحا علي القمر الأوروبي..كانت الصدمة عنيفة ومذهلة..أن تكتشف أن حياتها انتهت دون ذرية ودون متعة جنسية حقيقية..ولحظتها احتقرت كل ما تعيش فيه من نعيم..ولم يدم إحساسها بالحزن طويلا(ماحدش بياخد أكتر من نصيبه..والمكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين ..وانا احسن من غيري كتير)..هذا الجيل القديم كان يمتلك ميزة يفتقدها الجيل الحالي وهي أنه لم يكن يعطي للمتع الدنيوية اهتماما عظيما..وكان يعتبر أن الحرمان هو الأصل في هذه الحياة..أعرف أن هذا الموقف ليس صحيحا..ولكن ليس صحيحا أيضا أن نتخيل أن الإشباع هو الأصل..وأن جميع رغباتنا لابد من تحقيقها..لاشك أن أصحاب الموقف الأخير هم أكثر عذابا وأقل فهما للحياة..


6

العمة بدوية كانت الشجرة الخضراء الوحيدة في طفولة حافظ القاحلة..فهي التي تكفلت بمصروفات تعليمه ..وهي التي كانت تكافئه عند النجاح..وهي التي كان يفخر بها أمام زملائه دائما..كانوا ينبهرون عندما يخبرهم بأن عمته تعيش في القاهرة..وأنه يزورها كل عام..ووعدته بأن تأخذه العام القادم لزيارة حديقة الحيوانات والأهرامات(أطفال هذا الجيل لم يعرفوا دريم بارك)..ولم يكن هذا صحيحا فالعمة بعد عشرين عاما أو يزيد علي السكن في القاهرة كانت بالكاد تتعرف علي شوارع الحي الذي تعيش فيه.. ولكنه كذب الأطفال الأبيض..هل يوجد كذب أبيض فعلا؟؟..أم أنها حكمة المصريين في التسامح مع كل الأخطاء البشرية..فالكذب في حدود المعقول أبيض ..والنفاق في حدود المعقول دردحة..والإدمان في حدود المعقول كيف..والإسراف في حدود المعقول نزاهة..والبخل في حدود المعقول حرص..والقسوة في حدود المعقول لابد منها لتربية الأولاد..الشعب المصري واقعي جدا..ويدين كل الأشياء في حدودها القصوي..حتي وإن كانت خيرا..فالشخص الطيب جدا هو في نظر المصريين عبيط وأهبل وخيخة ودهل وشرابة خرج..والشعب المصري لايعتبر الباطل غريبا عن الحق (عايز الحق ولا ابن عمه)..المهم أن حافظ بعد هذه الأكاذيب الطفولية لم يعد إليها بعد ذلك أبدا..



7

عقب الأزمة التي نشأت بين حافظ وأبيه بسبب رفضه الزواج من ابنة عمه تدخلت العمة بدوية وحاولت من الصلح بينهما..ولكن الأب كان رأسه ناشفا كالعادة ورأس حافظ أنشف منه..لدرجة أن الأب صرخ في وجه الابن
- قسما عظما لو مااتجوزت بنت عمك لاانت ابني ولا اعرفك..ووشي ما يجيش في وشك ولالساني يتحط علي لسانك ليوم الدين..

وعاش حافظ في تلك الفترة صراعا لاحد لقسوته..فهو المتدين الذي يعرف ذنب عقوق الوالدين..وأنه ينبغي عليه أن يطيعهما في كل شيء ماعدا الكفر..وأخبره الكثيرون من الشيوخ بأن ما يأمره به أبوه ليس من الكفر في شيء ..فهو يعرف مصلحته أكثر منه..ولكن حافظ كان يعرف أن إصرار أبيه علي هذه الزيجة يكمن خلفها طمع في الأرض التي سترثها البنت الوحيدة عن أبيها..ولكنه لم يستطع إعلان ذلك..وأخيرا وجد الحل الذي سيريحه..منذ صغره وهو مرتبط وجدانيا وعقليا ببرنامج بريد الإسلام الذي تذيعه إذاعة القرآن الكريم في السابعة من صباح كل يوم
ويعاد في السابعة مساء..وقرر أن يراسله..وكم كانت فرحته عظيمة وهو يستمع إلي مذيعه المفضل (عزت حرك) وهو يقول:
- وصلت إلي البرنامج رسالة من المستمع حاء سين دال محافظة أسيوط يقول فيها ما حكم الشرع في....................

ويذكر أن الشيخ عطية صقر- رحمه الله- رد عليه بأسلوبه المميز في الحديث بأن الخروج عن طاعة الأب في مثل هذا الأمر ليست حراما شرعا للعواقب الوخيمة التي قد تنشأ عن هذه الزيجة من عدم حفظ للفرج وغض للبصروهو ما يتعارض مع ماأمرنا به الرسول..وقال بأن البحث عن الزوجة الجميلة من الأمور المستحبة طالما كانت ذات دين..هذاوالله ورسوله أعلم..
- الرسالة التالية وردت من المستمعة عين شين ألف..يستطرد المذيع المحبوب ذو الصوت الدافيء بينما حافظ لم يزل غارقا في نشوته..










8
عام كامل وحافظ يسبح في نهر من العسل..بدأ باقتراح العمة أن ينتقل للسكن معها في القاهرة.. كانت تعيش في بيت أنيق من دورين ورثته عن المرحوم زوجها..نسيت أن أخبركم بأن سعيد – أخو حافظ الأصغر-لم يكد يكمل عامه الثالث حتي أخذته العمة لتقوم بتربيته..وتحكي العمة بأن المرحوم زوجها أحب سعيدا أكثر من أولاده أنفسهم..ولم يبخل عليه بالحب ولا بالفلوس..واليوم الذي ظهرت فيه نتيجة الثانوية العامة وكان سعيد فيه من الأوائل علي الجمهورية واتصل الوزير بنفسه بالمنزل ليقوم بتبشيرهم أغمي علي المرحوم من الفرحة..ولم يكن يصدق عينيه وهو يري السعيد علي شاشة التلفزيون في برنامج أماني وأغاني مع المذيعة جميلة سماعيل..كانت هذه الأيام السعيدة هي آخر أيام المرحوم..مات في نفس اليوم الذي وقع فيه الزلزال الشهيرفي اكتوبر1992..وقع من علي السريروارتطم رأسه بالكومودينو وأصيب بارتجاج في المخ..بعد ساعة واحدة كانت صعدت روحه ألي بارئها في استقبال مستشفي المنيرة التي يعمل بها سعيد الآن أخصائيا في الجراحة العامة..


9

رب ضارة نافعة..هاهو حافظ يعيش في بيت لم يكن يحلم به..بيت به تلفزيون ملون وثلاجة ومروحة وحمام أفرنجي وأنتريه ..بيت له جرس علي الباب..بيت له أكثر من بلكونة..بيت له فيه غرفة خاصة..بيت يطل علي بيوت تسكنها البنات الجميلات..بيت يطل علي شارع متدفق بالحياة..بالضوضاء الموسيقية..بالزحام المطمئن..
( الزحام نوعان..زحام يطمئنك..وزحام يخيفك ..)بيت لا تخرج منه إلا وأنت تتمني أن تعود إليه بأقصي سرعة..وأقصي حنين..














10

القاهرة جميلة ومرعبة..وبناتها يتكلمن بجرأة تصل إلي حد الوقاحة..وملابسهن المحزقة والملزقة تصل ألي حد الفجور..وأخوه سعيد كأنه غريب عنه..نعم أصغر منه بأربع أعوام ..ولكنه واثق في نفسه..وخبرته بالحياة كبيرة..والمصيبة أنه لايصلي..ولا يصوم رمضان..ويتحدث عن الصحابة بأسلوب غير لائق..والألفاظ القبيحة تخرج من فمه بدون صعوبة ..كأنه يتلذذ بنطقها..وشرائط عمرو دياب ومحمدمنير تملأ غرفته..ولديه نسخة – لاأدري من أين أتي بها- من قصة الملحد نجيب محفوظ التي يسخر فيها من الله والأنبياء..كيف يجرؤ الملحدون علي فعل هذا..ولماذا لاتنزل عليهم صاعقة من السماء( في نفس اللحظة التي كان يفكر فيها فوجيء بموجز عاجل للانباء عن خبرالاعتداء علي نجيب محفوظ في العجوزة..ومزقه شعور بالفرح وتأنيب الضمير) ..اصبر ياحافظ..الماسك علي دينه في هذا الزمان كالماسك علي الجمر..الإسلام عاد غريبا كما بدأ يارسول الله..اكتملت علامات الساعة ..ولم يبق سوي المسيخ الدجال والدابة التي تكلم الناس..جاهلية العرب الأولي أخف وطأة من تلك الجاهلية التي أسير بين ظهرانيها..هذه البنت التي ترتدي ملابس تظهر أكثر مما تخفي..أليس لها أب؟؟ ..أليس لها أخ ؟؟..أين ذهبت غيرتكم يامسلمون..ولكنني أريد أن أتزوج بأي ثمن..فأعصابي توشك علي الانهيار..
الأغبياء لايعرفون مدي السعادة في تطبيق شرع الله..الزواج من أربع..وما ملكت الأيمان..آه كم أتمني أن أضاجع زوجاتي الأربع في نفس الوقت..متعة ما بعدها متعة..ولكن فيما يبدو أن هذا حرام..أعوذ بالله..لولا الحرام والحلال لأصبحت أكثر أهل الأرض فجورا..من حسن حظ الفجرة أنني مؤمن وأخشي الله..وإلا ما تركت لهم امرأة يهنأون بها..















11

التحق حافظ بالعمل بإحدي شركات المقاولات في القاهرة الجديدة..ولأنه لايدخن..ولأنه لايجلس علي مقهي..ولأنه لا يدخل مطعما..ولأنه لايشتري جريدة..ولأنه ينظف أسنانه بالمسواك لا بالمعجون..ولأنه لايحلق ذقنه..فقد كان المرتب الذي يتقاضاه – 800جنيه شهريا- مجزيا جدا..وفي خلال عامين كان قد ادخر مبلغا محترما يمكنه من فتح بيت..كانت خصيتاه- من شدة احتقانهما- علي وشك الانفجار..ولم تكن امرأة قادرة علي إثارة خيالاته سوي تلك التي علي شاكلة صديقه الجامعي رفعت الحداد..في هذه الفترة كان الاحتكاك بينه وبين أخيه سعيد قليلا جدا..بمجرد التحاقه بالعمل انتقل إلي السكن بجوار موقع عمله..الذي توفره الشركة لعامليها..وكان السكن غير آدمي بالمرة ..ولايليق بعامل ناهيك عن مهندس..ولكن حافظ تعود أن يعيش في أحلك الظروف..الغرفة كانت ضيقة وخانقة..ولايوجد بها سرير..كان ينام علي حسيرة..ولم يكن بها دولاب يضع فيه مستلزماته..كان لديه شنطة ضخمة فيها كل شيء من الأبرة للصاروخ..كان زملاؤه يسمونه (حافظ تحسبا)..فهو يحتفظ بجركن ماء تحسبا لانقطاع المياه..ويحتفظ بالشموع تحسبا لانقطاع النور..ويحتفظ بأبرة وخيط تحسبا لا نقطاع الهدوم..ويحتفظ بمشمع تحسبا لنزول المطر ورشح السقف..ويحتفظ بشومة جوار الحسيرة تحسبا لهجوم لص..
ويحتفظ ببطانية بالية تحسبا لاشتعال حريقة أثناء قيامه بعمل كوب شاي علي السبرتاية..ومع ذلك فهو يعتبر تلك الفترة أسعد أيام حياته..تعاسته الحقيقية بدأت بالزواج..

















12

الأثر الذي يتركه الزوج في زوجته ليلة الدخلة لايمحي..كانت المرأة في نظر حافظ عبارة عن وجبة شهية يلتهمها بكل ما يملك من حواس..لا مناغشات..لا مداعبات..لا كلام..لاشيء سوي الانقضاض المفاجيء..يحرز الأهداف قبل أن يطلق الحكم صفارة البدء..وغادة لم تكن في سذاجة أخيها رفعت..نعم هي محجبة ..ولاترفع عينها من علي الأرض..وكلامها عبارة عن همس خافت يحتاج إلي إنسان يمتلك أذن كلب لكي يسمعه..ولكنها قضت ثلاث سنوات في مدرسة التجارة..حيث تبادل الخبرات العاطفية والجنسية بين الفتيات..حيث لاكلمة تقال إلا ويوضع مكانها لفظ خارج علي الحياء..يكفي أن تقول فتاة : عايزة قلم حتي ينفجر الفصل بالضحكات الفاجرة...القلم وأصابع الطباشير والعيش الفينو الطويل والخيار والموز كلها ألفاظ لا تحتمل سوي معني واحد بذيء..وفتاة في جمال غادة وأنوثتها لم يكن من الممكن أن تنجو من يد مدرس الأقتصاد والإحصاء:إمام السلاموني..كان في الأربعين من عمره..فارع القامة..والخصلة البيضاء التي تزين مقدمة شعره تعطيه جاذبية جنسية لاتقاوم..دائما في سن المراهقة تنجذب الفتيات إلي رجال في مثل هذا العمر..المراهقة التي تبحث عن الاحتواء ..عن حضن تشعر فيه بالطمأنينة..وبتفسير فرويد يمكن أن نعتبر هذا الحب هو حب موجه إلي الأب..ولما كان هذا الحب حراما وملعونا فإن القلب يتحايل علي الموضوع ويقع في حب أقرب رجل يشبه الأب..لم يكن من الممكن أن تنسي إمام السلاموني وهو أول من لفت نظرها أنها تمتلك نهدين لانظير لهما..كانت لمساته تجعلها تحلق في سماوات من النشوة التي لاتشعر بربعها وهي في كامل علاقتها مع حافظ..لم تكن غادة راضية بهذه الزيجة من الأساس..فهي لم تفاجأ أبدا بما يفعله..كانت قد وصلت إلي مرحلة التعرف علي سلوك الرجل الجنسي من نظرة واحدة..ولم يكن لشخصية حافظ سوي التصرف بهذا الشكل..رغم تواضع تعليمها كانت تمتلك عينا قادرة علي الغوص في أعماق من تقابلهم كأنها قادرة علي رؤية جميع حقائق الوجود..وصديقاتها كن يستمعن لها باندهاش..باختصار كانت تمتلك خبرة عاهرة..رغم أنها لم تعرف سوي رجل واحد فقط ..وعلاقتها به لم تتعدي مرحلة التفريش..وزواجها من حافظ كان نابعا من ثقتها المطلقة في عقلهاوجسدها..كانت متأكدة أنها ستستطيع تغييره..الرجولة ليست جسدامفتول العضلات فحسب..الرجولة فن..قدرة علي التعبير والعزف علي أوتار الأعصاب..أعصاب الأنثي الشديدة الرهافة..وخطأ واحد قادر علي تحويل السمفونية إلي نشازوضوضاء وضجيج..الجنس الرائع- ككل عمل فني رائع- لابد أن يشترك فيه اثنان..لن يستمتع بسيمفونيات بيتهوفن سوي مستمع له نفس إحساسه..وكانت غادة شهوانية إلي أقصي درجة..وقبل الزواج كانت حياتها منحصرة في الفرجة علي الأفلام الرومانسية وقراءة روايات إحسان عبد القدوس..كانت هي دائما البطلة الظامئة والباحثة عن الارتواء..ولكنها أكتشفت بعد آلاف المحاولات أن حافظ حالة ميئوس منها..إنسان موسوس وشكاك وحنبلي..وقليل الحيلة كذبابة محاصرة بخيوط العنكبوت..خناقات لأتفه الأسباب..سلامي باليد علي ابن خالتي كفر..وضحكي أمام الغرباء عهر وفجور..وتأجيلي لغسيل أكواب الشاي قذارة..وأنني أنتمي إلي أسرة بيئة..وزيادة وزني كيلو أو اثنين (أنتي بقيتي عاملة زي الجاموسة كده ليه)..قاموس مفرادته كئيب كوجهه..كأن الكلمات الجميلة قد خاصمت لسانه..كأنه يغار من جمالي الذي يتحدي قبحه..كأنه يعرف في داخله بأنه لايستحقني..دائما يعايرني بتعليمي المتواضع..أنا في نظره غبية ومتخلفة وأدعي الذكاء..أنا التي كنت قطب صديقاتي ..ومازال عائلتي تستشيرني في كل صغيرة وكبيرة..ورغم أنه سيكون لعنة تطاردني بقية عمري..ورغم أن أهلي سيعترضون..ورغم شماتة الشامتين..ولكن لابد منه..من الطلاق فورا..



























13

في حياة كل إنسان حادث ما حياته بعده تختلف تماما عن حياته بعده..وكان هذا الحادث في حياة حافظ هو الطلاق..لم يكن له أصدقاء يفتح لهم صدره ..ويفضي لهم بهمومه..كانت شئونه الخاصة سرا أعظم ..لايجوز لأحد أن يطلع عليها..وكان علي يقين من صحة أسلوبه في الحياة..وبعد الطلاق تغير الأمر..تصدعت السماء..واهتزت الأرض من تحت قدميه..وبدأ يقترب من أخيه سعيد..ومن أفكاره الغريبة..باحثا فيها عن شمعة تهديه سواء السبيل..ما الخطأ الذي ارتكبته..لقد راعيت الله فيها..لم تكن تصلي بانتظام..جعلتها تصلي..وكنت أوقظها لصلاة الفجر..وكنت أصلي ركعتين قبل أن أضاجعها..وكنت أعاملها بالحسني..ولكنها كانت فاجرة ..ولم يكن يحلو لها إغرائي سوي في أيام الحيض وفي نهار رمضان ..وكنت أضعف..ثم أنهال عليها ضربا لأنها فعلت ذلك..كانت تريد تحطيم كل ثوابتي ومعتقداتي..أريد الذهاب إلي السينما..أريد الذهاب ألي جنينة الأسماك..أريد السفر إلي أهلي..أريد..أريد..أريد..طلباتها لاتنتهي..ودائما تقارنني بزوج أختها..زوج أختها النصاب..الذي يعيش عالة علي اهلها..ولايكف عن الاستدانة منهم..ومع ذلك علي قلبهم كالعسل..أما أنا فالشيخ الحنبلي المعقد نفسيا والصعيدي القفل..كل هذا لأنني لا أقبل أن أعيش عالة علي أحد..وأريد أن أكتفي بذاتي..كل هذا لأنني لاأقبل الحال المايل..هل كان مطلوبا مني أن أكون خروفا لكي تسير المركب..نعم كانت جميلة..ولكنها تعتقد أنها أذكي إنسانة علي وجه الأرض..كانت تسخر طول الوقت من طريقة أكلي وشربي ولبسي وجماعي..وعندما كنت أقول لها كلاما عاطفيا كانت تنظر إلي نظرتها إلي أبله ومعتوه..كان واضحا أنها لاتحبني..وليست علي استعداد أن تفعل ذلك..تريد أن تصرف بلا حساب..وكأنني أجلس علي كنز..أنا مهندس علي قد حالي..والمرتب بعد الإيجاروفواتير المياه والنوروما يكفينا من أكل طوال الشهر لايتبقي منه شيء سوي دراهم معدودة..ما العيب في تدوين المصروفات..مالعيب في الالتزام بما أمر به الله من فروض وما أمر به الرسول من سنن مستحبة..مالعيب في لحيتي..هل المطلوب مني أن أرتدي جينزا وقميصا بربع كم وسلسلة وإنسيال وأضع في فمي لبانة لكي ترضي النساء عني..أين أنت ياعمر يابن الخطاب لتري نساء هذا الزمن الهباب..









14

أصبحت مأساة حافظ ملهاة زملائه في العمل..الجميع يفسر ويحلل ويسخر وينتقد وينصح ويتعاطف ويشمت ..وحافظ – إحقاقا للحق- يستمع بصدر رحب ووجه ضحوك..
- أثبتت الدراسات والاحصائيات أن تسعين في المائة من حالات الطلاق بسبب السرير
- نعم ..هناك علاقة بين السرير والسرور..وعندما يغيب السرور فلابد أن مشكلة ما في السرير..تقارب المفردات بين الحروف ليس عبثا..هناك دائما هناك علاقة حتي وإن كانت غير ظاهرة..ألا تلاحظون أن ما يحدث علي السرير لابد أن يكون سرا..

- هل معني هذا أن حافظ ضعيف جنسيا

- عيبك ياحافظ إنك واخد الجنس موضوع عافية..والموضوع مش كده..الموضوع يحتاج إلي رقة شديدة..

- سبب فشلك هو عدم التكافؤ في التعليم..البنت بتاع الدبلوم مستحيل تحب مهندس أو دكتورأوصيدلي..دي عايزة واد بيضرب ترامادول وأبتريل يطلع دين أبوها ومع ذلك تحبه وتموت فيه..
( شيك هاند..أنا معاك في الكلام ده)


- المثل بيقول إن كان لك صاحب لا تحاسبه ولا تناسبه
( بطل تقعد مع أمك كتير..)

- حاول ترجعها..واتعلم تطنش..ما تحبكهاش كده..عشان المركب تمشي..

- إنت بدقن ..يبقي لازم تتجوز واحدة منقبة..واحدة دراسات إسلامية..حاجة زي كده..

- اللي حصلك بسبب غضب ابوك وامك عليك..
( علي أساس أهلك راضيين عنك..دا بيلعنوا اليوم اللي خلفوك فيه )


- يابني الجواز نظام اجتماعي فاشل..وما عدش مناسب للعصر اللي احنا عايشينه..إزاي واحد يشتري عربية قبل ما يجربها..لازم الاتنين يجربوا بعض بما فيه الكفاية وبعدين ياخدوا قرار الجواز..ما ينفعش ع العمياني..الانسجام بين الروحين لايتضح إلا من خلال الانسجام بين الجسدين..أيام زمان الزواج كان ناجح كنوع من قبول الأمر الواقع..دلوقتي الناس بتشوف كتير..والشخص اللي ما بيخترش شريك حياته علي أساس صلب وقناعة شديدة بيعيش تعيس طول عمره..
( المشكلة عمره ما مسك إيد واحدة ..بس عايز يبان صايع ومقطع السمكة وديلها)



- عيبك ياحافظ إن ما كانش ليك أي تجارب قبل الجواز..مش قصدي تجارب حرام (وهو قصده)..أستغفر الله..قصدي الحب الطاهر(وهو غير مقتنع بالطهرأساسا) اللي بيخليك تكتشف الجمال اللي جوه روحك..والجمال اللي في الستات بعيد عن جسمهم..الجمال اللي في أغاني أم كلثوم ونجاة وعبد الحليم..الجمال اللي في القمريوم اربعتاشر..الجمال اللي في قعدة ع النيل ساعة عصاري..الحب اللي يخليك تشوف عيوبك وتغيرها عشان اللي بتحبه..عيب قوي علي مهندس يتجوز جواز تقليدي..جواز واحد يشتري جارية من سوق النخاسة..مش واحدة هتبقي شريكة حياتك..
( بعد شهر فقط ارتبط بنفس الطريقة..إذ لم يكن يثق في فتاة تبادله الحب في إطار غير شرعي)

- أنت ليه مكتئب وشايف اللي انت فيه نهاية الكون..دانت خدت القرار اللي كل المتجوزين في مصر مش قادرين ياخدوه..بكرة لما تتجوز واحدة تانية وتدوق فاكهة تانية تحمد ربنا..
(طيب.. ليه عشان اتخصم من مرتبك خمسين جنيه..كنت مكتئب وشايف اللي انت فيه نهاية الكون يابن المتفائلة)


- أنا عندي لك عروسة صاروخ بس مطلقة زيك..
( لاعنده ولانيله..بس عايز يشارك في الموضوع بدل مايبقي قاعد زي رجل البنطلون)


- إزاي عايز واحدة صاغ سليم..انت بظروفك دي حتما ولابد تتجوز واحدة معيوبة..
مطلقة..أرملة..عانس..حد في عيلتها رد سجون..اتحجزت في العباسية فترة في حياتها..قرعة وبتتباهي بشعر بنت أختها..لازم يكون عندك الشجاعة وتشوف نفسك كويس..تلاتين سنة..شكلك أعوذبالله..مطلق..صعيدي..حالتك المادية كرب ..عايز أيه؟؟..ملكة جمال ومؤدبة وبنت ناس واتنين وعشرين سنة!!..اسمحلي ورايا سفر..
( ياريت انت كمان يبقي عندك الشجاعة وتشوف نفسك..كل الناس عارف حكاية مراتك مع السعدني صاحبك وانت نايم علي صرصور ودنك)


- اسمحلي ياحافظ واحد بشخصيتك دي..قدامه طريقين..الأول يتجوز ويعيش تعيس ويتقبل ده..والتاني ما يتجوزش ويتجنن..
( غالبا لو مشي في الطريق التاني هيقابلك)


- نصيحتي ليك ترجع أسيوط ..وتحب علي إيد أبوك..وتتجوز بنت عمك..وتشيل من دماغك حكاية ملكة الجمال دي..وتعمل أفران بلدي..وانت تبقي زي الفل..
- يابني ربنا يكون في عونها الواحدة اللي تستحملك..دانت الشعر اللي علي جسمك يثبت فعلا إن الإنسان أصله قرد..
( وانت اللي يوزنك يتأكد إن الإنسان أصله فيل)



- مشكلتك أنك مش قادر تستطعم الدنيا..عمري ما سمعتك بتقول عن حاجة حلوة أبدا..كل حاجة في وجهة نظرك زبالة ومقرفة وبيئة ومعفنة وقذرة..نفسي أعرف سبب إحساسك الداخلي بالقذارة..علي فكرة كل الكلام اللي انت بتقوله ده انت في الواقع بتوجهه لنفسك..
( ياتري الكلام اللي انت قلته دلوقت موجه لنفسك ولا لحافظ..أرجوك..خد وقت قبل ما تفكر..ردودك السريعة غالبا بتبقي فلسفية أكتر م اللازم)



- حافظ ..حاول تروح لدكتور نفسي..إنت عندك مشاكل نفسية رهيبة..إلحق عقلك قبل مايروح منك وما يرجعش..مش عيب..أنا في أولي جامعة رحت لدكتور عادل صادق..واتعالجت وبقيت زي الفل..
(والله ولا بقيت زي الفل ولا حاجة..جايز كنت الأول أعقل من كده)


- أينشتين بيقول لما تتعرض لمشكلة ما تحلهاش بنفس الطرق العقلية اللي وقعتك فيها..طريقة تفكيرك أثبتت فشلها يبقي لازم تغيرها..
(كلام جميل..ماقدرش اقول حاجة عنه..بس اللي إيده في الزبادي مش زي اللي أيده الشوربة)


- مافيش حاجة اسمها مشكلة أصلا..لما بنشوفها كمشكلة بتبدأ تبان كده..
( دا كلام يتقال في صالون العقاد..ما يتقلش هنا لوسمحت)



-قبل ما تفكر في حل المشكلة لازم تحددها الأول..
( أفادكم الله..الجامعة العربية محتاجة كام واحد زيك عشان يقنعهم بالسوق العربية المشتركة)


- عيبك ياحافظ إنك متوقع من الجواز حاجات أكتر م اللي ممكن يديها فعلا..عايز واحدة تديك كل حاجة وانت ماعندكش حاجة تديها أصلا..غير شوية أوامرعقيمة..
( كلنا بنحلم ياباشمهندس..ولوبطلنا نحلم نموت)


- طول مالجواز هدف بالنسبة لك عمرك ما هتنجح فيه..لازم يبقي لك هدف كبير في حياتك..إنك تبقي متميز ومبدع في شغلك..ساعتها مش هيبقي عندك وقت تاخد بالك م التوافه..أيه المشكلة مراتك سلمت علي ابن خالتها..أو ضحكت معاه..طول ماقدامك وفي حدود الاحترام..مش هينفع تتجوز واحدة وتحبسها في قمقم..وتاني شيء الواحدة لو مش محترمة من نفسها والله لتخونك وانت نايم جنبها علي السرير..
( دا كلام جميل..بس حافظ بيحط العيش الناشف تحت السرير..يعني العشيق لو فكريستخبي..العيش هيرقع بالصوت الحياني)


- عيبك ياحافظ إنك مستغرق في ذاتك أكتر من اللازم..وكل حاجة واخدها علي أعصابك..
( ياراجل دانت السجارة مابتنطفيش في إيدك..ودا معناه إن محدش في الدنيا مستغرق في ذاته قدك..)

- عيبك أنك عايز تبقي سي السيد والدور مش لايق عليك..سي السيد راجل مخلص وصايع وخبرة وتاجر وابن سوق..وانت ما تقدرش تفرض شخصيتك علي أحقر عامل في الموقع..مش عيب إنك تبقي كده.. العيب إنك تكابروتعمل -وانت قطة- أسد..
( ومشكلتك إنك سمكة وفاكر نفسك حوت ..خد بالك لتغرق)

15

لم يعد حافظ قادرا علي النوم باستغراق كما كان يفعل في الأيام الخوالي..ساعات نومه لاتكاد تقترب من الأربع علي أقصي تقدير..والنوم لايأتي بسهولة..ساعات وهو يتقلب..وساعات وهو يحملق في السقف..وعندما ينام فإنه يصرخ بكلمات غير مفهومة..وعندما يخبره أحد زملائه بذلك فإنه يندهش ويسكت..ليته يعرف ماذا يقول وهو نائم ليستريح..أو ليته يستطيع أن يتوقف عن ذلك..كان السؤال الذي يطارده..ماذا فعلت ياإلهي حتي أستحق كل هذا العذاب الذي أعيشه..لقد كنت دوما مؤمنا بك..محافظا علي فرائضك..وعندما طلقت زوجتي..راعيتك فيها..وأعطيتها جميع حقوقها الشرعية..مؤخر صداقها ومتعتها ونفقتها..رغم أنها لاتستحق..فهي التي طلبت الطلاق..عام كامل وأنا أعيش في جحيم..كنت أعرف أنها تكرهني..تكره رائحتي..تكره كلامي..ضحكتي..صمتي..وكان تظاهرها بغير ذلك يوجعني أكثر..ماأبشع أن تكتشف أنك مكروه ..وغير مرغوب فيك..كنت أغرق ..ولاتوجد قشة واحدة أمسك بها..كانت تحاول دائما تشويه صورتي أمام أهلها..وتقول لهم بأنني بخيل..كل مافي الأمر أنني أعرف قيمة القرش الذي لايأتي بسهولة..كل مافي الأمر أنني أكره أن يأتي اليوم الذي أمد فيه يدي لأحد..طوال طفولتي وشبابي وأنا أعيش في فقر مدقع..وكنت أتعايش مع ذلك..ولم يحدث أن خجلت من أسرتي..ولم يحدث أن حقدت علي أحد..كنت راضيا وصابرا..يارب ساعدني..فأنا أريد أن أنام ..أن أنام فقط..


















16

كان سعيد يتأمل أخاه ويحزن عليه..ولايعرف كيف يساعده..يتأمله وهو جالس – في اليوم الذي يزورهم فيه- ساهما يأكل في نفسه..يتأمله وهو يجري خلف قطة ويقذفها بفردة الشبشب بعنف وغل وكراهية..يتأمله وهو يطارد ذبابة ليسحقها..يتأمله وهو يدخل الحمام كل ساعتين ليغتسل..يتأمله وهو يقرأ القرآن بصوت جهوري كأنما يحاول التشويش علي نباح أفكاره المسعورة..كان عاجزا عن فهمه..فالملايين يطلقون كل لحظة..وعلماء الاجتماع تحدثوا كثيرا عن أزمة الطلاق وتأثيرها علي المرأة..ولكنهم لم يتحدثوا إلا قليلا عن الرجل..ربما تفاديا لغضب سيدة مصر الأولي..كان سعيد يري أن أزمة أخيه هي أزمة رجل متدين في زمن لاديني..في زمن لم يعد الدين هو المرجعية التي يرجع إليها الناس..الطب النفسي سحب البساط كثيرا من تحت أقدام الدين..والقوانين الوضعية ..والبحث المستميت عن المتع الحسية..والعالم الذي يرتع فيه أبطال وبطلات السينما من فيلات المنصورية وشاليهات مارينا وشواطيء شرم وديسكوهات الغردقة..الكل يتمني أن يعيش في هذا العالم الساحر..لم تعد السعادة في ركعتين بعيدا عن أنظارالناس..السعادة اليوم لم يعد لها طعم دون رؤية الآخرين لها ..الكل يضحك ليقول الناس عنه إنه اجتماعي ومرح..والكل يسافرويتغرب ليحسده الناس علي البيت الذي سيشتريه والسيارة التي سيركبها..أما حافظ فلم يزل يتباهي بأنه صلي الفجر في ليلة دخلته ..وبأنه يختم القرآن كل أسبوع..ياأخي هداك الله وعافاك..هذه الأشياء لم تعد مثار حسد..نحن نعيش في زمن السحابة السوداء لا في زمن الصحابة البيض الكرام.. ولكن أنت لست أفضل من الناس أيضا..المشكلة أنك مثلهم أيضا..ولكنهم يتباهون بالماديات وأنت تتباهي بالروحانيات..يا أخي نحن بشر ضعفاء..وكان لابد أن نرفض الأمانة كما رفضتها السماوات والأرض والجبال..
















17

هل تعرفون سبب سعادة الحيوانات والبشر الذين يعيشون كالحيوانات..السبب في أنهم لايحلمون أحلاما مستحيلة..حاولوا أن تتأملواحياة قطة من أول اليوم إلي آخره..تصحو من النوم..تبحث عن أي شيء تأكله..تلعب مع قطة أخري..تنام مع أي قط يراودها عن نفسها..تحاول إطالة تلك المدة بقدر ما تستطيع..حاولوا أن تتأملوا المساحة المكانية التي تفعل فيها ذلك..هي مساحة كبيرة جدا..ملامسة وتجري عشرين مترا..ملامسة أخري وتجري أربعين مترا..وهكذا..أسلوب رائع للحصول علي أكبر قدرمن الإثارة..وأكثر روعة لعلاج سرعة القذف..حاول أن تتأمل قطة وهي نائمة..لاحظ استغراقها العميق في النوم..إنها تنام وكأنها متوفاة..تأملها وهي تشعر بالملل..إنها تتقبل ذلك ولايبدو عليها الاكتئاب بسببه..حاول أن تقسو عليها مرة..اضربها بالشبشب كحافظ..صدقني لن تكرهك..ولن يمضي وقت طويل حتي تعود إليك وهي تهز ذيلها..لاحظها وهي تختطف قطعة لحم من أختها..إنها لاتشعر بالندم من جراء ذلك..لاتعتقد أن القطة لاتعرف الصح من الخطأ..هي تعرف ذلك بالتأكيد..اقذف لها بقطعة لحم ..ستأكلها أمامك..أما إذا اختطفتها من فوق مائدتك فإنها ستجري بعيدا..حاول أن تتأمل قطة وهي تدافع عن أولادها بشجاعة تتنافي تماما مع جبنها المعهود..حاول أن تتأمل قطة وهي تختار مكانا منعزلا قدرالإمكان لتقضي فيه حاجتها..حاول أن تتأمل قطة وهي تأكل بتلذذ..وتشرب بتلذذ..راقبها وهي تموء قبل أن تدخل عليك وكأنها تلقي عليك التحية..كأنها تقول لك إحم إحم دستور ياسيادنا.. حاول أن تتعلم من القطة قوانين الوجود..وتستلهم منها حكمة الطبيعة..فهي حيوان صديق منذ آلاف السنين..وعلي المرء الذكي أن يتعلم من أصدقائه ..














18

لم يكن حافظ وحده الذي يعاني..سعيد أيضا كانت مشكلته أصعب من مشكلة فلسطين..هو يعيش غريبا كسكانها ..ولكنه لايجد من يشعر به ..أو يتعاطف معه.. أويدافع عن قضيته ..استثمارا لمجموعه الكبيردخل الطب..وفي الطب اكتشف أنه بين قوم لايشبههم ولايشبهونه..طلبة تبدأ حياتهم بالمذاكرة وتنتهي بالامتحانات..تبدأبالمرض..وتنتهي بالموت ..وهو يحلم بأن يكون مطربا..الشيء الوحيد الذي ورثه عن أبيه هو حنجرته الذهبية..وفي الحقيقة لم يكن في هذا السن مؤمنا بموهبته الإيمان الذي يجعله يحارب من أجلها..نعم.. في مراحله الدراسية السابقة كان نجما في كل الاحتفالات التي تقيمها المدرسة..فهو يقرأ القرآن..ويتغني بالابتهالات..وينال إعجاب الزملاء والمدرسين..ولكنها هواية..مجرد هواية..وكان من الجنون أن يفكر..مجرد تفكير في أن تنقلب الهواية إلي حرفة..يعتقد سعيد الآن أن العبقرية ليست كفاحا ولا يحزنون..كل مافي الأمر أن هؤلاء العباقرة لم يكونوا متفوقين دراسيا..لذا لم يكن لديهم مستقبل أفضل من الجري خلف موهبتهم الوحيدة..باختصارلم يكن لديهم ما يبكون عليه..ويضرب مثالا بعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم ومنير وعمرو دياب..وحتي الممثلين..كلهم خريجو كليات قاع ودبلوم صنايع باستثناء عدد قليل يؤكد القاعدة ولاينفيها..لايوجد من هم أكثر موهبة من الأطباء في كل المجالات..ولكن من سخرية القدرأنهم طلبة متفوقون ونجباء..وبرغم كل التبريرات التي يقولها سعيد فإن لديه إحساسا بالمرارة أنه لم يعش في الوسط الفني الذي يعشقه برغم سوء سمعته أو ربما بسبب ذلك ..وحاول الذهاب لأكثر من ملحن..ولكن لافائدة..لايحظي من أحد سوي بكلمة: الله ..صوتك حلو قوي يادكتور..وشكرا..ومن يومها وحتي الآن والصراع قائم..نحن الآن في صيف 2010وسعيد في التاسعة والثلاثين من عمره..ولكنه لم يزل يمارس الجراحة علي استحياء..وكأنه ينتظر المهنة التي خلق من أجلها :الغناء..ومتعته المريرة أن يمسك بالعود ويدندن والممرضات يحطن به كالفراشات وعلي وجوههن ابتسامة صافية ومحبة ويرددن في صوت واحد:
والله يادكتور سعيد ..صوتك أحسن من تامر حسني ألف مرة..عيد تاني..













19


في شتاء 1999مرضت العمة بدوية بسرطان الثدي..الثدي الذي لم ترضع طفلا به..انهار الحصن الذي كان يحتمي به حافظ وسعيد..كانت قد بلغت من العمرأرذله..ولكنها قبل عام واحد كانت بصحتها..كانت قادرة علي الطبخ والكنس والغسيل..كانت قادرة علي توزيع الحنان الذي لاينضب..كانت قادرة علي رسم الضحكات علي وجيهما..ورفضت استئصال ثديها..ورفضت العلاج الإشعاعي والكيماوي.. كل ما طلبته حقن مسكنة..وأصرت أن تموت في سلام..وأوصت أن تدفن بجوار زوجها..برغم كل شيء أحبت هذا الرجل..وأحبت السيدة زينب ..أحبت كل شبر في هذا الحي ..أحبت أسواقه..ومساجده..وناسه الأصلاء..وجلس الأخوان بجوارها..وتحملاها بحب وهي عاجزة كالأطفال عن فعل أي شيء..وكان يقومان بتشطيفها كل يوم دون أدني اشمئزاز..وجودك ياعمة هو ما يجعل هذا العالم محتملا..أيتها الشجرة التي لم تبخل علينا بثمارها وظلالها..عيناك جدولا طيبة..ويداك محرابا سكينة..وصوتك النيل بمائه وطميه ومراكبه..والحقول الخضراء علي جسوره..وضحكتك أطيب من ضحكة النوافذ حين تستقبل الشمس..وأدفأ من ضحكة الأرض حين تحتضن المطر..وأكثر حزنا من المناديل حين تودع المحبين..في هذه الغرفة المقدسة كم حلقت فراشات الحواديت..وكم نبتت أزهار الطمأنينة..وكم غنت بلابل الحنين..ترحلين الآن وتبقي خلفك أشياؤك..ومدامعنا..وفراغ موحش..وليالي ليس لها نهار..سلام عليك حين ولدت..وحين رحلت..وحين تبعثين..

















20
قليلون هم الفنانون الذين استطاعواأن يفهموا روح الشعب المصري العظيم..ومنذ وفاة خالد الذكر سيد درويش لم يخلفه سوي صلاح جاهين..وهو الذي نبهنا في رباعياته بأن الموت لم يعد له جلال..وتعالت الأصوات التي تقول بأننا حضارة جنائزية..تهتم بالموت أكثر مما تهتم بالحياة..وأنه لايوجد شعب يحتفل بالذكري الأربعين بالميت..واعتقدوا أن الاهتمام بالموت يتناقض مع حب الحياة..وهذا فهم قاصر ومشوه..فالمصريون لم يفهموا الموت كفناء ونهاية حياة..ولكنهم اعتبروه حياة أخري..وكان احتفاءهم به هو احتفاء بالحياة وبالوجود..الموت هو جزء من الحياة ويجب احترامه..المصري بطبيعته لايعرف الأحاسيس السطحية والعابرة..هو دائما يتعمق في كل شيء..اذهبوا إلي الفلاحين في القري التي لم تتوحش فيها المدنية وراقبوهم..انظروا كيف يفرحون بالزواج فرحا فطريا لاغش فيه ولارياء..كيف يفرحون بالمولود الجديد..كيف يحتفون بحصاد القطن والغلال( للأسف انقرض محصول القطن..هذا المحصول الذي يمتلك مقدرة فذة وساحرة علي إدخال البهجة علي القلوب حين تتفتح لوزته عن سحاب أبيض تستطيع أن تلتف به وتطوف حول كعبة الأبد..)..انظروا إلي الفلاح وهو يعزق بفأسه الأرض..وهو يرويها..وهو يشرب كوب شاي علي ناصيتها..تعلموا من الفلاح الذي مازال مصرا علي زراعة أرضه رغم أنه يصرف عليها أكثرمما يربح منها..هذا طبعا في وجهة نظركم- أيها المصريون الجدد- غباء وبلاهة..النتيجة أصبحت أهم من الفعل ذاته..وهذا سبب ما تشعرون به من خواء وعدم..كل هذه الأفكار دارت برأس سعيد حين قابل زملاء عمله موت عمته العجوز بالسخرية والاستهزاء..

- تسعين سنة..اتخطفت في عز شبابها..ماكانش يومك ياحبيبتي..
- ياراجل..أراحت واستراحت..
- كده البيت فضي..وهنعيش يامعلم..










21
في هذا العام انتبه سعيد أنه أتم الثلاثين..ولم يزل غارقا في مراهقته..كل ما يهمه هو الحصول علي امرأة جديدة..وهو ملول..لايحتمل امرأة أكثر من شهر..في البداية يكون منبهرا بها..وما إن يستدرجها إلي شقته..ويقضي معها ليلة أو اثنتين أو علي الأكثر ثلاث حتي يختنق..لاشك أنه يهرب من مواجهة أحلامه المحبطة..مل من معاشرة نساء الطبقة الفقيرة والمتوسطة..يريد اختراق الطبقة الهاي..بنات الوزراء وكبار رجال الأعمال وأعضاء مجلس الشعب..ولكن كيف ؟؟..الحل هو أن يصير مطربا شهيرا..ما إن يتحقق هذا الحلم المستحيل..حتي تصبح كل الأحلام الأخري تحصيل حاصل..ولكن كيف.؟؟هذا ما ينغص عليه حياته..حياته التي يحسده عليها الكثيرون..لم يعد يجد لذة في الأجساد التي يعتصرها بحقد ويأس علي أمل أن يجد ذرة متعة..ولكن هيهات..يريد أن يصل إلي بنات الجامعة الأمريكية ونادي الصيد..يريد أن يضاجع نجمة سينمائية أو مطربة شهيرة..يريد..بكل ذرة في كيانه يريد..ولكن كيف؟؟..وجاءت كلمة صديقه شريف علي الجرح
- البنت التي تسير معها كالسيارة التي تركبها مؤشر علي مستوي النجاح الذي حققته

وجاء اتصال أبيه من البلد صادما
- إنت مش ناوي تتجوز ولا ناوي تخيب خيبة اخوك الكبير..

يتزوج؟؟..لماذا؟؟..العاجزون عن الحصول علي امرأة هم فقط من يتزوجون..العاجزون عن إقناع امرأة أن تنام معهم بدون زواج هم الذين يذهبون إلي أسرتها لتقتنع..حتي وإن كان الثمن أن يتورطوا فيها لبقية العمر..أتزوج؟؟لماذا؟؟من أجل إنجاب أولاد يحققون أحلامي التي عجزت عن تحقيقها!!..متي يتوقف الآباء عن ترديد نكاتهم القديمة والسخيفة..التي لم تعد مضحكة..هذا الفلاح الساذج المتخلف..من الذي أعطاه الحق لكي يتكلم معي بتلك الطريقة..ولماذا يتدخل في حياتي..لم أعد طفلا..أعرف مصلحتي أكثر من أي إنسان آخر..والطريق الذي أتصور أنه سيمنحني السعادة سأضع قدمي عليه بلا تردد..أتزوج؟؟لكي أستقر..يقصد أن يقول لكي أتعفن وأنتهي..لكي أدور في الساقية..لكي أعيش عيشة الكلاب..أكره البنات المؤدبات الخانعات المستسلمات لأعراف المجتمع الغبي والمنافق..وللأسف هن الصالحات للزواج..أما البنات المتفجرات بالحيوية فلا يصلحن.. لأنهن لاينتظرن تصريحا من أحد لكي يرتمين في حضن رجل انجذبن إليه..أتزوج؟لكي أكره المرأة..وماذا بعد كراهية المرأة سوي الانتحار..لابد أن تكون مسافة ليكون حب..ويكون شوق..ويكون جنون..الجنون الذي يعطي الحياة نكهتها اللذيذة..لصديقي شريف تشبيه لذيذ يقارن فيه بين المتزوج والعازب
- العازب كالرجل الشبعان والعريان..والناس لاتري إلا عريه..وينصحونه دائما أن يغطي نفسه..أما المتزوج كالرجل الجائع والكاسي..والناس لاتشعر بجوعه..ينبهرون دائما بالملابس التي يرتديها..لذا فالعازب فضيحته بجلاجل..ومشكلته التي لايمكن إنكارها علي عينك ياتاجر.. واللي ما يشتري يتفرج..

نعم ..هناك تقديس للمظاهر..فالمهم أن تظهر أمام الناس بأنك تمام ..وعال العال..وميت فل واربعتاشر..حتي وإن كان هذا علي حساب سعادتك الحقيقية..
نصف من يمتلكون السيارات في مصر مدينون لطوب الأرض..كل هذا من أجل الظهور أمام الناس بمظهر الناجحين السعداء..حتي وإن كان الثمن أن يعملوا ليلا ونهارا ليقوموا بتسديد ديونهم..والبنت ترضي بأول عريس يتقدم لها لتحصل علي لقب أول مخطوبة في دفعتها..وتضحي بسعادة عمرها من أجل رغبة مرضية في التفوق علي قريناتها وإثارة حسدهن..والمرأة تصر علي الاستمرار في الحياة مع رجل تكرهه لكي لاتلتصق بها وصمة الطلاق..أما أخي حافظ ..فلا أدري متي يتوقف عن تدمير نفسه..؟؟




22

كان الأمر في البدء يبدو طبيعيا..لم يعد لحافظ حديث سوي عن مطلقته (الجميلة جدا..مع تعطيش الجيم) وعن رغبته في زوجة في مستوي جمالها..والناس ينصتون ويستمتعون ..وتطورالأمر أن بدأ يحكي لهم تفاصيل علاقته معها وكأنه يصف فيلم بورنو..ولعل الاستحسان الذي كان يجده من الناس وكان يراه علي وجوههم جعله يتمادي إلي مالانهاية..ومع الوقت لم تعد حجرته كافية لاستيعاب الزملاء الراغبين في الاستماع إلي تجربته..ومع الوقت انضم عمال النظافة..ومع الوقت انضم أفراد الأمن..وهو يحكي باستمتاع وانتشاء..ويتشعب الحوارإلي عالم المرأة بكل تفاصيله..أكثر الأماكن إثارة في جسدها..أكثر الأوضاع الجنسية إمتاعا..جميع الأقراص التي تساعد في الوصول إلي علاقة مشبعة للطرفين..كتاب رجوع الشيخ إلي صباه..أحدث أفلام البورنو..وموضوعات أخري كثيرة أتركها لذكاء القاريء..وخرج الموضوع عن السيطرة..وازداد حدة في السنوات الأخيرة..بعد موت العمة بدوية..وقال شريف لسعيد:
- يبدو أن مشكلة أخيك لاعلاقة لها بزوجته السابقة أبدا..إنها مشكلة إنسان منبوذ اجتماعيا..وبمجرد أن وجد طريقة فتحت له قلوب الآخرين حتي انزلق فيها كصخر حطه السيل من عل..أخوك ياسعيد يسير في طريق الجنون..حاول أن تعرضه علي أحد علي دكتور نفسي..

- هل تعتقد أنهم قادرون علي فعل شيء..
- أنا معك ..مرض أخيك ليس مرض فرد..ولكنه مرض مجتمع..مجتمع يزرع في أطفاله قيما أخلاقية ليحتقرهم بعد ذلك عندما يتمسكون بها..الصدق والأمانة والنظام والغيرة علي الأم والأخت والزوجة..وهو تمسك بهذه القيم بشدة..واكتشف أن الجميع يعتزلونه بسببها بدلا من أن يحترموه ويرفعون له القبعة..

- ولكن ألا تعتقد أنه قد يعاني من مشكلة جنسية ..وهو يقوم بعملية تعويضية الآن..ليثبت لنفسه قبل الآخرين أنه شديد الفحولة..

- ربما..السبب أيضا في المجتمع- أو العولمة- الذي أعطي الجنس حجما أكبر من حجمه..أصبح معبود الناس في هذا الزمن..لم يعد يجتمع أثنان إلا والجنس ثالثهما..ولم يعد شيء قادرا علي إعطاء المتعة مثله..تضاءل دور العمل..وكادت هوايات مثل الصيد والتريكو والقراءة والعزف علي آلة موسيقية وجمع العملات وجمع الطوابع وتربية الدواجن واقتناء السلاحف أن تنقرض ..

- في رأيي أن الأزمة الحقيقية تكمن في الفراغ..عدد ساعات العمل تضاءل بشدة...نحن مثلا في نوبتجية أربعة وعشرين ساعة لانعمل فيها سوي ثلاث أو أربع ساعات..والباقي أنتخة وتفخيد..والطبيعة تكره الفراغ..لابد من التفكير في شيء..أنا أفكر في النسوان..وأنت تفكر في الحشيش..والصيدلي والبقال والكوافير والتاجر..وكل المهن..كل المهن..أصبحت تعاني من لعنة الفراغ..في كل مهنة لايعمل إلا واحد في المئة عملا جبارا والباقي بينش..

- والناس تعتبر من يعملون – وحضرتك منهم- أناسا محظوظين ..وأرزاق وقسم..وأن الفاشل ليس مسئولا عن فشله..والفقير ليس مسئولا عن فقره..وطالما الموضوع هكذا فليس مطلوبا مني سوي عمل واحد فقط ..هو أن أحقد علي هؤلاء الناجحين..وأقول في سري كتنا نيلة في حظنا الهباب..


- وما العمل في مشكلة حافظ ياصديقي الفيلسوف يامن بأحوال العباد شغوف؟؟

- دعه يتجنن..أنت حاولت بدل المرة ألف ..ولاحياة لمن تنادي..هو يعتبرك أكثر فشلا منه.. ونفسك أولي بالنصيحة منه..ولديه حق طبعا..

- معقول حافظ هيتجنن..

- لسه ها ..ياصاحبي أخوك من زمان ..والأبلاتين لادع..انتهت القصة خلاص..
- وبعدين؟؟

- ولا قبلين..إنسان قرر إنه يتجنن ..ولازم تحترم قراره..زي مانت قررت ما تتجوزش كده..

- دا حشيش النهاردة أصلي ..أصلي
- انت فاكرني هيست ( من التهييس) ولا أيه ..أنا باتكلم بجد..ما فيش مجنون بيتجنن غصب عنه..الخلاصة.. مش قادر يعيش في العالم اللي احنا فيه ..الحل أيه.. يعيش في عالم تاني..أحمد زويل ما قدرش يعيش في مصر..راح عاش في أمريكا..وأصبح لايمت لمصر بصلة..بلد تانية ..ولغة تانية ..وعادات وتقاليد تانية...

- ياصاحبي.. زويل ممكن يرجع في أي وقت ..بس المجنون بيهاجر هجرة دائمة..

- وماله؟؟ تلت أربع الشعب المصري عايز يهاجر من مصر هجرة دائمة..يعني مش أخوك لوحده العاجز عن التكيف و التأقلم ..الجو اللي احنا عايشين فيه الأنسان اللي ما يتجننش فيه يبقي أكبر مجنون..ياسوسو ..احنا عايشين في بلد سمك لبن تمر هندي.. كله علي كله علي رأي عدوية.. اتفرج علي أي بنت وركز فيها كويس ..وانت طبعا مش محتاج وصية.. هتلاقي حجاب ع الراس..والبنطلون الجينز عاصر مؤخرتها..وتيجي تعاكسها تغسلك ..ولو أصريت علي موقفك ..تاني يوم هتبقي معاك في الشقة..ومع ذلك تلاقي الموبايل عليه قرآن والرنة ابتهال لسيد النقشبندي..والغريبة بعد ما تتجوز تبقي محترمة..واللي بتخون جوزها تكتشف إن ما كانش ليها أي تجارب قبل الجواز.. وتلاقي اخوات البنات دول فاكرينهم أشرف بنات علي وجه الأرض..تناقضات تخلي أجدع عقل يشت ويروح ما يرجعش..
سيبك من الكلام ده كله ..هات العود واعزف لنا أغنية (الحلوة قامت تعجن في الفجرية..)


23

حافظ الآن يسير في شوارع السيدة مرتديا جلبابا متسخا ولحيته تصل إلي صدره وفي يده بوستر كبير للفنانة ليلي مراد..هو في أغلب الأوقات هاديء..ولكن ما أن يداعبه طفل صغير حتي يجري خلفه صارخا:
- يازبالة ..يامعفن..ياقذر..يامتخلف..يابيئة..
وسرعان ما يعود إلي هدوئه ..وإلي تأمل وجه فنانته المحبوبة..ومن المدهش أن عقله لم يذهب كلية..في أحيان كثيرة تجده قد هذب من لحيته ..وارتدي بدلة من بدله القديمة البالية ..وجلس علي المقهي ليشاهد مباراة مثيرة..أو فيلما كوميديا..أو يلعب الطاولة مع صديق يتعرف عليه لأول مرة..وإذا تصادف وجلست بالقرب منهما سيخطف أذنك حديث حافظ الشائق عن الجنس ..وعن حلمه في الارتباط من امرأة جميلة كهند رستم..وستتعاطف معه حين يخبرصديقه بأن مصر- أم الدنيا- توقفت عن إنجاب البنات الجميلات ..وأن الموجودات الآن أشباه نساء..وأن مصر بعد ثورة 1952لم تعد مصر..يسميها المصودية( علي وزن السعودية) أو المصويت ( علي وزن الكويت)..كل هذا يقوله قبل أن يكتشف الصديق أن حافظ لايجيد لعب الطاولة..وأنه كان يريد فقط أن يتكلم..فقط أن يتكلم..ويلتف الناس حوله كما كانوا يفعلون..


24

أنا شريف لمعي ..طبيب..وحشاش..وكاتب..وصديق سعيد ..وزميله في مستشفي المنيرة..أحب مراقبة الناس والإصغاء لهم..ولدي قناعة بأن وراء كل إنسان – وكل إنسان عظيم- رواية عظيمة ..مكتبتي بها أجندات أكثر بكثير من الكتب..لكل زميل أجندة ..أدون فيها كل ما أعرفه عنه..اسمه بالكامل ..وعلاقة هذا الاسم بصفاته..القرية أو المدينة التي نشأ بها..طقوسه الخاصة..الألوان التي يفضلها..الأغاني التي تطربه..درجة تدينه..علاقته بالمرأة..رأيه في الحب والزواج..أحلامه..مخاوفه..البلاد التي زارها..طريقته في نطق الكلمات.. يميل إلي المرح أم إلي الكآبة..دائما أنجذب إلي الشخصيات المرحة..التي تسخر من كل شيء..من نفسها قبل الآخرين..الحياة في نظري لا تستحق كل تلك الجدية وكل هذا اللهاث..أروع مافي الحياة هي ساعة الحظ ..تلك الساعة التي يتصرف فيها كل أحد علي سجيته..ويتذكر أجمل ما يحفظ من نكات ..وأجمل ذكريات طفولته..ويضحك حتي يكاد أن يغمي عليه..ويمتليء حبا لرفاق جلسته..ويترك لهم مساحة كافية ليمدوا أرجلهم ويسترخوا.. ويشعروا بخفة ظلهم ..ويتعالي علي كل الخلافات الصغيرة التي لابد من وجودها..وكما أحب المرح..أكره البخل ..وأكره الاصطناع..البخيل يستحيل أن يكون سخيا في مشاعره..ولاتستطيع أن تنتظرا منه خيرا..ستجده عزوفا كل عن مافي الدنيا من متع وملذات..ولكنني لا أنكر أن المتطرف في البخل هو كوميديان من الدرجة الأولي..هذا بالنسبة للناس الذين لايعتمدون عليه..أما بالنسبة لأهله ولمن يتعاملون معه بيعا وشراء فهو كارثة بكل المقاييس..والمصطنع أنواع..فهناك من يصطنع الوقار..ومن يصطنع خفة الدم ..ومن يصطنع التدين..وهو في النهاية شخص خنيق..وإن كان مادة في منتهي الثراء لكتابة المسرحيات..وعلي قفاهم وقف (موليير) وأصبح كاتبا مسرحيا عظيما..وما علاقة ذلك بقصتنا؟؟










25
انتهيت من كتابة هذه القصة في صيف 2010..وبدا لي أنه لاجديد سيحدث ويستحق الإضافة..سعيد فى التاسعة والثلاثين من عمره..جراح نص كم..ودنجوان نص كم..ومطرب نص كم..أما حافظ فقد انتهي به الحال كما ذكرت في الفقرة قبل السابقة..يلزم التنويه بأن أحداث تلك القصة حكاها لي صديقي سعيد ونحن نشرب الشاي ..وندخن المعسل علي مقهي بالقرب من المستشفي..وبالنسبة للأفكار التي كانت تدور في رأس حافظ أو رأس زوجته أو غيرهما من الشخصيات الأخري كانت استنتاجات شخصية توصل إليها سعيد..والحقيقة أنه لاأحد يعرف علي وجه التأكيد لماذا تم الطلاق أصلا بين حافظ وغادة..مازال هذا سرا غامضا..المهم ..في 25 يناير 2011قامت ثورة شعبية لإسقاط نظام الرئيس حسني مبارك..وتهورت وزارة الداخلية وأطلقت الرصاص الحي علي بعض المتظاهرين..وسقط مئات الشهداء ..كان منهم حافظ الدشناوي..لاأحد يدري لماذا ذهب إلي ميدان التحرير..هل كان عاقلا ويدعي الجنون؟هل كان واعيا – وهو في قمة تدهوره- بالفساد المستشري في البلد..؟؟(لم نعرف من قبل أن مجنونا مشي في مظاهرة).. ألف هل؟؟..رحمه الله..كانت حياته لغزا.. وكان جنونه لغزا..وكان موته لغزا..ومن سخرية القدرأن يكون حافظ – اللعنة ووصمة العار- هو السبب في انفتاح طاقة القدر لسعيد..كانت قصة حافظ الوحيدة التي لفتت انتباه أحد المخرجين كمدخل لعمل فيلم عن الثورة..فاجأني سعيد باتصال هاتفي في منتصف الليل
- مش هتصدق ياشريف .. قالها وهو يكاد أن يزغرد
- خير يابن المرة.. هذا هو اسلوب الحوار بيننا
- المخرج الكبير خالد يوسف اتصل بيا
- دلوقتي بقي مخرج كبير..دانت من شهر كنت عمال تتريق علي فيلم (كلمني شكرا)
- العظماء لازم نختلف معاهم وعليهم.. ماتنساش إنه عمل ويجا وخيانة مشروعة والريس عمر حرب.. خلينا في المهم..عايز يعمل قصة المرحوم حافظ فيلم ..وادالي معاد في جراند حياة عشان نتكلم في التفاصيل..خلاص ياصاحبي ..أنا كده دخلت الوسط من أوسع أبوابه..بلا جراحة بلا قرف..هتيجي معايا طبعا..
- أكيد طبعا..
- يارب تكون كتبت كل الحاجات اللي كنت باحكيهالك عن حافظ
- عيب عليك ..دي حاجة تفوت صاحبك
- قشطة عليك ..وصلنا يامعلم.. عايزك تكتب أغنية توجع عن الثورة..
- يامسهل..

وقابلنا خالد يوسف في الموعد المحدد..وأبدي الرجل إعجابه الشديد بصوت سعيد وبأسلوبي في الكتابة..وأخبرنا بأننا سنكون علي اتصال دائم في الفترة القادمة ..حتي يخرج الفيلم للنور..ووعد سعيد بأغنية تتر الفيلم ..ووعدني بالمشاركة في كتابة السيناريو..نحن الآن في سعادة لاتوصف ..أقدامنا ليست علي الأرض..نرفرف..ونجاح الثورة – أو فشلها- في رأينا يعتمد اعتمادا كليا علي وعود المخرج الكبير..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق