الاثنين، 25 أبريل 2011

قصة( حصوة الحاج بدير)

حصوة الحاج بدير


هذه القصة ليست نكتة..فعالم الطب – علي عكس ما يتصور الكثيرون- مليء بالمضحكات أكثر من المبكيات..وخصوصا في بلدنا المتخلف..حيث يصير المرض وسيلة لاكتساب تعاطف الآخرين..المادي والمعنوي معا..وطريقة – رغم قدمها- مبتكرة للهروب من الضغوط..فتاة تريد الهروب من عريس مفروض عليها من قبل الأهل..زوجة تريد الهروب من مضاجعة زوج لاتحبه..شاب يريد الهروب من تأدية الخدمة العسكرية ( في بعض الأحيان يصل الأمر إلي قطع إصبع من أصابع اليد!!)..الأمثلة كثيرة..ولكن حصر الأمثلة ليس موضوعنا..هي قصة واحدة أردت أن أحكيها لكم..رجل في الستين من عمره..جاء المستشفي واضعا يده علي جانبه الأيسر..وتأوهاته كانت استعراضية أكثر منها حقيقية..خبرتي المتواضعة في الطب علمتني أنه كلما ازدادت صرخات المريض كلما كان مرضه تافها..لا يخيفني أكثر من الألم الصامت..الساهي ..الذي يخفي تحته دواهي لايعلمها إلا الله..تماما كالأنهار التي ليس يعلوها موج..عميقة ومخيفة..وبدون كشف ..شخص طبيب الاستقبال وجعه مغصا كلويا..وكتب له علي التذكرة:- حقنة فولتارين عضل..هنا هاج الرجل..وماج.. ..وهاج الأهل..بدون كشف ..تكتب لي علاجا.. كيف ؟؟..أنت طبيب مهمل ..وفاسد الذمة ..نعم ..وصل الأمر إلي هذا الحد من السفالة..الأعداد الغفيرة في استقبال المتسشفيات الحكومية تجعل من الكشف علي كل مريض عملا انتحاريا..والتذكرة المجانية تجعل العاطل مع الباطل يجيء..نحن شعب نقدس أبو بلاش..ولما كنت المدير المناوب وجراح المسالك في تلك النوبتجية فقد تم استدعائي..
في مثل هذه المواقف أفضل أمتصاص غضب المريض وأهله.. هو -لاشك -لديه حق في غضبه.. والمشاكل التي يعانيها الأطباء- من عمل شاق وضاغط مقابل مرتب هزيل- لا ينبغي أن تظهر بحال من الأحوال علي المريض..قمت بالكشف عليه..وعملت له أشعة تلفزيونية علي البطن والحوض..تبين وجود حصوة في الحالب الأيسر..حصوة كبيرة تستدعي إجراء عملية جراحية..هذا أربكني كثيرا..فألم الرجل لم يكن ألما حقيقيا..ومع ذلك يوجد سبب خطير خلفه..هذا علمني ألا أتعامل مع الطب بأحاسيسي..الطب علم..والعلم لابد أن يقوم علي حقائق موضوعية..الأشعات والتحاليل أصدق أنباء من الأحاسيس..ولكنني مازلت غير قادر علي تنحيتها جانبا..تذكرت كتاب زكي نجيب محمود عن الشرق الفنان ..الشرق الذي يهتم بالفن والدين- وكلاهما ذو منبع واحد- أكثر من اهتمامه بالعلم المجرد القائم علي الملاحظة والتجربة والاستقراء..توقعت -بعد ذكر كلمة العملية- أن يظهر الجزع والخوف علي وجه المريض..وخاب توقعي..الرجل كان في غاية السرور والحبور..وكأن آلامه قد تلاشت فجأة..كانت عيناه تنظر بمسكنة وشماتة نحو أولاده وتقولان:- أرأيتم ياولاد الكلب..حالتي خطرة..وتستدعي إجراء عملية..وأنتم لاتهتمون بي ..منذ تزوجتم وأنتم لاتهتمون بي..وهأنذا علي وشك الموت بسببكم..إذا حدث لي مكروه فذنبي في رقبتكم..
وتم حجزه في المستشفي..لعمل التحاليل اللازمة قبل إجراء أي عملية..رسم قلب..صورة دم كاملة..زمن التجلط..زمن النزف..وظائف كبد..وظائف كلي..مستوي السكر في الدم والبول..وهكذا..وتم مصادرة علبة الكيلوباترا التي في جيبه..وظهرت النتائج..كانت أعضاء الرجل – اللهم لاحسد- تؤدي وظائفهاالفسيولوجية علي أكمل وجه.. غرفة العمليات الآن مهيأة لاستقباله..الواقع أنها ليست مهيأة لاستقبال حيوان مريض..فهي غرفة عمليات تحت السلم..القطط تجري هنا وهناك..وأحيانا يشرفها كلب بالحضور من حين إلي آخر..وضوءالكشاف أشد خفوتا من ضوء أباجورة..غرفة حاصلة علي شهادة أيزو الحانوتية..بخطوات واثقة وثابتة دخل الحاج مرتديا بدلة بيضاء علي اللحم تصل إلي ركبته..نام علي السرير..وكان فمه يفوح برائحة السجائر..لافائدة من تأنيبه..خلع البدلة..الآن هو عار تماما كما ولدته أمه..تبدأ الممرضة في حلق شعر عانته..أسارير وجهه تنطق بانتشاء لاحد له..لعل العجوز الأمريكي لايشعر بتلك المتعة وهو يتجول أمام الأهرامات..قسما بالله كانت العملية تبدو له كرحلة سياحية عاش طوال عمره يحلم بها..الفقراء الطيبون في بلدنا يحلمون بالحج قبل أن يموتوا..ولكنه لم يكن طيبا..لاأقصد- بالطبع- أنه شرير..هو رجل – كما تنطق سحنته- شقي..ولعل شقاوته سبب فقره..الفلوس لاتعني له سوي شيئين: الحشيش والنسوان ..وبرغم هذا أحببته..لأنه كاد أن يكون صورة طبق الأصل من المرحوم أبي..هذا ما بدأت أن ألاحظه..حتي علي مستوي الشكل..قصير مثله..ونحيل مثله..وعيناه تلمعان بالمرح والشيطنة..وكان اسمه – وياللمفارقة الرهيبة- بدير( تصغير بدر)..نفس اسم أبي..هذا الاسم المصري الصميم الذي يوشك علي الانقراض..مع الوقت تفقد ضربة المشرط في الجلد دهشتها ومتعتها السادية..جميع الجراحين ساديون (تستولي عليهم رغبة دفينة في تعذيب الآخرين وفي الانتقام منهم..أنا مثلا لضآلة حجمي كنت عاجزا عن الدفاع عن نفسي وأنا صغير..لذا قررت الانتقام النافع)..هاهو الحالب..خرطوم دقيق يصل بين الكلية والمثانة..ولكن أين الحصوة؟؟..بهدوء أفتش..والوقت يمر ولاأثر لها..ضحكت ضحكة غير مبررة..سألتني الممرضة التي يرتكز كوعي الأيسر علي نهدها عن السبب..موقف في سنوات الطفولة الأولي..كان موعد الغداء..وأخي الأصغر ليس موجودا..سألني أبي في حنان
- فين أخوك؟؟
- مش عارف
- اخرج هاته من تحت طقاطيق الأرض..
خرجت أبحث عنه..ولما أعياني التعب..أوقفت رجلا كبيرا..وسألته
- ياعمو ..هي فين طقاطيق الأرض ؟؟
توالت النكات التي تدور حول البحث والتفتيش..وفي تلك الفترة كان برنامج المفتش كورمبو في قمة نجاحه..الجراح المساعد غاوي فلسفة..حكي لنا عن فيلسوف يوناني خرج في عز الظهيرة حاملا شمعة..سألوه عم تبحث؟؟فأجابهم بأنه يبحث عن إنسان..قصة جميلة..ولكن ليس وقتها الآن..البسطاء لايفكرون في الحياة بكل هذا التعقيد..الحصوة لم تظهر بعد..فلتت أعصابي وصرخت
- راحت فين الحصوة بنت المرة المومس ( بالطبع قلتها بالعامية)
قبل أن أتخصص في الجراحة لم يكن لساني زفرا بهذا الشكل..تعلمت هذا من أساتذتي..محاولة صبيانية لتفريغ شحنة التوتر..فاجأني عم بدير(في حالة التخدير النصفي يكون المريض منتبها)
- ما لحصوة نزلت في الحمام يادكتور النهاردة الصبح..
بغيظ قلت
- وما قلتش ليه ياحاج
بتناحة أجاب
- لو قلت ماكنتوش هتعملولي العملية..
شر البلية ما يضحك..للمرة الأولي أفهم هذا المثل العبقري..وانفجرنا في الضحك..ضحكا صافيا رائقا..منذ زمن لم أضحك هكذا..ألهث طوال اليوم خلف لقمة العيش..من المستشفي الحكومي في المنيرة إلي مستشفي خاصة في الدقي ..ثم إلي العيادة في دار السلام..ثم إلي الشقة في المقطم..عشرون عاما وحياتي علي هذا المنوال..انقطعت علاقتي بالسينما..وبالقراءة..وبأصدقاء الصبا..حتي أولادي لاأكاد أعرف عنهم شيئا..وفي النهاية لم أفعل أكثر مما فعله غيري..كل ممتلكاتي ..شقة المقطم..وسيارة لانسر..ورصيد في البنك الأهلي أخجل من ذكره..ماذا أخذت من الطب؟؟وماذا أخذ الطب مني؟؟..أيام زمان كانت مهنة الطب تنقل صاحبها إلي أعلي طبقات المجتمع..والآن هي تشده إلي القاع..ابني الأكبر موهوب في التمثيل..وحين حاولت إقناعه- عقب ظهور نتيجة الثانوية العامه العام الماضي- أن يدخل معهد السينما..قامت الدنيا.. واعتبرتني زوجتي مجنونا..مازال الطب كالنار الحارقة القادرة علي اصطياد الفراشات..أبي كان مدرسا للغة العربية..وبمرتبه استطاع تعليمنا – أنا وأخوتي- أحسن تعليم..كلنا دخلنا كليات قمة..بدون دروس خصوصية..وبدون كتب خارجية..رغم أنه لم يلجأ أبدا لأي أعمال إضافية..بعد أن يرجع من العمل في الثانية ظهرا..يتناول الغذاء معنا..وينام مرددا المثل (إتغدي واتمدي) ..يصحوعلي صلاة العصر..يصلي ..ثم يجلس في البلكونة في صحبة الراديو وإحدي روايات دار الهلال..وبين المغرب والعشاء يجلس علي مقهي في أول شارع المواردي مع أحد زملائه..وبعد تناول العشاء كان يراجع لنا الدروس ونحن نتناول الكيك والشاي..أيام جميلة فعلا..ذكريات أعود لها من وقت لآخر لكي أمتلك القدرة علي الاستمرار..في سكن الأطباء كان الحاج بدير محور حديثنا لأيام..تكلم البعض عن الفلوس التي يضعها الأقارب والجيران تحت الوسادة..وعن أكياس البرتقال والموز التي يأتي بها الأصدقاء..وعن لمة الأولاد حوله حتي يفك الخيط..وتكلمنا عن ثقافة الفقراء..وتكلمنا عن رأي نتشة في الضعفاء والمرضي..وامتد الحديث إلي السياسة والاقتصاد وكيف ننهض من التخلف الذي أصبحنا نتلذذ به..وشعرت بالرضي عن تلك المهنة التي وضعتني بين هؤلاء الأشخاص رفيعي الثقافة(من النادر جدا أن تقابل طبيبا لايقرأ..ولايدخن..ولايحب النسوان)..وأوصاني البعض أن أعود إلي هوايتي الجامعية القديمة ..هواية كتابة القصص القصيرة..وأن أكتب قصة هذا الرجل..وهاأنذا قد انتهيت من كتابتها..ولا أعرف إن كنت قد نجحت أم لا..وعلي أية حال هي بداية للبحث عن ملذاتي الضائعة..وذاتي المفقودة..التي أتمني ألا يكون مصيرها هو نفس مصيرحصوة الحاج بدير..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق