الاثنين، 25 أبريل 2011

قصة (اجعلها تضحك)

اجعلها تضحك


1

من المؤكد أنك ستعيش وتموت دون أن تري فتاة في جمالها ورقتها واستقامتها..فالله-لحكمة لايعلمها إلاهو- لايخلق مثلها إلا كل مائة عام..في الثلاثين من عمرها..وتعمل مدرسا للأدب الانجليزي في كلية آداب المنصورة..والدها- الذي توفي منذ ثمانية أعوام والذي ورثت عنه حب الشعر- كان أستاذا في كلية الصيدلة..وأخوها الأكبرعماد تخرج في كلية الهندسة منذ عشرةأعوام(أي قبل رحيل الأب بعامين) وسافرإلي الإمارات..وتزوج هناك من مغربية..وقررأن يستقر في دبي للأبد.. وهو من النوع العملي الذي لايعر أي اهتمام للمشاعر الإنسانية..ورغم سهولة الاتصالات في هذه الأيام ورخص ثمنها إلا أنه نادرا ما يتصل بأحد..وحين توفي والده لم يكلف خاطره بالقدوم لحضورجنازته..قد تتعاطف مع شاب فقير يكره هذا البلد ويتمني أن يرحل منه ولايعود..ولكن عماد لم يكن فقيرا..والده وفرله ولأخته ما يجعلهما في غني عن العمل طوال حياتهما..منزل جميل في توريل – أرقي أحياء المنصورة- من أربع أدوارتحيط به حديقة فاتنة..ورصيد ضخم في البنك..ويبدو أن أسبابا أكبر من الفقر هي التي تتحكم في مصير الإنسان علي عكس ما يعتقد ماركس..كأن كل إنسان قد خلق ليعيش في مناخ معين يظل يبحث عنه حتي يجده..وهذا المناخ هو غالبا قيمة روحية أكثر منها مادية..هناك من لايشعر بوجوده إلا في مناخ من الحرية بكل معانيها..حيث لا يسأله أحد عما يفعل..وهناك من لايجد لهذه الحرية أي معني..هو يريد أن يستمتع بدفء القطيع علي حساب أي متعة أخري..ومنذ وضع عماد قدميه في دبي احس بارتياح غريب..هذه هي المدينة التي كان يبحث عنها..والتي تشبهه..كأنه يولد من جديد..وبدت له مصر زنزانة خانقة ومظلمة..وكان لايريد أن يتذكرها بأي طريقة..لذا لم يكد أن يمر عليه هناك ستة أشهر حتي انقطعت أخباره تماما..وامتلأ فكر الأب والأم بالوساوس المهلكة..هل حدث له مكروه؟..هل – لاقدر الله- مات؟..وعاشوا في حداد عليه..وكانت المفاجأة المفرحة الحزينة- بعد عام كامل- من أحد أصدقائه هناك..هو حي يرزق ..وتزوج..وأنجب..ويعيش حياة رغيدة..كان الحلم أن يسمعوا صوته..وهيهات..كانت نجوم السماء أقرب..في هذه الفترة تعرض الأب لأزمة قلبية حادة – بعد طول حزن- مات في إثرها..وارتدت الأم – وهي مازالت في ريعان فتنتها-الثوب الأسود..وارتسمت علي وجهها تجاعيد الحداد الأبدية..أما هبة فلم يكن لديها ما تفكر فيه في هذا العمر سوي نفسها..







2
كانت الغرور يسير علي قدمين..وكان لديها الحق في ذلك..فالفرق شاسع بينها وبين زميلاتها..تقف أمام المرآة – كنرسيس بطل الأسطورة الإغريقية- وتقول لنفسها
- لايوجد علي ظهر الأرض رجل يستحقني سوي ريتشارد جير..
وبخبث شديد كانت تتواضع..وتتحدث مع أكثر زملاءها الأولاد فقرا..كأنها لاتعرف أنها جميلة..وتستمتع بنظرات العشق والهيام في أعين الجميع..ولكن أحدا لم يجرؤ علي مصارحتها بشيء..مع أنها كانت مستعدة أن تفتح قلبها لأول طارق..ليس للحب ذاته..ولكن لتتعرف علي عالم الرجال عن قرب أكثر..واضطرت أن تبدأ هي..وكان أحمد توفيق هو صيدها الثمين..الأول علي الدفعة ..ومشروع الشاعر الكبير..ونجم حفلات الكلية ..وهو الوحيد الذي يتجنبها..كأنه الوحيد الذي يفهمها..يفهم كذب تواضعها..وزيف ضحكتها..وهي لذلك تريده..لتثبت لنفسها- قبل الآخرين- أنه لا رجل يستعصي عليها..وسرعان ما وقع..وتأكدت أن عزوفه عنها لم يكن إلا محاولة ريفية وطفولية لجذب اهتمامها..فالرجل الذي يستطيع مقاومة امرأة جميلة وغنية لم يخلق بعد..واحتقرته..لأنه ليس قويا..وليس واثقا في نفسه كما يحاول توصيل ذلك للآخرين..بالرغم من أنه يمتلك جميع المؤهلات التي تجعله رجلا استثنائيا..وتوقعت – علي عكس ما يتوقع له أساتذته وزملائه- أنه سينتهي شخصا عاديا جدا..العظمة تبدأ من ثقة حقيقية في الذات..وهو هش وضعيف..ويكاد يبكي إذا مر يوم ولم تتصل به كما عودته..بعد شهرين فقط قطعت علاقتها به إلي غير رجعة..وسرعان ما تحققت نبوءتها..تدهور مستواه الدراسي..واقتصر شعره علي البكاء علي أطلالها..وقال بعض الخبثاء أنها فعلت ذلك عمدا لتحتل المركز الأول الذي احتكره لثلاث أعوام متتالية..وجاء تقديره في العام الدراسي الأخيرا مخيبا للآمال..مقبول..وبهذا انطوت صفحته تماما..لعله يعمل الآن مدرسا في قريته (نوسا البحر)..ولعله سيعيش العمر معتقدا بأنه لولاها لكان له شأن كبير..وهل يستطيع أن يعيش الفاشلون دون أن يلقوا زكائب فشلهم وتعاستهم علي ظهورالآخرين؟؟













3

تعيش هبة الآن مع مامتها في شقة الدور الثاني..ويقوم الخال(زين السلاب) بالتشقير عليهم من وقت لآخر..هو رجل خمسيني حنون وتستحي منه الملائكة..ومتزوج من طبيبة تعمل في نفس تخصصه ( النسا والولادة)..ومن سخرية الأقدارأن تحرمهمامن الإنجاب ..ولكنهما راضيان وصابران(أو يحاولان ذلك بكل ما يملكان من إيمان وثقة في عدل الله) ..والخال زين يعشق شكسبيرواللورد بيرون وجون ملتون..والفضل يرجع إلي هبة وترجمة الفذ د.محمد عناني..عمر طويل وهو متقوقع في الأدب المصري العقيم..وأحلي الأوقات عندما يجلس مع هبة ويتناقش معها في مأساة الملك لير وعطيل وهاملت وماكبث..أو يستمع لها وهي تقرأ له شيئا من ملحمة بيرون الساخرة (دون جوان)..ورغم أن الأم كانت تترجاه أن يضغط علي هبة أن ترضي بواحد من زملائها الذين يتقدمون لها قبل أن يتسرب العمر من يديها إلا أنه لم يكن يفعل..فهو يعرف دماغ بنت أخته..عنيدة..وترفض أن يتصور أحد – مجرد تصور- أنه يعرف مصلحتها أكثر منها..لم تقابل الرجل الذي يملأ عينها حتي الآن..
ويعرف أيضا أن حياة أخته قد تنتهي بزواج ابنتها هبة..ويقول لنفسه هل قضي علي الإنسان أن يعيش حياته وهو مطارد بالوحدة واليأس..كيف يمكن العزف علي كمان ناقص الأوتار..لم أقابل إنسانا إلا وفي حياته وتر ناقص..يجعل كل سيمفونياته شائهة ومبتورة وجالبة للحزن أكثر من البهجة..والأمل الوحيد – ليصير للحياة معني- هو التجرد من الذات والاستغراق في الموضوع..شجرة نزرعها دون ان ننتظر ثمرها وظلها..ونهر نحفره دون أن ننتظر أن يروينا..وطريق نمهده دون أن ننتظر السير عليه..الهلاك والشقاء في انتظار نتيجة..لذلك كان أسعد البشر هم من عاشوا وماتوا في سبيل مبدأ..وبذلك لم يكن لديهم الوقت ولا الدموع للبكاء علي أنفسهم..ولكن من يستطيع أن يفعل ذلك سوي الأنبياء..













4

ليل المنصورة لايقل سحرا عن ليل القاهرة..وخصوصا علي المشاية(الكورنيش)..مزيج بديع من صفحة النيل الفضية وهي تتلألأ وتعلن رضاها عن أضواء السيارات الفاخرة وواجهات المحلات الراقية..كأن المنصورة- مركز المجموعة الشمسية- تمتلك يدا سحرية تحول القبح إلي جمال فاتن..في حوالي التاسعة مساء يكون شريف بندق – مدرس النقد وزميل هبة في الكلية- جالسا مع إحدي مززه في نادي الجزيرة..والجرسون (مدحت) يقدم لهما المنيو في انحناءة مهذبة وكريمة.. لاتوجد مهنة وضيعة..مدحت جرسون برنس..يشعر زبائنه بأنه لايقل رقيا عنهم..بتفانيه الشديد في عمله..وحرصه المطلق علي راحتهم..عندما تكون عبدا للعمل الذي تؤديه ..فحتما ستكون سيدا أوندا لمن تقدم لهم عملك..الجزمجي الشاطروالمخلص والمتفاني في عمله مستحيل أن تشعر أنك أرقي منه..كأنه لايهم المهنة التي تعملها ولكن الأهم كيف تعملها..وهذا هو الفن..طريقة ما في عمل شيء عادي جدا..هناك من يعملون في وظائف راقية جدا..ولكنك لاتحترمهم..لأنهم يؤدونها بطريقة عادية وروتينية..طريقة تخلو من الشغف والاهتمام..ولذلك يفقد مع الوقت وجههم مرونته وبشاشته وفرحه بالدنيا..ما جعلني أتكلم عن مدحت بهذا الإ سهاب هو
حب شريف بندق له..ينشرح قلبه له عند رؤيته..رغم أنه لم يتبادل معه سابق حديث.. كل ما يعرفه عنه اسمه فقط..والضحكة التي تلمع في عينيه حين يراه مع مزة جديدة..ضحكة تقول( باحسدك علي ذوقك..إنت باشا كبير قوي قوي..ممكن تقوللي إزاي بتقدر تعمل كده..)..وشريف أدمن تلك النظرة الضاحكة المتحدثة..لدرجة أنه بلهفة سأله عن سر غيابه بالأمس ..فأجاب مدحت بأدبه المعتاد
- كنت تعبان يادكتور شريف
ارتسمت علي وجه شريف ضحكة عريضة ..ضحكة إعجاب وعجز عن الامتنان..وقال
- ياااه..دانت عارف اسمي كمان
وهو مازال منحنيا بزاوية تقول بأنني خادمك المطيع ولكنني ابن ناس أيضا مثلك
- طبعا يافندم..حضرتك أشهر م النار عاالعلم
- ماشي يامدحت..ألف سلامة عليك..
- تؤمرني بأي حاجة يافندم
- شكرا يامدحت

من يعرف شريف من بعيد يتصور أنه إنسان مستهتر بلامشاعر..ولا مباديء..فهو خمورجي..وبتاع نسوان..ولا يقدس غير مصلحته ومتعته..عندما يطلبه أحد في خدمة..يرد عليه بمنتهي الجفاء والغلظة
- آسف..مش هاقدر..
مهما كانت هذه الخدمة تافهة..كأن يطلب منه أحد الزملاء أن يحضر له كارت شحن أو علبة سجائر وهو قادم في الطريق..هو لايطلب شيئا من أحد ..ولا يريد من أحد أن يطلب منه شيئا.. هو لايبالي بأي إنسان كائنا من كان ..والكلام السييء الذي يقال من خلف ظهره لا يهز شعرة في رأسه..أن تكون محبوبا من الناس فهذا معناه أن يطمعوا فيك ..وألا يكفوا عن ملاحقتك بطلباتهم الرذيلة..علاقته بالآخرين تنحصر في هذه المعادلة ( لكي أفيدك يجب أن أستفيد منك بنفس القدرحتي علي مستوي المشاعر المعنوية)..وكانت هبة لاتكف عن التفكير في هذا الإ نسان الغريب والمعقد..وتتلهف علي سماع آخر أخباره..وكم تمنت أن تنقذه من نفسه..المدهش أنه محبوب من الطلبة والطالبات..وفي محاضراته لاتكاد تعثر علي مقعد شاغر واحد ..أما محاضراتها فهي تعرف أن الطلبة لايحضرون إلا للفرجة علي طقمها الأخير..علي الصدر المفتوح..علي الساقين المخروطتين..ويستمعون إلي صوتها الذي يشبه صوت الفنانة الراحلة راقية أبراهيم..وكان لابد أن تعرف..وكانت الطريقة الوحيدة أن تقدم – بجسارة لاتفتقدها- علي حضور أحد محاضراته..وليكن ما يكون من إشاعات لايتقن المصريون شيئا سواها..


5

عندما دخلت المدرج تسارع الطلبة لتوفير مقعد مريح لأستاذتهم..ويابخته من أسعده حظه بالجلوس قريبا منها..عطرها مسكر كأقوي أنواع الخمور..وبدا المدرج كأنه صرح زجاجي حسبته (هبة) لجة فكشفت عن ساقيها..ولكن شريف لايحاول إبهارها..هو يتحدث كما اعتاد ..بطلاقة وصراحة وسخرية..وذهلت هبة..إنه يمتلك نفس روح (اللورد بيرون )الساخرة..يهزأ ويسخر من كل ما اعتدنا علي تقديسه..
ودق قلبها..لأول مرة يدق بحق وحقيق..ولمن؟..لآخر رجل في الدنيا كانت تعتقد أنه يستحق ذلك..للرجل الذي يتعامل مع المرأة كأنها زجاجة كونياك..ولا يحتقر شيئا قدر احتقاره للحب والزواج..ويردد دائما أن الوفاء لأجسادالآخرين هو خيانة لأجسادنا..ويسخر من هؤلاء الرجال الذين يعيشون ويموتون بين أفخاذ امرأة واحدة..الرجل قادر علي حب مئات النساء..ويعتقد أن سر تعاسة البشر في التعامل مع الكل لا مع الجزء..عندما نعجب بعضو في المرأة نتصور أننا نحبها كلها..حتي مع الرجال..نقول بأننا نكره فلانا لأنه كذاب ..أو لأنه لا يصلي..أو لأنه مغرور..والكراهية – كالحب- عمياء..لا تجعلنا نري الصورة بوضوح ..هناك إنسان كذاب ولكنه مرح وخبرته بالحياة تستحق أن نتعلمها..وهناك إنسان لايصلي ولكنه جدع وخدوم ومثقف ومحب للناس بإخلاص..وهناك مغرور طيب..وهناك مغرور ساذج ..فالصفات الجميلة موزعة علي البشر..والأعضاء الجميلة موزعة علي النساء..لا توجد امرأة قادرة عي إعطاء رجل جميع مايريده..والعكس أيضا..
هذه هي بعض معتقدات شريف بندق ..الذي حصل علي الماجستير في النقد الأدبي من أحد الجامعات الإنجليزية..والذي وقعت هبة في حبه دون أن يسمي أحد عليها..


6

تغيرت هبة في الفترة الأخيرة كثيرا..فقدت الكثير من نشاطها وحيويتها..وأصبحت تعاني من الشرود وفقدان الذاكرة..وأصبحت المحاضرات عبئا ثقيلا عليها..والطلبة لاحظوا ذلك..فقدت الكثير من نضارتها ووزنها..وهالات سوداء بدأت تظهر تحت عينيها..وملابسها لم تعد ملتصقة ومشدودة علي جسدها..وانقلب حسد زميلاتها لها إلي عطف وشفقة ..وإلي شماتة في بعض الأحيان..كان واضحا أنها جائعة للنوم..فهي تنام في مكتبة القسم حتي يقع الكتاب من بين يديها..وفي الكافتيريا كانت كؤوس العصير تندلق علي ملابسها..وكثر القيل والقال..والغمز واللمز..وأصبح الجميع يقسم بأن شريف بندق أفقدها عذريتها..وأنها قد تكون حاملا منه..ووصل الكلام إليها فازدادت حزنا واكتئابا..ولم يعرف أحد السبب الحقيقي..وهو الرائحة الكريهة التي بدأت تشمها في البيت..رائحة حيوان ميت ..ومسحت المنزل ركنا ركنا لعلها تعثر عليه ولكن لافائدة..الأيام تمضي والرائحة الكريهة تزداد..وتتوحش..وتستفحل..وهي تكاد تختنق..ولكن الأم لاتشمها..والخال لايشمها..هي وحدها فقط..وأصبحت ترش المنزل بكميات ضخمة من معطرات الجو..فتهدأ الرائحة ..ولاتلبث أن تظهر بعد ساعة ..فتعاود الرش..ولم تعد قادرة علي النوم..والأم تنظر لها بجزع ..وتحاول طمأنتها..أصبح الشغل الشاغل لهبة أن تشتري كل أنواع المعطرات والمنظفات في السوق..وصرفت علي ذلك مبالغ طائلة..وقل إقبالها علي القراءة..والاستماع لموسيقي بيتهوفن وموزار وفاجنر..وفقدت الرغبة في مناقشة الخال في أي موضوعات عامة أو خاصة..كان الرجل يأتي ويذهب دون أن تخرج من حجرتها لملاقاته..بدأت تدخن بشراهة..أملا في أن تنسي تلك الرائحة العفنة..














7
عندما اقترب شريف من هبة..تأكد أنها تختلف عن كل ما عرف من نساء..أميرة إنجليزية بكل ما تنطوي عليها الكلمة من معاني سامية..النبل والأصالة يجريان فيها مجري الدم في العروق..أخذت من الحياة كل ما يجعل أنوثتها تتألق وتسمو..لديها ذوق رفيع في اختيار ملابسها واكسسوارتها..وتقرأ الكتب التي ألفها مؤلفوها خصيصا لبنات الطبقة الراقية..كل شيء في حياتها إنجليزي صميم..الروايات..الأغاني ..الأفلام..وعلاقتها باللغة العربية تكاد تكون منعدمة..
في المنزل لاتتحدث مع والدتها إلا باللغة الإنجليزية..أما مع الخال فرغم أنه طبيب إلا أن طريقة نطقه مثيرة للسخرية والرثاء..وبرغم كبريائها إلا أنها أمام شريف في منتهي الخنوع والطاعة..وأخبرته بأنها لاتريد منه سوي أن تتشرف بأن تكون زوجته..وأنه حتما – وبدون تدخلها- سيمل من حياته العابثة وسيكون لها وحدها في نهاية المطاف..والواقع أن شريف اقتنع أنها هدية يقدمها له القدرعلي طبق من الماس..ومن السخافة إضاعتها..هو يكبر في السن..ولابد من الزواج..إن عاجلا أو آجلا..ولم لا؟؟وقرر أن يتخلي عن كل قناعاته السابقة ..ويتزوج..وباندفاع – اشتهر به- جذب الموبايل من تحت الوسادة وطلبها وأخبرها أن تخبر والدتها وخالها بأنه قادم غدا لطلب يدها..كان يعتقد أن الإرهاق التي عانت منه في الفترة الأخيرة بسببه..وأن هذا القراركفيل بإرجاعها إلي سابق تألقها وحيويتها..



















8

ظلت تقفز علي السريرمن شدة فرحتها..وخرجت تعانق أمها التي كانت تشاهد التلفزيون وهي ساهمة..كانت الأم تفكر في الابن الذي ضاع منها.. وهاهي البنت تضيع أمام عينيها..ولاتستطيع أن تفعل أي شيء..قالت هبة منتشية ( بلغة أنجليزية ترجمتها إلي العامية)
- باركيلي ياماما
- مبروك ياحبيبتي..بس علي أيه
- شريف هييجي يقابلك بكرة..هادخل اكلم خالو زين..
( لاتوجد بنت لاتكلم والدتها عن أي علاقة عاطفية تدخلها)

طارت الأم من الفرح..وهي تري ابنتها تسترد عافيتها النفسية..ولكنها تذكرت الأب ..وتمنت أن يكون موجودا في مناسبة كتلك..وانزلقت دمعة علي خدها..وتذكرت عماد ..وأجهشت في البكاء..عادت هبة بعد أن اتصلت بخالها ورأت الأم
- ليه بتبكي ياماما
مسحت دموعها بمنديل جذبته من العلبة التي فوق المنضدة
- دموع الفرح ياهبة..مبروك ياحبيبتي..بس تفتكري هتبقي سعيدة معاه بحياته اللي عايشها دي
ردت رد من سأل نفسه هذا السؤال ألف مرة وكون إجابة واضحة ليقولها في مثل هذه الظروف
- ماما ..أنا مش بابقي سعيدة غير معاه..ماعرفش ليه ..عيني ما تجيش في عينه إلا وابقي عايزة أضحك ..واموت من الضحك..بابقي عايزه أحضنه..واحضن الدنيا عشان هو فيها..صريح صراحة مش عادية ..وبيقول كل الكلام اللي الناس بيخافوا يقولوه..أو بيتكسفوا يقولوه..ما بيعملش حساب لحاجة ولا لحد..باحس إنه طفل ..ومحتاج حد ياخد باله منه..وانا معاه بابقي طايرة..بابقي عايزة أولعله السيجارة..أمسح العرق اللي علي جبينه..أطبطب علي كتفه..وعارفه إنه أناني..ويبيع أي حد..عشان يبقي مبسوط..بالظبط كأنه صورة طبق الأصل من اخويا عماد..حد اتخلق عشان يتحب..مش عشان يحب..ماما..الريحة المعفنة بدأت تظهر تاني..هاتخنق..

وجرت نحو غرفتها لترش أكبر قدر من معطرات الجو..






9

في اليوم التالي استيقظت هبة مبكرا..وقلبت المنزل مسحا وتنظيفا حتي كاد السيراميك أن يستغيث من شدة الدعك فيه..كانت تخشي أن يشم شريف الرائحة..ويقول عنها بأنها غير نظيفة..وأنزلت صور أبيها وأجدادها الراحلين- ولم تستطع الأم أن تعارضها- من علي الجدران..فكرت أن تكون الرائحة بسبب الموتي..وفي صندوق محكم الغلق بالدور الأرضي وضعت الصور..وسرعان ما أحست بتأنيب ضمير..فقررت أن تذهب إلي المقابر لتقرأ الفاتحة علي أرواحهم..وهناك شعرت بطمأنينة عجيبة..فقد رأت أباها يفتح باب المقبرة ويخرج ليستقبلها..ويحتضنها..ويدردش معها في أحوالها..حدثته عن شريف..وحدثته عن عماد الذي لم تزل أخباره مقطوعة..وحدثته عن الملل الذي تعيش فيه..ليس في الحياة جديد..الأيام تتشابه..والناس تتشابه..والأفلام والروايات تتشابه..الجديد هو الرائحة العفنة التي بدأت تظهر في المنزل..التي لاتعرف كيف تتخلص منها..حدثته عن اللحي الطويلة والنقاب والإسدال واللون الأسود الذي يغزو الكلية..عن الطالب الذي نصحها بارتداء ملابس محتشمة..وعن الزميل الذي كان يعتقد أنها مسيحية لأنها لاترتدي حجابا..عن التعليقات السخيفة التي تسمعها وهي تتسوق في أحد المولات..وقال لها الأب بأنه السبب في كل ما تعانيه..لأنه لم يكن يعتقد في الخرافات..وأن المنزل الذي يقطنون فيه الآن بني علي أرض كانت مقبرة..



















10

في الموعد المحدد جاء شريف وحيدا ومرتديا بنطالا جينزا وتشيرت نايك بربع كم وحذاء رياضيا ماركة أديداس..وكانت الأم والخال في انتظاره..وبعد الترحيب والتصافح جلس واضعا ساق علي ساق..وأخرج سجارة وعزم علي الخال ..وحين اعتذر الرجل بأنه لايدخن..أشعلها لنفسه..وجذب نفسا عميقا ونفثه في الهواء ..وبدون تحفظ تحدث بأريحية شديدة..وكان الحديث أبعد ما يكون عما أتي من أجله..تحدث عن مهزلة الانتخابات الرئاسية الأخيرة..عن الرجل الذي يرفع شعار( طربوش لكل مواطن)..عن أيمن نور وأنه لايصح أن يكون رئيس مصر اسمه أيمن..عن مبارك الذي يتعامل وكأنه يحكم شعبا من المغفلين..وهذا أكبر دليل علي عبقريته..فنحن كذلك فعلا..هل يوجد شعب في العالم يقضي ثلاثين عاما في بناء هرم..هل يوجد شعب في العالم يرضي أن يبقي لأكثر من ألفي عام تحت حكم الغرباء..ويؤمن بالدين الذي يؤمن به حكامه..ويتحدث بلغتهم..هذا شعب يستحق كل ما يحدث له..وبرغم الذل والقهر والجوع والناس مازالت مصرة علي الزواج وإنجاب أولاد ليكرروا المأساة التي عاشوها..أنا سأرتبط بالآنسة هبة ..وسنسافر إلي انجلترا..هي فين ..مش باينة؟؟..ونادي عليها بصوت جهوري:
- ياهبة..ياهبة..
بالطقم الجديد وبالمكياج تواري الشحوب واستعادت تألقها..ودون اعتبار لأحد ..قام من مكانه ..وتوجه ناحيتها..ورفع يدها ولثمها علي طريقة ليوناردو دي كابريو مع كيت وينسلت في تيتانك..الآن راح أثر الصدمة والذهول..وبدأت الأم ..وبدأ الخال في استيعاب هذا الكائن الغريب..وانشرحت الأسارير المنقبضة..ولاحت علي وجيهما -فجأة- محبة غامرة له..إنه فعلا صورة طبق الأصل من الابن عماد..نفس الغرور..ونفس الأنانية..ونفس الوقاحة..ولكنها تنطلق من حب ..لامن كراهية..فهو يعيش في العالم كأنه بيته..ويتدلل علي الناس كأنهم أهله..لا يعرف الخبث..ولا الحذر..ولا التجمل..وهو يعطي للآخرين نفس الحرية التي يعطيها لذاته..لايتدخل في حياة أحد..ولا في اختياراته..وانجذب له الخال..الذي اكتشف أنه مازال قادرا علي الضحك والتنكيت..وعلي إطلاق القفشات..وسرعان ما أصبح الاثنان صديقين حميمين..لايمر يوم دون أن يتصل أحدهما بالآخر..










11

الخال زين السلاب..أصلع..وبدين..وقصير..ومربوع القوام..ومفعم بالحيوية..وعاش عمره متدينا..وماشيا علي الصراط المستقيم..وانحرافاته اقتصرت علي فترة الجامعة في طب إسكندرية..فيها عرف التدخين..والعلاقات العاطفية المحرمة..ولكنه لم ينزلق أبدا إلي الزني..كان كل هذا في السنة الرابعة..وعندما سقط في نهاية العام..كانت كارثة بكل المقاييس..فهو لم يتعود أبدا علي الفشل..ولايعرف كيف يواجهه..أو يتعامل معه ببرود أعصاب..ثار علي نفسه..وقررأن يعود إلي ربنا..وعاد..وانضم إلي أسرة الإخوان المسلمين في الكلية..وكانت حالته الميسورة تسمح له باستئجارشقة..وكان يستضيفهم فيها..بدلا من بنات الهوي..إلي أن زاره والده علي حين غرة ..ورآهم معه..كانوا يقرآون القرآن علي سجادة في الصالة..وهم جالسون في شبة حلقة..واندفع الدم إلي رأس الأب..تاجرالعطارة الشهير في السكة الجديدة بالمنصورة..وطردهم..وبعد أن انصرفوا صاح فيه
- أنا لو جيت ولقيت عندك نسوان أهون عندي من الجماعة دول..إنت عايز تودي نفسك ورا الشمس..وما نعرفلكش طريق جرة..يازين يابني..اللي عايز يعبد ربنا..عنده القرآن..وعنده مليون جامع..أما ينضم لجماعة سياسية مستخبية ورا شعار الاسلام هو الحل ..لأ..الإسلام مش حل ..ومش مشكلة..الاسلام دين ..والدين لغة بين ربنا وبين عباده..واللغة مش كلام..وخطب..اللغة إحساس ..إشارة..تلميح ..إيماءة.. واللي بيحب ربنا بجد ..ربنا بيفيض عليه من فضله وكرمه..واللي بيحب ربنا ..بيحب الناس كلها..ويصاحب الناس كلها..وما بيكرهش..حتي اليهودي والنصراني..واللي بيعبدوا النار..

والد زين محب للصوفية..ولايفهم الإسلام إلا من خلالها..وقلبه دوما يردد مع محيي الدين ابن عربي

عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

ولم يكن زين لديه القدرة علي معارضة أبيه..لأنه هو الذي يصرف عليه..وإغضابه سيقلب حياته رأسا علي عقب..لابد أن نعترف أن المال هو عصب الحياة..وبدونه تتوقف تماما..والذي يصرف عليك ..لا يجب عليك أن تخالفه في كل ما يأمرك به..وإذا أردت التمرد فتحمل عاقبة أمرك..ولكن علاقة زين بالأب..كانت أكبر من الفلوس..كان زين واثقا بأن لايوجد رجل في المحروسة كلها يفهم الحياة كما يفهمها والده..والده الذي نشأ نشأة فقيرة في أحد أرياف مدينة دمياط..واستطاع-بعصامية- أن يصبح واحدا من أثرياء المنصورة ..والصوفية التي يحبها..ويحب أتباعها..لاتمنعه من مباشرة تجارته..والنجاح فيها..انتكاسة زين الثانية عن تدينه كانت في فترة الامتياز..تحت وطأة رغبة مشتعلة في وجود امرأة إلي جواره..بعدها عاد إلي المنصورة..وعمل في المستشفي العام..وتزوج..وحرص دائما أن تكون سمعته كالجنيه الذهب..حتي التدخين الذي لم يستطع أن يتوقف نهائيا عنه..كان يمارسه في الخباثة..وكان الأب يعرف..وبخبرة تاجر- دعكته الدنيا- لم يشأ مواجهته..أن يدخن خمس أو ست سجائر في اليوم خيرمن أن يمارسه جهرا ويصل إلي علبة وعلبتين..

انتكاسة زين الثالثة عن الدين كانت نظرية أكثر منها عملية..مشكلة العقم التي يعاني منهاوضعته وجها لوجه أمام أسئلة وجودية كثيرة..عن العدل والظلم..والصبرواليأس..والخيروالشر..عن الحكمة من تلك الحياة..والغاية من العذاب في الدنيا..وهل الإسلام هو الدين الصحيح وبقية الأديان باطلة؟؟..فأخذ يقرأ بنهم في كتب الفلسفة..في البداية لم يفهم شيئا..ومع الوقت اتضحت أمامه خارطة الطريق..وبدأت تتساقط الكثير من المسلمات..واشتعل صراع من نوع جديد..صراع بين العقل والإيمان..واقتنع أخيرا أن الإيمان يجب ألا يخضع للعقل..يجب ألا تسأل..أنت مؤمن بالله ورسله وكتبه وكفي..لا تسأل هل القصص القرآنية حدثت حقيقة أم لا؟لاتسأل عن حقيقة الإسراء والمعراج؟؟لاتسأل عن الناسخ والمنسوخ؟؟..لاتسأل هل الإنسان مسير أم مخير ؟؟..ودوما سيردد
- الإيمان يتنافي مع العقل بطريقة غريبة الشكل يادكتور شريف..أقسم بالله..فرويد وماركس وسارتربيقولوا كلام عن الدين فوق ما يتصوره عقل..كلام غريب الشكل..أنا عندي كتاب عن الدين والأسطورة..بيقول كلام أقسم بالله يكفر..يكفر بطريقة غريبة الشكل..العرب ماعادش ليهم لازمة علي وجه الكرة الأرضية..انتهت القصة خلاص..ما بنفكرش غير في الأكل والنسوان..وأفكارنا قديمة وبالية ومتحجرة بطريقة غريبة الشكل ..أقسم بالله ..يادكتورشريف..الكلام اللي أحنا بنقوله ده علي مستوي الأوضة..مايطلعش برة..أقسم بالله ..أنا في دماغي أفكار لو سمعها رجال الدين يرجموني..اللغة العربية انتهت القصة خلاص..ماعادتش تنفع..لغة ميتة وعاجزة عن استيعاب التطورات العالمية الجديدة..اقسم بالله لولا القرآن كانت انقرضت من زمان..أيه اللي السلفيين أضافوه للدين..ولا حاجة..بيتكلموا عن أهداف ما بيتكلموش عن وسايل..يابيه..أقسم بالله..اسألهم عن حل مشكلة البطالة..أو حل مشكلة التعليم ..أو حل مشكلة الصحة..أو حل مشكلتنا مع إسرائيل..هتسمع خطب عنترية غريبة الشكل..مش أكتر من كده يابيه..أنا مش مقتنع بأي واحد مش بيدخن..نفسي أعرف بيحافظ علي صحته ليه..دايما اللي بيدخن تلاقيه كريم ..ومرح بطريقة غريبة الشكل..واحد بتهون عليه صحته ..أيه اللي يهون عليه بعد كده..أقسم بالله يابيه عمرك ما هتقابل واحدة اسمها هبة ومش جميلة..مع أنها بدأت في الأيام الأخيرة تفكر بطريقة غريبة الشكل..فيه ريحة معفنة في البيت..وأقسم بالله ما فيه أي حاجة..أنا خلاص من كتر القراية ماعدتش باشوف الحمد لله..ما عادش فيا غير مناخير..أقسم بالله يابيه..


كان الخال زين اكتشافا مذهلا لشريف..فكم هو طيب..وكم هو خفيف الظل باللزمات الكلامية التي يكررها( غريب الشكل..فوق ما يتصوره عقل..أقسم بالله يابيه)وبأحكامه القاطعة التي لاتقبل الشك..وكم هو ثري في مناقشاته..والغريب أنه حريص- برغم أفكاره- علي تأدية الصلاة في مواعيدها..وحقيبته -التي يحملها أين توجه- لاتخلو من مصحف..

ويسأله شريف ذات يوم
- ممكن يادكتور زين لو مارتبطتش بهبة مشاعرك ناحيتي تتغير
فيرد الخال بتدفقه المعهود وضاحكا ضحكته الساحرة
- إزاي ..أقسم بالله ياد.شريف..صلة الأفكار أقوي من صلة الأرحام ألف مرة..أنا مابلاقيش نفسي غير معاك ..ومع مراتي..وأيام زمان مع هبة.. علاقتي بقرايبي تكاد تكون انتهت ..ماعندهمش كلام غير في الأكل والشرب وعايزين يشتروا كذا..وعايزين يصيفوا فين..وما فيش أكتر من كده..أنا متعتي في القهوة مع سجارة مارلبورو ابيض ..واقعد اقرا في كتاب للجابري أو محمد أركون..أو جابرعصفور..أو زكريا ابراهيم..أو في قعدة زي اللي احنا قاعدينها دلوقت..عمري ماانزل اجيب أي طلب للبيت مخصوص..وانا راجع من العيادة أو المستشفي أشتري بالمرة..الوقت عند الغرب بفلوس..واحنا هنا بنبعزقه بطريقة غريبة الشكل..بتضحك ليه..ياشرشر..

- لأ..أبدا ..أصل أنت عندك أفكار (غريبة الشكل)
تلمع عيناه..ويفهم الدعابة ..ويضحك..لحظتها يتأكد شريف أن العالم لم يزل بألف خير..
















12
في حياة كل إنسان حقيقة مرة.. عقدة..نقطة ضعف..وصمةعار..عاهة..لعنة أبدية..يحاول إخفاءها..محوها..إنكارها..الهروب منها..وتظل تطارده..تخنقه..تحاصره..تفسد حاضره ..ومستقبله..نومه ..ويقظته..ولاحل..ولامفر..سوي بالموت..أو..الاعتراف بها..وإشهارها أمام الجميع..
والحل الأخير يحتاج إلي رقي إحساس..وإلي عبقرية إرادة..وإلي موت قلب..وهذا ما كان يفتقده شريف بندق..لايريد أن يعترف أن أباه مسجون في قضية مخدرات..وأن لحمه نبت من حرام..وأن النعيم الذي يرتع فيه الآن بسبب هذا الأب الذي يخجل منه..ولم يفكر يوما في زيارته..ولد في حي الخليفة بالقاهرة..وأبوه قهوجي..والمقهي عبارة عن زاوية صغيرة في بيت آيل للسقوط..وأخوته الكباريعملون مع الأب..وعندما كان في الثانوية العامة انتقلوا من المنزل القديم إلي منزل فخم بحي المنيل بالقرب من قصر الأمير محمد علي..ولأنه كان المتعلم الوحيد بين أخوته..وكانت تظهر عليه علامات النبوغ..قرر الأب أن يضمن له مستقبلا كريما..واشتري له عمارة في الشيخ حسنين بالمنصورة- مسقط رأس الأب- في نهاية الثمانينات ..وكتبها باسمه..ووضع عقد الملكية عند أمه(جدة شريف) هناك..وفي العام الذي التحق فيه بآداب المنصورة قبض علي الأب في صفقة ضخمة نشرتها الجرائد القومية آنذاك..وصودرت أملاك الأب..وحكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاما مع الأشغال الشاقة..وفلتت عمارة المنصورة بأعجوبة..وعاد إخوته مع والدته إلي البيت القديم..وأفشي لهم الأب بسر العمارة..ونصحهم بأن ينتظروا عامين أو ثلاث حتي تكون الأنظار ابتعدت عنهم..وأيضا يكون شريف قد بلغ إحدي وعشرين عاما..ويبيعونها..ويبدأون مشروعا نظيفا يعيشون منه..وقد كان..باعوا العمارة ..ووزعوا إيرادها عليهم بالتساوي..واشتروا لشريف الشقة التي يعيش فيها حاليا علي المشاية في إحدي العمارات القريبة من فندق المارشال الشهير..ولعل أسرة شريف هي السبب في عدم ارتباطه..وإن حاول أن يعطي الموضوع أبعادا فكرية..هو أول من يعلم ببطلانها..وهو لم يزل حتي الآن غير قادر علي مصارحة هبة بحقيقة أسرته..
الأسرة التي لابد من حضورها لتأخذ علاقتهما شكلا أكثر شرعية وجدية..











13
مازالت هبة تعاني من موضوع الرائحة إياه..ومازالت عاجزة عن النوم المشبع..ولكن بدرجة أخف كثيرا عن ذي قبل..كان الخروج مع شريف يملأها تفاؤلا وسعادة..أما شريف فقد أصبحت تلح عليه فكرة الهروب من تلك المسئولية التي ستفتح جرحا قديما..وستجعله يظهر بمظهر العاجز الضعيف الذي ينتظر رأي الآخرين فيه..البنت لقطة..وبنت ناس قوي..عاداتهم في الطعام والشراب ..وفي كل التفاصيل اليومية الصغيرة عادات أرستقراطية لايعرفها محدثو النعمة..وغنية جدا..وتحبه حبا يقترب من العبادة..ولكن لا..يفتح الله..وذات أمسية- وهما يتناولان العشاء في أحد الكافيهات الفاخرة- فاجأها
- لسة بتشمي الريحة
انتفضت ..كمن لدغها عقرب..وسألته والدموع تطل من عينيها علي استحياء
- مين قالك؟؟
- عرفت وخلاص..
- مستحيل تكون عرفت من ماما أو خالو زين..إنت أكيد شميتها..والله ياشريف إحنا ناس نضيفة قوي..ومش عارفة الريحة دي مصدرها أيه..
- أنا ما شميتش أي ريحة..الهوا اللي في بيتكوا يتعمل منه أحلي برفانات..
- بجد؟؟
- طبعا..
- طيب الحمد لله
محاولا افتعال مشكلة
- إنت هتاخديني علي قد عقلي..
- ليه ياحبيبي بتقول كده؟
- سؤال واضح ومحدد..إنت بتشمي ريحة وحشة في البيت ولا لأ؟
- باشمها.لكن من يوم ما تأكدت إني هابقي معاك علي طول ..الموضوع قل كتير..
- قل ..بس لسة موجود..لازم تعرضي نفسك علي دكتور نفسية وعصبية..
- أنا مش مجنونة ياشريف
- لأ..مجنونة
لايعرف كيف نطقها..كيف كان قاسيا إلي هذا الحد مع ملاك ..
أجهشت في البكاء..
- ما ينفعش كده..امسكي نفسك..كل الناس بتبص علينا..قومي ياللا نمشي..وعيطي في العربية علي راحتك..






14

غريب أمر هذا الحب..كأنه حرب..يفترس فيها القوي الضعيف..ما إن يكتشف أحد الأطراف ضعف الطرف الآخرحتي يستعبده..ويذله..ويهينه..ويتحكم فيه..ويتلاعب بمشاعره..وينفر منه..ويتوقف عن حبه ..والتفكير فيه..وهاهو شريف بندق..الذي لم يحلم في يوم من الأيام أن تحبه فتاة كهبة..التي كم لهث خلفها شباب من علية القوم..هاهو يركلها..لأنها أحبته بجنون..ولم تعد قادرة علي السيطرة علي مشاعرها أمامه..لم تعد تريد شيئا من الدنيا غيرأن تسمع صوته..وتتأمل ملامحه الخالية من الوسامة..كل حلمها أن ترتمي في أحضانه..وتنسي..تنسي كل شيء..ويبدو أن الإنسان- وليس شريف وحده- يرفض هذا النوع من الحب المستسلم..والداجن..الذي لا يقاوم..ولا يكذب..ولايراوغ..ولايعرف أن يقول مائة (لا) مقابل كل (نعم)..

ثلاثة أيام وهاتف شريف مغلق..ولا يأتي إلي الكلية..وهي لاتفعل شيئا غير انتظار اتصاله..اعتذرت عن المحاضرات..وجلست في المكتبة تقرأ في رواية(أوقات صعبة) لتشارلز ديكنز بنصف عقل..وكل حواسها مع هاتفها المحمول..وعندما يرن تلتقطه بلهفة..وتصدم عندما يكون اتصالا من مامتها أو خالها..تفكر في كتابة رسالة أخري..وتتراجع..فالرسالة الأولي التي كتبتها لم تصل بعد..بلغ توترها ذروته..وكان لابد أن تدخن..وباستهتار يائس أخرجت علبة السجائر من الحقيبة..وخرجت لتدخن أمام المكتبة..والعيون تنظر لها في دهشة واستنكار..

استدعاها عميد الكلية..فأطفأت سجارتها الثانية وذهبت..لم يكن الساعي موجودا..نقرت علي الباب نقرتين ..ودفعته..استقبلها الرجل بوجه بشوش
- اتفضلي ..يادكتورة هبة
جلست علي طرف الكرسي ..وهي مطرقة إلي الأرض..لا عن خوف ..ولكنها لم تكن راغبة في النظر أو الاستماع إلي أي مخلوق..أولاد الطبقة المتوسطة فقط هم من يخافون من رؤسائهم..أما الأغنياء فلا..المرتب الحكومي كله أقل من مصروفها
اليومي..
قال
- أنت تعرفين أنني كنت دائما معجبا بإخلاصك وتفانيك في عملك ..وثقتي في أخلاقك كثقتي في أخلاق بناتي تماما..ولكن الناس يابنتي الآن لم يعودوا يهتمون بغير المظاهر..وتدخينك أمامهم هكذا سيفتح بابا لكلام لا أحب أن يقال عنك..منذ فترة وأنا ألاحظ أنك مرهقة ..وأنصحك بأن تأخذي إجازة لأسبوع أو أسبوعين تستجمين فيها..نحن الآن في أواخر أكتوبر.. والجو في رأس البر رائع وبديع..وأتمني أن أراك كما اعتدت دائما متألقة وممتلئة بالحيوية..


15
لم تنتبه هبة إلي كلمة واحدة من كلام سيادة العميد..كانت تنتظر ..فقط تنتظر اتصاله..ثم فكرت بأن ماهي فيه أكبر من شريف..السبب في الرائحة الكريهة الموجودة في البيت..البيت المبني علي مقبرة..ظلت هذه الأفكارتهاجمها وهي تقود سيارتها عائدة إلي المنزل..وفي هذا اليوم تلقت شتائم لا حصر لها من سائقي الميكروباصات..ولكنها لم تعد تبالي..حتي الرائحة الكريهة لم تعد تخنقها..بل أصبحت تستمتع بها أكثر من مسرحيات شكسبير وسيمفونيات بيتهوفن..
وفي تلك اللحظة التقطت هاتفها من الحقيبة وقذفت به في الشارع..كان من نصيب شحاذ يجلس أمام أحد المساجد في شارع الجلاء..دخلت المنزل وكانت سعيدة أكثر من أي وقت مضي..وسعادتها أعمتها عن رؤية مامتها الجالسة في الصالة..توجهت إلي غرفتها..وجدتهم واقفين بلحاهم السوداء الطويلة وجلابيبهم القصيرة وأمامهم طاولة خشبية عليها زجاجات مسك في حجم الإصبع..فتحت الدولاب..وجدتهم أيضا وأمامهم نفس الزجاجات..انحنت ونظرت تحت السرير..وجدتهم أيضا..انفجرت في الضحك..وهي ترجوهم أن يظلوا معها..لأنها أدمنت رائحتهم..


انتهت..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق