أشياء تحدث للغرباء فقط
كنت قد تخرجت في كلية الطب..وتخصصت في طب النسا والولادة..بحثا عن المادة لا أكثرولا أقل..فأنا لا أحب الطب أصلا..وكنت أتمني دخول الهندسة..ولكن هذا لم يكن ممكنا..كان لابد أن أستثمر المجموع الكبير الذي حصلت عليه في الثانوية العامة..وأهلي الفلاحون كان في انتظار اليوم الذي يصير واحد من أبنائهم طبيبا..ليقولوا في زهو أمام الجيران
- الدكتور راح ..والدكتور جه
أنا شخص قدري جدا..وفلسفتي في الحياة (مطرح ما ترسي دقي لها)..لست طموحا..ولا أريد أن أكون..إذ أن مطالبي في الحياة معدودة..ولا أهتم كثيرا بملابسي..ولا يضايقني الركوب في الميكروباص مع باقي خلق الله..ولا تدخين السجائر الكيلوباترا..ولا الجلوس علي الحسيرة مع عامل الوحدة الصحية..وأندهش من زملائي الذين ينصحونني بأن أعمل لنفسي (برستيج)..ليس هذا موضوعنا..موضوعنا هي تلك الحالة التي جاءت لي ذات يوم في عيادة الوحدة بجهينة التابعة لمحافظة سوهاج التي أنا منها
- اسمك أيه
- صفاء
- بتشتكي من أيه ياصفاء..
- نفسي بتغم عليا..ومغص في بطني داير مايدور
- من أمتي؟
- من امبارح
- متجوزة؟
- جوزي مسافر بقاله سنتين
- فين
- ليبيا
ورغم أنني إنسان ملتزم علي المستوي العملي..إلا أن كثرة البلاوي التي رأيتها في مهنتي جعلتني أشك في نفسي..وفي مثل هذه الحالات أول ما أفعله هو اختبار الحمل..وعمل السونار
- إنت حامل ياصفاء
قلتها بلا مبالاة..فتجمدت عضلات وجهها..وقالت باندهاش
- باقولك جوزي مسافرمن سنتين يادكتور..ومن يوم ما سافر وانا شايلة الوسيلة (وسيلة منع الحمل)
- باقولك إنتي حامل..وماعنديش وقت للكلام الفاضي بتاعك..لما تفتكري مين نام معاكي..ابقي تعالي وانا اساعدك..
- والنعمة الشريفة يادكتور أنا عارفة ربنا كويس..واستحالة أعمل حاجة تغضبه..
- الكلام ده ما بياكلش معايا..اوعي تكوني فاكرة نفسك مريم العذراء..
كل النساء اللائي يحملن حملا غير شرعي يقلن في البداية مثل هذا الكلام..ويرفضن الاعتراف..ولكن سرعان ما يستسلمن أملا في مساعدتي..أما صفاء فقد أصرت علي الإنكار..وقلت بقسوة
- اتفضلي ياصفاء..ورايا حالات تانية
خرجت منكسة الرأس..منكسرة الخطوات.. والذهول لايفارق وجهها..وعند الباب استدارات وقالت لي وهي مستغرقة في التذكروالتألم
- من يوم جوزي ما سافر..وانا قاعدة في بيت أبويا..
- وبعدين
- يوم وانا نايمة مهدودة..أصلي باسرح الغيط..وباشتغل باليومية..أهلي ناس غلابة وعلي قد حالهم..وما يقدروش يشيلوا مسئوليتي ومسئولية عيالي..وجوزي عويل..وفين وفين علي مايبعت حاجة مع أي حد نازل من ليبيا..أو مع تاجر الشنطة..
- إنت هتحكيلي قصة حياتك..هاتي م الآخر
كأنها لاتسمعني
- لقيت جسمي بيرعش..وغرقان عرق..بس كنت مبسوطة..مبسوطة قوي..حسيت إني باحلم وجوزي معايا في الحلم..وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم ..عيني فتحت للحظة..لقيت أبويا بيفتح الأوضة اللي أنا نايمة فيها أنا وعيالي وبيشد الباب وراه بشويش..كنت فاكرة نفسي باحلم ..وكملت نوم..معقول أب يعمل في بنته كده..ياخراب بيتك ياصفاء..
وظلت تخبط بيديها علي رأسها..وتركتني ومضت ..متجاهلة ندائي..عرفت من عامل الوحدة- الذي لم يكن يعرف شيئا بالتأكيد- أنها أصيبت بالجنون..صارت تهذي وتقول بأنها ممسوسة بالجن ..ما جعلني أتذكر صفاء هي تلك البنت الصغيرة ذات الأربعة عشر ربيعا التي جاءت إلي المستشفي تشكو من نزيف مهبلي حاد..وكان الهيموجلوبين (5..الرقم الطبيعي من 12إلي 15 )..وتم إسعافها سريعا بنقل كرات الدم المعزولة..وبعد أن استقرت الحالة..بدأ مسلسل البحث عن تشخيص..ولما كنت أصغر الأطباء سنا فلم يأخذ أحد رأيي..وظلوا في غيهم يعمهون..ويتخبطون..إلي أن قلت لهم
- أنا أقترح عمل اختبار حمل..وانطلقت السخرية من غبائي ومن غباءالصعايدة كالدم المنفجر من شريان الأورطي..ولكني لم أهتم.. شاركتهم الضحك..إلي أن قالت زميلة منقبة
- ياسالم حرام عليك..ماينفعش تفكر بالطريقة دي..
فقلت لها بغلظة
- الحرام والحلال في الجامع..إحنا هنا بنشتغل طب..والطب واحد اتنين تلاتة..والمفروض في حالة زي دي أول حاجة نفكر فيها الإجهاضABORTION (نطقي للغة الإنجليزية حاجة تكسف )ثم توجهت بكلامي إلي رئيس القسم
- يادكتور متولي إحنا اتعلمنا من حضرتك الدقة..مش ها نخسر حاجة لما نعمل اختبار حمل..وثانيا أنا شايف في السونار آثار حمل كان موجود..
الدكتور متولي إنسان شديد الاحترام..من أرياف الغربية..تزوج وعاش في القاهرة..ورغم أنه ماهر في مهنته إلا أن عيادته لا تلقي أي إقبال جماهيري..هل لأن الرزق قسمة ونصيب..أم لأنه غير أونطجي..ولا يتبع أسلوب السوق في معاملة زبائنه..كأن يستغل المستشفي الحكومي من أجل عيادته مثلا..أم لأنه كسول..ولا يحب أن يستهلكه العمل..أم لأنه لا يجيد استخدام السونار الذي هو عماد طب النسا والولادة..هذا الجهاز المستوحي من الحيوان الطائر المدعو بالخفاش (الوطواط)..الذي يطلق ذبذبات صوتية تمكنه من إدراك الحواجز التي تعترض طريقه قبل أن يصطدم بها..والذي لايجيد استخدامه إلا الأطباء الذين تخرجوا في أوائل التسعينات..الأجيال السابقة تعاني كثيرا في التعامل مع كل الأجهزة الإلكترونية..وكما يقول أحد الأصدقاء المثقفين بأن لهذا مغزي سياسيا كبيرا..في الماضي كان الكبار هم الذين يحتكرون المعرفة والخبرة..وكانت هناك فجوة وجفوة بينهم وبين الشباب..هذه الأجهزة الإلكترونية قلبت الموازين..وصار الشباب هم الذين يملكون المعرفة..وبالتالي من يملك المعرفة يملك السلطة..نادرا ما أقتنع بكلام الأخوة المثقفين..ولكن هذا الرأي مقنع إلي حد ما..وبه أختم قصتي دون أن أكون مضطرا لإخبار القاريء بنتيجة اختبار الحمل..
نوافذ القمر
مدونه شعرية
الاثنين، 30 مايو 2011
رواية (عين الكتكوت)
عين الكتكوت 2
1
سأحكي لكم هذه المرة عن مدرستي الإعدادية..تلك المنقوش علي رخامة عريضة في مدخلها بأنها أقيمت في عهد الرئيس حسني مبارك..والوزير حسين كامل بهاء الدين..وتلك التي درست بها ذات يوم..ومازلت محتفظا لها بأعذب الذكريات..وهي ذكريات بعيدة كل البعد عن التربية..وعن التعليم..وهاهي الأيام تدور بسرعة المراجيح ..وأتخرج في جامعة طنطا لأصير واحدا من أعضاء هيئة تدريس مدرستي القديمة..وأقترب من عالم الرجال الذين أوصانا بهم أمير الشعراء خيرا..وكنت أيامها ممتلئا بالحماس..والغرور..وتصورت أنني سأكون مدرسا ذائع الصيت..درست اللغة العربية في كلية التربية عن حب..وحصلت علي تقديرات مرتفعة خلال سنوات الدراسة..رغم أنني نادرا ماكنت أذاكر..ونادرا ماكنت أذهب إلي الجامعة..متعتي الحقيقية في النوم..والسهر علي المقاهي مع الأصدقاء..وتدخين الحشيش..منذ صغري وأنا أشعر باختلافي عن الآخرين..كنت متعدد المواهب..خطاطا..ورساما..وشاعرا..والأول علي المدرسة في جميع السنوات..ولم تكن تنقصني الجرأة..أتحدث مع الكباروالبنات دون أن يهتز لي رمش..وأدخل في خناقات لا حصر لها رغبة في استعراض قوتي العضلية واللفظية..كنت ماهرا جدا في السباب..لدرجة أن زملائي كان يبكون من الشتائم التي أوجهها لهم..وحدث ذات يوم أن قال لي أحمد الرفاعي – صديقي حاليا- عقب خناقة دامية بيني وبينه أمام المدرسة الابتدائية بسبب تحكيمه السيئ في مباراة كرة قدم
- إنت بتتحامي في أهلك..ماتفتكرش نفسك جامد..ماحدش بيقبلك..
بعدها اشتعلت الخناقة أكثر..وكان الرفاق يتفرجون وعلي وجوههم متعة..ربما لأن أحمد الرفاعي كان في مثل قوتي..ولا أحد يستطيع التكهن بالمنتصر والمهزوم..ثم انتهت الخناقة بانتصاري..بعد أن وجهت له لكمة قاضية في أنفه..وغرقت فانلته الداخلية البيضاء في الدم الطازج الساخن..واختفي تحته دم البراغيث المتجلط..ولكن صدي كلماته ظل يتردد في أذني أياما طويلة..وتغيرت كثيرا..صرت حريصا علي تكوين أكبر قدر ممكن من الصداقات.. وفي الإعدادية عرفت القراءة(روايات رجل المستحيل وملف المستقبل)..والسينما..والمصايف..وفي الثانوية عرفت التدخين ..والمقاهي..والعلاقات العاطفية العابرة..ولأنني كنت الابن الوحيد بين ثلاث بنات فقد كنت مدللا جدا..ولم يحدث أن قال لي أبي (عيب اختشي) أو (حرام ) أو( مايصحش) ..بالعكس كان يفتخر بي وبنزواتي..ولم يبخل علي أبدا بالمال..كانت حالتنا المادية ميسورة..مقارنة بباقي أهل شارعنا الذين كان يعمل معظمهم بالفلاحة..ويفتقد أولادهم كل ماكنت أنعم به من حرية..لذا لم يستمتع أحد بطفولته مثلما فعلت..
2
الأستاذ ياقوت أبو شوشة هو أول من قابلته في المدرسة..كنا في أول أكتوبر..وبينما كان الأولاد يلعبون بالكرة في الفناء كان يجلس مسترخيا علي كرسي خشبي تحت أشجار النخيل التي تفصل المدرسة عن الغيطان المحيطة بها ..ومستمتعا برائحة الشمس..والصباح..وأوراق جريدة الأهرام التي ربما استعارها من أحد الزملاء..فمثل ياقوت من علامات يوم القيامة أن يشتري جريدة..لم أنتبه إلي وجوده وأنا أصعد السلم متوجها إلي الإدارة..وفوجئت به ينادي بصوته المبحوح دائما
- ياوائل..ياوائل
عرفت صوته ..فالتفت..لوحت له بيدي اليمني التي ألبس فيها الساعة عكس الناس..الساعة السويسرية التي جعلتني أحب يدي ..فاستطرد
- تعالي..ماحدش موجود من الإدارة النهاردة..في اجتماع في المديرية..
ذهبت إليه..كان هناك كرسي شاغر بجواره..صافحته وجلست..عزمت عليه بسيجارة مارلبورو أبيض..أخذها بفرحة طفولية ..أشعلتها له بولاعتي السخان الصينية (بجنيهين فقط من دكان العجيل) ..في الماضي كانت علاقتي به سطحية..ولا تتخطي السلام العابر (سلامو عليكو..عليكم السلام)..هو الآن صار زميل عمل..أخذ نفسا عميقا من السيجارة كأنه يشفطه شفطا ..ثم حبسه طويلا..مما جعل وجهه يحمر وأوردة رقبته الزرقاء تنتفخ..ثم نفخه إلي أعلي كالتنين..ثم قال بطيبة حاول أن يغلفها بشيء من المكر
- المدرسة بتاعتنا فيها شخصيات عجيبة..كل واحد هنا ملكوت لوحده..
شعرت برغبة عنيفة في الضحك..إذ لا يوجد علي ظهر الأرض من هو أعجب منه..وتمالكت نفسي..وسألته بفضول
- إزاي؟؟
- أنا عارف إنك ذكي جدا..بس الحياة العملية غير حياة الجامعة..
في الجامعة إنت بتختار الناس اللي بتتعامل معاهم ..أما في الحياة العملية إنت مضطر غصب عنك تتعامل مع كل الشخصيات..ما تحملش هم أنا هاعلمك تتعامل مع الشخصيات الوسخة دي ازاي...
قلت
- أنا كنت طالب هنا ..وعارف معظم الأساتذة..
فقال
- إنت طيب قوي..الأستاذ قدام الطلبة غير مع زمايله خالص..قدام الطلبة بيحاول يبان وقور ومحترم وفي الواقع هو قمة المسخرة..وتاني حاجة فيه ناس كتير جديدة..
في تلك اللحظة مر أمامنا رضا عامل البوفيه..وهو طويل وثقيل الدم مثل أبيه (الله يرحمه)..كان زميلا لي في المرحلة الابتدائية..وخرج من المدرسة وعمل مع أبيه في البوفيه..هو الآن متزوج ولديه ثلاث أطفال..هذه هي الرفاهية الوحيدة التي تملكها تلك الطبقة..ناديت عليه وطلبت منه اتنين شاي..فقال الأستاذ ياقوت
- لأ..هاتلي إزازة بيبس مشبرة(مثلجة) يارضا..
(الأستاذ ياقوت اتخلق عشان يتعزم)..في أقل من دقيقة أحضر رضا البيبس (يقال إنها اختصار لجملة إنجليزية معناها إدفع كل قرش من أجل إنقاذ إسرائيل) والشاي (المشروب القومي للمصريين)..وكان قد انتهي من السيجارة الأولي..عزمت عليه بأخري..انتشي..وفتح في الكلام
- أخطر شخصية هنا عبد الفتاح كتكوت ..محلاوي أصلي..مدرس إنجليزي..وسواق تاكسي..وخمورجي..وبتاع نسوان..وما حدش في الدنيا دي في دماغه..الناظر بيخاف يتكلم معاه..عمره مامضي حضور وانصراف..ومع ذلك ماحدش يقدر يشطب عليه..واهم الناس ياسيدي إن ليه أخ في الشر برة وبعيد..ربنا يجعل كلامنا خفيف علي قلبهم..في أمن الدولة..وملحد كمان..وبيفطر في رمضان قدام الناس كلها..وعلي علاقة بساندرا لويس مدرسة الرياضيات..وجوزها يوسف سلامة دكتور الجراحة المشهور فيما يبدوعارف..وساكت..أصل الطلاق عند المسيحيين صعب جدا..ويكاد يكون مستحيل..عشان كده تلاقي نسوانهم ماشيين علي حل شعرهم ..وحاطين في بطنهم بطيخة صيفي..الإسلام نعمة..بس بالأمانة عبد الفتاح ده رجولة..أيام جوازي نقطني بمبلغ محترم..الفلوس مابتفرقش معاه..وقعدته ماتشبعش منها..طول مانت قاعد وياه تفضل تضحك..تضحك..لحد ماتقول اللهم اجعله خير..ويحبني موت..وكلام في سرك قبل جوازي خلاني عملت اختبار..وعشان كده في ليلة دخلتي كنت واثق من نفسي ثقة رهيبة..وتخيل اليومين دول ماشي مع مين؟؟..مع الأستاذة روح الكمال شوقي..مدرسة رسم زي حالاتي..وزي لهطة القشطة..ومحترمة جدا..وبنت ناس..بس ابن الأيه دحلاب..ويقنع الشيطان نفسه بالسجود لآدم.. حمدين عماشة الأخصائي الاجتماعي شافها معاه..كان ناوي يتجوزها..بيعبدها عبادة..وبيكتب فيها شعر..حمدين مخه لاسع..وعايش في دور فاروق جويدة..وفاكر الجواز رومانسية..وحب..وورد..وحبيبي دائما ..وباقي الأفلام الحمضانة اللي انت عارفها..
عايش في الوهم..إنت عارف الفرق بين الوهم والخيال أيه؟
- لأ
- الخيال حلم عايز تحققه..وبتعمل كل اللي تقدر عليه عشان تحققه..الوهم إنك تقتكر نفسك حققته..وأنت ما حققتوش..عشان كده الشعب المصري أغلبه عايش في الوهم إلا من رحم ربي..بالأمانة الكلام ده مش كلامي ..دا كلام عبد الفتاح كتكوت..
كنت أستمع إليه مبهورا فعلا بما يقول..وكان هو في غاية السعادة وهو يراني منتبها لكل كلمة يقولها..وكان يستحق أن أعزم عليه بسيجارة ثالثة..وسألته
- والمدير أخباره أيه؟؟
فقال منفعلا
- عبد الوهاب غطاس ..شخصية زبالة..وفاكر نفسه أكتر إنسان بيفهم علي وجه الأرض..وهو حمار..لسة عايش في زمن عبد الناصر الله يرحمه..وبيدير المدرسة بطريقة عسكرية..وما بيجيش إلا ع الغلابة اللي زي حالاتي..خلي بالك من حنفي ابو سعدة مدرس الصناعة..العصفور بتاعه..مافيش كلمة بتتقال في المدرسة إلا ويكون عارفها..بيعرفها من مين..الله أعلم..بس حنفي ده مريب..ماتقدرش تفهمه..ولا عمرك تعرف إنه بيحبك ولا بيكرهك..بير غويط..وكل كلامه قال الله وقال الرسول ..ومع ذلك يموت في قعدة النسوان..وعامل نفسه الناصح النصوح..معاه كل أسرارهم..ومرة تلاقي واحدة جايباله كحك من البيت..ومرة برطمان طرشي..ومرة صينية كنافة ..أو صينية كيك..ومع إن روح الكمال قد بنته بس سمعت إنه بيحبها..وبيروح البيت عندهم كتير..علي أساس إنه صديق العائلة..تخيل مراته جات المدرسة ..واتخانقت مع روح..ومع ذلك مابطلش يتكلم معاها..يظهر إنها أزمة منتصف العمر..حنفي أبو سعدة حالته المادية ماشاء الله..فاتح محل أدوات منزلية كبير في الشارع الرئيسي في منية سمنود بعد الكوبري علي طول..وعنده بيت يرمح فيه الخيل..مش زي الشقة بتاعتي الخمسين متر..والله ياوائل ..إنت زي اخويا الصغير..بادخل الحمام بجنبي..
أرزاق..إوعي تفتكر الدنيا شطارة..الدنيا حظ..واللي يقول غير كده يبقي حمار..ربنا بيرزق البهايم عشان أصحاب العقول يستعجبوا..بس الحمد لله الواحد في نعمة..واللي يشوف بلوة غيره تهون عليه بلوته..والشيخ الشعراوي الله بيرحمه كان بيقول إن الرزق أربعة وعشرين قيراط ربنا بيوزعهم علي الناس بالتساوي..يرزق ناس بالمال..وناس بالصحة..وناس بالزوجة الصالحة..وناس بالذرية الطيبة..مستحيل حد ياخد من الدنيا كل حاجة..بس تخيل عبد الفتاح كتكوت بيعترض ع الكلام ده..وبيقول إن فيه ناس ربنا حرمها من كل حاجة..عندهم سرطان..وعايشين في عشش ..وولادهم بيضربوا بانجو..فين قراريط الرزق اللي عندهم..كتكوت ليه آراء بتخليني أخاف أقعد معاه..أصل الواحد لو اقتنع بكلامه يبقي خسر الدنيا والآخرة..
وكان يستحق أن أعزم عليه بسيجارة أخيرة قبل أن أتركه وأمضي..وبذا فرغت العلبة..فطبقتها بغل..وقذفتها بعيدا..فوجدته يسألني
- هي العلبة دي إنت فتحتها إمتي؟؟
فأجبته
- النهاردة الصبح..
فقال مدهوشا
- وخلصت قبل أدان الضهر!!إنت بتدخن كام علبة في اليوم
- اتنين..بس إحيانا بتوصل لتلاتة
فصمت قليلا ..كان واضحا أنه يحسب المبلغ الذي أدخن به شهريا..
وهتف
- هل تدخن بخمسائة جنيها شهريا؟؟
فقلت وأنا أشعر بالفخر والحزن في وقت واحد
- تقريبا
بالفخر لأنه من الرائع أن تبدوا غنيا مستغنيا أمام الأخرين..وبالحزن علي المال والصحة المفقودين مقابل الحصول علي هذا الشعور ..الذي إن دل علي شيء فهو
يدل علي سخافة وتفاهة وخواء الشخصية التي تشعر به..
قال
- إنت عارف إن ده تلت أضعاف المرتب اللي هتاخده من الحكومة
أومأت بالأيجاب..فقال بمرارة خففتها روحه المرحة
- أب زي ابوك ياوائل يستاهل تبوس إيده طول ماهو عايش ..وتقراله الفاتحة بعد مايموت كل يوم..أما أبويا فالله يسامحه إنه خلفني..
3
في أمسية ذلك اليوم سهرت مع أحمد الرفاعي..وكان أيامها قد تخرج في كلية الحقوق ..ويتدرب في مكتب أحد المحامين المشهورين..ودار الحديث بيننا بخصوص ما حكاه لي الأستاذ ياقوت أبوشوشة عن عبد الفتاح كتكوت..وساندرا لويس..وروح الكمال شوقي..ولم يكن أحمد يهتم كثيرا بموضوع النساء..كان همه الأكبر أن يبني نفسه..وينتقل إلي الحياة في مدينة المنصورة التي أحبها جدا في فترة الجامعة..وكنت أعذره..فقد كانت حالتهم المادية لاتسمح له بشراء أكثر من طقم واحد في العام..وكان يشعر بالخجل والعارمن ذلك..ورغم ذكائه ولباقته إلا أنه كان يتلعثم أمام البنات..ويهرب من مواجهتهن..خشية أن يبدو صغيرا أمامهن..كان يهرب من واقعه بالقراءة..وكتابة الأشعارالتي كنت أراها في قمة الصدق..والإحساس..وكنت أعرضها علي صديقاتي في الكلية..وكن يعجبن بها إعجابا شديدا..ويتمنين أن يتعرفن علي كاتبها..وكان يرفض بشدة..قالها لي بوضوحه المعتاد ذات مرة
- ياوائل أرجوك لاتفتح هذا الموضوع مرة أخري..التعرف علي البنات يحتاج إلي حد أدني من الفلوس..وأنا كما تعرف لايوجد في جيبي إلا ثمن المواصلات..
لا تعتقد أنني معقد ..وأقوم بتكبير المواضيع..كل مافي الأمر أنني أتفهم ظروفي جيدا..وكرامتي لاتسمح لي أن أبدو صغيرا في عين أحد..كما أنني لا أريد أن أكون موضع شفقة أو عطف..أنت تتعامل معهن بطريقة إنجليزية عن قوة..ولكني سأفعل ذلك عن ضعف..وهو مالا أستطيع أن أتحمله..علي الفقراء أن يتفرجوا علي الحياة من خرم الباب..وخصوصا من يملكون نفوسا عالية مثلي..الحياة الحقيقية كالرز المعمر لاتكون لذيذة إلا في الطبقتين العليا والسفلي..حياة القاع لذيذة أيضا..كتب العذاب علي أفراد الطبقة المتوسطة الدنيا..
كان أحمد الرفاعي هو نافذتي علي الثقافة..وعن طريقه عرفت فن الفرجة علي الأفلام التي كنت أشاهدها بطريقة سطحية جدا..وفهمت الإسقاطات السياسية والفلسفية..وطالما استمتعت بتحليلاته النفسية العميقة لأصدقائنا..بعد أن توفي والده ..رفضت والدته الزواج مرة أخري..وتولت مسئولية تربيته هو وأخيه الأصغر قاسم الذي افتتح محلا للحلاقة بعد أن تخرج في مدرسة الصنايع منذ ثلاث سنوات..كانت أمه تعمل باليومية في الغيطان..كأن تساعد فلاحا في جمع القطن ..أو شك الذرة(الشك هنا بمعني البذر أو الغز في الأرض)..أو ضم الغلة (حصاد القمح) ..وكانت أجرة العامل (يومية النفر..النفر معناها الفرد ويبدو من شكلها أنها فرعونية) متواضعة جدا..لاتتعدي الخمس جنيهات في اليوم..ولم يكن هذا العمل المهلك متواصلا..وكان يؤلمه جدا أن تكون والدته من مستحقي الزكاة..وكثيرا ما قامت الخناقات بينه وبينها بسبب هذا الأمر..وكان يغضب جدا أن يعرف أن والدي أنا بالذات قام بمساعدة والدته..كأن يرفض أن يأخذ منها ثمن كيلو لحمة تشتريه لهم كل شهرين أو ثلاثة..كان يمزقني أن يعيش شخص بعقليته تلك العيشة المهينة..الغريب أيضا أن أخاه قاسم كان- رغم تواضع تعليمه- محبا للتأمل..وشاطرا في عمله..فيقول لي بلهجته الهادئة وكان شعري قد بدأ في التراجع إلي الوراء
- أنا اكتشفت يا أستاذ وائل إن تساقط الشعر وراثة..وكل الأدوية اللي في الصيدليات ضحك ع الدقون..بس ما ينفعش نفقد الثقة في العلم..العلم بيتطور..ومين عالم.. بكره ممكن العلماء يخترعوا حاجة ما تخليش واحد أصلع في العالم..حد كان يصدق تحط حتة حديدة علي ودنك وتكلم بيها الناس في آخر الدنيا..معجزة كبيرة..كبيرة قوي ياأستاذ وائل..أنا دماغي بتقعد تلف لما بافكر في الاختراعات دي..
أو يقول لي عندما يراني أدخن
- عارف يا أستاذ وائل إنت مش عارف تبطل تدخين ليه..عشان الجسم بتاعك بطل يفرز النيكوتين..وبدأ يعتمد علي المصدر الخارجي..
أو يقول
- الفرق بين النفس والشيطان..النفس بتخليك تعمل نوع واحد من المعاصي ..الشيطان بيخليك تعمل أنواع كتير..
أو يقول
- المشاكل مهمة في الحياة..عشان يبقي فيه صراع..والدنيا تتحرك..لو انتهت المشاكل الدنيا تقف..بس أهم حاجة في الدنيا الرضا والطموح..أنا قعدت امبارح طول الليل افكر في الفرق بين الطمع والطموح..الطمع أن تبقي عايز كل حاجة من غير ماتبذل مجهود..الطموح تسعي..وتعرق..وتشقي..وربنا هيخليك تطول كل اللي في نفسك..أنا باحب ربنا قوي ياأستاذ وائل ..وساعات بابقي عايز اموت عشان اشوفه..وبعدين روحي تصعب عليا..هو ليه إحنا بنحب روحنا قوي كده..
أو يقول
- أجمل حاجة في الدنيا الواحد يعمل كوباية شاي..ويقعد ع السطح بعد صلاة العصر ..ويفكر في حبيبه..
كانت هذه التأملات عميقة جدا بالنسبة لشخص حصل علي دبلوم صنايع..فمن الشائع جدا أن تقابل شخصا حاصلا عليه ويجهل مباديء القراءة والكتابة ( بصمجي.. ولايعرف الألف من كوز الذرة ).. وأظن أن أحدا لا يعرف كيف كان ينتقل من عام إلي عام..( في مصر نحن نعتبر الغش تعاونا علي البر والتقوي..ونعتبرالوساطة والمحسوبية والكوسة تفريجا للكربة عن الإخوة المسلمين..)
4
بمجرد أن رأيتها في حجرة المدرسين عرفت أنها ساندرا لويس..غير محجبة..وترتدي بلوزة سماوية اللون وجوبا(جيبة) أسود يكاد يغطي ركبتها..قريبة الشبه من الممثلة كيت وينسلت..وإن كانت بشرتها تميل إلي اللون القمحي الفاتح..وساقاها كانتا في منتهي الإثارة..لمحتهما من تحت المنضدة الكبيرة التي تجلس خلفها..وفي عينيها تختبيء نظرة ثعلبية لايراها إلا من لديه استعداد لرؤيتها..كانت تقوم بتصحيح بعض الكراسات..وعندما دخلت توقفت..كنت في كامل أناقتي في ذلك اليوم..الأناقة التي تجعلني في ذروة ثقتي بذاتي أمام أي أنثي..تذكرت عبد الفتاح كتكوت..وزوجها الجراح الشهير..ورميت كل ذلك خلف ظهري..كنت في أشد الاحتياج إلي مغامرة جديدة..ابتسمت وألقيت تحية الصباح..ردت بحرارة..بدأت بتعريف نفسي
- وائل الدياسطي..مدرس لغة عربية ..أول يوم ليا النهاردة..
قالت وهي تتفرسني بإعجاب
- شكلك مش لغة عربية خالص..
- إشمعني
- شكلك مش مدرس أصلا..
- شكلي أيه
- ظابط ..مهندس..رجل أعمال..حاجة زي كده..
- كل المهن دي باكرهها
- وبتحب أيه
- التدريس
- بكره تشبع
قلت بخبث
- الحاجات اللي الإنسان بيحبها بجد مستحيل يشبع منها..
وصلت الرسالة تماما..ابتسمت..وقالت
- إنت لسة صغير..وواخد الدنيا في صدرك..
- علي أساس إنك كبيرة..وماشية بعكاز..
- ياوائل أنا متجوزة بقالي خمس سنين..وعندي مايكل..وماري..وانت مش ناوي؟
هكذا ألغت الألقاب مرة واحدة..بمنتهي الحميمية قالت اسمي..
- أيام الجامعة حبيت..وكان خلاص الموضوع علي وشك..وبعدين خفت..الجواز مسئولية..وبيقتل الحب..لازم الواحد يسيب مسافة بينه وبين الناس اللي بيحبهم..
- غلطان جدا..الجواز بيدي شكل أروع للحب..وخصوصا لما تجيب ولاد من الحد اللي انت بتحبه..
- بتتكلمي زيها بالظبط
- ظبطتك..لسة بتحبها..ومش قادر تنساها..
- بأمانة.. سمر بنت مستحيل حد يعرفها وينساها..ضحكتها عاملة زي الشمس لما تدخل أوضة ضلمة..
- مانت رومانسي..أمال أيه بقي..
- وباكتب شعر كمان
- أكيد هاقراه..أنا بكرة موجودة..تجيبه معاك..
رن جرس الحصة الثانية..وضعتها حقيبتها علي كتفها..وهمت بالقيام وهي تقول
- عندي حصة..هنكمل كلامنا
وقفت أنا أيضا وقلت
- أنا لسة ماعرفتش أسمك
- ساندرا لويس..رياضة..
وعند باب الغرفة التفتت لي- هل شعرت أني أتابع مؤخرتها- وقالت باسمة
- ممكن رقم تلفونك..عشان افكرك تجيب الشعر اللي انت كاتبه..
- ممكن جدا..
قلتها وأنا أبتسم في وجه المجهول..
5
عقب انصراف ساندرا مباشرة وجدت الأستاذ ياقوت أمامي بلحمه وشحمه وكرشه الكبير(بسببه كنا نسميه ياقوت البلف)..والطقم الذي يرتديه مذ كنت طالبا.. ..البلوفرالرمادي منزوع الأكمام(بلوفر كت)..والقميص السمني متسخ الياقة..والبنطلون البني غيرواضح الثنيات (الكسر..بضم الكاف وفتح السين)..والحذاء الرياضي ذي المقدمة المثقوبة كغربال.. ومفكوك الرباط غالبا..وجدته أمامي فاركا يديه..وضاحكا ضحكته البلهاء..وقال
- إنت لحقت لضمت يانمس..شكلك من نفس عجينة عبد الفتاح كتكوت..
الأستاذ ياقوت شخص مسخرة..أيام الدراسة كان لدي هذا الإحساس تجاهه..ولكن علي سبيل الظن..اليوم هو علي سبيل اليقين..لذا فقد شعرت نحوه بمزيج من الحب..والاستهتار..ورغم أنه يكبرني في السن بأكثر من خمسة عشرعاما فقد ناديته بياقوت مباشرة ..
- الله يلعن كتكوت..واللي جابه..ياقوت ..ارحمني شوية من سيرة الأخ كتكوت بتاعك..
ولمحت في عينيه انخفاض نسبة النيكوتين..فعزمت عليه بسيجارة (أرجو ألا يمل القاريء من تلك الجملة..لأن هذا ما يحدث عند وجود ياقوت معي..ومن الأفضل بعد ذلك أن يتخيل القاريء ذلك..دون أن أكون مضطرا لتكرارها من حين إلي آخر..)
وقال
- الأستاذ مصطفي السعدني اللي بيحط الجدول موجود تحت..انزل ظبط أمورك..
ومال علي وهمس
- ما يغركش الدقن اللي واصلة لصدره..راجل دمه زي العسل..وأوبن جدا
Open..عايز تحطه في جيبك.. عليك بشريط ترامادول..أو عين الكتكوت
- أيه عين الكتكوت ده..
- شريط حبوبه صفرا ..وصغيرة..ومدورة..زي عين الكتكوت..بيطول المدة..بس النوع المصري بيخليك تتاوب كتير..المستورد عشرة علي عشرة..
- والترامادول مفيد في الجماع؟
- طبعا..دا رهيب..بس لازم مع كوباية شاي وسجارة حشيش مغربي..
- دانت كارثة ياياقوت..
- ياد ياوائل أنا شعري ماوقعش من شوية..أنا سافرت العراق أربع سنين..وكنت يوميا علي الله..لازم أنام مع واحدة كردية..الأكراد دول أجمل ستات في العالم..بشرتهم زي اللمبة النيون..وأجسامهم زي المرتبة القطن اللي بتاخد وتدي معاك..حاجة روعة..أنا فلوسي هناك ضاعت ع التهييس..كنت عايش باشا بكل معني الكلمة..ومن المفارقات العجيبة ناس زمايلي كانوا حارمين نفسهم من كل حاجة..ويفضلوا ينصحوني..اعقل ياياقوت..ربنا يهديك ياياقوت..اعملك قرشين ياياقوت..قامت فجأة حرب العراق مع الكويت..وباقي القصة إنت عارفها..كلنا رجعنا ع الحميد المجيد..ويامولاي كما خلقتني..بس أنا صعت علي كتكوت ..وأقنعته قبل جوازي إني ما جربتش الموضوع ده خالص..عشان يظبطني..كتكوت رغم كل شيء طيب جدا من جواه..وغلبان..وعنده مشاكل كتير في حياته..أبوه الله يرحمه كان عنده مصنع ملابس في السبع بنات (من أحياء المحلة الراقية) ..واخوه الكبير يهودي (نحن هنا نضرب المثل باليهود في الذكاء الا قتصادي..تري هم يضربون بنا المثل في أي شيء؟)..أقنع الراجل الكبير وهو علي فراش الموت إن الميراث هيضطرهم لبيع المصنع (هذه إحدي المآخذ التي يأخذها الاقتصاديون الأجانب علي نظام الميراث الإسلامي وهي أنه يعمل علي تفتيت المشروعات الكبيرة)..والحل الأمثل يكتبه باسمه..ويتوزع الإيراد شهريا..بالظبط كأنه عايش..الراجل اقتنع بالكلام..أصله كان عصامي..وبني المصنع طوبة طوبة..وماهانش عليه ينتهي المصنع..بس أخو عبد الفتاح الكبير مفتري..وبيديه فتافيت في آخر كل شهر..باقولك عبد الفتاح غلبان..ويتحب..والله العظيم لما تقابله..هتعشقه عشق..
- وهو فين دلوقت؟؟
- واخد أجازة مفتوحة..أصله مزجانجي..وشخصية زئبقية..وفجأة يغطس..ويختفي كأن الأرض انشقت وبلعته..يعني ساعات يبقي بيتكلم معاك..ويقولك أنا رايح الحمام وتفضل تستني مع نفسك..ومن الأفضل لما تقابله تاني ماتعاتبوش..لازم تقبله زي ماهو..أنا عارف سر عن كتكوت ..ماحدش في المدرسة يعرفه غير العبد لله..
أثار فضولي جدا فسألته ..وأنا أعزم عليه بسيجارة
- أيه هو ؟
- تبع جماعة صوفية..ومن مجاذيب السيد البدوي..وصوته جميل جدا في قراية القرآن..وساعات بيروح يقرا في المحازن (سرادقات العزاء)..بس حلم حياته يبقي مطرب شعبي زي طارق الشيخ بتاع دقيقة حداد..دقيقة حداد..(محاولا أن يغنيها بطريقة طارق)..
- حاول توصف لي شكله كده..
- أمور قوي..وشيك قوي..بس قزعة ..عامل زي الكتكوت..اسم علي مسمي..عارف ياوائل فعلا كل قصير مكير..ماعرفتش واحد قصير إلا ويبقي ابن كلب عفريت..قرد..الطوال دماغهم بتبقي خفيفة عشان الهوا بيضرب فيها خبط لزق من غير مصدات..
الوقت مع ياقوت يمضي بسرعة غير متخيلة..لم أنتبه إلا علي صوت جرس انتهاء الحصة الثالثة..وبداية الفسحة..والطلبة يندفعون خارج الفصل..كأنهم أسري تم إطلاق سراحهم..متي ينتهي التعليم في القاعات المغلقة..في الفصول الأسمنتية واطئة السقف..التي تشبه علب الكبريت..المدارس لابد أن تكون كدور العبادة..سقوفها علي هيئة قباب..تشبه السماء..كل مكان يفرض عليك طريقة تفكير ما..تشبهه تماما..ومدارسنا مغلقة..ومتحجرة..ومحدودة الأفق..وتخلو من أي لمسة جمالية..هدفها الوحيد هو استيعاب أكبر قدر ممكن من الطلبة..أي أن هدفها هو الكم لاالكيف..قبل ثورة1952 لم تكن المدارس كذلك ..كانت عبارة عن قصور تبرع بها أفراد من العائلة المالكة..وكان هناك الأزهر الشريف..ورودانا الكبار تعلموا في تلك الفترة الخصبة..ومنذ الثورة لم يتخرج في مصر شخص نابه..في أي مجال من المجالات..في تلك الفترة تعلم طه حسين..وتوفيق الحكيم..ونجيب محفوظ..وزكي نجيب محمود..وأحمد أمين..وعلي عبد الرازق..وأمين الخولي..وسلامة موسي..ويوسف إدريس..وجمال حمدان..وحسن فتحي..وسيد درويش..وابراهيم ناجي..كل هؤلاء علي سبيل المثال لاالحصر..ومنذ الثورة لم تنجب مصر شخصا يستطيع أن يعيش في ذاكرتها..للأسف..للأسف الشديد..تكلمنا كثيرا عن مساويء الاستعمار..ولكن لم يتكلم أحد عن مزاياه..من المؤكد أنه لاتوجد نية طيبة خلف أي استعمار..ولكن الحياة أكبر من كل النوايا الخبيثة..وكثيرا ما يحدث أن يفيدك إنسان يقصد أن يضرك..وفي رأيي أن الحضارة معدية..والخادم الذي يعيش في فيللا طه حسين لابد أن يكون أكثر تحضرا من أستاذ جامعي حصل علي شهاداته من داخل مصر..هذا ليس شعورا بالدونية أمام كل ماهو غربي وأمريكي..إذ لابد من الاعتراف أننا متخلفون..وأنه ينبغي علينا أن نسير علي هدي من سبقونا..لايوجد أحد يتعلم من الطبيعة بشكل مباشر..نحن نتعلم من بعضنا البعض..قضايا سخيفة يثيرها المثقفون من وقت لآخر..عن علاقتنا بالغرب ..وكيف تكون..وعن الأصالة والمعاصرة..والقضية ليست كذلك علي الإطلاق ..إنها قضية إبداع..واتباع..الهدف أن نكون مبدعين..ولكن هذا يقتضي بادئا ذي بدء أن نستوعب كل ما وصلوا إليه..البداية في الاهتمام بحركات الترجمة..والبعثات العلمية..ومعرفة أن ثقافتنا لاتختلف عن ثقافتهم في شيء..كل مافي الأمر أنهم تخطوا كل ماهم فيه..في يوم من الأيام كانت لهم نفس أفكارنا عن الدين..والجنس..والأخلاق..والاقتصاد..والسياسة..وظهر لديهم دارون..وفرويد..وآدم سميث..وجان جاك روسو..ومونتسكيو..وفولتير..ودستوفسكي..وبلزاك..ونتشة..وبرتراند رسل..وجون ديوي..ووليم جيمس..كل هؤلاء وغيرهم لم يكونوا عباقرة أجانب فحسب..فنحن – قبل الدين واللغة والجغرافيا والتاريخ- بشر..وهؤلاء أجدادنا جميعا..وتربطنا بهم نفس صلة القرابة التي تربط أبناء أوطانهم بهم..ومن المستفزجدا أن تجلس أمام التلفاز وتري مفكرا شحطا أشعث أغبريحدثك عن أهمية أن نأخذ أفضل ماعندهم فقط..وندع ماهو سيء ولايتناسب مع معتقداتنا وأفكارنا..القضية ليست بتلك السذاجة..فالنظم الاجتماعية غير قابلة للتجزئة..كالماء عندما تفصل عنه ذرة أكسجين..هو لايصبح وقتها ماء....وما أقصده هو استيعاب تجاربهم بكل مافيها من لباب وقشور..ونبتكر نحن المنظومة الاجتماعية التي تناسبنا..في تلك الفترة من تاريخنا..فلا يوجد نظام اجتماعي يصلح لكل الفترات..الأرض تتغير..وعلاقتها بالكواكب ..والأجرام السماوية الأخري تتغير..ونظرة الإنسان إليها..وإلي نفسه تتغير..كل هذا يفرض شبكة علاقات جديدة بين البشر..ويغير تماما من علاقة الحاكم بالمحكوم..الحاكم الذي ظل لقرون طويلة يعتبر نفسه خليفة الله في الأرض..مرت الأيام وانقلبت الآية..وصار الشخص العادي (أو الجمهور الغفير) ذا سطوة وجبروت..ويفرض ذوقه ورغبته علي جميع المؤسسات الحكومية والشركات الكبري..سيقول البعض بأن القهر السياسي مازال موجودا..وأن الإعلام يلعب نفس الأدوار القذرة التي كان يلعبها البوليس السري ورجال أمن الدولة..وهي فكرة تبدو براقة ..ولكنها أبعد ماتكون عن الحقيقة..وفيها إلحاد بالحياة ..وبالمقاومة ..وبالخير الذي تتقدم البشرية تجاهه..والفرد العادي الذي يعيش اليوم أسعد كثيرا من الذي عاش قبل ألف عام..ويتمتع بأشياء لم يكن يتمتع بها إلا الملوك..بالطبع أنا أتحدث عن المواطن الغربي..لأننا مازلنا في الشرق نعيش في قرون مظلمة..وقبل أن أستطرد أحببت أن أصارحكم بشيئ..وهو أنني أشعر الأن بتأنيب ضمير.. كأن إعجابي بالغرب – وهو ليس إعجابا بهم كبشر بقدر ماهو إعجاب بالعلم والحرية- فيها خيانة لهويتي المصرية والعربية والإسلامية..ربما لأنني قرأت كل كتب جلال أمين..وتأثرت به كثيرا..ربما لما يملكه من قدرة فنية ..وليس لعمق أفكاره..وهي أفكارجميلة علي المستوي الفني فقط..ولكنها هشة ..ولاتصمد كثيرا أمام أي قراءة نقدية فاحصة..حيث إنه ينطلق من أفتراضات عن فكرة الوطن ..والتقدم..والسياسة..والعلم..ويعتبرها بديهيات دون أن يناقشنا فيها..ولا يعلن دهشته أمامها ..كما اعتاد أن يندهش أمام كل شيء..
ومن المؤسف أنه يتعامل مع رواية جورج أورويل (1984)ورواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلي الشمال ) ورواية أشيبي (عندما ينهار كل شيء) كأنها كتب مقدسة..كما أن رواية (قنديل أم هاشم) تعاني من نفس الالتباس..يجب أن نعرف أن الدواء الذي بلا آثار جانبية بلا آثارنافعة أيضا..وعندما نجرد التجربة الغربية من خطاياها فإننا نجردها من محاسنها في نفس الوقت..
6
في وقت فراغي قررت كتابة تلك الرواية..تخليدا لفترة عشتها..وأملا في أن يقرأها أولادي عندما يكبرون..ليعرفوا أن أباهم لم يكن ملاكا..أو قديسا..أو معصوما من الخطأ..والخطيئة..كان يوما مراهقا مثلهم..وكان شخصا مختلفا..عاش مغردا خارج النص..والسرب..والقطيع..وسبح ضد تيار العادات والتقاليد البالية..لعلهم يقرأونها في أوقات إحباطهم فيفرحون..وفي أوقات غرورهم فيتواضعون..لعلهم يتذكرونني عندما تنساني الأغاني التي كنت أسمعها..والطرقات التي كنت أمشي فيها..لعلهم يصيرون أصدقاء حميمين لأولاد النساء اللائي أحببتهن..وكان أحمد الرفاعي دليلي..ومستشاري في الكتابة..التي تركها..وتفرغ للمحاماة..واكتفي بالقراءة في مجال تخصصه..وكان يخطو خطوات واثقة نحو هدفه..وفي خلال فترة وجيزة استطاع أن يكسب ثقة المحامي الذي يتدرب في مكتبه..وصار ساعده الأيمن..وكانت اتصالاتنا الهاتفية تتباعد..ولقاءاتنا تكاد تتلاشي..واقتصرت علي الأعياد..وفي أحد اللقاءات الأخيرة طلبت منه أن يكتب لي وجهة نظره في كيفية كتابة رواية فكتب لي:
(الرواية في نظري عبارة عن مجموعة من الخواطر الخارجة من القلب عن شخصيات دخلت فيه..وأصبحت جزءا لايتجزأ من نسيجه..أو مجموعة من الأطباق المختلفة ..لايهم أن يأكل القاريء من كل الأصناف..يكفيه أن يجد في طبق واحد مايغريه بالجلوس علي المائدة..الرواية عبارة عن سهرة جميلة تقضيها مع إنسان تحبه..علي مقهي..أو في غرفة مدينة جامعية..أوعلي الكورنيش في ليلة ربيعية مقمرة..تتبادلان فيها النكات ..والخبرات..والذكريات العذبة التي تعيش في وجدانكما..والوحدة العضوية التي يتحدث عنها النقاد هراء..وسفسطة..إذ
أن الوحدة موجودة في كل عمل مهما كان تافها في وجهة نظرهم..الوحدة هي الحياة الموجودة في النص..وهي الشرط الوحيد الذي يجعل عملا يعيش وآخر يموت..والقصائد العربية القديمة التي طالما اعتقد النقاد أنها غير مترابطة..وتخلو من الوحدة العضوية عاشت ..وماتوا هم..دون أن يقرأ التاريخ علي أرواحهم بيت شعر واحد من تلك القصائد التي اعتبروها خارج الشعر..وخارج الصدق..وداخل الثرثرة اللغوية..هذه وجهة نظر خاصة جدا..قد تكون نابعة عن عمي بصري..وبصيرتي.. ..أو عن رغبتي في الاختلاف..والتمرد ..والتطاول علي القامات الكبيرة..نعم لا أحب الطريقة المفتعلة التي يبني بها نجيب محفوظ بها رواياته.. ولا الطريقة التي يناقش بها القضايا الوجودية الكبري..ولا أحب كل من ساروا علي دربه..وخرجوا من عباءته..وأحب الطريقة العفوية التي يكتب بها دستوفسكي ..وبلزاك أعمالهما..والطريقة الرديئة التي يبنون بها رواياتهم..ولكنني أستمتع وأستفيد بصفحات كثيرة من كتاباتهم..كما أكره تلك الروايات التي تتشدق بالإسقاطات السياسية والفلسفية..وأري الكتابة والحياة أبسط من ذلك بكثير..إذ أن قصة حياة أي إنسان إذا تم سردها بصدق.. وبعمق.. وباتساع أفق.. سيكون فيها كل ما يبحث عنه رجل الفلسفة..والاقتصاد..وعلم النفس..وعلم الاجتماع..والتاريخ..
إن الجلوس مع شخص متواضع التعليم يجعلك تقترب من روح الفن أكثر من الجلوس مع روائي شهير..الأخير يلوي عنق الحياة..وعنق من يجلس أمامه..بتحليلات تبدو عميقة..وهي هواء..إنه لا يفهم من الحياة إلا ما يستطيع صياغته في جملة علي حد تعبير الروائي الفرنسي أنطوان دي سانت إكسوبري..أسأل نفسي مالذي يجعلني أجلس أمام شخص أعرفه لأول مرة وأستمع إليه بكل هذا الفضول..وكل هذا الشغف..إنه لم يقرأ شيئا عن طرق السرد..وثقافته لاتتعدي قراءة الجرائد..والفرجة علي المسلسلات التلفزيونية..والمفردات اللغوية التي يستعملها تعد علي أصابع اليد..وغالبا لايستعين بلغة الجسد بطريقة ناجحة..ومع ذلك مؤثر..إذن كل إنسان لديه قصة تستحق أن تروي..بوردها..وبشوكها..وبقشرها..وبلبابها..وبافتقادها أحيانا إلي كل منطق..لهذا تنجح الأفلام الهندية..وميلودرامات حسن الإمام..وحسام الدين مصطفي..ولهذا تنجح إسكتشات محمد سعد..وهنيدي..ويصفق لها الناس..ولكن النقاد والكتاب العظام يحتقرون النجاح الجماهيري..ويجلسون علي المقاهي يمضغون أحزانهم..وأحقادهم..
ويقولون بأن البلد لم يعد فيها مايستحق البقاء..والحياة لم يعد فيها ما يستحق الفرح..هل هذه دعوة للسطحية..والاستسهال..بالطبع لا..المطلوب فقط ألا نعتبر أنفسنا أكثر خلق الله أهمية..ونفعا للبلاد والعباد..الفن السطحي مهم..والروايات التافهة لاتستحق كل هذا الهجوم..إنها القشرة التي تغطي البرتقالة..وتحميها..وتمهد لها..لذا اكتب ياصديقي كل ما يخطر علي بالك ..مادمت تجد فيما تكتبه معلومة شائقة قد يستفيد منها إنسان..اهتم بالمعني ..وبالفكرة..ولاتعط بالا للألفاظ..خلق الإنسان ليكون سيدا لا عبدا..والكاتب الذي يصير عبدا للغة..وللورق الأبيض..ولتوقعات الآخرين- قراء ونقادا- لايمكن أن يحرر عصفورا من قفص..ولا موجة من جدول..ولا مطرا من سحابة..الكتابة محاولة للتحرر..والتعري..والجلوس بملابسك الداخلية في شرفة شقتك..والمشي حافيا علي بلاطها..أن تعطي فرصة لكل خلية من خلاياك أن تتثاءب..وتتمطي..وتفرد ذراعيها لتطير..وتمسك الشمس في كف..والقمر في الكف الآخر..وأفيد علمك بأن ما ذكرته لك سابقا ليس رأيي أنا وحدي..إنه رأي فرجينيا وولف..وهنري جيمس..وختاما أنا في انتظار ما تجود به قريحتك..)
7
في مساء ذلك اليوم اتصلت بي ساندرا..وبدأ الحديث عن الشعر الذي وعدتها بإحضاره ..كنت كاذبا..فقد توقفت عن كتابة الشعر منذ سنوات عدة..أكتب القصة القصيرة فقط..والأشعار التي بحوزتي تخص أحمد الرفاعي..وقصة الحب كانت رواية ارتجلتها..في الجامعة صادقت بنات كثيرات..ولكن قلبي لم ينبض أبدا تجاه واحدة..كنت أعرف ما أريده تماما..لم أقتنع بالحب الرومانسي..والأبدي..إنه خيالات إنسان جائع ..ومكبوت..والجائعون فقط هم من يكتبون شعرا عن الطعام..وكلما ازدادت وطأة الجوع ازدادت حرارة الشعر..ولهيب التنهدات..قصص الحب العظيمة كانت مستحيلة..إنها رغبة في امتلاك ما لايمتلك..رغبة لها صوت وصدي في أعماق كل إنسان..لذا تجد كل تلك القصص العقيمة أذنا مصغية في كل زمان..وفي كل مكان..وستظل باقية مادام الحمقي موجودين..والكبت موجودا..إنها الحديقة الخضراء اليانعة التي يجلس تحت أشجارها المراهقون الذين لايملكون الجرأة الكافية لاختطاف محبوبتهم علي سيارة والذهاب بها إلي سينما أو ديسكو..أو شقة مفروشة..بهذا الانحطاط أفكر..ولكن من رأي ما رأيت سيصل إلي ما وصلت إليه..بالطبع لم أكن ضد الزواج..فلقد تزوجت وأنجبت..ولكن الذي يبحث عن الحب في الزواج كالمسطول الذي ضاعت منه عملة معدنية في شارع مظلم فراح ليبحث عنها في شارع مضيئ..والزواج هو الشارع المضيئ الذي لاتوجد به العملة المعدنية البراقة..لا يوجد بالزواج إلا حصي الصمت..وعلب الروتين والملل الفارغة..ولكنني لم أكن تعيسا في زواجي..والسبب أنني لم أتوقع منه الكثير..لاتوجد امرأة تستطيع أن تكون زوجتك وعشيقتك في نفس الوقت..كما لاتوجد وظيفة يمكنها أن تكون حرفتك وهوايتك..هل تعتقدون أن المطرب – مثلا- يحترف هوايته..طبعا لا..وإن بدا غير ذلك..فالمطرب -في أغلب الأوقات- يفكر في الأغنية التي تعجب الناس..لا التي تعجبه..الهاوي هوالذي يفعل شيئا لمزاجه فقط..ولا ينتظر رأي الأخرين..كالذي يجلس أمام النيل يوما كاملا حبا في الصيد..لا انتظارا لكيلو سمك يبيعه..أو يأكله ..أو يقدمه هدية لأحد..إنه يستمتع وكفي..بالماء..وهواء العصاري..والسماء الرائقة الصافية..الهواية – لكي تكون هواية- لابد أن تكون عبثية..أي لاغاية لها سواها..ولا يهمك أن يعرف أحد أنك تمارسها أو لا..إنها شيء خاص بك جدا..ووجودها شرط أساسي من شروط وجودك..أرأيتم أن الزوجة يستحيل أن تكون عشيقة؟؟
8
أيامي مع ساندرا لويس
اليوم الأول
المكان:حجرة المدرسين
وكان الجميع يلاحظ كثرة جلوسنا سويا..ولكنها لم تكن تبالي..قالت
- اتجوزت يوسف عن حب..أول معرفتي بيه أيام ثانوي..بابا كان بيعمل عملية الفتق..حصل استلطاف ..بدأ يتصل بيا من وقت للتاني..كان البيت عارف..دخلت كلية التربية..كان أحيانا يتصل بيا ويقوللي أنا حلمت بيكي..إنت كنتي تعبانة..ويبقي كلامه مظبوط..في الكلية ما عشتش أي قصة حب..كان فيه صداقة مع ماجد..كان شخص لذيذ..ودماغه عجباني..وكان بيكتب فيا شعر عبيط قوي..بس كان فاشل..وبيسقط كتير..أول ما تخرجت ..اتقدم يوسف..أكبر مني بحوالي عشر سنين..كان عنده اتنين وتلاتين سنة..وأول كلمة قالها أنا جاي ياساندرا ودقني طويلة عشان قاصد تشوفي الشعرات البيض..وتفكري علي أقل من مهلك..دكتور شاطر قوي في شغله..وعنده شقة في شكري (شكري القويتلي أكثر أحياء المحلة الكبري رقيا)..ما كانش يترفض..عندي دلوقت مايكل وماري..عقبالك..
كانت تتكلم بمنتهي الحب والإخلاص عن زوجها..قلت لنفسي لعلها محترمة..ولكنها شخصية اجتماعية..ولذا يساء فهمها..وتكثر حولها الإشاعات..حدثتها عن حبي للسينما..وأن هناك فيلما جميلا يعرض في سينما الجوهرة (واحد صفر)..وأنني أرغب في مشاهدته .. الناقد طارق الشناوي كتب عنه مقالة مغرية..أخبرتني أنها ستقول لأخيها هاني..وربما جاءا معي لمشاهدته..تأكدت أنها محترمة..هي من عائلة متفتحة جدا..وليس لديها العقد التي تستوطن في أعماقنا..
وحدثتها عن حبي للقراءة..قالت إنها تحبها أيضا..كان معي رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي..أرادت أن تستعيرها..ورغم أنني كنت في منتصفها إلا أنني لم أمانع..أمام المرأة الجميلة يكون الإنسان فاضلا لأقصي درجة..وتري الإيثاروقد أصبح سيد الأخلاق..
اليوم الثاني
المكان :أمام سينما الجوهرة والزمان السادسة مساء والجو كان شاعريا جدا..وصلت قبلها بدقائق قليلة..كان الاتفاق أن يأتي أخوها هاني معها..نزلت من التاكسي بمفردها..كانت متألقة..أمرأة أخري غير تلك التي تراها في المدرسة..أمرأة ذاهبة إلي حفل سواريه..قالت إن هاني لم يستطع المجيء ..وإنه حملها سلامه إلي ..وأنه يود التعرف علي..رفضت ساندرا بإصرار أن أعزمها..قالت ضاحكة إنها الأكبرسنا ومقاما..لم أستطع أن أقاومها..في السينما جلست علي يساري..أخرجت من حقيبتها باكو لبان تشيكلس ..وأفرغت بضع وحدات في كفي..كذبت ظني أن تكون عرضا للبدء بتقبيلها..هناك حركات صغيرة لها معاني بعيدة جدا..والبنت التي ترغب في رجل تلجأ إلي طرق ملتوية كطريق اللبان في قاعات السينما المظلمة..المهم أنني انتبهت إلي الفيلم..علمتني التجارب ألا أكون متهورا..وأصل إلي هدفي بطريقة ناعمة..علي قدر التشابه الموجود بين البنات يوجد اختلاف..لذا فالحرص مطلوب..والتحسيس واجب علي كل أعمي..التجربة الجديدة بلد جديدة..والمغامر غريب عنها..التهور قد يجعل الشرطة تنتبه إليك..وتطردك خارجها..بدأ الفيلم..شيء رائع فعلا..كتابة وإخراجا وتمثيلا..كانت إلهام شاهين تمثل دور امرأة مسيحية متزوجة وترغب في الطلاق لأنها تريد الارتباط بعشيقها..همست في أذني إن قصة إلهام شاهين هي نفس قصتها ونحن خارجان من السينما..أمام السينما وقفنا قليلا..نظرت لي وابتسمت وقالت بجدية:
- وائل ..أنا محترمة
كانت جملة غريبة..فسألتها
- ليه بتقولي كده..
- عشان خرجت معاك
- أيه المشكلة إحنا مش بقينا أصحاب
صمتت قليلا ثم قالت
- فيه حاجة تانية عايزاك تعرفها
- قولي
- خايفة تفهمني غلط
اشتعل فضولي أكثر
- هاني مش أخويا..هاني الإنسان اللي باحبه..
كأن أمرأة في الدور الثلاثين دلقت علي رأسي جردل ماء متسخ..كنت أتوقع أن تقول إنها تحبني أنا لكي يصير كلامها معقولا ومقبولا..فمن هو هذا الهاني الحقير الذي يستحق هذا الجسد أكثر مني..تمالكت غيظي وصدمتي وقلت لها
- أليس من الأفضل أن نجلس في كافيه لنتكلم بحرية أكبر..
أوقفت تاكسي ..ركبنا..لا أدري لماذا تذكرت في هذا الوقت بطلات إحسان عبد القدوس..في كافيه عمر الخيام طلبت زجاجتا كولا وشيشة خوخ..دخنت معي..حكت لي عن هاني (زفت)..وأنها تعبده عبادة..وأن والدتها تعرف..وأن زوجها يعرف أيضا..قلت لها مغتاظا وأنا أنفث دخان الشيشة إلي أعلي
- وما هو المطلوب مني الآن..أن أكون طبيبا نفسيا لسيادتك..وأستمع إلي مأساتك ..وأحاول حلها..اسمحيلي أنا شخص أناني جدا..وعندما أجلس مع أحد أحب ألا يخرج الكلام عن كلينا نحن الاثنين
قالت لي وهي تتأملني بإعجاب
- ومين قالك إني باحب هاني..خلاص بقينا اصحاب..وكل اللي بينا مكالمة في التلفون كل شهر أو شهرين..
فسألتها بلامبالاة
- وأنا فين بالنسبة لك؟
فقالت هامسة كلبؤة مستثارة
- أول ماشفتك حبيتك..
لفظ الحب بالنسبة لأمثالنا هو تعبير مهذب جدا عن الاشتهاء الجنسي..وفي تلك اللحظة انطفأ النور في الكافية لدقيقة ..ولما كنت من رواد هذا الكافيه الدائمين فقد كنت أعرف أنها حيلة خبيثة يفعلها صاحبه من حين لآخر لجذب الزبائن ..في تلك الدقيقة – وكنا نجلس علي فوتيه متجاورين- وضعت يدي علي عنقها ..واختطفت منها قبلة طويلة..طويلة جدا..وضممتها بقوة إلي صدري..وعندما أضاء النور رأيت علي وجهها غضبا راضيا..وقالت
- ماتصورتش ده يحصل بسرعة كده..
كنت منتشيا جدا بمعرفة امرأة رخيصة من سيدات المجتمع..وأحببت فيها وضوحها الشديد..واختصارها لخطوات كانت تطول إلي درجة الملل في كل علاقاتي السابقة..وبعد صمت لذيذ قالت
- ياريت الموضوع ده ما يحصلش تاني في مكان زي ده..إحنا مش مراهقين
سألتها ببرود بعد أن تأكدت أنها قد صارت ملكي
- عايزاه فين؟
- عندي في الشقة
قلت لكم إن علاقاتي السابقة لم تصل إلي هذا الفجور..كانت قاصرة علي قبلات مسروقة في السنيمات والحدائق العامة..لذا أذهلني ماقالت..عرفت ساندرا ما أفكرفيه فاستطردت
- جوزي بيبقي عنده نوبتجية 24ساعة اتنين وجمعة..اختار اليوم اللي يناسبك..
كان يوما من أسعد أيام حياتي..أحسست أنني أصبحت إنسانا عميق التجربة..وعرفت شخصية مثيرة..وتمتلك أسرار الحياة الحقيقية التي كنت مشوقا لمعرفة ماأستطيعه منها..
اليوم الثالث
أصبح الهاتف المحمول بطل تلك الفترة..وكنت أشتري كارت شحن يوميا بخمسين جنيها..وانقطعت علاقتي بها تماما في المدرسة..وتأكدت أن الناس الذين يعتقدون في وجود علاقة مشبوهة بين رجل وامرأة يجلسان كثيرا في مكان عملهما جهلاء..إذ أن من يفعلون ذلك يعاملون بعضهما بتجاهل تام أمام الآخرين..ولكنني تعلقت بها جدا..وأصبحت رؤيتها طقسا يوميا لابد من ممارسته لكي أشعر بأنني علي مايرام..كنت علي يقين أنها علاقة قصيرة العمر..وينبغي علي أن أنهل من المتعة بقدر ما أاستطيع..وكان موعدنا الجمعة..اتصلت بها في تمام التاسعة ..أخبرتني أنها في انتظاري..وأن شقتها في الدور الثالث في إحدي العمارات المواجهة لمطعم سمسمة الشهير..وفي أقل من نصف الساعة كنت هناك..اتصلت بها ..ردت.. وحددت لي العمارة عن طريق لونها ورقمها..وقالت لي إنها ستقف في البلكونة..رأيتها..ابتسمت..ورأيت بسمتها أكثر وضوحا من بدر التمام..رغم أن المسافة التي كانت تفصلني عنها كانت بعيدة..تيقنت أن الحواس لها قدرات خارقة لا نعرفها إلا في لحظات خاطفة من عمرنا..تلك اللحظات التي نكون فيها علي شفا حفرة من النار..أو الجنة..لا أنكر أنني كنت خائفا جدا..هل في الأمر فخ ما..تساءلت.. ولكن رغبتي كانت أقوي من أي تردد..وصعدت حتي وصلت إلي الدور الثالث..ربما لو رآني أي أحد من سكان العمارة لعرف ما أنا مقدم عليه..بشرط واحد..أن يكون نجس الذيل مثلي..فالمحترمون لاتذهب عقولهم إلي تلك المنطقة أبدا..لايتصورون أن أمراة يمكن أن يسمح لها ضميرها بالإقدام علي تلك الخطيئة..لاحظت ذلك وأنا أتناقش مع زملاء من تلك العينة مثل مصطفي السعدني الذي كان يعتبر كل حكاياتي عن مغامراتي العاطفية هلاوس وضلالات..أحكيها رغبة في استعراض ذاتي ورجولتي..لم أحتج إلي الضغط علي الجرس..بمجرد أن وقفت أمام الباب فتحته..دخلت (أو دلفت بلغة الكتاب الجهابذة)..كانت ترتدي قميصا ربع كم ماركة نايك وبنطلونا رياضيا ماركة أديداس وسابوه ( زنوبة البنات الهاي)..كانت شقة فخمة وقريبة الشبة من تلك الشقق السينمائية التي كان يصممها مهندس الديكور الموهوب نهاد بهجت..فتحت الثلاجة وأحضرت زجاجة شمبانيا..الكثير من الإخوة الأقباط يتعاملون مع الخمور كالأوربيين..ويعتبرون قليلا منها لا يضر..الحشيش هو كيفي المفضل..ولكن هذا لايمنع أنني جربت أنواعا كثيرة من الخمور في رحلات إلي شرم والغردقة وأسوان في فترة الجامعة..كانت معظم هذه الرحلات مدعمة عن طريق مكتب أمانة الحزب الوطني في سمنود..بعد أن شربت كأسي ( أو تجرعت بلغة الكتاب الجهابذة أيضا ) نسيت كل مخاوفي ووساوسي..وانتبهت لمفاتنها..وفاجأتني عندما رفعت يدي وقبلتها..بتلك القبلة شعرت أنها امتلكتني..وعرفت من تلك اللحظة أن الحب ليس فطريا كما يعتقد السذج..هناك همسات ..ولمسات معينة تدغدغ مشاعر الجنس الآخر..وتجعله أسيرا لك..وهذا ما يجعل رجلا واحدا قادرا علي جذب مئات النساء في حين أن مئة رجل يعجزون في أوقات كثيرة عن اجتذاب امرأة واحدة..الجاذبية تحتاج إلي فن ..والفن يعتمد اعتمادا كليا علي الأكاذيب والحيل والمرواغات..بشرط أن تبدو صادقة ومقنعة..في الحب والفن تأكدوا أن الوضوح كريه إلا إذا كان يخفي خدعة ما..الشخصيات الواضحة الطيبة المحترمة لانتذكرها..لانتذكر إلا الأندال..والأشرار..والكذابين..لا نتذكر إلا من جرحنا ..وعلم علي قفانا باللغة الدارجة..نعم إنه تذكر مصحوب باللعنة والحسبنة (أن تقول حسبي الله ونعم الوكيل )..ولكنه تذكرعلي أية حال..مازالت الشوربة ألذ طعما من الزبادي رغم لسعاتها القاسية..الزبادي بارد..ومحايد..ودمث أكثر من اللازم والمفروض..إنه – كالبيض المسلوق- مفيد ولكن لاطعم له..ليس هذا رغبة مرضية في تعذيب النفس كما يقول علماء النفس الأفاضل..ويتوقفون ..وأفادنا وأفادكم الله..داخل كل إنسان رغبة شرسة في المعرفة..والمعرفة التي أقصدها ليست تلك الموجودة في الموسوعات والقواميس..إنها النوافذ التي نري بها أنفسنا وغيرنا بطريقة أفضل..وحياتنا – بعد تعرضنا لخدعة ما من ندل- أعمق بكثير منها قبلها..نعم أردت أن أقول ما قاله الشاعر الإنجليزي ألكسندربوب ( الشر الجزئي ما هو إلا خير كلي)..أي أن الهدف النهائي من الحياة هو الخير..هل ابتعدت عما حدث في تلك الليلة كثيرا؟؟..تعمدت أن أفعل هذا.. أريد أن أكون محترما مع الورق الأبيض لأنني عاجز عن أن أكون كذلك مع الأشياء الأخري البيضاء..ولكن من الطريف أنه قبل أن يحدث بيننا أي شيء وجدتها تقول لي
- اوعي تفتكر أنا قلتلك تيجي هنا عشان أكتر من إنك تحضني..لازم تعرف إني عندي برود ..ومافيش راجل يقدر يحركني..
كانت امرأة استثنائية لاتنطق كلمة إلا وهي تعرف ماذا ستفعل فيمن تحدثه..لا أعرف متي وكيف اكتسبت كل تلك الحنكة..لاحظت أنها لاتصل إلي الأورجازم إلا وأنا أهمس بالكلمات البذيئة في أذنها..هي التي لفتت انتباهي..وقالت لي إن كل النساء يشتهين ذلك..والخجل والعفة المصطنعة هي التي تمنعهن من البوح والمصارحة والمكاشفة..
بعد أن انتهينا..وكانت الساعة تشير إلي الثانية عشر..أخرجت رواية ذاكرة الجسد
من درج الكومودينو جوار السرير وفتحته علي صفحة فيها هذه الجملة
- الوفاء لأجساد الآخرين خيانة لأجسادنا..
ثم فتحته علي صفحة أخري فيها هذه الجملة
- النساء إما عاهرات ..أو قبيحات
ثم قالت
- علي فكرة أنا مش باحب القراية..أنا أخدت الكتاب منك عشان يبقي معايا حاجة من ريحتك ..وقريته بس عشان خاطرك..ودول أجمل جملتين في الكتاب..
أيام أخري
يمكن أن توضع تحت بند اليوم الثالث..فقد تكرر ماجري فيه بحذافيره..
اليوم الرابع
يمكن أن يوضع أيضا تحت بند اليوم الثالث..ولكن ما يجعله يوما ذا نكهة خاصة أنه كان في إحدي شقق مدينة رأس البر..وعلي شاطيء بحرها الرائع..قضينا يوما كاملا هناك..في الوقت الذي كنا نقضيه معا كانت تترك أولادها عند جارتها نرمين..التي كانت تعرف قصتنا معا..
اليوم الخامس
كان في الواقع أياما..هي التي شجعتني علي شراء سيارة لانسر بالتقسيط..كنت رافضا تماما لفكرة الشراء بتلك الطريقة..ولكنها قالت لي
- زوجي كان مثلك ..كان بيخاف قوي من فكرة المغامرة..ويقعد يحسب فيها..علمته ازاي يدخل بقلب جامد في أي حاجة..الناس اللي بتنجح هي الناس اللي بتغامر..ماتعملش زي الفلاحين..يفضلوا عاملين حساب لبكرة ليوم ما يموتوا..وتلاقي الواحد فيهم عنده كذا فدان..يجيبوا الشيء الفلاني..ومش لاقي ياكل..ولا لاقي يلبس..ولاقي يعلم ولاده..لو غامر وباع فدان..واشتري حتة أرض مباني..وبعدين بعد ست شهور باعها هيكسب فلوس يعيش بها ملك.. الناس اللي بتخاف تخسر.. عمرها مابتكسب ياوائل..عشان تكبر في الدنيا لازم تحط نفسك في ضغط..وتبقي في خطر..هاتلاقي نفسك بتعمل حاجات عمرك ماتتصور أنك يوم ممكن تعملها..ادفع اللي معاك مقدم..ويوم ماتتزنق في التقسيط هاساعدك..وعارفة إنك فلاح (سمنود في نظر المحلاوية أرياف..والمحلة في نظر القاهرة والأسكندرية أرياف أيضا..وأهل القاهرة في نظر البدو فلاحين..نأسف للمقاطعة) ..وهترفض واحدة ست تساعدك ..تبدأ تدي دروس خصوصية..مستني أيه..
وأقدمت علي تلك الخطوة..وهي التي علمتني القيادة بصورة محترفة في إحدي الأماكن الشاسعة القريبة من حي الشعبية في مدخل المحلة الكبري..وذات مرة حاولت تقبيلها فوجدتها تبتعد وتقول
- وائل ..عشان خاطري ماليش نفس
تضايقت جدا..ولم أبادلها الكلام ..ظللنا صامتين طول الطريق..وعند أول شارع شكري نزلت من السيارة ..كنت قاسيا جدا عليها..ولم أكلف خاطري بالسلام عليها..
بعد أن وصلت المنزل..وجدت الهاتف يرن..كانت هي..فتحت ..وقلت ببرود
- أيوة..عايزة تحرقي دمي تاني
كانت تبكي وهي تقول
- ماكنتش اعرف ياوائل إني رخيصة عندك كده..إوعي تفتكرأنا باعمل معاك كده عشان أنا عايزة كده..لأ أنا باعمل كل ده عشان ماخسركش..مش ينفع أخسرك..إنت أحلي حاجة في حياتي..من يوم ما عرفتك بطلت تدخين..وبطلت ترامادول..كل اللي نفسي فيه أفضل اتكلم معاك وانا حاطه راسي علي صدرك..
بنت اللذين استطاعت أن تستولي علي تماما..لم يعد هناك أي مساحة أخري للتفكير في أي شيء سواها..
اليوم السادس
كنا في سيارتي في الطريق إلي رأس البر..لم نكن ننوي سوي الجلوس علي الشاطيء لساعة أو ساعتين ثم الرجوع..بل لم يكن هدفنا الوصول بقدر ماكان الاستمتاع بالانطلاق..كان معي في السيارة شريط فضل شاكر – مطربي المفضل- الأخير (نسيت أنساك)..الشريط الذي يعتبر خير مؤرخ لعلاقتي بها..كنا في ذروة العلاقة..وكنت قد شعرت بالإشباع التام منها..وفي مثل هذا الوقت يشعر الإنسان برغبة غامضة في الانسحاب..والتراجع..إلي كهف خصوصيته..وقوقعة استقلاليته..كأن وجود أخر في حياتنا بكل هذا الحضورالصاخب يهدد ذواتنا..في الشريط كانت هناك أغنية جميلة تقول (هاخلي بالي من نفسي..واحاول ماشوفكشي..خايف أقابلك تاني..قدامك ماقدرشي..أنا ليه كل مااشوفك..بانسي قوام وارجعلك..لازم أغلب ضعفي..مش لازم أسمعلك..وعشان اعرف اسيبك ..هابعد وما أقولكشي..هاخلي بالي من نفسي..)..كانت هذه الأغنية صدي لصوت يتردد في أعماقي..كانت قد أصبحت أفيونتي..استعبدتني..خناقات كانت تقوم بيننا لأن ساعة مرت دون أن تتصل بي..أو ذهبت إلي مكان ما دون أن تخبرني..أو ارتدت بلوزة تكشف عن منبت نهديها..أو وقفت مع مدرس زميل وتبادلت معه الضحك..أو صبغت شعرها بلون لا أحبه..أو اتصلت بها وكان هاتفها مشغولا لفترة طويلة..أو قالت إنها قضت ليلة حميمة مع زوجها..
جملة اعتراضية
أحب أن ألفت نظر القاريء الكريم إلي أنني لا أعتبر اليوم أربعا وعشرين ساعة..اليوم هو المدة التي تحمل حالة خاصة..قد يكون ساعة..وقد يكون أسبوعا..وقد يكون شهرا..أيام الامتحانات – مثلا- في رأيي هي يوم واحد..أي أن الزمن النفسي هو الذي أعترف به..لذا أري من السخف أن يقول إنسان إن عمره كذا سنة..العمر الحقيقي هو عدد الأيام التي تركت بصمة علي مشاعرنا..هناك أناس عاشوا مائة عام وعمرهم الحقيقي لايتجاوز بضعة أيام..وهناك العكس..أناس عاشوا سنوات قليلة ولكنهم عواجيز بعمق التجارب التي مروا بها..ويعجبني في ذلك رباعية صلاح جاهين:
أنا شاب لكن عمري ولا ألف عام
اليوم السابع
ثلاث أيام كاملة وأنا لاأتصل بها..ولا أرد علي اتصالها..وأغاظني أكثر أنها لم تتصل سوي مرة واحدة فقط..كنت في عذاب لايوصف..وانتظرت أن تتصل أكثر من مرة..ولم يحدث..في صباح اليوم الرابع اتصلت بي ..لم أستطع أن أتجاهلها كما كنت أنوي..قلت بغضب مكتوم
-أيوة
قالت بلهجة حيادية
- إنت جاي المدرسة النهاردة ؟
قلت
- عايزة أيه
قالت كالمعترضة
- إنت بتزعق كده ليه..
قلت بصوت واطيء متجاهلا رغبتها في فتح حوار
- عايزة أيه
قالت
- عايزة أديك الهدايا اللي انت جبتهالي
قلت
- خمس دقايق وهابقي في المدرسة..وهنتكلم في الموضوع ده..
بمجرد أن رأيتها فرت البسمة من شفتي ..ابتسمت هي الأخري..كان هذا أمام مكتب الحضور والانصراف..من حسن الحظ كان معظم المدرسين قد توجهوا إلي الفصول.. وضعت يدها في الشنطة وقالت
- استني خد الحاجة
- باين عليكي عبيطة
- ماتغلطش
- أغلط فيكي وف أهلك كمان
- مش إنت اللي عايز تبعد..ابعد براحتك..مش فارق معايا..
- مش هاينفع أكلمك دلوقت..لما نتقابل النهاردة بالليل
ضحكت ضحكتها الخبيثة التي لاحد لروعتها..ضحكة تغريني دائما أن أعتصرها في حضني..ولا يشفي غليلي..
اليوم الثامن
في كل علاقة حب لابد من وجود طرف أقوي من الآخر..طرف حاكم..وطرف محكوم..وطوال الأيام السابقة كنت أنا الأقوي..واكتشفت بعد ذلك أنني كنت واهما..هي أرادتني أن أعتقد ذلك..وكانت تفعل كل مايرضي غروري..ولكنها منذ هذا اليوم تأكدت أنني لم أعد قادرا علي الاستغناء عنها..لذا بدأت تظهر أوراقها المخبأة تحت الطاولة ( الترابيزة)..الورقة الأولي أنها مازالت علي علاقة بهاني..وأنه حبها الحقيقي..وأنه يريد أن يتعرف علي..وحدث أن قابلته..ودار بيننا حديث قصير عن الجو..والسيارات..والأهلي والزمالك..لم أستطع أن أغوص في أعماقه ( أسبر أغواره بلغة الجهابذة)..وتبادلنا أرقام الهواتف..وفوجئت بها تقول لي
- امسح رقم هاني
سألتها مندهشا
- ليه؟
فكان ردها الذي لم أفهمه
- عشان لو زعلنا مع بعض..ماتتصلش بيه وتقول له
لم يكن يعنيني رقمه في شيء..من العبث أن تفكر في الحكمة من ظهور بعض الأشخاص في حياتك..إنهم أشبه بالأشخاص الذين يعبرون أمام الكاميرا أثناء تصوير حوار تلفزيوني مع لاعب كرة بعد المباراة..وحاولت أن أفهم منها لماذا أراد أن يتعرف علي..ولكنها لم تكن تجيب
اليوم التاسع
استيقظت من النوم علي رنة الموبايل ( الله علي حبك إنت)..
- أيوة مين معايا
فسمعت صوتا أنثويا فيه بحة مثيرة لم أسمع مثله من قبل ولا من بعد..
- أنا عارفاك كويس..ولسة شايفاك النهاردة.. بس إنت مش عارفني
- يعني مش هتقولي إنت مين
- لما اطمنلك هاقولك..تعرف إني ماكنتش اعرف إن صوتك في التلفون حلوقوي
- صوتي بس اللي حلو ..فيه حاجات تانية أهم ..
- أنا عرفت إن آخرك بوس..وانا شبعانة بوس
- وعرفتي أيه تاني
- إنك بخيل آخر حاجة
- وعرفتى أيه تالت
- إنك مغرور.. مش عارفة علي أيه..
- طيب كلميني عن نفسك شوية..
- أنا سين..ومتجوزة..وجوزي مسافر..وعندي واحد وعشرين سنة..وصدرين كبارقوي.. وسخنين قوي..وممكن تشوي عليهم درة..
- واضح إننا هنبقي صحاب..
- مافتكرش
- أنا عايزة راجل عملي..وسمعت إنك كلام وخلاص..الكلام ده تضحك بيه علي المراهقات اللي بتعرفهم ..
وعلي هذا المنوال استمرت المكالمة بيننا ما يقرب من الساعة..كان حوارها شيقا جدا..ولأنني كنت فاضيا ..وكان تفكيري في الجنس متواصلا أربعا وعشرين ساعة..فقد استمرت علاقتنا الهاتفية وقتا طويلا..
بعدها بشهر كنت أجلس مع ساندرا في كوك دوور (فرع المنصورة..أمام بوابة الجامعة الرئيسية) وفوجئت بها تقول لي بعد أن انتهيت من أسطوانة الغزل المشهورة التي لابد منها لإذابة أعصاب أي امرأة قبل الدخول في الموضوع الأساسي..
- وأخبار المزة اللي بتكلمك أيه؟
قلت كأنني لا أعرف ماتتحدث عنه
- مزة مين؟
- نرمين صاحبتي..اللي باسيب عندها الولاد لما نكون مع بعض..كل مكالماتها معاك بتبقي قدامي..إنت عمرك ما قلتلي الكلام اللي بتقولهولها..
- أنا بحبك ياساندرا..وانت عارفة كده كويس
- كنت فاكره كده..علي فكرة نرمين متنيلة زيي في جوازها..وعلي علاقة بكرم أخوهاني..
9
روح الكمال شوقي
عرفت روح أثناء اليوم الرابع في علاقتي بساندرا..واستعرت قصة الحب الضائع من أحمد الرفاعي لأقرأها عساها أن تساعدني..وتذكرت قصة الطريق..والصراع بين نور (الجسد) وإلهام (العقل)..
* * *
مدرسة الرسم الجميلة..والرقيقة..والتي رأيت فيها من النظرة الأولي زوجة مناسبة..لم أكن منجذبا لها انجذابي لساندرا..ولكنني حسبتها بالعقل..الزواج يحتاج إلي امرأة من نوع روح..طيبة..وبنت ناس..وفي حالها..وهناك إجماع علي أخلاقها..وقيل بأنها مثقفة..ومختلفة عن كل البنات..وقيل بأن عبد الفتاح كتكوت وعدها بالزواج..ثم تخلي عنها..لذلك هي مكتئبة..ومنعزلة..قررت أن أقترب منها..وبعد محاولات مضنية استطعت أن ألفت انتباهها..وحصلت علي رقمها..واتصلت بها..فقالت بحدة ووضوح
- إنت عايز مني أيه ياأستاذ وائل
- عايز اتكلم معاك ..وتتكلمي معايا..جايز يتولد حب ويكلل بالارتباط
(كنت أحدثها بالطريقة التي تقنعها..)..ضحكت..وتبادلنا الحديث المعتاد في بداية كل علاقة..كل طرف يعطي نبذة مختصرة عن حياته ككل..ماذا يحب..وماذا يكره..أغانيه المفضلة..هواياته..أحلامه..ذكرياته الجميلة..الشخصيات القريبة من قلبه..مالذي أعجبه في الطرف الآخر..والليالي التي سهرها يفكر في الاقتراب منه..وبقية القصة الحمضانة والمملة التي تعرفونها أكثر مني..بعد انتهاء المكالمة كنت في قمة سعادتي لدرجة أنني ذهبت إلي أحمد الرفاعي في بيته ..قالت لي والدته إنه نائم..فرجوتها أن توقظه لأنني أريده في موضوع شديد الأهمية..فقالت بطيبة
- أدخل صحيه إنت ياوائل..هيزعقلي..إنت عارف صاحبك موته وسمه حد يصحيه م النوم..
عندما نفرح بشدة..أو نحزن بشدة..أو نغضب..أو ينتابنا أي شعور طاغ ننعزل تماما عن العالم ..وتنقلب عيوننا إلي الداخل..ولانري إلا أنفسنا..نصير أبطالامسرحيين..ويصير الآخرون جمهورا يجلس علي مقاعد خشبية في الصالة..لاعليه سوي أن ينفعل بكل ما نشعر به لكي نرضي عنه..ونقول بأنه جمهور واع وذو ذائقة فنية عالية..لذا لم أقدر أبدا أن أحمد رجع من المحكمة منهكا..وخصوصا أنه ينتقل من مدينة إلي مدينة جريا وراء القضايا محاصرا بالوقت الضيق..والمواصلات الصعبة..والجو الممتليء بالغبار..وروائح العرق..والمرتب الضئيل الذي يتقاضاه ..كل هذا من أجل أن يتعلم صنعة يستطيع أن يكسب منها ما يجعله يعيش في المستوي الذي أعيش فيه..المستوي الذي ولدت فوجدته كالملعقة الذهبية في فمي..
أزحت الغطاء عن وجهه (كوفرتا من بتوع الجيش )..وقرصته في ذراعه..
- إصحي يابني..عندي لك خبر يجنن..
قام وجلس وعلي وجهه علامات الإرهاق الشديد..قال لي
- روح اعملي كوباية عصير لمون الأول عشان أبدأ أركز معاك
ذهبت وفعلت..حزنت جدا وأنا أعمل له كوباية العصير دون ثلج ودون خلاط..
فاستعنت بماء الحنفية الساخن..وبالسكينة لكسر الليمونة..في ثواني كنت قد انتهيت..قدمتها له..شربها علي مرة واحدة..شعرت لحظتها بطيبة هذا الإنسان الذي خلق لكي يتحمل سخافات الآخرين..الفقر لايدع لديك أي مساحة للا ختيار..أو الرفض..أو الغرور..أو التعالي..أو الكرامة..وفي أمثالنا العامية عشرات الأمثال التي تسخر من كبرياء الفقراء ومن عزة أنفسهم..قلت له
- باركلي..روح ردت أخيرا علي النهاردة..وقعدنا نتكلم ساعة..بحمد الله مافيش واحدة في الدنيا تصعب علي اخوك..
- إنت ناوي تصيع معاها ولا أيه
- أنا حاطط لنفسي قاعدة ياحمام..اللي مش هاقدر اطولها في الحرام هاتجوزها
- وائل لازم تعرف إن مافيش ست في الدنيا تقدر تقاوم راجل وسيم وكلامه حلو كتير..الحديد نفسه بيلين بالضرب الكتير عليه..والموج العالي بيفتت الصخر..كل الرمل الموجود علي شواطيء البحار كان صخر في يوم من الأيام ..وموج من نفس عينتك قام بالواجب.. بس الفرق المهم بين المحترمة والمومس..المومس ممكن تدي نفسها لأي حد..المحترمة ممكن تضعف قدام إنسان بتحبه مرة ..وتفضل ندمانة طول العمر..
- هو فيه حاجة اسمها حب أصلا..كله وهم يامعلم
- حاجات كتير في الحياة وهم وبنصدقها..الحقيقة وهم..والعدالة وهم..
الحياة نفسها أكبروهم..أيه المعني من إنك تعيش وتحلم وتتعذب وتحلم وتموت..إحنا اللي بنحط معني ع الحب وع الحياة عشان تستاهل نعيشها..
- أيه المعني اللي ممكن نحطه ع الحب
- إنك تلاقي حد معاك وجنبك وساندك..تحميه ويحميك من الأيام..ياخد باله منك لو تعبت..ولو كبرت..ولو اسودت الدنيا في عينك..حاجة كدة زي اللي كان بين الرسول والسيدة خديجة..مودة ورحمة وثقة واحترام.. الحب ما ينفعش يبقي مشروط ..ماينفعش تقول أنا باحب حد عشان هو كذا..ده إعجاب..وف لحظة بيتقلب نفور..وكراهية..الحب إنك تحب حد رغم إنه كذا وكذا..إنك تبقي شايف عيوبه ومع ذلك بتحبه..
- الكلام ده كان زمان أيام جدي وجدك..أيام ماكان الجواز ببلاش..والقيم الروحانية والأخلاقية هي سيدة الموقف..والراجل بكلمته..والست ماترفعش عينها في عين جوزها..جوزها اللي يفضل يضربها ويعجنها وهي تقول سامحني ياسي السيد..ومستحيل تغضب وتروح بيت اهلها..تبقي كارثة..ودا مش عشان كان عندهم أخلاق أحسن من ستات اليومين دول أبدا..الحكاية إن الست كانت بتعتمد اقتصاديا ع الراجل..وعارفه إنها من غيره ممكن تموت من الجوع..عشان كده كانت بتستحمل زي العبيد تمام..دلوقت المرأة خرجت للعمل..وبقت بتكسب فلوس..ووثقت من نفسها..وما عدش راجل يملا عين واحدة فترة طويلة..عندك ساندرا مثلا جوزها راجل جراح مشهور..وغني..ووسيم..أوسم مني بمراحل..ومع ذلك زي مانت عارف..
- ساندرا دي حالة شاذة ياوائل..ماينفعش القياس عليها..الإنسان بطبيعته بيكره التعدد
- إتكلم عن نفسك..امرأة واحدة لاتكفي..التعدد هو الطبيعي..اتفرج ع الديك بيبقي معاه كام فرخة..حاول تخلي ديك تاني يدخل معاه كده..هتشوف صراعات رهيبة..عارف ياحمام أنا مشكلتي إني عايز جديد كل يوم ..باكره الحاجة اللي تتكرر مرتين..بازهق..واقرف..وابقي مش طايق نفسي..ياراجل أنا اتخنقت من الشمس..كل يوم اصحي الصبح ألاقيها..تحس إنها موظفة خنيقة..ومنضبطة جدا..لدرجة إنك تظبط ساعتك عليها..
- وليه ماتقولش الشمس عشان بتشتغل الشغلانة اللي بتحبها مابتزهقش..وفي صمت وإنكار للذات بتأدي عملها..عشان كده المصريون القدماء عبدوها..وتخيل بعد مابطلوا يعبدوها مازعلتش..ماقالتش والله مانا طالعة عليكو تاني ياولاد الكلب..الشمس هي مثلي الأعلي..في حبها لشغلها..وفي التزامها..وفي إصرارها إنها تؤديه لآخر يوم في عمرها..
- أيه ياعم الشاعر..أحنا كنا واقفين ع الأرض..فجأة بقينا في السما ورجعنا لرع وأخناتون..والله خايف لتقع علي جدور رقبتك من الخيال اللي انت عايش فيه..الإنسان جسد ..أنا مش مقتنع بموضوع الروح..تقدر تقوللي هي فين؟
- أيه المتعة في وجهة نظرك؟
- زي ما الشاعر القديم قال:أكل اللحم ولمس اللحم ودخول اللحم في اللحم
- وقراية رواية ..والفرجة علي فيلم مش ممتعة؟
- ممتعة جدا..بس برضه لأسباب جسدية بحتة..تتفرج علي مزة حلوة..ع البطل وهو بيثبتها وتتعلم منه..المتعة في إنك تتعلم حاجات تفيدك في الواقع اللي إنت عايشه..تضحك عشان تحرق زبالة التكشير اللي علي وشك..اللي بيشوف أشكال مايعلم بيها إلا ربنا..ياحمام إحنا عايشين في شارع أجارك الله..البنات اللي فيه مش هاقولك شكلهم مش حلو..اسمهم كمان يجيبلك اكتئاب..باتعة..وبخاطرها..ومحاسن..وحدقة..وام علي..ياراجل أقسم بالله اللي بيكبر من غير مايمر بمرحلة حب بنت الجيران بيبقي شخصية معقدة ومليانة كلاكيع زي حالاتنا..
- والمتعة في الصلاة؟
- اسمع ياحمام ..بعد أي تكليف وواجب ستشعر باسترخاء ومتعة..بعد ماتعمل واجب فرضه عليك مدرس غتيت..بعد ماترجع من مشوار رحته غصب عنك عشان امك ماتزعلش..بعد ماتروح تعزي واحد صاحبك في حد من قرايبه..وتفضل قاعد ساكت ومكتوم ربع ساعة طول مالشيخ بيقرا الربع..الموضوع أبعد ما يكون عن المتعة الروحانية..
- وائل ..ياريت ماتقولش الكلام ده قدام حد..هيقولوا عليك كفرت..
- الناس أجبن ماتتخيل ياحمام..وطول مانت بتعزمهم علي شاي وسجاير و بيبسي وشيبسي من الحجم العائلي بيبقوا زي الفل..وبيستحملوا كل الكلام اللي انت بتقوله..ممكن يقولوا عني هوائي..لاسع حبتين.. مش أكتر من كده..
- يعني ناوي تعمل أيه مع روح؟
- إنت عارف إني عمري ما فكرت في بكرة..باسيب نفسي للمود(المزاج بالإنجليزي ولكنها أصبحت لفظة عربية) بتاعي.. ومطرح ماترسي..
- يعني ناوي تلعب
- حياتي كلها لعب..وحب..وهزار..اليوم اللي ابقي فيه جد..والبس بدلة زي بتاعة محمد قنديل يبقي آخر يوم في عمري..
- ربنا يوفقك ..تعرف تمشي بقي عشان أنا عايز أنام..ورايا مكتب من الساعة سابعة..
- هترجع إمتي؟
- علي إتناشر..أتناشرونص..في الباص بتاع عمال شركة الغزل
- قشطة..هاستناك ع المصطبة اللي قدام سوبر ماركت أبو عبدالله..
* * *
في ظهيرة اليوم التالي لتلك المكالمة كنت مستندا علي سور الدور الرابع أمام أحد الفصول..ومستغرقا في التدخين والتفكير في ساندرا وروح..ووجدت الأستاذ حنفي مدرس الصناعة يقترب مني ..هو رجل متوسط القامة..في حوالي الخامسة والخمسين من عمره.. أصلع ..تتوسط أعلي جبهته زبيبة صلاة..وفي يده تتدلي سبحة ذات فصوص لامعة..كان الكلام الذي يقوله ياقوت عنه بعيدا عن الحقيقة(عرفت بعد ذلك أن السبب عدم تنقيط الأستاذ حنفي له في فرحه عندما علم بموضوع ليلة الاختبار..والمصيبة أنه هو الذي فضح نفسه)..فالرجل ذو سمعة طيبة جدا في المدرسة..ولايتواني عن مساعدة كل من يحتاج إلي مساعدته..فهو يساعد من يريد الزواج بمبلغ محترم من المال..ويصلح بين المتخاصمين..ويعود المريض..ويمشي في جنازة المتوفي حتي وإن كان لايمت له بصلة..ولم يكن متشددا في الدين..فهو يستمتع بالأغاني الجميلة..ويناقش أفكار المختلفين معه بمنتهي الهدوء والتسامح..ولأنه محترم جدا فلم أجد مبررا يجعلني أقترب منه..لا أقترب إلا من الحشاشين..ومدمني أفلام البورنو..وأصحاب الآراء الشاذة في الدين..والجنس..والسياسة (الثالوث المحرم..أو تابوهات المجتمع)..أنا هكذا..لا أجد متعة إلا في مصادقة الخارجين علي النص..
* * *
قال الرجل وهو يضع إحدي يديه علي كتفي بحب
- إزيك ياوائل..ممكن اتكلم معاك في موضوع
- اتفضل ياأستاذ حنفي
وألقيت السيجارة في الحوش احتراما لسنه الذي يقترب من سن والدي
نظر إلي وجهي بتمعن ليعرف أثر كلامه
- إنت عايز أيه من روح الكمال
- هاخطبها..
قلتها بالفم المليان..لا يوجد مخلوق قادر علي تثبيتي..كل الناس علي عيني ورأسي..ولكن إذا حاول أحدهم أن يكون وصيا علي..أو قاضيا..أو ناصحا..فأنيابي تظهر..وأظافري تطول..وتخربش..وتمزق..حتي وإن كان أقرب الأقربين..
- ومستني أيه
- أعرفها الأول
- طيب ماتعرفها في إطار شرعي
- دخول بيوت الناس مش بالساهل ياأستاذ حنفي..شهر واحد نكون حطينا النقط علي الحروف..وربنا يتمم بخير
- ربنا يوفقك..روح زي بنتي..ولو كنت قابلتها وانا قدك عمري ماكنت هاسيبها
مشكلتي أنني لاأثق في حسن نوايا أي إنسان..وأفهم جيدا الغرائز الوسخة والمنحطة التي تختفي خلف أسمي القيم وأكثرها رفعة..وأكثر ما يغيظني ويحرق دمي أن يقول لي أحد إنه يتعامل مع زميلة كأنها أخته أو ابنته..فأعكسها..وأعرف أنه يشتهيها جنسيا بتوحش..ولأنها قد تكون متزوجة..أو صغيرة في السن فإنه لايتصور نفسه بهذه البشاعة واللأخلاقية..ويحاول أن يخترع تلك الحيلة اللفظية التي يحاول تأكيدها للآخرين..بينما هو يحاول تأكيدها لذاته..كل هذا يحدث طبعا علي مستوي العقل الباطن..وما يجعلني أفكر في ذلك الطريقة التي يقول بها الجملة..هل يقولها من طراطيف شفتيه وبلا مبالاة..أم يقولها من معاميق ( أعماق ولكن أردتها أن تكون علي وزن طراطيف) قلبه..لذا كانت هناك علامات استفهام كثيرة؟؟؟؟؟؟؟
***
في الهاتف سألتني روح
- أيه رأيك في الأستاذ حنفي؟؟
- إنسان محترم..(إجابة تقليدية اعتدنا أن نقولها عن كل إنسان لانتمني أن نكون مثله)
- قوي ياوائل..وقف معايا في مشاكل كتير..باحس إنه حتة مني
***
قالت لي روح إن أختها مدرسة في كلية الآداب..وإنها تريد أن تراني..رحبت جدا وحددنا موعدا وذهبنا..كانت تكبرها بسنوات قليلة..وتشبهها إلي حد كبير..كان يجلس معها في الغرفة أستاذ عجوز مكحكح ..إحدي قدميه في الدنيا..والأخري في الآخرة..عرفتني روح عليه قائلة
- الدكتور حفظي..جوز أختي
حاولت أن أخفي دهشتي..ووضعت في فمي حذاء قديما..وسكت..جاء الساعي بالمشروبات المثلجة التي قللت من حدة الحر والاستغراب والتحفظ..ولأنني مهتم بالأدب بحكم دراستي وقراءاتي الحر ..فقد دار حوار لذيذ وثري عن شكسبير..واللورد بيرون..وجون ملتون..وإليوت..وتشارلز ديكنز..وفرجينيا وولف..
وقال الدكتور حفظي بأنه حصل علي الماجستير والدكتوراه في جامعة أوكسفورد..وكان تخصصه في شعر ألكسندر بوب ..وحكي لي عن الشعب الإنجليزي كثيرا..وكيف أنه يقدس الصدق والصراحة..وأنهم يعتبرون الشخص سريع البديهة غبيا وسطحيا..ويحترمون كثيرا من يفكر قبل أن يرد..وحكي لهم أن كلمة الحب كلمة كبيرة جدا..وتعني الزواج..وعندما تقولها لبنت فأنها تدوخ..وتظل جالسة مع نفسها أسبوعا تفكر وتدخن وتبكي وتضحك وتتذكرالماضي وتتخيل المستقبل حتي تصل إلي رأي قاطع..هناك لاتوجد حاجة إلي الكذب..وإلي اللف والدوران..إذا اشتهيت امرأة..قل لها ذلك بكل وضوح..وبمنتهي الأدب ستقبل أو ترفض..وحكي لي عن المصريين في الغربة..وكيف أنهم لايندمجون في المحتمعات الجديدة بسرعة الجنسيات الأخري كاللبنانيين والهنود مثلا..وكيف أنهم لا يتخيلون أن الخط المستقيم هو أقرب طريق بين نقطتين..وفي تعاملهم مع الفتيات يعتمدون علي نفس الأساليب الملتوية التي يتبعونها هنا في مصر..وقال لي أخيرا إن المصريين يظل لديهم هوس الرجوع في كل لحظة..هل جربت التوقف عن التدخين؟..أنا جربت وفشلت ..في كل لحظة سيصعد وحش كبير علي أبراج عقلك ويصرخ: ارجع ..ارجع..كل لحظة بتقضيها بعيد عن السيجارة(مصر) لحظة ضايعة من عمرك..ارجع ماتبقاش عبيط..ارجع..لحد ماترجع..وتخسر صحتك الجسدية في حالة السجاير..وصحتك النفسية في حالة مصر..مصر ياوائل بلد مستحيل يتعاش فيها..سافر أي بلد أوربي واتفرج الناس عايشين إزاي..هناك مافيش حاجة ناقصاك..كل اللي انت عايزه بتلاقيه..هناك لو انت بتحب الحياة هتلاقي الحياة فاتحالك حضنها الكبير قوي..هنا زي مانت عارف..هتاخد فوق دماغك..كل واحد عينه علي غيره أربعة وعشرين ساعة..دا بيحب..دا اتجوز..دا سافر..دا اشتري..دا باع..دا محترم..دا ابن كلب..كل كلامنا عن الناس مش عن نفسنا..مش إحنا بنحلم بأيه..وأيه اللي بيخلينا مبسوطين..عارف أيه اللي بيخلينا مبسوطين هنا إننا نشوف الناس زعلانة..واحد طلق مراته..واحد سقط في الكلية..واحد سافر برة وراجع إيد ورا وإيد قدام..هي دي العيشة في مصر..إن عشت أغلب عمري هناك..وباندم إن رجعت..البنت المحنونة دي – وهو يشير علي أخت روح- هي اللي أصرت تتجوزني..ولاحظت أنا ذلك أيضا فقد كانت تتعامل بحنان بالغ..تسنده وهو يسير..تضع كوب العصير بالقرب من يده..وكل كلامها له (اتفضل يا أستاذي)..
المهم أنني ارتحت للدكتور حفظي ..وأخذته رقمه..وقال وهو يضحك ضحكة محيرة
- أيوة ياسيدي ..ماانت هتبقي عديلي..
كلمت الدكتور بعد ذلك في التلفون فوجدته يقول لي
- ياوائل كلمة من راجل لف الدنيا..اخلع ..دي عيلة سايكو..إنت زي مش واخد بالك إن روح دي عندها اكتئاب..البنت اللي تتجوزها لازم تكون مرحة..بسيطة..الضحكة اللي علي شفايفها عصير فراولة..ياوائل دي مش شبهك..
- طيب حضرتك اتجوزت اختها ليه
- ياوائل أنا راجل اتربيت في أوربا..يعني استحالة أعمل حاجة زي كده..أنا عندي سبعين سنة..وهي سبعة وعشرين ..أزاي..هي اللي طلبت ده..وقالت لي إنها مش تتجوز حد غيري.. وإنها من الآخر مالهاش في الجنس..وكنت عايش لوحدي..وعايز حد يخدمني..قلت أيه المانع..مادام بكامل إرادتها..
- وفي البيت وافقوا؟
- بيت مين يا أستاذ..كلهم من نفس العينة ..باباها خلص كلية التجارة من هنا واتجوز وراح اشتغل محاسب في السعودية..وخلف كل أولاده هناك..بعد عشرين سنة رجع..حط فلوسه عند الريان (شركة توظيف أموال كان يباركها الشيخ الشعراوي)
وبعدين خدها الغراب وطار..اعرفها قاعدة ..مافيش طفل مصري يتربي في السعودية إلا ويبقي مريض نفسي..هناك الحياة مزيفة..مصطنعة..منزوعة الطعم والسم..حياة ورق كرتون..مصر بلد بحر متوسط..تبع أوربا..أما السعودي نفسه فالحياة بالنسبة له طبيعية جدا..لأنه بيقدر يعمل كل المحرمات والمنكرات في السر..المصري هناك إقامة الحد عليه أسهل من رمش العين..لأن مصر دولة ضعيفة وما تقدرش تجيب حقوق ولادها..تقدر السعودية تقيم الحد علي أمريكي..أو بريطاني..أو ألماني..مع إن الأجنبي بيعمل في السعودية كل حاجة..بيشرب خمرة..وبيزني..وبيلعب قمار..ومش في السر..دا تحت عين الحكومة..ورعايتها..اللي بيحكم الحياة قانون القوة والمصلحة مش الأقوال الجميلة..والشعارات الجميلة..الحلال والحرام مش موجود ألا بين الفقرا..الغني يقدريعمل كل الحرام بطريقة حلال جدا..الزني يبقي جواز شرعي وعرفي ومسيار..والسرقة تبقي استثماروتوظيف أموال..والقتل يبقي دفاع عن النفس..أو قتل خطأ..الغني يقدر يجيب محامي كبير يطلعه زي الشعرة م العجين من أي قضية..
- الكلام معاك ممتع جدا يادكتورحفظي ..إحنا تقريبا أفكارنا واحدة..وأقوي صلة في الدنيا هي صلة الأفكار مش صلة الأرحام..عارف يادكتور الكلمة اللي أنا قلتها دي شكلها ضد الدين أما لو زودت عليها وقلت إن علاقة مصعب بن عمير بالصحابة أقوي من علاقته بأهله شكلها هيختلف..
- الناس في مصر ياوائل بيخافوا يفكروا..لأن التفكير متعب..وعايز بحث..وقراية..والقراية عايزة كتب..والكتب عايزة فلوس..والفلوس يادوب بتكفي الأكل وفواتير المية والكهربا والتلفون..الناس معذروة..الحكومة دايسة عليهم بالقوي..الناس عندهم مشاكل مادية متلتلة..تيجي أنت تحط عليها مشاكل فكرية كمان..مصر لو خيرها اتوزع ببعض العدل علي أولادها هتتفرج عليها..مصر بلد مش ساهلة ياوائل..مصر كبيرة قوي ..أكبر مما تتصور..حضارة بحق وحقيق
***
بعد أن تخطب ..ستكتشف في الأيام الأولي أنك قد تورطت..ستلحظ كل العيوب التي كنت غافلا عنها..وستري في وجهها أشياء غريبة ستنفرك منها..وستظل تسأل نفسك كل لحظة هل كان اختياري صحيحا..ألم أكن أستحق فتاة أفضل منها..وخصوصا عقب رؤيتك لفتاة أجمل منها..تذكر دائما أن البنات- كالملابس – جميلات فقط وهن خلف الفاترينات..واكتشفت أنني تورطت..احتقرتها عندما أخبرت الأستاذ حنفي بكلامي معها..هي ليست طفلة في المرحلة الإعدادية لتفعل ذلك..لابد أن أخلع ..وليكن ما يكون..وثانيا هي ليست جميلة علي الإطلاق..كيف كنت أراها جميلة؟..هل كنت معصوب العينين؟؟.. وثالثا كئيبة..ونادرا ما تختار موضوعا شيقا لتتحدث فيه..ورابعا بخيلة..ولم يحدث أن أتصلت بي..كل ما تفعله هو إرسال الرسالة المستفزة ( كلمني شكرا)..الكرم ليس علاقة بالفقر والغني..لأنه شيء معنوي وإن أخذ شكلا ماديا..والتعفف الذي وصف به القرآن بعض الفقراء هو قمة الكرم..الكرم الذي هو رغبة في العطاء لا الأخذ..وهي لم تكن تستحي من الطلب..ومرحها لم يكن يظهر إلا في تلك اللحظات
- مش هتعزمني علي الغدا النهاردة..أنا واقعة من الجوع..
في البداية كان هذا يفرحني جدا..فمن الجميل أن تتلاشي الحواجز بسرعة بين المتحابين..وأن يكون لكل منهما دلال علي الآخر..ولكن كما تقول أمي – السيدة البسيطة غير المتعلمة- لايوجد أثقل من ابن آدم (وان كان حبيبك عسل ماتلحسوش كله)..أصبحت عاجزا عن رؤية أي شيء جميل فيها..وأردت أن أخلع بطريقة محترمة وشيك..ولكن القدر كان له رأي آخر..
* * *
كانت ساندرا قد أصبحت كل شيء في حياتي..وكنت أحكي لها عن أعمق خلجات نفسي..ولما كنت أعرف أن علاقتنا بعيدة عن الحب..والزواج..والمستقبل..وهو ما لايخفي علي أي أحد يفكر بطريقة منطقية..ولكن رد فعلها الغاضب جدا جعلني أفهم شيئا جديدا عن عالم النساء..وهي أنهم يعيشون في واقعية سحرية..وليس في الواقع الذي يحيا فيه الرجال.. يعيشون في الواقعية الطفولية التي يحيا فيها الأطفال..الذين يبنون بيتا علي الرمل ويتصورون أنه حقيقي..أو عندما يقعون من علي الكرسي يضربونه ويسبونه كأنه شخص من لحم ودم..النساء أيضا يفعلون ذلك..كانت ساندرا تتعامل معي كأني زوجها..وأن علاقتنا ليس فيها أي شبهة حرام..فهي مسيحية ملتزمة جدا..تذهب إلي الكنيسة أيام الأحد والجمعة..وتصوم..وتذهب إلي زيارة القديسين والقديسات في أنحاء الجمهورية..من الطريف أن بعض المسلمين يتصورون أن المسيحية واليهودية أديان تدعو إلي الانفلات والانحلال..وأن الزني ليس محرما فيهما..وأن البعث بعد الموت والحساب والجنة والنار أشياء قاصرة علي الإسلام فقط..وأنه في عيد القيامة المجيد يطفيء القسس الأنوار ليتبادل المصلون القبلات وماهو أفظع وأضل سبيلا..لاشك أنها فكرة سينمائية جدا..وتشبع رغبة مكبوتة في العقل الباطن..ممارسة الزنا الجماعي في دار من دور العبادة( الله يخرب بيتك يافرويد .. بوظت دماغ البشرية بالنظرية بتاعتك..فعلا يهودي ..)..كان رد ساندرا
- عايز تخطب مين؟
- روح الكمال مدرسة الرسم
- وأيه اللي عاجبك فيها دي مريضة نفسيا..
- كل الحكاية إنها محترمة ..وفي حالها..وباحس إني خايف عليها..وعايز أحميها
- إنت سخن ياحبيبي ..أكلملك جوزي يوصفلك حاجة..إنت من إمتي بتحب حد غير نفسك..ومن إمتي بتخاف علي حد.. قول إنك عايز تنام معاها..وبلاش تلف وتدور..وعلي فكرة اللي زي روح دي هتلاقيها قطة مسعورة ع السرير..الكبت هينفجر زي البركان..مش دا اللي نفسك فيه ..عايز تجرب واحدة خام ولسة بشمعها..ممكن اعمل كده..إنت جيت في جمل..إيشارب نازل لوسطي ..وعباية واسعة..وعملية ترقيع..وابقي زي مانت عايز.. وروح دي بقي بتعرف تتكلم..
وترد علي كلامك..
- أيوة
وأنا أعطيها هاتفي
- شوفي الرسايل اللي بتبعتهالي
- الله ..دي شاعرة زي حالاتك..كل الكلام ده يطلع منها..
وفي هذا اليوم رفضت بإصرار أن أقترب منها
اليوم الأخير في علاقتي بساندرا وروح
استيقظت من النوم علي رنة رسالة علي هاتفي المحمول..فتحتها..توقعت أن تكون رسالة جميلة من ساندرا..أو روح..أو نرمين..وخاب توقعي..كانت الرسالة
- أقل إنسان محترم في الدنيا محترم أكتر منك..للدرجة دي إنت شخص سافل ومعدوم الضمير ومشاعر الناس ملهاش أي اعتبار عندك..
أعرف رأيي في نفسي..ولكن أن يكتشف الآخرون ذلك..فتلك مصيبة كبيرة..كان شعوري لحظتها فضولا وحب استطلاع أكثر منه غضبا..بل لم يكن غضبا علي الإطلاق..بل كان فرحا شديدا..إذ كان في تلك الرسالة خلاصي من علاقة مملة ومريضة..نفس الإحساس الذي يأتيك عندما يتوقف مدرس عن ضربك ..ويمطرك بأبشع الشتائم..ثم يعفو عنك..ويطلق سراحك..لذا فالشتيمة في هذا الوقت كالعسل علي القلب..إنها فرمان بالحرية..والانطلاق..وعناق السماء..
اتصلت بها أكثر من ستين مرة..وكانت تتجاهل اتصالي..اتصلت بساندرا ..هاتفها مغلق.. وبنرمين..لاترد أيضا..مالحكاية..فوجئت باتصال الأستاذ حنفي
كان يتكلم بهدوء كعادته
- كنت فاكرك أحسن من كده ياوائل
- أنا مش فاهم أي حاجة ياأستاذ حنفي
- ربنا ستر أنا لحقتها كانت هترمي روحها من الدور الرابع
- للدرجة دي
- أيوه ياسيدي..واحدة قالتلها إنك بتوري الرسايل اللي بتبعتهالك لساندرا..اللي انت علاقة بيها ..وبتروح شقتها اتنين وجمعة.. وانا مش مصدق إنك تعمل كده خالص..أنا واثق إنك محترم جدا..والموضوع فيه سوء تفاهم..
- أنا عارف مين اللي قال كل دا..الحكاية يا أستاذ حنفي إن ساندرا بتحبني جدا..وعايزاني أعمل معاها علاقة في الحرام أستغفر الله..وانا رافض..أنا عايز اتجوز واستقر..صحيح أنا اتشقيت شوية أيام الجامعة بس ربنا هداني
- كلنا مرينا بالمرحلة دي ..أنا كنت واثق أنك مستحيل تبقي بالقذارة دي ياوائل..ماتقلقش..أنا هاكلمها..وهاشرحلها الموضوع..
نزلت من علي السرير..وتوجهت إلي الحمام ..أخذت حماما ساخنا..أرتديت ملابسي علي عجالة..فتحت التلاجة..تناولت قطعة كيك..كان الشاي قد غلي علي النار..صببته في فنجال (لفظ المج أصبح أكثر تداولا..اللغة العربية عليه العوض ومنه العوض) عزيز علي نفسي لأنه هدية ساندرا الأولي لي..أشعلت سيجارة..وكنت أشرب الشاي وأعاتب الفنجال..لم أتخيل أن تكون نهايتنا ياساندرا علي هذا النحو البغيض..سريعا انتهيت من الشاي..ومن السيجارة..ومن عتاب الفنجال..ركبت السيارة..تحسست المقعد الشاغر بجواري متذكرا قديستي العاهرة التي طالما وزعت بركتها ولعنتها عليه ..وعلي قلبي..وذاكرتي..في أقل من خمس دقائق كنت أمام بوابة المدرسة..وكان الأستاذ ياقوت جالسا في الشمس كعادته بجريدته وصلعته اللامعة..بمجرد أن رأي سيارتي رأيته قادما تجاهي وهو يجري ويلهث ويقول من خلال أنفاسه المتهدجة (إحدي جمل كتابنا الجهابذة) ويهز ساعديه علي طريقة النسوان عندما يزفون إليك فضيحة يتمنون أن يفعلوها مثلك
- فضيحتك بجلاجل في المدرسة..وسيرتك علي كل لسان..دانت طلعت مجوسي..وعبد الفتاح كتكوت بجلالة قدره ما يجيش جنبك حاجة..المزتين اللي في المدرسة يامفتري علقتهم بالسرعة دي..دانت طلعت أستاذ علي رأي وديع (جملة كانت تقال في إعلان علي قناة ميلودي وكانت ذائعة الصيت وعلي ألسنة كل شباب مصر العلوج)
- احكيلي الموضوع بالتفصيل
- كان آخر يوم لساندرا في المدرسة النهاردة
- آخر يوم!!
- أيوة ..مهاجرة كندا مع جوزها الأسبوع الجاي
تذكرت أن فتحت معي هذا الموضوع في بداية علاقتنا..وعندما سألتها عن السبب
ردت
- يابني إنتو بتكرهونا.. واحنا عايشين مهددين..إنت عشان مابتصليش..ماتعرفش الشيوخ بيقولوا عننا أيه في الجوامع..
أثناء وجودي معها كنت أستحيل إنسانا بدائيا عاجزا عن الدخول في أي مناقشة جادة..وكنت أكتفي بالصمت..وبالنبيذ..وبالقبلات في كل ذرة من ذرات جسدها..من يصدق أن هذه الأيام انتهت..وصارت ذكريات مستلقية علي التراب بجوار أوراق الخريف..لا أصدق أنها كانت حقيقة..أراها الآن حلما عابراخاطفا لايمكن استبقاؤه ولو للحظات قلائل..سنة الحياة التي يجب التسليم بها..نزلت من سمائي إلي أرض الأستاذ ياقوت
- وبعدين يا ياقوت
- ولا قبلين..قبل ما تمشي قعدت تحكي علي إنك كنت بتجري وراها..وبتكتب فيها شعر..وبتكلمها في التلفون..وبتغير عليها..ومش عايزها تتكلم مع حد غيرك..وهي كانت بتاخدك علي قد عقلك..عشان هي مابتحبش حد يزعل منها..وحذرت روح الكمال منك وقالت لها إنها اكتشفت إنك علي علاقة بواحدة جارتها اسمها نرمين..
قلت في نفسي مبتسما( ماتبقاش ساندرا..لو ماعملتش كده) ..ونظرة ياقوت إلي علبة السجائر جعلتني أتذكر أنني لم أعزم عليه بسيجارة بعد..ففعلت..
زواج الأستاذ حنفي من روح الكمال
لم أفاجأ كثيرا بهذا الخبر..فقد كنت أتوقعه..كنت أعرف أنه يحبها..وهي أيضا تحبه..ولكنه كان حبا يحتاج إلي شيء من التأمل..كان يبدو أنه رجل قضي حياته سائرا علي الصراط المستقيم..أو الشاب الذي نشأ في طاعة الله كما يقولون..من البيت إلي العمل إلي المسجد..وقضي الفترة الأولي من شبابه فقيرا يكاد يجد الستر علي حسب ما وصل إلي سمعي..وفي اعتقادي أن تلك الشخصية هي التي تمر بأزمة منتصف العمر..لأن المراهق المسجون في أعماقها والذي لم يعبر عن نفسه في يوم ما يظل يطارده ..ويلح عليه..ويضغط علي أعصابه..وهاهو يفاجأ بأن قدرته الجنسية تضع الملابس في حقيبتها لترحل بلا عودة..هو الآن بين قطبي الرحي..وبين فكي الكماشة..تلك الشخصية عاشت وهي تضع نظرة الناس واحترامهم فوق كل اعتبار..والسمعة الطيبة هي القيمة الأسمي في الحياة..هكذا يعيش فترة طويلة من الحياة..ولكن لأنه يتمتع بدرجة ذكاء أعلي من الناس العاديين هي التي جعلته ينجح كتاجر..فهو يفهم الدين بصورة متسامحة جدا..الدين معاملة..وأخلاق..ولايوجد ضررمن الترويح علي النفس بالاستماع إلي الأغاني..ومشاهدة الأفلام..وفي المشاهد الإباحية سيغض بصره..وعندما تخطي الخمسين أصبح الموضوع حرجا جديدا..كل المواقف المسكنة لم تعد ناجعة..واليوم الذي يذهب لايعود مرة أخري..ولابد من اتخاذ خطوبتها..وأخفي سروره عندما انقطعت علاقتنا..الآن صارت الساحة فارغة..فليهنأ بها..وهناك نقطة ثانية وهي خاصة برغبة الكهول في الارتباط بفتيات في العشرينات من عمرهن..إنها الرغبة في استعادة العمر الذي تسلل كالرمل من بين أطراف الأصابع..إنها الرهبة من الشيخوخة..والعجز..والموت..أما عن روح الكمال شوقي فقد كانت شخصية هشة ضعيفة..عاجزة عن مواجهة الواقع..إنها نتاج تربية الشقق المغلقة في السعودية..حيث كل شيء صناعي..الحواديت مصدرها التلفاز لاأفواه الزملاء والزميلات..والهواء مصدره التكييف لا الطبيعة..وكم أشفق علي زملائي الذين يتصورون أن إبعاد أولادهم عن الشارع وإرسالهم إلي مدارس خاصة فيها تلاميذ من مستوي مادي معين شيء في صالهحم..متجاهلين أن الطبيعة تبدأ بالاختلاط وبعد ذلك تأتي الغربلة والتصنيف ..بعد أن تضيق دائرة معارفك مع مضي العمر..في الابتدائية يعرف الطفل أصدقاء من مختلف الطبقات والشوارع..في الإعداية تضيق الحلقة ويصادق من هم يشاركونه التفوق الدراسي أو هواية معينة..في الثانوية تضيق الحلقة أكثر..ولست أقصد عدديا..ولكن كيفيا..بمعني أن الشخص تصبح له شروط أكثر تحديدا في نوع الأفراد الذي يقترب منهم.. ولما كانت روح هكذا..وكان يبدو أن والدها أقل من أن تحكي له عنه..قالت لي إن رجل طيب..وصامت طول الوقت..ولايخرج من المنزل (القوقعة) منذ عودته من السعودية..أذكر أن قابلت أخاها الذي يدرس في كلية الهندسة ذات يوم وجلست معه في المكتبة..كان اسمه علي ما أتذكر سعيد ( أو سعد..حاجة أولها سين)..وكان خجولا جدا..ويبدو في عينيه الهلع من الناس..والشك في أنهم يسخرون منه..أو يرغبون في إيذائه..واشتكي لي أن بواب المدرسة عامله بطريقة غيرمهذبة عند دخول..وأنه – البواب- فيما يبدو كان يريد أن يسرق الحقيبة التي يحملها في يده..
مشكلة تلك العائلة- وأمثالها- أنهم يتصرفون بطريقة مهذبة من اللازم..ومشكلة الشارع المصري أنه يتصرف بطريقة وقحة أكثر من اللازم أيضا..
إذن كان طبيعيا أن تنجذب أختها إلي الدكتور حفظي..وأن تنجذب هي إلي الأستاذ حنفي..وكلا الرجلين يمتلكان شخصية قوية مؤثرة وناجحة..وقادران علي توفير الأمان الذي يفتقدونه..إن الرغبة في الإحساس بالأمان أكثر أهمية من الجنس..ولايشعر بها إلا من يفتقدها..ربما اكتشف الإنسان البدائي الجنس من خلال بحثه عن الأمان..عن درع يحميه من مخاطر الغابة..حيث الحيوانات المتوحشة..وأشباح الصمت والظلام..والدليل أن روح رفضت أكثر من شاب تقدم لها..كانت تريد رجلا ناضجا غنيا قادرا علي حمايتها..ولم أصدق يوما أنها قد تنتحر من أجلي..لايوجد إنسان ينتحر بسبب إنسان آخر..استحالة..من ينتحر يفعل ذلك لأسباب خاصة جدا..وفكرت أيضا أن فتاة كروح الكمال لايمكن أن تحب أحدا كبيرا أم صغيرا..لأنها لا تحب نفسها..لا تحب الحياة..وكانت ساندرا تقول لي إنها تقف أمام المرآة في الحمام بالساعات..كأنها لاتصدق أنها موجودة..كأنها تودع نفسها قبل أن ترحل..من ينامون فقط علي سرير الموت هم من نطمئن عليهم كل دقيقة وأخري..ونضع أيدينا علي نبضهم منتظرين الخلاص الي نخشاه..ولكن حتما أن يجيء..ونفسها كانت تحتضر..تمشي كمن تسير في جنازة روحها..ورغم تعاطفي معها..وتقديري لظروفها كنت أتحاشي رؤيتها..خوفا من أن تمتص روحي..وبهجتي..وفرحتي بالحياة..نفس الشعور كان يأتيني كلما رأيت الأستاذ حنفي..هما الاثنان نسختان متطابقتان..وتزوجا في صمت..طبعا بعد حريق الهمز واللمزوالقيل والقال في المدرسة ..وسيل الدموع والحزن في منزله..وكان رده
- أنا ماباعملش حاجة حرام..
في مصر العادات والتقاليد لها سطوة أكثر من الحلال والحرام..فطالما تعارف الناس علي شيء فهو حلال حتي وإن حرمته الأديان السماوية..
10
رفعت السلاموني أمين المكتبة
كان قارئا ممتازا في جميع المجالات..وكنت أستمتع بالجلوس معه..وكان متشائما خفيف الظل..فيقول بعد أن ينتهي من قراءة جرائد المعارضة
- مصر داخلة علي أيام سودة..ياعزيزي وائل استمتع بالسيء فالأسوأ القادم..الدولة ماعادلهاش هيبة خلاص..والجماعات الإسلامية طايحة في البلد..والحزب الوطني طايح في البلد..وأثيوبيا عايزة تمنع عننا المية..وانت وعبد الفتاح كتكوت طايحين في النسوان .. إحنا خلاص داخلين علي مرحلة الصومال..وهنشتغل قراصنة إن شاء الله..
رفعت في الخامسة والأربعين من عمره..وأعزب..وأنيق أناقة الفقراء..وقيل بأنه تقدم إلي روح الكمال ورفضته..ولكنني لم أصدق ذلك ..ولم أسأله..إذ لم ألمح في عينيه أي رغبة جدية في الزواج..متعته الحقيقية كانت في القراءة..وفي المناقشات الفكرية العميقة..قلت له محاولا استفزازه
- عيبك الحقيقي يارفعت أنك تسقط إحباطاتك الخاصة علي وضع البلد..مصر الآن أفضل كثيرا مما سبق..هناك هامش معقول جدا من الحرية..والحكومة تقريبا لاتمنع فيلما من العرض مهما كان موضوعه ..من يصدق أن تسمح الرقابة بعرض أفلام من عينة (عمارة يعقوبيان) و(هي فوضي)و(حين ميسرة)و(الجزيرة)..وجرائد المعارضة تنتقد الرئيس وعائلته بشكل سافر..وتقريبا لايكاد يوجد كتاب ممنوع..لافتات أحمد مطر تملأ السوق..وقصائد أحمد فؤاد النجم تذاع علي القنوات الفضائية..ورواية نجيب محفوظ ( أولاد حارتنا) سمحت الدولة بنشرها رسميا ..
- كان السادات الله يرحمه يقول بأن المعارضة جزء من النظام..
- أولا لايوجد فرق بين السادات ومبارك علي المستوي السياسي.. كلاهما انبطح تحت أمريكا وإسرائيل ..وأعتقد أنه كان قرارا سليما فعنترية عبد الناصر لم تكن ملائمة في تلك الفترة لأننا كنا أضعف من ضعفاء..وأمريكا كانت في ذروة قوتها..الفرق بين السادات ومبارك كان علي المستوي الشخصي فقط..الأول كان يمتلك كاريزما جبارة..وأسلوبيا خطابيا خاطفا للأسماع والألباب والقلوب..وكان حشاشا..والشعب المصري يعبد الحشاشين عبادة..
- يكفي السادات حرب أكتوبر 1973
- ماهي المكاسب السياسية التي عادت علي المواطن المصري منها..لم يستفد منها إلا القطط السمان..وثانيا هي ليست حربا بالمعني الكامل للكلمة..إنها أشبه باللكمة التي توجهها لخصمك فتجعله يترنح..ولا تجعله يسقط..كل هذا لأن المعلمة الكبيرة أمريكا نظرت نظرة حمراء للواد السادات فتوقف عن ضرب خصمه..
- ألا تري أي إنجازات للسادات؟
- بالعكس أراه زعيما مهما..اعتلي عرش مصر في منعطف شديد الوعورة..وخلال الإحدي الإحدي عشر عاما التي حكم خلالها مصر لم يذق طعم النوم..من ثورة تصحيح.. إلي إضرابات الطلبة مطالبين بالحرب ..إلي الحرب..إلي التوقف عن الحرب..إلي المظاهرات الرافضة لوقف الحرب..إلي الجماعات الدينية المتطرفة.. إلي الذهاب إلي إسرائيل إلي الإنفتاح الاقتصادي إلي ثورة الجياع..إلي اغتياله..كل هذا تقريبا في عشر سنوات..الرجل لم يذق طعم الراحة..أنا في رأيي أن ماحدث هو ماكان يجب أن يحدث..وأنا مع قانون الحتمية التاريخية..والطبيعية..كان هناك انغلاق شديد في فترة عبد الناصر..حتما يجب أن يكون الانفتاح بحجم الانغلاق..دعك من المقولة الحمقاء انفتاح السداح مداح..رئيس الجمهورية ليس سباكا ليظبط جلدة الحنفية..وأريد أن أقول لك رأيا قد يصدمك ..لايوجد بلد في العالم يخلو من الديمقراطية..بمعني أن رئيس جمهورية أي بلد هو خير من يمثلها في تلك الفترة..هل تذكر حديث الرسول (كما تكونوا يولي عليكم)..هذا بالظبط ماأريد أن أقوله..إنها ديمقراطية خفية..أو ديمقراطية ربانية..وأرجو أن تفهم كلمة ربانية بمعني اللاوعي الجمعي..إذا أردت أن تفهم شخصا فلا تستمع إلي ما يقوله ولكن استمع إلي ما لايقوله..وإذا أردت أن تفهم شعبا اتبع نفس الطريقة..الناس علي سبيل المثال ينتقدون الراقصة دينا والمطرب الشعبي الرقيع سعد الصغيرومع ذلك حلم كل شخص أن يستطيع إقامة فرح لأحد أنجاله ويتمكن من إحضارهما لإحيائه..أي لبعث الحياة فيه..هذا ما يجب أن تنتبه إليه..
- إذن أنت مع المقولة التي تقول:
السياسة هي تحقيق ماكان سيحدث بالفعل..
- معها تماما..لأن الناس في وجهة نظري كائنات غير مفكرة علي عكس ما يعتقدون..وأنهم يتصرفون بوحي غرائزهم كالحيوانات..وكل تصرفاتهم يمكن إدراجها تحت التقليد أو التكيف..
- أنت تلغي دور الإرادة الإنسانية..
- الإرادة موجودة..ولكن ما أقل من يشعر بوجودها..الكل يسير خلف القطيع..والمغامرون معدودون علي الأصابع في كل مجتمع..والناس تعتبرهم مجانين..حتي يأتي اليوم الذي يتمكن فيه المجانين من فرض أفكارهم علي أرض الواقع..
- آرائك ياسيد وائل كلها آراء فاسدة..ونصيحتي لك التركيز في موضوع النسوان..فمن الواضح أنك لاتجيد شيئا في الحياة سواه..وزي ماباقولك مصر داخلة علي أيام سودة طول مافيها أمثالك إنت وعبد الفتاح كتكوت..
قلت له ضاحكا
- هل تعرف أساطير الطبيعة الأربعة
قال
- لا..زدني علما
قلت
- اسمع ياسيدي..هناك أربعة أساطير حول الطبيعة..هناك إناس يعتبرونها سخية وكريمة إلي أقصي حد..وهؤلاء هم الفرديون والعصاميون ورجال الأعمال.. وهناك أناس يعتبرونها بخيلة وظالمة وهؤلاء هم الثورجية والمتشائمون سواء انضموا إلي أحزاب معارضة أم لا..المهم أنهم عاجزون عن رؤية أي شيء إيجابي..وشعارهم أن الأسوأ قادم مثل حضرتك ..ويدهشهم أن تسير الأمور علي مايرام..لأنهم يعيشون علي الاعتراض والنقد والغضب..وهناك أناس يعتبرون الطبيعة متقلبة ويقولون بأنها مثل الراقصة التي ترقص لكل إنسان بعض الوقت أو مثل الخيارة ..وهؤلاء هم القدريين والفقريين الذين يعيشون في القري والنجوع والعشوائيات وينتظرون ثروة تهبط عليهم من السماء..وهناك أناس يعتبرون الطبيعة مزيجا من كل ذلك وهؤلاء هم البيروقراطيين الذين يحملون ولاء كاملا للنظام الذي يعملون في ظله..وهم أغلب رجال الدولة..هذا هو تصنيف علماء الاجتماع لبنية أي مجتمع..ألا تشعر أن جميع هؤلاء الأنماط غاضبون..رجل الأعمال يشكو..والموظف يشكو..والرجل البسيط يشكو..والناقمون يصرخون..
- ومعني كلامك؟
- أن البلد علي وشك انفجار..عشان البلد محتاجة تترص من أول وجديد..نظام حسني مبارك تقريبا انتهي خلاص..أصبح بيستمد استقراره من فئة قليلة جدا في البلد..يعني خير إن شاء الله..مصر هتحلو..وبكرة تتفرج عليها..
- يسمع من بقك ربنا..
- بتقولها من ورا قلبك ليه بس
- ياوائل ارحمني..أنا راجل داخل علي سن اليأس ..ومش ها ستحمل أكتر من كده..
هكذا تنتهي دائما حواراتنا..
***
رفعت السلاموني ..كلاكيت تاني مرة
يدخن السيجارة بقرف..كأنه يلعن اليوم الذي عرفها فيه..ولكنه لايدخن كثيرا..العلبة تكفيه لمدة ثلاث أيام.. ويرفض التدخين أثناء المشي في الشارع..أو أمام الناس الذي يجلس معهم لأول مرة..ويعشق قزقزة اللب السوري( العباد..الذي يستورد من الصين حاليا) أثناء الفرجة علي برامج التوك شو..ويرفض فكرة السفر خارج مصر بتاتا ألبتة..يعتبر ذلك خيانة..ولا انتماء..برغم كل شيءيجب أن نتحمل..ونقاوم..وإما أن ننجو بها..أو نهلك معها..ويعلق قصيدة أمل دنقل (مقابلة مع ابن نوح) علي إحدي جدران غرفته..تلك التي يتحدث فيها عن أن الجبناء فقط هم من يركبون السفينة ويدعون الوطن يغرق..وأن الشجعان هم من يبقون وينزحون الماء ليتمكنوا من إنقاذ مايمكن أنقاذه..وكنت أري في ذلك رومانسية شديدة..وأقول له راغبا في استفزازه لأري علامات الغيظ الطفولية علي وجهه:
- أنا لا أعتبر نفسي مواطنا مصريا..أنا إنسان قبل كل شيء..ووطني هو العالم..أنت مهموم بمستقبل مصر..وأنا مهموم بمستقبل العالم..أنا أتوقع أنه ستتلاشي الحدود بين الدول..ويصير العالم دولة واحدة..
فأري علي وجهه ماكنت أرغب في رؤيته..وأستلقي علي ظهري من الضحك..فيقول وهو ينفخ ..ويخرج سيجارة لإشعالها
- القعدة معاك بتخليني أولع سجايركتير..أرجوك ياوائل ارحمني شوية من آرائك الشيطانية..
- تفتكر يارفعت الراجل لو مات من غير ما يتجوز تعتبر تجربته الإنسانية مكتملة..
أجمل ما فيه أنه مستعد دائما للحوار..ينجعص (عذرا..فلا يوجد لفظ في العربية الفصحي قادر علي إيصال هذا المعني) علي الكرسي ويقول
- اسمع ياسيد وائل..لما تبقي قدي في السن..يعني فوق الأربعين..هتكتشف إن شهوة الجنس تلاشت تماما.. وتاني شيء بتفهم الحريم قوي..والجواز عايز واحد مغفل..ومندفع..وبياخد بالمظاهر..أول ماقدرت أعمل شقة كان سني ستة وتلاتين..ومجال اختياري ضاق..ضاق جدا..كان المتاح واحدة فوق الخمسة وعشرين..واحنا حضرتك عايشين في سمنود..يعني في أرياف..والبنت اللي بتوصل السن ده من غير جواز بتبقي بايرة..واللي في قعر القفص زي مابيقولوا..عشان تتجوز ما ينفعش تبقي عاقل قوي..وخصوصا ربنا ابتلاني بداء وسخ وهو داء القراية..ومش قراية في حاجات عبيطة زي اللي انت بتقراها..قصص رومانسية وروايات بوليسية..أول كتب قريتها وانا في الإعدادي كتب زكي نجيب محمود..ونزلت القاهرة مخصوص عشان اقابله أنا وبعض الزملاء اللي كانوا أصدقائي في كلية الآداب..كان بقي عجوز جدا..وسمعه بقي ضعيف..واكتفينا بالسلام عليه..ومشينا..الله يرحمه..تالت نقطة كنت اتعودت علي حياة الوحدة والتأمل والخصوصية..أنا ماعنديش أي مشكلة أفضل قاعد مع نفسي أربعة وعشرين ساعة من غير ما اتحرك من مكاني..الكتاب..والشاي..والسيجارة..دول محور حياتي..والست الوالدة ربنا يديها الصحة وطولة العمر بتقوم بكل طلباتي..
- يعني مش نفسك في عيل يشيل اسمك
- كلام فاضي..كله بيموت وبيتنسي..اللي خلف واللي ماخلفش..رابع نقطة.. الجواز بيفرض عليك حاجات كتير إنت مش عايز تعملها..ممكن يخليك تسافر وانت مش عايز تسافر(قبله عشان تتجوز..وبعده عشان توفر حياة كريمة لأهل بيتك)..ويخليك تشتغل شغلانة بعد الضهر..وتدور في الساقية..وماتلاقيش وقت تقعد مع نفسك ولا مع عيالك..ولا مع مراتك..وفجأة تلاقي نفسك كبرت وعجزت..وتبقي غريب عن أقرب الناس إليك..وولادك كبروا وبقوا شباب زي الورد..بس ولا كأنهم يعرفوك..ولا كأنك أبوهم أصلا..إنت بالنسبة لهم بنك..فيك فلوس يقفوا قدامك طوابير ويبوسوا إيدك..مافيش فلوس آدي دقني لو واحد قالك صباح الخير يابابا..مش عايز حاجة من برة..أو فكر يقعد يدردش معاك في البلكونة...
- إنت ليه بتشوف نص الكوب الفاضي..
- الجواز فيه حاجات جميلة..اللمة حوالين السفرة في شهر رمضان..عيل يقولك يابابا..تشوف نفسك فيه..تفرح لفرحه..وتحلم معاه من أول وجديد..وتحب البنت اللي بيحبها..وتصاحب أصحابه..وتفتح الكتب اللي بيذاكر فيها..وتقارن بين أيامك وأيامه..زي ماتزرع شجرة في قصرية زرع..وترويها..وتشوفها وهي بتكبر قدامك..ومش كل الأولاد بيكونوا جاحدين..وعقوقين..الحياة مش موجودة في صفحة الحوادث بس..فيه ابن بيبقي كل حلمه إنه يعوض أهله عن التعب اللي تعبوه في تربيته..وقبل ما يتجوز يبقي عنده إصرار رهيب يخلي والده ووالدته يحجوا..
- إنت كده؟؟
- سيبك مني ..أنا ابن عاق..وتاني شيء أهلي مش مستنيين مني حاجة..البركة في اخواتي البنات..قايمين بالواجب وزيادة..اسمحلي نظرتك عدمية جدا..
فقال مستسلما
- أنا طبعا شخصية مش طبيعية..الجواز هو الطبيعي..والعزوبية شذوذ..
- مين قالك كده؟؟ الشذوذ برضه طبيعي..لأنه جزء من الطبيعة..كل إنسان بيختار الحياة اللي تناسبه..أهم شيء إن الواحد يبقي صادق مع نفسه..وتاني شيء أروع حاجات في حياتنا اللي قدمها الشخصيات الشاذة.. لا نيوتن كان طبيعي بالمعني المعروف..ولا شكسبير..ولا فان كوخ..ولا بيتهوفن..ولا أينشتين..
- يا أخي نفسي يبقي ماعنديش مبدأ كده زي حضرتك..كان الواحد ارتاح..كل رأي ليه عندك حجة ومبرر..
11
يوسف سلامة يأتي لمقابلتي
في صباح أحد أيام شهر فبراير الممطرة..وكنت أدردش مع تلاميذي في موضوع العادة السرية بعد أن انتهيت من شرح قصيدة كن جميلا لإيليا أبو ماضي في أقل من عشر دقائق كعادتي..كان الفصل في حالة من الصمت البهيج..وكانوا يستمعون باهتمام حقيقي..هاهو موضوع يهتمون فعلا بمعرفة جميع أبعاده..لأنه من صميم الحياة..حياتهم في تلك الفترة..وفوجئت بالأستاذ ياقوت يفتح الباب وإذا بالفصل ينفجر ضاحكا..كان واحدا من هؤلاء البشر الذين يمتلكون تلك الإطلالة المرحة..وبعد أن هدأوا بدأ في الكلام..تماما مثل الممثل المسرحي بعد انتهاء تصفيق الجمهور..وقال
بصوت لاهث
- عايزك ياوائل في كلمتين علي جنب
فهتف الفصل علي قلب رجل واحد
- سيبه..سيبه..
فقال
- يبقي أكيد بيتكلم معاكوا في موضوع العادة السرية..وقالها باللغة الدارجة
فازدادوا هياجا وصخبا
فتابع
- إنتوا عايزين الخيبة دي علي طول..عشان كده آدي دقني لو فلحتوا..ابقوا تعالوا اعملوا علي قبري كا كا..
وتتابعت تعليقاتهم..ولما رأيت الجدية واضحة علي وجهه علمت أن الموضوع مهم ونظرت لهم نظرة فهموا منها أن يكفوا مؤقتا عن العبث..وخرجت مع ياقوت..أمام الفصل مال علي قائلا:
- كارثة..مصيبة..نصيحتي ليك خد ديلك في اسنانك واهرب..
- إنت ضارب حاجة ع الصبح ياياقوت
- دا آخرة المشي الحرام..ياأخي ماكنت تتجوز أحسن لو كنت تعبان قوي كده..
- لو ماقلتش فيه أيه هاسيبك وادخل الفصل
- الدكتور يوسف سلامة موجود تحت في أوضة المدير..وعايزك..نصيحتي ما تقابلوش..ممكن يغزك بمشرط ولا حاجة..الجماعة الأقباط دول صهاينة..ومستحيل تعرف اللي بيفكروا فيه..
أكون كاذبا لو قلت بأنني لم أخف..ولكني نادرا ما أستسلم لهذا الشعور ..أحاول أن أحلله بعقل بارد بقدر استطاعتي..الخطوة الأولي هي إشعال سيجارة..بعدها أستطيع تقدير الأمر..إذا كان الرجل يرغب في إيذائي فمن غير المعقول أن يأتي إلي المدرسة ويجلس في حجرة المدير..ثانيا أنا لست عاجزا عن الدفاع عن نفسي..ثالثا الأطباء شخصيات مسالمة..وقلما يلجأون للعنف بتلك الطريقة..رابعا الأحداث السيئة لا تعطيك جرس إنذار..إنها تحدث بطريقة مباغتة..خامسا كنت ممتلئا بالفضول لمقابلته..ونزلت مع ياقوت الذي قال لي بصبيانية عرفت منها أنه يحبني
- أنا هاجيب شومة ..وهاقف قدام الباب..ما تقلقش
ضحكت حتي كدت أن أستلقي علي ظهري..ربما لإخفاء ما كنت أشعر به من توتر..
في حجرة المدير وقف الدكتور بمجرد دخولي..وشد علي يدي بحرارة شديدة..كان في حوالي الخامسة والأربعين من عمره..تبدو عليه طيبة أولاد الناس..ويرتدي بدلة سوداء أنيقة..وقال
- إزيك يا أستاذ وائل..أنا الدكتور يوسف سلامة..جوز الأستاذة ساندرا..
- حضرتك غني عن التعريف يادكتور..اتفضل استريح
وتدخل المدير قائلا
- الأستاذ وائل يادكتور يوسف شخصية ممتازة..وشاطر قوي في اللغة العربية..ورغم إنه في المدرسة من شهور قليلة إلا أن الطلبة بيعشقوه..وبيحبوا حصته قوي..
استغربت أن يقول عني هذا..وهو الذي لا يكف عن انتقادي..ياوائل ما ينفعش ما يبقاش معاك أجندة تحضير دروس..ياوائل ما ينفعش تيجي كل يوم المدرسة الساعة عشرة..ما ينفعش تتكلم مع الطلبة بالطريقة المنفتحة دي ..لازم يبقي فيه فاصل بينك وبينهم..
ودخل الدكتور في الحديث الجاد
- إنت عارف ياوائل إننا مهاجرين كندا..وخلاص هنسافر في خلال أسبوع أو اتنين بالكتير..وساندرا قالتلي إنك نفسك تشتري شقة في شكري القويتلي..عشان تتجوز فيها..أيه رأيك تيجي تتفرج عليها..علي فكرة أنا مش طالب فيها كتير..مية وخمسين ألف بس..يعني نص تمنها..وحلال عليك..
كانت الشقة بهذا السعر لقطة بكل المقاييس..ولم يكن من الممكن أن أدع الفرصة تفلت مني..
12
أبي لم يكن جزارا فقط ..كان تاجرا للمواشي أيضا..وكانت ثروته أكبر مما أتخيل..كنت قد فكرت أنني ربما أضطر لبيع سيارتي إذا كنت أريد شراء الشقة..وكان صعبا أن أقدم علي تلك الخطوة..فبعد أن تتعود علي السيارة لفترة يستحيل عليك أن تتصور الحياة بغيرها..إنها تصبح جزءا من ذاتك ..ومن وجودك..وعندما فاتحت أبي في الأمر قال بهدوئه المعهود
- ما تحملش هم..بس عايز أتفرج عليها الأول..
خبرة هذا الرجل في الحياة كانت تذهلني..وكان يعلمني كيف أسير في الظلام..وفي الطرق الملتوية..عندما تفرج علي الشقة أعجب بها جدا ..ولكنه أخفي ذلك أمام الدكتور وقال بمبالاة
- والله يادكتور يايوسف ..الشقة فعلا كويسة وطالعة من عيني..والمبلغ اللي انت قلت عليه أقل من اللي تستحقه ..بس أنت عارف أنا اللي طالع من جوازة البنت الكبيرة..وخدت اللي قدامي واللي ورايا..وكل الجاهز معايا دلوقت مية وعشرين..بس أقدر في خلال يومين تلاتة أتصرف في خمستاشر كمان ..بس مش ها قدر اقولك كده عشان عارف هابقي جاي عليك قوي..وانا راجل بابيع واشتري..وعارف ربنا..وما احبش الظلم..عشان كده خد فرصتك..جايز تلاقي حد يشتريها بالمبلغ اللي انت بتقول عليه..
أبي كان يعرف أن عمليات البيع تحتاج إلي طول بال..وأن الرجل لن يستطيع إيجاد زبون للشقة في تلك المهلة في هذا الوقت الضيق..وما جعله يعرضها بهذا المبلغ ليس إنسانيته معي..ولكن لأنه في ورطة ..ويريد أن يبيع والسلام..ورأي أننا أولي بمبلغ الخمسة عشر ألفا الذي خصمه من المبلغ المحدد نحن أولي به..
وفكر الدكتور قليلا ثم قال
- حلال عليك ياحاج..من غير فلوس خالص..الأستاذ وائل يستاهل كل خير..
وتمت الصفقة بنجاح..وأصبحت الشقة ملكي..وبدت لي الحياة وردية..هاأنذا أمتلك شقة في شكري مع سيارة..ولم يكن ينقصني إلا العروسة لتكتمل سعادتي..ويوم كتابة العقد رأيت ساندرا للمرة الأخيرة..ودار بيننا حوار بالعين يمكن أن يستنتجه القارئ..
13
بمنتهي الواقعية تزوجت..كما قلت لكم آنفا لم أتوقع من الزواج كثيرا..لم أنتظر حبا روائيا..ولا جنسا مشبعا..ولا استقرارا خادعا..كل ما أردته امرأة تخدمني مقابل أن أوفر لها حياة كريمة..وأن تكون طلباتها قليلة..وألا تتدخل في شئوني..ومن إحدي القري المجاورة خطبت علا النادي..كانت قريبة للأبلة برنسيسة أبو حلاوة مدرسة الزراعة..وفي كلية رياض الأطفال..ويحمل وجهها أمومة أكثرمما يحمل من أنوثة..وكان هذا هو المطلوب..وكان هذا رأي الأبلة برنسيسة التي قالت لي
- اللي ينفع واحد زيك ياوائل..بنت تكون غلبانة وعايزة تعيش..مالهاش في مياعة ومياصة بنات اليومين دول..مهما تشوف عمرها ما تغضب وتروح بيت أهلها..لو خدت واحدة مفتحة شوية مش هتعمر معاك..وطلبك عندي
- معقول يام عادل لسة فيه بنات بالشكل اللي انتي بتقولي عليه..
- أيوة ياخويا فيه..بناتنا مايرفعوش عينهم في عين اجوازهم..وإلا تنقطع رقبتهم..إنت بس شوف المعاد اللي يناسبك..واخليك تيجي تشوف علا بنت الأستاذ سمير سلفي..بلسم..وتتحط ع الجرح يبرد..ولهلوبة في شغل البيت..
وفتحت هذا الموضوع مع أحمد الرفاعي فقال لي
- كلامها مظبوط جدا..أنا وانت قناعاتنا إننا نتجوز بالطريقة الأوربية..الطريقة اللي انت تقابل واحدة واتنين..وتلاتة..لحد ماتقابل الواحدة اللي تلاقي نفسك عايز تعيش معاها باقي عمرك..بس في نفس الوقت لما تلاقي الحب مات مافيش مانع إن كل واحد يروح لحاله..دا طبعا مستحيل في مصر في الفترة اللي احنا فيها..مافيش حل لو عايزين نتجوز إننا نرتد لطريقة الآباء في الجواز..نوع البنت الموجود حاليا مش مضمون..بنت تايهة بين نانسي عجرم وبين امها..والنوع الوسط متعب..يإما نتجوز واحدة من عينة نانسي عجرم..يا واحدة من عينة أمي وأمك..
ووجدت كلامه مقنعا..وتزوجت من علا النادي ..التي أنجبت منها ابني الرضيع ذي الستة شهور محمد..
تزوجت في الشقة التي تعبق كل زاوية من زواياها برائحة ساندرا..وأيامها التي لا يمكن نسيانها..
14
أصبحت أسعد أوقاتي هي تلك التي أقضيها في المدرسة..سواء في الفصول مع الطلبة..أو في حجرة المدرسين مع الزملاء والزملاء..وكان ما يجذبني إلي أي زميل هو أن يتكلم من قلبه..ولم يكن يهمني درجة ذكائه..أو ثقافته..وكان مصطفي السعدني من هذا النوع متوسط الذكاء ولكنه جذبني إليه بصدقه مع نفسه..قال لي ذات مرة
- أنا من يوم ما تجوزت ياوائل وعندي مشكلة رهيبة
كل مشكلات مصطفي رهيبة..أكمل قائلا
- لما باجامع مراتي بقيت باتخيل واحدة تانية..وحاسس إن دي خيانة فكرية أمر من الخيانة الجسدية ..ومحتار مش عارف أعمل أيه؟..أنا حاسس إني باستمني في مراتي مش أكتر..
ولأن ياقوت ابوشوشة فالت اللسان فقد تهور وقال
- ما تقلقش يادرش..مش أنت اللي بتتخيل لوحدك..
تعكر وجه مصطفي للحظات..وسرعان ما استعاد هدوئه وقال
- إنت عارف طبعا إن كل أصحابي ملتحين..وكلمتهم في الموضوع ده..في الأول كلهم هاجموني..وياشيخ إتقي الله..ماتمشيش ورا الشيطان وعليك بغض البصر..وبعد كده علي انفراد كل واحد قاللي إني باعاني من نفس المشكلة..
قال حمدين عماشة الرومانسي
- لو اتجوزت مراتك عن حب ..عمرك ما كنت تقول كده..
فرد عليه مصطفي ساخرا من قلة خبرته
- كلنا واحنا قدك كنا بنقول كده..اللي إيده في العزوبية مش زي اللي إيده في الجواز..
سكت حمدين سكوت المحتقر لرأي مصطفي والمقتنع بصدق كل كلمة قالها..كان يعتقد في الحب اعتقادا يقينيا ..كما يعتقد أنه ملاقيه عن قريب..وقلت لنفسي ماذا لو تزوج من روح الكمال شوقي ..كما يتمني ..من المؤكد أنه سيكفر بالحياة نفسها..ومن حسن حظه أنه لم يكن يملك الجرأة الكافية لمصارحتها..إنني أشعر بالغثيان كلما تذكرت لحظم من لحظاتي مع تلك المخلوقة الكئيبة المحتضرة..
كنا في هذا اليوم نجلس في المكتبة ..وفاجأنا رفعت السلاموني بنظريته التالية
- سر تعاسة البشرية تكمن في العلاقات الأمامية..وسر سعادتها أن تعود إلي العلاقات الخلفية..
لم نفهم قصده بوضوح..فضحك ضحكة ساخرة من غبائنا وقال
- كل الحيوانات بلا استثناء تمارس الجنس من الوضع الخلفي..وهذا يمنع الوجوه والعيون من التلاقي..وبالتالي يمنع الألفة والحب..وبالتالي يمنع الجواز..بمعني الاكتفاء بشريك جنسي واحد طوال العمر..الذي هو أساس كل المصائب التي تتحدثون عنها ياحضرات..كل إنسان يحاول إقناع نفسه بأن امرأة واحدة تكفي..وهذا صحيح من وجهة نظر اجتماعية لا فردية..بمعني أن يعاني الفرد من أجل صحة الجماعة وترابطها..ولكن معظم البشر يحاولون إقناع أنفسهم أن الجواز امر طبيعي..وهو ليس كذلك علي الإطلاق..إنه وسيلة سببها تحرر اليدين الأماميتين ..وهذا جعل الإنسان يتواصل مع أخته الإنسانة..ويغار عليها..ويتصور أنه يستطيع أن يعيش معها بقية العمر..وبالتالي نشأت الأسرة..والقبيلة..واتحدت القبائل لتتكون الدولة..
انقسمنا مابين مؤيد ومعارض لنظريته..فاستطرد قائلا
- مشكلة إنسان تلك المرحلة أنه أصبح فريسة للتطلعات المادية والجنسية..في الماضي كان يصبر علي الفقر..وعلي الحرمان والكبت منتظرا التعويض في الحياة الأخري..الأن يبدو أن الجميع – بما فيهم الأخوة المتدينين- لم يعودوا قادرين علي الانتظار..ويريدون أن يحصلوا علي أكبر قدر من المتعة..وتم اختزال الإسلام في الجواري والزواج من أربع..واهمين أنفسهم أن الإسلام لم يحرم أتباعه من شيء..مع أن الأديان كلها تمنع الإنسان من الانغماس في الشهوات..ليصفو قلبه ويتسع للعبادات..
كنت مقتنعا بما قاله رفعت تقريبا..ولكنني قلت له فيما بعد
- أنت تعرف يارفعت أنني معجب جدا بثقافتك وبتحليلاتك العميقة..ولكن من المهم أيضا أن تختار البشر الذين تتوجه إليهم بتحليلاتك..هؤلاء بقر..ولا يعنيهم ما تقول من قريب أو بعيد..ولا يهمهم سر تعاسة البشرية أو سعادتها..إنهم فقط يستمتعون بالحكايات اللذيذة..وبمغزاها القريب الواضح لا أكثر..وأسلوبهم ليس خطأ كله..نعم له مساوىء كثيرة..ولكن له أيضا مزايا..فكما أن أفراحهم سطحية..فإن أحزانهم أيضا سطحية..أما من يحزنون بعمق فهم من يفرحون بعمق أيضا..
وهؤلاء سذاجتهم جعلتهم يقدمون علي الحياة أما أنت يارفعت فأنت إنسان (بلا)..بلا عقيدة..بلا عائلة..بلا طموح..
كأن حدائق نرجس نبتت في عينيه للحظة..خيل إلي أنني أراها..وأشم عطرها..وقلت لنفسي رفعت لا يستحق كل هذا الهجوم..إنه إنسان محترم..ومثقف..وقاريء..ولو كان يعيش في مجتمع سوي لكان له شأن آخر..يبدو أنني كنت محبطا جدا في هذا اليوم..وأردت أن أجعل العالم يحبط معي..ولكنه فاجأني وقال
- أنا فعلا إنسان (بلا)..وهذا هو مفتاح شخصيتي..وسر سلامي مع نفسي..ومع الآخرين..إنني أعيش من خلال كياني وذاتي ..لا من خلال ما أمتلك..لا أكتسب أهميتي من ماركة سيارتي..ولا من موديل هاتفي المحمول..ولا من النادي الذي أشترك فيه..ولا من المستقبل المشرق الذي ينتظرني..إنني أحيا هنا والآن..مستمتعا بلحظتي الحاضرة..ولا أخشي فقدان شيء..لأنني لا أملك شيئا..هناك فكرة رائعة قالها المفكر الألماني إريك فروم وهو أننا نتعامل مع أنفسنا كسلعة في سوق الشخصيات لا كبشر..كل إنسان يعمل علي تسويق نفسه ..فهو يريد أن يقول للناس تعالوا اتفرجوا علي ..إنني شخصية مرحة..أو اجتماعية..أو قادر علي تثبيت النسوان..ألا تتمنون أن تعرفوا شخصية بهذه المواصفات..إذن حاولوا أن تعرفوني..لكي أشعر أنني مهم وغالي..وعندما لا يحدث هذا..وعندما لا يتهافت عليه الآخرون..فإنه يشعر بالاكتئاب..وبالضياع..ويفقد الثقة في نفسه..كل هذا لأنه لا يمتلك رؤية عميقة قادرة علي الغوص في أعماق الوجود..هل تعتبر الوزير الذي يتهافت عليه الناس سعيدا..إنه يعرف أن الذباب مجذوب علي قطعة الكيك التي يحملها في يده..لذا شاهد وزيرا سابقا..ستجده بقايا إنسان..وستجده يحدثك عن قلة وفاء الآخرين..وستتعاطف معه..وهذا خطأ..لأنه في البدء لم يكن وفيا لذاته..ولا كينونته..لذا عاملته الدنيا بنفس الطريقة التي عاملها بها..إن الأنبياء ياصديقي كانوا هؤلاء الشخصيات الذين لم يكونوا يملكون شيئا غير ذواتهم.. سيدنا موسي مثلا مالذي كان يملكه..إنه في حالة خروج دائم..تاركا خلفه كل شيء..وسيدنا إبراهيم..وسيدنا يوسف..هل تعرف لماذا صبر سيدنا أيوب علي المرض؟لأنه اعتبر نفسه غير مالك لصحته..إنها ملك الله..وفي ذلك كانت قوته في الصبر..الملك هو ذلك الشخص الذي يصل إلي مرحلة لا يملك فيها شيئا..
- كلام جميل ويقترب من أفكار الصوفية
- فعلا
- ولكن هل هو واقعي؟
- ها أنذا أعمل به
- ولكن الناس تشفق عليك..وتسخر منك خلف ظهرك..من حسن حظك أنك لاتسمع مايقولون عنك وإلا انتحرت
- هذا ما يقولونه بأفواههم ولكنهم يحسدونني من داخلهم..وانتقاداتهم هي إعجاب معكوس..أنا إنسان أعيش بطريقة تحترم آدميتي..أستيقظ مع صلاة الفجر..أصلي (لا تضحك هي الصلاة الوحيدة التي أصليها)..أجري لنصف ساعة في هذا الجو الشاعري جدا..أرجع وأغتسل..وأتناول الفطور..أشرب كوب الشاي بالحليب..أدخن سيجارة..أستمع إلي إذاعة الأغاني..أجيء إلي المدرسة..أنهمك في القراءة..وفي الفسحة أجلس مع الزملاء والزميلات نتكلم في موضوعات عامة بعيدا عن الغيبة والنميمة..أنصرف في الثانية ظهرا..أتغدي مع الست الوالدة ..أنام ساعتين وقت القيلولة..أصحو بعد الخامسة..أتوجه بصنارتي إلي النيل..ومع غياب الشمس أعود..أتعشي .. وأشاهد مسلسلا أو فيلما..ثم أبدأ في كتابة بعض اليوميات..هذا هو نمط حياتي منذ أكثر من عشرين عاما..أي منذ استلامي للوظيفة..لا أعتقد أن أحدا يكرهني كراهية حقيقية لأنني لا أتصارع مع أحد علي شيء..
- ألا تعتقد أنها حياة مملة ورتيبة؟
- من يعاني من الملل هو من يعتبر الإثارة هدفا عظيما في الحياة..وذلك لأنه يمارس نشاطا حقيقيا يستوعب إنسانيته..وطاقته الداخلية..مثلك مثلا..تتصور أن الانتقال من امرأة إلي امرأة هو قمة السعادة والإثارة..وهو وهم بالفعل..إنك تهرب من ذاتك ياوائل..وأراهن أن متعتك تكتسبها من نظرة الناس لك علي أنك دنجوان..وستشعر بألم قاتل عندما تعجز عن معرفة نساء جديدات..وكأن وظيفتك في الحياة قد انتهت..
- أنا ألبي نداءات قلبي مثلك..وأريد أن أتذوق الحياة بشتي السبل..وأنا أحترم كل ماتقول..ولكن اسمح لي يارفعت أن تصل إلي ما أنت فيه عن قوة خير من أن تصل إليه عن ضعف وقصر ديل..يعني أن تفعل كل الأشياء التي تنتقد عليها الناس ثم تزهدها أفضل من أن تكتفي بنقدها دون أن تجربها..أبشع ما في الحياة أن تظل حبيس نظرة واحدة..وفكرة واحدة..وألا تجدد نظرتك إليها من حين لآخر..
- عيبي أنني فهمت الحياة بدري بدري..
- الحياة لا تفهم ..إنها تعاش فقط..
- والحكمة أليست مهمة؟
- تجعلك تخرج من دائرة الحياة
- والجهل يجعلك تبقي فيها؟
- الحكمة التي تجعلك تتوهم أن الأيام كلها متشابهة..وأنه لاجديد تحت الشمس..لا تختلف كثيرا عن الحماقة..الحكمة هي حالة من الدهشة المستمرة..لن أقول لك وكأن ما يحدث أمامك يحدث لأول مرة..بل لأنه فعلا يحدث لأول مرة..
- هل تقصد أن نتعامل مع الأشياء كأننا نفض بكارتها ..
- هذا صحيح..لأن الأشياء في حالة بكارة لا تنتهي..ولكننا لا ننتبه إلي ذلك..هل تعرف المثل الذي يقول يموت المعلم ولا يتعلم..السبب أن الكليات تتفق والجزئيات تختلف أو التفاصيل تختلف...هناك احتمالات لانهائية للتفاصيل..وهذا ما يجعل الناس يندهشون أمام الأحداث النمطية..سأضرب لك مثلا..أنت تحب فتاة ..وأخذت منها موعدا..هذا موقف شديد البساطة..ولكنه شديد التعقيد..ويحتوي علي احتمالات لا نهائية..تديك زومبة..وتخليك واقف ملطوع في الشمس..تيجي في معادها بالظبط..تيجي متأخرة دقيقة..اتنين..تلاتة..اربعة..وكلما تغير عدد الدقائق التي تنظرها تغيرت مشاعرك وهواجسك وظنونك وقرارتك..أن تأتي ويراها معك أحد أقاربها..ماذا لو كان أخوها مثلا؟..ماذا لو كان شرسا؟ماذا لوكان شخصا متفتحا..؟مليون ماذا لو؟تجعل الموقف جديدا ومختلفا وبكرا؟ ماذا لو لم يكن معك فلوس تكفي للجلوس في مكان شيك..ماذا لو حاولت تقبيلها في السينما؟ورآك البلاسير؟ ماذا لو كان البلاسير شخصا متشددا وأصر علي اصطحابك لبوليس الآداب ..خلاصة كلامي أن الحياة تفاصيل والتفاصيل لا يوجد إنسان علي ظهر الأرض التنبؤ بها..لذا نندهش..ونتعلم من الحياة ولا نكف عن ذلك..
عندما جلست مع نفسي حزنت علي حوارتي القاسية مع رفعت..إذ أنني أعرف أن الإنسان هش بصورة لا يتوقعها أحد..مهما كانت أفكاره وثقافته..يأتي علي الإنسان حين من الدهر يقف أمام بئرالوجود السحيق وجها لوجه ..ويشعر بالهلع ..وبالرعب..وكل العقائد والفلسفات ما هل إلا دروع بشرية يحمي بها الإنسان نفسه من المخاوف التي تملؤه..يكفي الإنسان فقط أن يستمر في هذه الحياة دون أن ينتحرأو يصاب بالجنون..قال لي أحمد الرفاعي ذات مرة
- أنت لا تعرف ياوائل المعاناة التي يعانيها الإنسان ليكسب أكل عيشه..وعيش أهله..قبل أن أعمل لم أتصور أن كسب المال بكل تلك الصعوبة..غني عائلتك هو الذي يجعلك تري الدنيا بكل تلك الرومانسية والثورية..الناس غلابة..الشعب المصري غلبان قوي ياوائل..وربنا بيبتليه بشوية زعماء قلبهم ما يعرفش الرحمة..بيعدموه العافية..أنا شغلي في المحاماة خلاني أشوف الدنيا علي حقيقتها..تحت المظاهر حاجات بشعة..يخليك تطلع في الشارع وتصرخ بأعلي صوتك آه آه زي أبطال النوم في العسل..
15
وكيل المدرسة علي العكيمي
كان رجلا فظا غليظ القلب..لا يسير إلا والعصا في يديه..وينهال بها علي مؤخرات الطلبة الذين يقفون أمام الفصل بين الحصص..يقول لي ياقوت أبو شوشة
- علي العكيمي هو المدير الفعلي للمدرسة..المدير بق علي الفاضي..ويتنرفز ويشتم ويصفي علي مافيش..أما علي العكيمي بلوة مسيحة..وواكل نص مكافأة الامتحانات في كرشه..أنت ماعرفتش أيه اللي حصل
وعندما فرك يديه إحداهما بالأخري عرفت أنه يريد سيجارة..أشعلها وقال
- فاتك نص عمرك إنك ماكنتش موجود..علي العكيمي ياسيدي كان سايق فصل تالتة رابع قدامه زي الخرفان عشان يلموا الورق من ورا المدرسة..وواقف يولع سيجارة في أمان الله إذا بطالب راضع من بز أمه يتبول علي راسه من أحد الفصول ..والعيال ماتت علي نفسها من الضحك..وعلي كاد يجن جنونه..جري ع الحمام..غسل راسه..وبعدين روح..وبعد ساعة لقيته جاي ..وكان الاحتمال محصور في فصلين تالتة تاني وتانية تاني..طلع عشان يطيح في الولاد..تصادف إن عبد الفتاح كتكوت كان موجود في فصل تالتة تاني..وعلي العكيمي داخل يضرب الفصل من غير إحم ولا دستور..عمك عبد الفتاح لسانه أطول من الخرازنة اللي في إيد..راح قال له
- بصفتك أيه عايز العيال تقف ..وبصفة أيه عايز تضرب العيال..شايفني طرطور ولا أيه؟؟
- مالكش دعوة يا أسناذ عبد الفتاح..هم عارفين كويس أنا هاضربهم ليه؟؟
- طب اتفضل اخرج واضربهم في حصة مش بتاعتي
غلي الدم في عروق عمك علي العكيمي..وقام نازل بالخرزانة علي كتف عبد الفتاح..وعينك ماتشوف إلا النور..عبد الفتاح انقض علي علي..وفين يوجعك..لحد ما طحنه طحن..وقام خالع جزمته ومده..والفصول كلها اتجمعت..وقعدوا يتفرجوا..كان مهرجان..باقولك فاتك نص عمرك..أسطورة علي العكيمي انتهت ..ماعادش طالب بيحترمه..والغمز واللمز شغال علي ودنه..المدير بينصحه يمشي من المدرسة..بس الغلبان فاكر إن المدرسة عمرها ما هتتظبط من غيره..
عندما جلست مع علي العكيمي لأول مرة حدثني بلهجته الصارمة والقاطعة عن أهمية أن يكون الإنسان ذا شخصية قوية..وبالذات أمام زوجته
- البيت اللي تمسك فيه الست اللجام قول عليه يارحمان يارحيم!!
ولا أدري لماذا تسلل إلي نفسي شعور مناقض تماما لما يقوله..وتخيلت أن زوجته سيدة قوية الشخصية..وأنه في المدرسة يقوم بعملية تعويضية..
كان علي العكيمي مغرما بتريد الشعارات البراقة والأقوال المأثورة ويقولها بطريقة محببة وهو يلوح بذراعه رافعا سبابته
- لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
- كن جميلا تر الوجود جميلا
وكان يتصور نفسه دكتاتورا عادلا..وأن هذه هي الطريقة المثلي لحكم الشعب المصري..ولا تأتي سيرة جمال عبد الناصر إلا ويقف ويقرأ عليه الفاتحة بطريقة مسرحية..وكان مغرما بالشعر الجاهلي غراما لا حد له ويكره الشعر الحديث كراهية عمياء ويري شعراءه عاجزين عن كتابة بيت واحد من أبيات المعلقات..كما كان متيما بعلم الفراسة..والأبراج..وكتب السحر..وسيرة الجان..وتأكدت من خلال حوارتي المتكررة معه أنه ليس بالصورة البشعة التي يراها كل من لا يقترب منه..وأحببته..وإن كنت أختلف معه كثيرا علي نظريته عن الدكتاتور العادل ..وأننا شعب لا يمكن حكمه إلا بتلك الطريقة..
16
قرار استقالتي من المدرسة
طوال دراستي وأنا أحلم بالتدريس..كنت أعتبر المدرس مناضلا سياسيا من الدرجة الأولي..ولكن الواقع أحبطني..المناهج عقيمة..والهدف هو حصول الطلبة علي درجات نهائية - أو تقترب منها- في المادة..هذا هو معيار المدرس الناجح..كنت أريد صناعة طالب قادر علي الإبداع..والاختلاف..ولم يكن يهمني المنهج..ولا الالتزام به..واعتبرت النشاط المسرحي هو خير وسيلة للنهوض بالطالب..وتوسيع مداركه..وزيادة ثقته بنفسه..كنت أري أن التعليم يجب أن يساعدنا علي الحياة بشكل أفضل..وليس مجرد معلومات نحشو بها الرءوس لنتقيأها في الامتحانات ..ولكن هذا باء بالفشل..اعترضت إدارة المدرسة..واعترض أولياء الأمور..ولم يهتم الطلبة المتفوقون..والطلبة المتوسطون تعاملوا مع الأمر بلا مبالاة شديدة..كان كل ما يعنيهم هو حصولهم علي الإعدادية..ثم الدبلوم من أحد المدارس الفنية ..ثم السفر إلي الخارج لتكوين أنفسهم..كنت كدون كيشوت الذي يحارب طواحين الهواء..ولم أكن من البشر الذي يمكن تدجينهم بسهولة..وأن يسيروا مع التيار..لكي تمضي الحياة..إذا لم يكن عملي رسالة قبل أن يكون وسيلة للرزق فلا مرحبا به..البطالة أفضل..واتخذت قرار الاستقالة..ولم أكن أعرف ماذا سأعمل..لم يعترض أبي فقد كان رجلا متفتح العقل جدا..وكان يفهمني..أو بمعني آخر كان يحترم كل رغباتي وقرارتي..ربما لأنني الابن الوحيد..وثانيا لأنه يثق في ذكائي..وثالثا لأنه ترك لي ثروة تجعلني مستغنيا عن المرتب الحكومي الهزيل.. وقال لي ياقوت أبوشوشة
- إنت مجنون رسمي ياوائل..ياجدع حد طايل وظيفة حكومية..ومرتب مضمون آخر كل شهر..دا المثل بيقول إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه..فكر مرة تانية وتالتة..إنت مش لوحدك ..إنت مسئول عن مرة..ومعاك عيل ربنا يبارك ويخلي..ممكن لما يبقي قدامك مشروع تاني تستقيل..تعرف أنا باحلم أفتح سوبر ماركت كبيرقدام المدرسة..وابقي حر نفسي..والواحد يخلع من أم المدرسة الفقر دي..الواحد زهق وروحه بقت في مناخيره..يارب توب علينا يارب..
وقال لي رفعت السلاموني
- أنا باحترم قرارك جدا..أهم حاجة في الدنيا إن الواحد ياخد قرار..ويتحمل مسئوليته..أنا متأكد إنك هتلاقي المهنة اللي تقدر تلاقي فيها نفسك..وأحلامك..وتصحي كل يوم من النوم عشان تعملها..أنا متأكد..بس ياريت تقلل من الحشيش والنسوان
وقال لي أحمد الرفاعي
- إنت موقفك صعب قوي ياوائل..مشكلتك إنك عملت حاجات كتير في سن صغير..الحاجات اللي الناس بتاخد وقت كبير عشان تعملها..إنت تقريبا إنسان أوربي في مجتمع مصري..غني ..وواعي..وجريء..وابوك تقريبا ما تدخلش في حياتك بطريقة قهرية أبدا..بالعكس يوم ما عرف إنك بتدخن في تالتة ثانوي بقي يجيبلك علبة المارلبورو ويحطها تحت المخدة بتاعتك..وقبل الجامعة كنت سافرت كل حتة في مصر..وصاحبت كل الأشكال والملل..وعرفت بنات..ونمت مع نسوان..عشان كده المرحلة الجاية بالنسبة لك مهمة..وهتنجح لأنك ماعادش عنده عقد عبيطة تخليك تاخد قرارات عبيطة علي أساسها..
كان أحمد سلامة صديقي في الثانوية العامة قد التحق بمعهد الفنون المسرحية وتخرج..وظهرت له بعض المسرحيات في البيت الفني للمسرح..كما تمكن من كتابة المسلسلات لبعض القنوات التلفزيونية..وكان يقرأبإعجاب شديد ما أكتبه أنا وأحمد الرفاعي..وكم تمني أن نعمل معه..ورفض الرفاعي لأنها مهنة بلا مستقبل واضح ولا مضمون..ورفضت أنا لأنه لم يكن لدي في هذا السن أي انشغال بالمستقبل..تصورت نفسي مراهقا طوال العمر..ولن يأتي اليوم الذي سأكون مضطرا فيه لاحتراف مهنة..وذهبت إلي القاهرة..وتعرفت من خلال أحمد سلامة علي نجوم كنت أراهم في التلفاز..وسرعان مااندمجت..ووجدت أن هذه المهنة هي التي تناسب شخصية زئبقية مثل شخصيتي..
17
كان الفيلسوف الفرنسي سارتر يندهش من ربط البشر بين الجمال والموت..فهم لايستمتعون بالشمس إلا في لحظة غروبها..ويتغنون بالأزهار الذابلة..ويقفون علي أطلال الأحبة الراحلين ليقولوا كلاما لا حد لجماله.ولا يرون في لحظتهم الحاضرة أي جمال يذكر..هل لأن الماضي أصبح كتابا مفتوحا وخاليا من المفاجآت..وأنهم عرفوا حد أوجاعه الأقصي..أما المستقبل فمازال غامضا ومريبا وغير مأمون العواقب؟؟..ربما..تذكرت تلك الفكرة وأنا أودع مدرستي في اللحظات الأخيرة..لاشك أنني عشت فيها لحظات بديعة..وتعرفت فيها علي شخصيات مسرحية بكل ماتحمل الكلمة من معاني..يكفي فقط أن تراهم وهم يتناولون فطار الصباح (فول وطعمية ومخلل بتنجان وعيش اسمر) في حجرة المدرسين بنهم شديد..ويلحسون خلفه أصابعم..ثم يحبسون بكوب الشاي والسيجارة السوبر..ثم تنقلب وجوههم فجأة إلي الجدية والوقار والهيبة استعداد لبدء اليوم الدراسي..يكفي فقط أن تراقب مدرسا محترما وهو واقف بذلة وخضوع أمام المدير ليعتمد له إجازة اعتيادية..أو يرفع عنه إحدي الجزاءات التي تعرض لها بسبب دفتره الناقص..وعدم اتباعه اللائحة التعليمية بتنظيم السبورة..فلابد من كتابة التاريخ الهجري علي أعلي يمينها..وكتابة التاريخ الميلادي علي أعلي يسارها..وكتابة موضوع الحصة في أعلي المنتصف..وتحت التاريخ الهجري يجب كتابة أهم العناصر..استعداد لقدوم أي مفتش من الإدارة أو المديرية..والمفتش غالبا ما يكون شخصا قليل الكلام ومحايد الملامح بحيث يجعلك لاتعرف ما يفكر فيه..وبالتالي يضغط علي أعصابك..وسيلفت نظرك بتهديد شديد النعومة إلي أخطائك الفادحة التي ذكرت بعضها سابقا..قسما بالله مسرحية هزلية..والأغرب أن المدرسين يلعبون أدوراهم بمنتهي الصدق والانفعال..لا أحد فيهم يفكر للحظة واحدة في تفاهة وحقارة الدور الذي يؤديه..يكفي أن تجلس مع الأستاذة برنسيسة أبو حلاوة ( تفتخر جدا باسمها) التي تعرف كل شاردة وواردة عن كل المدرسين في سمنود..الذي تزوج..والذي طلق..والذي يحب إحدي طالباته..والتي رفعت قضية خلع علي زوجها..والتي ماتت إحدي قريباتها وذهبت وهى واضعة روج علي شفتيها..و....و....وحكايات لاتنتهي..إنها الوجه الأنثوي من الأستاذ ياقوت أبوشوشة..ولكنها كانت محبوبة من الجميع..وخصوصا من المدرسات العوانس (وما أكثرهن في المدرسة)..التي كانت تبحث لهن عن عرسان باستماتة كأنهن بناتها أو أخواتها الصغيرات..يكفي فقط أن تقف في الدور الرابع بالشاي والسيجارة لتطل علي الحقول الشاسعة الممتدة من جهة..ومن جهة أخري علي الطريق الأسفلتي حيث السيارات الحديثة والموتوسيكلات وصخب الحياة الحديثة وكافيهات النت ومحلات اكسسورات المحمول..وتستطيع أيضا أن تلمح مصنع الملابس الشهير..هاأنت تقف وجها لوجه أمام الحضارات الثلاث التي مرت بها البشرية..الزراعية والصناعية والتكنولوجية..ولكنها مرحلة ولا يجب التوقف عندها كثيرا..وقبل أن أترك المدرسة بلا عودة..وجدت شخصا يجلس مع ياقوت أبو شوشة في ركنه البعيد الهادي..وخمنت أنه عبد الفتاح كتكوت..وقلت لنفسي بهذا تكتمل تجربتي في المدرسة..وعندما اقتربت من عبد الفتاح خيل إلي أنني رأيته قبل ذلك كثيرا..وهتفنا في ذات الوقت
- إنت بقي عبد الفتاح كتكوت
- وانت بقي وائل الدياسطي
وكأننا أصدقاء منذ مرحلة الطفولة..وكأن ياقوت أبو شوشة غير موجود..ووجدته أشده من يده
- تعالي نقعد علي قهوة السلطانة نشرب حجرين تفاح..
ووضعت يدي علي كتفه ..ومشينا تاركين ياقوت ذاهلا..وبدأت أهمس له بذكرياتي وأحلامي ..التي كانت قريبة الشبه من ذكرياته وأحلامه..وامتدت جلستنا وضحكاتنا وأحاديثنا ذات الشجون إلي أن قال صاحب المقهي وهو يحمل الكراسي الفارغة والطقاطيق إلي الداخل
- باستسمحكوا يا أساتذة ..
فقمنا..ومشينا بمحاذاة الترعة إلي أن وصلنا إلي أمام المدرسة..ثم ركب هو سيارته التاكسي..وركبت أنا سيارتي اللانسر..وكان الطريق خاليا..والليل مقمرا..والنسيم عليلا..فتسابقنا بسرعة جنونية علي الطريق المؤدي إلي المحلة..
1
سأحكي لكم هذه المرة عن مدرستي الإعدادية..تلك المنقوش علي رخامة عريضة في مدخلها بأنها أقيمت في عهد الرئيس حسني مبارك..والوزير حسين كامل بهاء الدين..وتلك التي درست بها ذات يوم..ومازلت محتفظا لها بأعذب الذكريات..وهي ذكريات بعيدة كل البعد عن التربية..وعن التعليم..وهاهي الأيام تدور بسرعة المراجيح ..وأتخرج في جامعة طنطا لأصير واحدا من أعضاء هيئة تدريس مدرستي القديمة..وأقترب من عالم الرجال الذين أوصانا بهم أمير الشعراء خيرا..وكنت أيامها ممتلئا بالحماس..والغرور..وتصورت أنني سأكون مدرسا ذائع الصيت..درست اللغة العربية في كلية التربية عن حب..وحصلت علي تقديرات مرتفعة خلال سنوات الدراسة..رغم أنني نادرا ماكنت أذاكر..ونادرا ماكنت أذهب إلي الجامعة..متعتي الحقيقية في النوم..والسهر علي المقاهي مع الأصدقاء..وتدخين الحشيش..منذ صغري وأنا أشعر باختلافي عن الآخرين..كنت متعدد المواهب..خطاطا..ورساما..وشاعرا..والأول علي المدرسة في جميع السنوات..ولم تكن تنقصني الجرأة..أتحدث مع الكباروالبنات دون أن يهتز لي رمش..وأدخل في خناقات لا حصر لها رغبة في استعراض قوتي العضلية واللفظية..كنت ماهرا جدا في السباب..لدرجة أن زملائي كان يبكون من الشتائم التي أوجهها لهم..وحدث ذات يوم أن قال لي أحمد الرفاعي – صديقي حاليا- عقب خناقة دامية بيني وبينه أمام المدرسة الابتدائية بسبب تحكيمه السيئ في مباراة كرة قدم
- إنت بتتحامي في أهلك..ماتفتكرش نفسك جامد..ماحدش بيقبلك..
بعدها اشتعلت الخناقة أكثر..وكان الرفاق يتفرجون وعلي وجوههم متعة..ربما لأن أحمد الرفاعي كان في مثل قوتي..ولا أحد يستطيع التكهن بالمنتصر والمهزوم..ثم انتهت الخناقة بانتصاري..بعد أن وجهت له لكمة قاضية في أنفه..وغرقت فانلته الداخلية البيضاء في الدم الطازج الساخن..واختفي تحته دم البراغيث المتجلط..ولكن صدي كلماته ظل يتردد في أذني أياما طويلة..وتغيرت كثيرا..صرت حريصا علي تكوين أكبر قدر ممكن من الصداقات.. وفي الإعدادية عرفت القراءة(روايات رجل المستحيل وملف المستقبل)..والسينما..والمصايف..وفي الثانوية عرفت التدخين ..والمقاهي..والعلاقات العاطفية العابرة..ولأنني كنت الابن الوحيد بين ثلاث بنات فقد كنت مدللا جدا..ولم يحدث أن قال لي أبي (عيب اختشي) أو (حرام ) أو( مايصحش) ..بالعكس كان يفتخر بي وبنزواتي..ولم يبخل علي أبدا بالمال..كانت حالتنا المادية ميسورة..مقارنة بباقي أهل شارعنا الذين كان يعمل معظمهم بالفلاحة..ويفتقد أولادهم كل ماكنت أنعم به من حرية..لذا لم يستمتع أحد بطفولته مثلما فعلت..
2
الأستاذ ياقوت أبو شوشة هو أول من قابلته في المدرسة..كنا في أول أكتوبر..وبينما كان الأولاد يلعبون بالكرة في الفناء كان يجلس مسترخيا علي كرسي خشبي تحت أشجار النخيل التي تفصل المدرسة عن الغيطان المحيطة بها ..ومستمتعا برائحة الشمس..والصباح..وأوراق جريدة الأهرام التي ربما استعارها من أحد الزملاء..فمثل ياقوت من علامات يوم القيامة أن يشتري جريدة..لم أنتبه إلي وجوده وأنا أصعد السلم متوجها إلي الإدارة..وفوجئت به ينادي بصوته المبحوح دائما
- ياوائل..ياوائل
عرفت صوته ..فالتفت..لوحت له بيدي اليمني التي ألبس فيها الساعة عكس الناس..الساعة السويسرية التي جعلتني أحب يدي ..فاستطرد
- تعالي..ماحدش موجود من الإدارة النهاردة..في اجتماع في المديرية..
ذهبت إليه..كان هناك كرسي شاغر بجواره..صافحته وجلست..عزمت عليه بسيجارة مارلبورو أبيض..أخذها بفرحة طفولية ..أشعلتها له بولاعتي السخان الصينية (بجنيهين فقط من دكان العجيل) ..في الماضي كانت علاقتي به سطحية..ولا تتخطي السلام العابر (سلامو عليكو..عليكم السلام)..هو الآن صار زميل عمل..أخذ نفسا عميقا من السيجارة كأنه يشفطه شفطا ..ثم حبسه طويلا..مما جعل وجهه يحمر وأوردة رقبته الزرقاء تنتفخ..ثم نفخه إلي أعلي كالتنين..ثم قال بطيبة حاول أن يغلفها بشيء من المكر
- المدرسة بتاعتنا فيها شخصيات عجيبة..كل واحد هنا ملكوت لوحده..
شعرت برغبة عنيفة في الضحك..إذ لا يوجد علي ظهر الأرض من هو أعجب منه..وتمالكت نفسي..وسألته بفضول
- إزاي؟؟
- أنا عارف إنك ذكي جدا..بس الحياة العملية غير حياة الجامعة..
في الجامعة إنت بتختار الناس اللي بتتعامل معاهم ..أما في الحياة العملية إنت مضطر غصب عنك تتعامل مع كل الشخصيات..ما تحملش هم أنا هاعلمك تتعامل مع الشخصيات الوسخة دي ازاي...
قلت
- أنا كنت طالب هنا ..وعارف معظم الأساتذة..
فقال
- إنت طيب قوي..الأستاذ قدام الطلبة غير مع زمايله خالص..قدام الطلبة بيحاول يبان وقور ومحترم وفي الواقع هو قمة المسخرة..وتاني حاجة فيه ناس كتير جديدة..
في تلك اللحظة مر أمامنا رضا عامل البوفيه..وهو طويل وثقيل الدم مثل أبيه (الله يرحمه)..كان زميلا لي في المرحلة الابتدائية..وخرج من المدرسة وعمل مع أبيه في البوفيه..هو الآن متزوج ولديه ثلاث أطفال..هذه هي الرفاهية الوحيدة التي تملكها تلك الطبقة..ناديت عليه وطلبت منه اتنين شاي..فقال الأستاذ ياقوت
- لأ..هاتلي إزازة بيبس مشبرة(مثلجة) يارضا..
(الأستاذ ياقوت اتخلق عشان يتعزم)..في أقل من دقيقة أحضر رضا البيبس (يقال إنها اختصار لجملة إنجليزية معناها إدفع كل قرش من أجل إنقاذ إسرائيل) والشاي (المشروب القومي للمصريين)..وكان قد انتهي من السيجارة الأولي..عزمت عليه بأخري..انتشي..وفتح في الكلام
- أخطر شخصية هنا عبد الفتاح كتكوت ..محلاوي أصلي..مدرس إنجليزي..وسواق تاكسي..وخمورجي..وبتاع نسوان..وما حدش في الدنيا دي في دماغه..الناظر بيخاف يتكلم معاه..عمره مامضي حضور وانصراف..ومع ذلك ماحدش يقدر يشطب عليه..واهم الناس ياسيدي إن ليه أخ في الشر برة وبعيد..ربنا يجعل كلامنا خفيف علي قلبهم..في أمن الدولة..وملحد كمان..وبيفطر في رمضان قدام الناس كلها..وعلي علاقة بساندرا لويس مدرسة الرياضيات..وجوزها يوسف سلامة دكتور الجراحة المشهور فيما يبدوعارف..وساكت..أصل الطلاق عند المسيحيين صعب جدا..ويكاد يكون مستحيل..عشان كده تلاقي نسوانهم ماشيين علي حل شعرهم ..وحاطين في بطنهم بطيخة صيفي..الإسلام نعمة..بس بالأمانة عبد الفتاح ده رجولة..أيام جوازي نقطني بمبلغ محترم..الفلوس مابتفرقش معاه..وقعدته ماتشبعش منها..طول مانت قاعد وياه تفضل تضحك..تضحك..لحد ماتقول اللهم اجعله خير..ويحبني موت..وكلام في سرك قبل جوازي خلاني عملت اختبار..وعشان كده في ليلة دخلتي كنت واثق من نفسي ثقة رهيبة..وتخيل اليومين دول ماشي مع مين؟؟..مع الأستاذة روح الكمال شوقي..مدرسة رسم زي حالاتي..وزي لهطة القشطة..ومحترمة جدا..وبنت ناس..بس ابن الأيه دحلاب..ويقنع الشيطان نفسه بالسجود لآدم.. حمدين عماشة الأخصائي الاجتماعي شافها معاه..كان ناوي يتجوزها..بيعبدها عبادة..وبيكتب فيها شعر..حمدين مخه لاسع..وعايش في دور فاروق جويدة..وفاكر الجواز رومانسية..وحب..وورد..وحبيبي دائما ..وباقي الأفلام الحمضانة اللي انت عارفها..
عايش في الوهم..إنت عارف الفرق بين الوهم والخيال أيه؟
- لأ
- الخيال حلم عايز تحققه..وبتعمل كل اللي تقدر عليه عشان تحققه..الوهم إنك تقتكر نفسك حققته..وأنت ما حققتوش..عشان كده الشعب المصري أغلبه عايش في الوهم إلا من رحم ربي..بالأمانة الكلام ده مش كلامي ..دا كلام عبد الفتاح كتكوت..
كنت أستمع إليه مبهورا فعلا بما يقول..وكان هو في غاية السعادة وهو يراني منتبها لكل كلمة يقولها..وكان يستحق أن أعزم عليه بسيجارة ثالثة..وسألته
- والمدير أخباره أيه؟؟
فقال منفعلا
- عبد الوهاب غطاس ..شخصية زبالة..وفاكر نفسه أكتر إنسان بيفهم علي وجه الأرض..وهو حمار..لسة عايش في زمن عبد الناصر الله يرحمه..وبيدير المدرسة بطريقة عسكرية..وما بيجيش إلا ع الغلابة اللي زي حالاتي..خلي بالك من حنفي ابو سعدة مدرس الصناعة..العصفور بتاعه..مافيش كلمة بتتقال في المدرسة إلا ويكون عارفها..بيعرفها من مين..الله أعلم..بس حنفي ده مريب..ماتقدرش تفهمه..ولا عمرك تعرف إنه بيحبك ولا بيكرهك..بير غويط..وكل كلامه قال الله وقال الرسول ..ومع ذلك يموت في قعدة النسوان..وعامل نفسه الناصح النصوح..معاه كل أسرارهم..ومرة تلاقي واحدة جايباله كحك من البيت..ومرة برطمان طرشي..ومرة صينية كنافة ..أو صينية كيك..ومع إن روح الكمال قد بنته بس سمعت إنه بيحبها..وبيروح البيت عندهم كتير..علي أساس إنه صديق العائلة..تخيل مراته جات المدرسة ..واتخانقت مع روح..ومع ذلك مابطلش يتكلم معاها..يظهر إنها أزمة منتصف العمر..حنفي أبو سعدة حالته المادية ماشاء الله..فاتح محل أدوات منزلية كبير في الشارع الرئيسي في منية سمنود بعد الكوبري علي طول..وعنده بيت يرمح فيه الخيل..مش زي الشقة بتاعتي الخمسين متر..والله ياوائل ..إنت زي اخويا الصغير..بادخل الحمام بجنبي..
أرزاق..إوعي تفتكر الدنيا شطارة..الدنيا حظ..واللي يقول غير كده يبقي حمار..ربنا بيرزق البهايم عشان أصحاب العقول يستعجبوا..بس الحمد لله الواحد في نعمة..واللي يشوف بلوة غيره تهون عليه بلوته..والشيخ الشعراوي الله بيرحمه كان بيقول إن الرزق أربعة وعشرين قيراط ربنا بيوزعهم علي الناس بالتساوي..يرزق ناس بالمال..وناس بالصحة..وناس بالزوجة الصالحة..وناس بالذرية الطيبة..مستحيل حد ياخد من الدنيا كل حاجة..بس تخيل عبد الفتاح كتكوت بيعترض ع الكلام ده..وبيقول إن فيه ناس ربنا حرمها من كل حاجة..عندهم سرطان..وعايشين في عشش ..وولادهم بيضربوا بانجو..فين قراريط الرزق اللي عندهم..كتكوت ليه آراء بتخليني أخاف أقعد معاه..أصل الواحد لو اقتنع بكلامه يبقي خسر الدنيا والآخرة..
وكان يستحق أن أعزم عليه بسيجارة أخيرة قبل أن أتركه وأمضي..وبذا فرغت العلبة..فطبقتها بغل..وقذفتها بعيدا..فوجدته يسألني
- هي العلبة دي إنت فتحتها إمتي؟؟
فأجبته
- النهاردة الصبح..
فقال مدهوشا
- وخلصت قبل أدان الضهر!!إنت بتدخن كام علبة في اليوم
- اتنين..بس إحيانا بتوصل لتلاتة
فصمت قليلا ..كان واضحا أنه يحسب المبلغ الذي أدخن به شهريا..
وهتف
- هل تدخن بخمسائة جنيها شهريا؟؟
فقلت وأنا أشعر بالفخر والحزن في وقت واحد
- تقريبا
بالفخر لأنه من الرائع أن تبدوا غنيا مستغنيا أمام الأخرين..وبالحزن علي المال والصحة المفقودين مقابل الحصول علي هذا الشعور ..الذي إن دل علي شيء فهو
يدل علي سخافة وتفاهة وخواء الشخصية التي تشعر به..
قال
- إنت عارف إن ده تلت أضعاف المرتب اللي هتاخده من الحكومة
أومأت بالأيجاب..فقال بمرارة خففتها روحه المرحة
- أب زي ابوك ياوائل يستاهل تبوس إيده طول ماهو عايش ..وتقراله الفاتحة بعد مايموت كل يوم..أما أبويا فالله يسامحه إنه خلفني..
3
في أمسية ذلك اليوم سهرت مع أحمد الرفاعي..وكان أيامها قد تخرج في كلية الحقوق ..ويتدرب في مكتب أحد المحامين المشهورين..ودار الحديث بيننا بخصوص ما حكاه لي الأستاذ ياقوت أبوشوشة عن عبد الفتاح كتكوت..وساندرا لويس..وروح الكمال شوقي..ولم يكن أحمد يهتم كثيرا بموضوع النساء..كان همه الأكبر أن يبني نفسه..وينتقل إلي الحياة في مدينة المنصورة التي أحبها جدا في فترة الجامعة..وكنت أعذره..فقد كانت حالتهم المادية لاتسمح له بشراء أكثر من طقم واحد في العام..وكان يشعر بالخجل والعارمن ذلك..ورغم ذكائه ولباقته إلا أنه كان يتلعثم أمام البنات..ويهرب من مواجهتهن..خشية أن يبدو صغيرا أمامهن..كان يهرب من واقعه بالقراءة..وكتابة الأشعارالتي كنت أراها في قمة الصدق..والإحساس..وكنت أعرضها علي صديقاتي في الكلية..وكن يعجبن بها إعجابا شديدا..ويتمنين أن يتعرفن علي كاتبها..وكان يرفض بشدة..قالها لي بوضوحه المعتاد ذات مرة
- ياوائل أرجوك لاتفتح هذا الموضوع مرة أخري..التعرف علي البنات يحتاج إلي حد أدني من الفلوس..وأنا كما تعرف لايوجد في جيبي إلا ثمن المواصلات..
لا تعتقد أنني معقد ..وأقوم بتكبير المواضيع..كل مافي الأمر أنني أتفهم ظروفي جيدا..وكرامتي لاتسمح لي أن أبدو صغيرا في عين أحد..كما أنني لا أريد أن أكون موضع شفقة أو عطف..أنت تتعامل معهن بطريقة إنجليزية عن قوة..ولكني سأفعل ذلك عن ضعف..وهو مالا أستطيع أن أتحمله..علي الفقراء أن يتفرجوا علي الحياة من خرم الباب..وخصوصا من يملكون نفوسا عالية مثلي..الحياة الحقيقية كالرز المعمر لاتكون لذيذة إلا في الطبقتين العليا والسفلي..حياة القاع لذيذة أيضا..كتب العذاب علي أفراد الطبقة المتوسطة الدنيا..
كان أحمد الرفاعي هو نافذتي علي الثقافة..وعن طريقه عرفت فن الفرجة علي الأفلام التي كنت أشاهدها بطريقة سطحية جدا..وفهمت الإسقاطات السياسية والفلسفية..وطالما استمتعت بتحليلاته النفسية العميقة لأصدقائنا..بعد أن توفي والده ..رفضت والدته الزواج مرة أخري..وتولت مسئولية تربيته هو وأخيه الأصغر قاسم الذي افتتح محلا للحلاقة بعد أن تخرج في مدرسة الصنايع منذ ثلاث سنوات..كانت أمه تعمل باليومية في الغيطان..كأن تساعد فلاحا في جمع القطن ..أو شك الذرة(الشك هنا بمعني البذر أو الغز في الأرض)..أو ضم الغلة (حصاد القمح) ..وكانت أجرة العامل (يومية النفر..النفر معناها الفرد ويبدو من شكلها أنها فرعونية) متواضعة جدا..لاتتعدي الخمس جنيهات في اليوم..ولم يكن هذا العمل المهلك متواصلا..وكان يؤلمه جدا أن تكون والدته من مستحقي الزكاة..وكثيرا ما قامت الخناقات بينه وبينها بسبب هذا الأمر..وكان يغضب جدا أن يعرف أن والدي أنا بالذات قام بمساعدة والدته..كأن يرفض أن يأخذ منها ثمن كيلو لحمة تشتريه لهم كل شهرين أو ثلاثة..كان يمزقني أن يعيش شخص بعقليته تلك العيشة المهينة..الغريب أيضا أن أخاه قاسم كان- رغم تواضع تعليمه- محبا للتأمل..وشاطرا في عمله..فيقول لي بلهجته الهادئة وكان شعري قد بدأ في التراجع إلي الوراء
- أنا اكتشفت يا أستاذ وائل إن تساقط الشعر وراثة..وكل الأدوية اللي في الصيدليات ضحك ع الدقون..بس ما ينفعش نفقد الثقة في العلم..العلم بيتطور..ومين عالم.. بكره ممكن العلماء يخترعوا حاجة ما تخليش واحد أصلع في العالم..حد كان يصدق تحط حتة حديدة علي ودنك وتكلم بيها الناس في آخر الدنيا..معجزة كبيرة..كبيرة قوي ياأستاذ وائل..أنا دماغي بتقعد تلف لما بافكر في الاختراعات دي..
أو يقول لي عندما يراني أدخن
- عارف يا أستاذ وائل إنت مش عارف تبطل تدخين ليه..عشان الجسم بتاعك بطل يفرز النيكوتين..وبدأ يعتمد علي المصدر الخارجي..
أو يقول
- الفرق بين النفس والشيطان..النفس بتخليك تعمل نوع واحد من المعاصي ..الشيطان بيخليك تعمل أنواع كتير..
أو يقول
- المشاكل مهمة في الحياة..عشان يبقي فيه صراع..والدنيا تتحرك..لو انتهت المشاكل الدنيا تقف..بس أهم حاجة في الدنيا الرضا والطموح..أنا قعدت امبارح طول الليل افكر في الفرق بين الطمع والطموح..الطمع أن تبقي عايز كل حاجة من غير ماتبذل مجهود..الطموح تسعي..وتعرق..وتشقي..وربنا هيخليك تطول كل اللي في نفسك..أنا باحب ربنا قوي ياأستاذ وائل ..وساعات بابقي عايز اموت عشان اشوفه..وبعدين روحي تصعب عليا..هو ليه إحنا بنحب روحنا قوي كده..
أو يقول
- أجمل حاجة في الدنيا الواحد يعمل كوباية شاي..ويقعد ع السطح بعد صلاة العصر ..ويفكر في حبيبه..
كانت هذه التأملات عميقة جدا بالنسبة لشخص حصل علي دبلوم صنايع..فمن الشائع جدا أن تقابل شخصا حاصلا عليه ويجهل مباديء القراءة والكتابة ( بصمجي.. ولايعرف الألف من كوز الذرة ).. وأظن أن أحدا لا يعرف كيف كان ينتقل من عام إلي عام..( في مصر نحن نعتبر الغش تعاونا علي البر والتقوي..ونعتبرالوساطة والمحسوبية والكوسة تفريجا للكربة عن الإخوة المسلمين..)
4
بمجرد أن رأيتها في حجرة المدرسين عرفت أنها ساندرا لويس..غير محجبة..وترتدي بلوزة سماوية اللون وجوبا(جيبة) أسود يكاد يغطي ركبتها..قريبة الشبه من الممثلة كيت وينسلت..وإن كانت بشرتها تميل إلي اللون القمحي الفاتح..وساقاها كانتا في منتهي الإثارة..لمحتهما من تحت المنضدة الكبيرة التي تجلس خلفها..وفي عينيها تختبيء نظرة ثعلبية لايراها إلا من لديه استعداد لرؤيتها..كانت تقوم بتصحيح بعض الكراسات..وعندما دخلت توقفت..كنت في كامل أناقتي في ذلك اليوم..الأناقة التي تجعلني في ذروة ثقتي بذاتي أمام أي أنثي..تذكرت عبد الفتاح كتكوت..وزوجها الجراح الشهير..ورميت كل ذلك خلف ظهري..كنت في أشد الاحتياج إلي مغامرة جديدة..ابتسمت وألقيت تحية الصباح..ردت بحرارة..بدأت بتعريف نفسي
- وائل الدياسطي..مدرس لغة عربية ..أول يوم ليا النهاردة..
قالت وهي تتفرسني بإعجاب
- شكلك مش لغة عربية خالص..
- إشمعني
- شكلك مش مدرس أصلا..
- شكلي أيه
- ظابط ..مهندس..رجل أعمال..حاجة زي كده..
- كل المهن دي باكرهها
- وبتحب أيه
- التدريس
- بكره تشبع
قلت بخبث
- الحاجات اللي الإنسان بيحبها بجد مستحيل يشبع منها..
وصلت الرسالة تماما..ابتسمت..وقالت
- إنت لسة صغير..وواخد الدنيا في صدرك..
- علي أساس إنك كبيرة..وماشية بعكاز..
- ياوائل أنا متجوزة بقالي خمس سنين..وعندي مايكل..وماري..وانت مش ناوي؟
هكذا ألغت الألقاب مرة واحدة..بمنتهي الحميمية قالت اسمي..
- أيام الجامعة حبيت..وكان خلاص الموضوع علي وشك..وبعدين خفت..الجواز مسئولية..وبيقتل الحب..لازم الواحد يسيب مسافة بينه وبين الناس اللي بيحبهم..
- غلطان جدا..الجواز بيدي شكل أروع للحب..وخصوصا لما تجيب ولاد من الحد اللي انت بتحبه..
- بتتكلمي زيها بالظبط
- ظبطتك..لسة بتحبها..ومش قادر تنساها..
- بأمانة.. سمر بنت مستحيل حد يعرفها وينساها..ضحكتها عاملة زي الشمس لما تدخل أوضة ضلمة..
- مانت رومانسي..أمال أيه بقي..
- وباكتب شعر كمان
- أكيد هاقراه..أنا بكرة موجودة..تجيبه معاك..
رن جرس الحصة الثانية..وضعتها حقيبتها علي كتفها..وهمت بالقيام وهي تقول
- عندي حصة..هنكمل كلامنا
وقفت أنا أيضا وقلت
- أنا لسة ماعرفتش أسمك
- ساندرا لويس..رياضة..
وعند باب الغرفة التفتت لي- هل شعرت أني أتابع مؤخرتها- وقالت باسمة
- ممكن رقم تلفونك..عشان افكرك تجيب الشعر اللي انت كاتبه..
- ممكن جدا..
قلتها وأنا أبتسم في وجه المجهول..
5
عقب انصراف ساندرا مباشرة وجدت الأستاذ ياقوت أمامي بلحمه وشحمه وكرشه الكبير(بسببه كنا نسميه ياقوت البلف)..والطقم الذي يرتديه مذ كنت طالبا.. ..البلوفرالرمادي منزوع الأكمام(بلوفر كت)..والقميص السمني متسخ الياقة..والبنطلون البني غيرواضح الثنيات (الكسر..بضم الكاف وفتح السين)..والحذاء الرياضي ذي المقدمة المثقوبة كغربال.. ومفكوك الرباط غالبا..وجدته أمامي فاركا يديه..وضاحكا ضحكته البلهاء..وقال
- إنت لحقت لضمت يانمس..شكلك من نفس عجينة عبد الفتاح كتكوت..
الأستاذ ياقوت شخص مسخرة..أيام الدراسة كان لدي هذا الإحساس تجاهه..ولكن علي سبيل الظن..اليوم هو علي سبيل اليقين..لذا فقد شعرت نحوه بمزيج من الحب..والاستهتار..ورغم أنه يكبرني في السن بأكثر من خمسة عشرعاما فقد ناديته بياقوت مباشرة ..
- الله يلعن كتكوت..واللي جابه..ياقوت ..ارحمني شوية من سيرة الأخ كتكوت بتاعك..
ولمحت في عينيه انخفاض نسبة النيكوتين..فعزمت عليه بسيجارة (أرجو ألا يمل القاريء من تلك الجملة..لأن هذا ما يحدث عند وجود ياقوت معي..ومن الأفضل بعد ذلك أن يتخيل القاريء ذلك..دون أن أكون مضطرا لتكرارها من حين إلي آخر..)
وقال
- الأستاذ مصطفي السعدني اللي بيحط الجدول موجود تحت..انزل ظبط أمورك..
ومال علي وهمس
- ما يغركش الدقن اللي واصلة لصدره..راجل دمه زي العسل..وأوبن جدا
Open..عايز تحطه في جيبك.. عليك بشريط ترامادول..أو عين الكتكوت
- أيه عين الكتكوت ده..
- شريط حبوبه صفرا ..وصغيرة..ومدورة..زي عين الكتكوت..بيطول المدة..بس النوع المصري بيخليك تتاوب كتير..المستورد عشرة علي عشرة..
- والترامادول مفيد في الجماع؟
- طبعا..دا رهيب..بس لازم مع كوباية شاي وسجارة حشيش مغربي..
- دانت كارثة ياياقوت..
- ياد ياوائل أنا شعري ماوقعش من شوية..أنا سافرت العراق أربع سنين..وكنت يوميا علي الله..لازم أنام مع واحدة كردية..الأكراد دول أجمل ستات في العالم..بشرتهم زي اللمبة النيون..وأجسامهم زي المرتبة القطن اللي بتاخد وتدي معاك..حاجة روعة..أنا فلوسي هناك ضاعت ع التهييس..كنت عايش باشا بكل معني الكلمة..ومن المفارقات العجيبة ناس زمايلي كانوا حارمين نفسهم من كل حاجة..ويفضلوا ينصحوني..اعقل ياياقوت..ربنا يهديك ياياقوت..اعملك قرشين ياياقوت..قامت فجأة حرب العراق مع الكويت..وباقي القصة إنت عارفها..كلنا رجعنا ع الحميد المجيد..ويامولاي كما خلقتني..بس أنا صعت علي كتكوت ..وأقنعته قبل جوازي إني ما جربتش الموضوع ده خالص..عشان يظبطني..كتكوت رغم كل شيء طيب جدا من جواه..وغلبان..وعنده مشاكل كتير في حياته..أبوه الله يرحمه كان عنده مصنع ملابس في السبع بنات (من أحياء المحلة الراقية) ..واخوه الكبير يهودي (نحن هنا نضرب المثل باليهود في الذكاء الا قتصادي..تري هم يضربون بنا المثل في أي شيء؟)..أقنع الراجل الكبير وهو علي فراش الموت إن الميراث هيضطرهم لبيع المصنع (هذه إحدي المآخذ التي يأخذها الاقتصاديون الأجانب علي نظام الميراث الإسلامي وهي أنه يعمل علي تفتيت المشروعات الكبيرة)..والحل الأمثل يكتبه باسمه..ويتوزع الإيراد شهريا..بالظبط كأنه عايش..الراجل اقتنع بالكلام..أصله كان عصامي..وبني المصنع طوبة طوبة..وماهانش عليه ينتهي المصنع..بس أخو عبد الفتاح الكبير مفتري..وبيديه فتافيت في آخر كل شهر..باقولك عبد الفتاح غلبان..ويتحب..والله العظيم لما تقابله..هتعشقه عشق..
- وهو فين دلوقت؟؟
- واخد أجازة مفتوحة..أصله مزجانجي..وشخصية زئبقية..وفجأة يغطس..ويختفي كأن الأرض انشقت وبلعته..يعني ساعات يبقي بيتكلم معاك..ويقولك أنا رايح الحمام وتفضل تستني مع نفسك..ومن الأفضل لما تقابله تاني ماتعاتبوش..لازم تقبله زي ماهو..أنا عارف سر عن كتكوت ..ماحدش في المدرسة يعرفه غير العبد لله..
أثار فضولي جدا فسألته ..وأنا أعزم عليه بسيجارة
- أيه هو ؟
- تبع جماعة صوفية..ومن مجاذيب السيد البدوي..وصوته جميل جدا في قراية القرآن..وساعات بيروح يقرا في المحازن (سرادقات العزاء)..بس حلم حياته يبقي مطرب شعبي زي طارق الشيخ بتاع دقيقة حداد..دقيقة حداد..(محاولا أن يغنيها بطريقة طارق)..
- حاول توصف لي شكله كده..
- أمور قوي..وشيك قوي..بس قزعة ..عامل زي الكتكوت..اسم علي مسمي..عارف ياوائل فعلا كل قصير مكير..ماعرفتش واحد قصير إلا ويبقي ابن كلب عفريت..قرد..الطوال دماغهم بتبقي خفيفة عشان الهوا بيضرب فيها خبط لزق من غير مصدات..
الوقت مع ياقوت يمضي بسرعة غير متخيلة..لم أنتبه إلا علي صوت جرس انتهاء الحصة الثالثة..وبداية الفسحة..والطلبة يندفعون خارج الفصل..كأنهم أسري تم إطلاق سراحهم..متي ينتهي التعليم في القاعات المغلقة..في الفصول الأسمنتية واطئة السقف..التي تشبه علب الكبريت..المدارس لابد أن تكون كدور العبادة..سقوفها علي هيئة قباب..تشبه السماء..كل مكان يفرض عليك طريقة تفكير ما..تشبهه تماما..ومدارسنا مغلقة..ومتحجرة..ومحدودة الأفق..وتخلو من أي لمسة جمالية..هدفها الوحيد هو استيعاب أكبر قدر ممكن من الطلبة..أي أن هدفها هو الكم لاالكيف..قبل ثورة1952 لم تكن المدارس كذلك ..كانت عبارة عن قصور تبرع بها أفراد من العائلة المالكة..وكان هناك الأزهر الشريف..ورودانا الكبار تعلموا في تلك الفترة الخصبة..ومنذ الثورة لم يتخرج في مصر شخص نابه..في أي مجال من المجالات..في تلك الفترة تعلم طه حسين..وتوفيق الحكيم..ونجيب محفوظ..وزكي نجيب محمود..وأحمد أمين..وعلي عبد الرازق..وأمين الخولي..وسلامة موسي..ويوسف إدريس..وجمال حمدان..وحسن فتحي..وسيد درويش..وابراهيم ناجي..كل هؤلاء علي سبيل المثال لاالحصر..ومنذ الثورة لم تنجب مصر شخصا يستطيع أن يعيش في ذاكرتها..للأسف..للأسف الشديد..تكلمنا كثيرا عن مساويء الاستعمار..ولكن لم يتكلم أحد عن مزاياه..من المؤكد أنه لاتوجد نية طيبة خلف أي استعمار..ولكن الحياة أكبر من كل النوايا الخبيثة..وكثيرا ما يحدث أن يفيدك إنسان يقصد أن يضرك..وفي رأيي أن الحضارة معدية..والخادم الذي يعيش في فيللا طه حسين لابد أن يكون أكثر تحضرا من أستاذ جامعي حصل علي شهاداته من داخل مصر..هذا ليس شعورا بالدونية أمام كل ماهو غربي وأمريكي..إذ لابد من الاعتراف أننا متخلفون..وأنه ينبغي علينا أن نسير علي هدي من سبقونا..لايوجد أحد يتعلم من الطبيعة بشكل مباشر..نحن نتعلم من بعضنا البعض..قضايا سخيفة يثيرها المثقفون من وقت لآخر..عن علاقتنا بالغرب ..وكيف تكون..وعن الأصالة والمعاصرة..والقضية ليست كذلك علي الإطلاق ..إنها قضية إبداع..واتباع..الهدف أن نكون مبدعين..ولكن هذا يقتضي بادئا ذي بدء أن نستوعب كل ما وصلوا إليه..البداية في الاهتمام بحركات الترجمة..والبعثات العلمية..ومعرفة أن ثقافتنا لاتختلف عن ثقافتهم في شيء..كل مافي الأمر أنهم تخطوا كل ماهم فيه..في يوم من الأيام كانت لهم نفس أفكارنا عن الدين..والجنس..والأخلاق..والاقتصاد..والسياسة..وظهر لديهم دارون..وفرويد..وآدم سميث..وجان جاك روسو..ومونتسكيو..وفولتير..ودستوفسكي..وبلزاك..ونتشة..وبرتراند رسل..وجون ديوي..ووليم جيمس..كل هؤلاء وغيرهم لم يكونوا عباقرة أجانب فحسب..فنحن – قبل الدين واللغة والجغرافيا والتاريخ- بشر..وهؤلاء أجدادنا جميعا..وتربطنا بهم نفس صلة القرابة التي تربط أبناء أوطانهم بهم..ومن المستفزجدا أن تجلس أمام التلفاز وتري مفكرا شحطا أشعث أغبريحدثك عن أهمية أن نأخذ أفضل ماعندهم فقط..وندع ماهو سيء ولايتناسب مع معتقداتنا وأفكارنا..القضية ليست بتلك السذاجة..فالنظم الاجتماعية غير قابلة للتجزئة..كالماء عندما تفصل عنه ذرة أكسجين..هو لايصبح وقتها ماء....وما أقصده هو استيعاب تجاربهم بكل مافيها من لباب وقشور..ونبتكر نحن المنظومة الاجتماعية التي تناسبنا..في تلك الفترة من تاريخنا..فلا يوجد نظام اجتماعي يصلح لكل الفترات..الأرض تتغير..وعلاقتها بالكواكب ..والأجرام السماوية الأخري تتغير..ونظرة الإنسان إليها..وإلي نفسه تتغير..كل هذا يفرض شبكة علاقات جديدة بين البشر..ويغير تماما من علاقة الحاكم بالمحكوم..الحاكم الذي ظل لقرون طويلة يعتبر نفسه خليفة الله في الأرض..مرت الأيام وانقلبت الآية..وصار الشخص العادي (أو الجمهور الغفير) ذا سطوة وجبروت..ويفرض ذوقه ورغبته علي جميع المؤسسات الحكومية والشركات الكبري..سيقول البعض بأن القهر السياسي مازال موجودا..وأن الإعلام يلعب نفس الأدوار القذرة التي كان يلعبها البوليس السري ورجال أمن الدولة..وهي فكرة تبدو براقة ..ولكنها أبعد ماتكون عن الحقيقة..وفيها إلحاد بالحياة ..وبالمقاومة ..وبالخير الذي تتقدم البشرية تجاهه..والفرد العادي الذي يعيش اليوم أسعد كثيرا من الذي عاش قبل ألف عام..ويتمتع بأشياء لم يكن يتمتع بها إلا الملوك..بالطبع أنا أتحدث عن المواطن الغربي..لأننا مازلنا في الشرق نعيش في قرون مظلمة..وقبل أن أستطرد أحببت أن أصارحكم بشيئ..وهو أنني أشعر الأن بتأنيب ضمير.. كأن إعجابي بالغرب – وهو ليس إعجابا بهم كبشر بقدر ماهو إعجاب بالعلم والحرية- فيها خيانة لهويتي المصرية والعربية والإسلامية..ربما لأنني قرأت كل كتب جلال أمين..وتأثرت به كثيرا..ربما لما يملكه من قدرة فنية ..وليس لعمق أفكاره..وهي أفكارجميلة علي المستوي الفني فقط..ولكنها هشة ..ولاتصمد كثيرا أمام أي قراءة نقدية فاحصة..حيث إنه ينطلق من أفتراضات عن فكرة الوطن ..والتقدم..والسياسة..والعلم..ويعتبرها بديهيات دون أن يناقشنا فيها..ولا يعلن دهشته أمامها ..كما اعتاد أن يندهش أمام كل شيء..
ومن المؤسف أنه يتعامل مع رواية جورج أورويل (1984)ورواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلي الشمال ) ورواية أشيبي (عندما ينهار كل شيء) كأنها كتب مقدسة..كما أن رواية (قنديل أم هاشم) تعاني من نفس الالتباس..يجب أن نعرف أن الدواء الذي بلا آثار جانبية بلا آثارنافعة أيضا..وعندما نجرد التجربة الغربية من خطاياها فإننا نجردها من محاسنها في نفس الوقت..
6
في وقت فراغي قررت كتابة تلك الرواية..تخليدا لفترة عشتها..وأملا في أن يقرأها أولادي عندما يكبرون..ليعرفوا أن أباهم لم يكن ملاكا..أو قديسا..أو معصوما من الخطأ..والخطيئة..كان يوما مراهقا مثلهم..وكان شخصا مختلفا..عاش مغردا خارج النص..والسرب..والقطيع..وسبح ضد تيار العادات والتقاليد البالية..لعلهم يقرأونها في أوقات إحباطهم فيفرحون..وفي أوقات غرورهم فيتواضعون..لعلهم يتذكرونني عندما تنساني الأغاني التي كنت أسمعها..والطرقات التي كنت أمشي فيها..لعلهم يصيرون أصدقاء حميمين لأولاد النساء اللائي أحببتهن..وكان أحمد الرفاعي دليلي..ومستشاري في الكتابة..التي تركها..وتفرغ للمحاماة..واكتفي بالقراءة في مجال تخصصه..وكان يخطو خطوات واثقة نحو هدفه..وفي خلال فترة وجيزة استطاع أن يكسب ثقة المحامي الذي يتدرب في مكتبه..وصار ساعده الأيمن..وكانت اتصالاتنا الهاتفية تتباعد..ولقاءاتنا تكاد تتلاشي..واقتصرت علي الأعياد..وفي أحد اللقاءات الأخيرة طلبت منه أن يكتب لي وجهة نظره في كيفية كتابة رواية فكتب لي:
(الرواية في نظري عبارة عن مجموعة من الخواطر الخارجة من القلب عن شخصيات دخلت فيه..وأصبحت جزءا لايتجزأ من نسيجه..أو مجموعة من الأطباق المختلفة ..لايهم أن يأكل القاريء من كل الأصناف..يكفيه أن يجد في طبق واحد مايغريه بالجلوس علي المائدة..الرواية عبارة عن سهرة جميلة تقضيها مع إنسان تحبه..علي مقهي..أو في غرفة مدينة جامعية..أوعلي الكورنيش في ليلة ربيعية مقمرة..تتبادلان فيها النكات ..والخبرات..والذكريات العذبة التي تعيش في وجدانكما..والوحدة العضوية التي يتحدث عنها النقاد هراء..وسفسطة..إذ
أن الوحدة موجودة في كل عمل مهما كان تافها في وجهة نظرهم..الوحدة هي الحياة الموجودة في النص..وهي الشرط الوحيد الذي يجعل عملا يعيش وآخر يموت..والقصائد العربية القديمة التي طالما اعتقد النقاد أنها غير مترابطة..وتخلو من الوحدة العضوية عاشت ..وماتوا هم..دون أن يقرأ التاريخ علي أرواحهم بيت شعر واحد من تلك القصائد التي اعتبروها خارج الشعر..وخارج الصدق..وداخل الثرثرة اللغوية..هذه وجهة نظر خاصة جدا..قد تكون نابعة عن عمي بصري..وبصيرتي.. ..أو عن رغبتي في الاختلاف..والتمرد ..والتطاول علي القامات الكبيرة..نعم لا أحب الطريقة المفتعلة التي يبني بها نجيب محفوظ بها رواياته.. ولا الطريقة التي يناقش بها القضايا الوجودية الكبري..ولا أحب كل من ساروا علي دربه..وخرجوا من عباءته..وأحب الطريقة العفوية التي يكتب بها دستوفسكي ..وبلزاك أعمالهما..والطريقة الرديئة التي يبنون بها رواياتهم..ولكنني أستمتع وأستفيد بصفحات كثيرة من كتاباتهم..كما أكره تلك الروايات التي تتشدق بالإسقاطات السياسية والفلسفية..وأري الكتابة والحياة أبسط من ذلك بكثير..إذ أن قصة حياة أي إنسان إذا تم سردها بصدق.. وبعمق.. وباتساع أفق.. سيكون فيها كل ما يبحث عنه رجل الفلسفة..والاقتصاد..وعلم النفس..وعلم الاجتماع..والتاريخ..
إن الجلوس مع شخص متواضع التعليم يجعلك تقترب من روح الفن أكثر من الجلوس مع روائي شهير..الأخير يلوي عنق الحياة..وعنق من يجلس أمامه..بتحليلات تبدو عميقة..وهي هواء..إنه لا يفهم من الحياة إلا ما يستطيع صياغته في جملة علي حد تعبير الروائي الفرنسي أنطوان دي سانت إكسوبري..أسأل نفسي مالذي يجعلني أجلس أمام شخص أعرفه لأول مرة وأستمع إليه بكل هذا الفضول..وكل هذا الشغف..إنه لم يقرأ شيئا عن طرق السرد..وثقافته لاتتعدي قراءة الجرائد..والفرجة علي المسلسلات التلفزيونية..والمفردات اللغوية التي يستعملها تعد علي أصابع اليد..وغالبا لايستعين بلغة الجسد بطريقة ناجحة..ومع ذلك مؤثر..إذن كل إنسان لديه قصة تستحق أن تروي..بوردها..وبشوكها..وبقشرها..وبلبابها..وبافتقادها أحيانا إلي كل منطق..لهذا تنجح الأفلام الهندية..وميلودرامات حسن الإمام..وحسام الدين مصطفي..ولهذا تنجح إسكتشات محمد سعد..وهنيدي..ويصفق لها الناس..ولكن النقاد والكتاب العظام يحتقرون النجاح الجماهيري..ويجلسون علي المقاهي يمضغون أحزانهم..وأحقادهم..
ويقولون بأن البلد لم يعد فيها مايستحق البقاء..والحياة لم يعد فيها ما يستحق الفرح..هل هذه دعوة للسطحية..والاستسهال..بالطبع لا..المطلوب فقط ألا نعتبر أنفسنا أكثر خلق الله أهمية..ونفعا للبلاد والعباد..الفن السطحي مهم..والروايات التافهة لاتستحق كل هذا الهجوم..إنها القشرة التي تغطي البرتقالة..وتحميها..وتمهد لها..لذا اكتب ياصديقي كل ما يخطر علي بالك ..مادمت تجد فيما تكتبه معلومة شائقة قد يستفيد منها إنسان..اهتم بالمعني ..وبالفكرة..ولاتعط بالا للألفاظ..خلق الإنسان ليكون سيدا لا عبدا..والكاتب الذي يصير عبدا للغة..وللورق الأبيض..ولتوقعات الآخرين- قراء ونقادا- لايمكن أن يحرر عصفورا من قفص..ولا موجة من جدول..ولا مطرا من سحابة..الكتابة محاولة للتحرر..والتعري..والجلوس بملابسك الداخلية في شرفة شقتك..والمشي حافيا علي بلاطها..أن تعطي فرصة لكل خلية من خلاياك أن تتثاءب..وتتمطي..وتفرد ذراعيها لتطير..وتمسك الشمس في كف..والقمر في الكف الآخر..وأفيد علمك بأن ما ذكرته لك سابقا ليس رأيي أنا وحدي..إنه رأي فرجينيا وولف..وهنري جيمس..وختاما أنا في انتظار ما تجود به قريحتك..)
7
في مساء ذلك اليوم اتصلت بي ساندرا..وبدأ الحديث عن الشعر الذي وعدتها بإحضاره ..كنت كاذبا..فقد توقفت عن كتابة الشعر منذ سنوات عدة..أكتب القصة القصيرة فقط..والأشعار التي بحوزتي تخص أحمد الرفاعي..وقصة الحب كانت رواية ارتجلتها..في الجامعة صادقت بنات كثيرات..ولكن قلبي لم ينبض أبدا تجاه واحدة..كنت أعرف ما أريده تماما..لم أقتنع بالحب الرومانسي..والأبدي..إنه خيالات إنسان جائع ..ومكبوت..والجائعون فقط هم من يكتبون شعرا عن الطعام..وكلما ازدادت وطأة الجوع ازدادت حرارة الشعر..ولهيب التنهدات..قصص الحب العظيمة كانت مستحيلة..إنها رغبة في امتلاك ما لايمتلك..رغبة لها صوت وصدي في أعماق كل إنسان..لذا تجد كل تلك القصص العقيمة أذنا مصغية في كل زمان..وفي كل مكان..وستظل باقية مادام الحمقي موجودين..والكبت موجودا..إنها الحديقة الخضراء اليانعة التي يجلس تحت أشجارها المراهقون الذين لايملكون الجرأة الكافية لاختطاف محبوبتهم علي سيارة والذهاب بها إلي سينما أو ديسكو..أو شقة مفروشة..بهذا الانحطاط أفكر..ولكن من رأي ما رأيت سيصل إلي ما وصلت إليه..بالطبع لم أكن ضد الزواج..فلقد تزوجت وأنجبت..ولكن الذي يبحث عن الحب في الزواج كالمسطول الذي ضاعت منه عملة معدنية في شارع مظلم فراح ليبحث عنها في شارع مضيئ..والزواج هو الشارع المضيئ الذي لاتوجد به العملة المعدنية البراقة..لا يوجد بالزواج إلا حصي الصمت..وعلب الروتين والملل الفارغة..ولكنني لم أكن تعيسا في زواجي..والسبب أنني لم أتوقع منه الكثير..لاتوجد امرأة تستطيع أن تكون زوجتك وعشيقتك في نفس الوقت..كما لاتوجد وظيفة يمكنها أن تكون حرفتك وهوايتك..هل تعتقدون أن المطرب – مثلا- يحترف هوايته..طبعا لا..وإن بدا غير ذلك..فالمطرب -في أغلب الأوقات- يفكر في الأغنية التي تعجب الناس..لا التي تعجبه..الهاوي هوالذي يفعل شيئا لمزاجه فقط..ولا ينتظر رأي الأخرين..كالذي يجلس أمام النيل يوما كاملا حبا في الصيد..لا انتظارا لكيلو سمك يبيعه..أو يأكله ..أو يقدمه هدية لأحد..إنه يستمتع وكفي..بالماء..وهواء العصاري..والسماء الرائقة الصافية..الهواية – لكي تكون هواية- لابد أن تكون عبثية..أي لاغاية لها سواها..ولا يهمك أن يعرف أحد أنك تمارسها أو لا..إنها شيء خاص بك جدا..ووجودها شرط أساسي من شروط وجودك..أرأيتم أن الزوجة يستحيل أن تكون عشيقة؟؟
8
أيامي مع ساندرا لويس
اليوم الأول
المكان:حجرة المدرسين
وكان الجميع يلاحظ كثرة جلوسنا سويا..ولكنها لم تكن تبالي..قالت
- اتجوزت يوسف عن حب..أول معرفتي بيه أيام ثانوي..بابا كان بيعمل عملية الفتق..حصل استلطاف ..بدأ يتصل بيا من وقت للتاني..كان البيت عارف..دخلت كلية التربية..كان أحيانا يتصل بيا ويقوللي أنا حلمت بيكي..إنت كنتي تعبانة..ويبقي كلامه مظبوط..في الكلية ما عشتش أي قصة حب..كان فيه صداقة مع ماجد..كان شخص لذيذ..ودماغه عجباني..وكان بيكتب فيا شعر عبيط قوي..بس كان فاشل..وبيسقط كتير..أول ما تخرجت ..اتقدم يوسف..أكبر مني بحوالي عشر سنين..كان عنده اتنين وتلاتين سنة..وأول كلمة قالها أنا جاي ياساندرا ودقني طويلة عشان قاصد تشوفي الشعرات البيض..وتفكري علي أقل من مهلك..دكتور شاطر قوي في شغله..وعنده شقة في شكري (شكري القويتلي أكثر أحياء المحلة الكبري رقيا)..ما كانش يترفض..عندي دلوقت مايكل وماري..عقبالك..
كانت تتكلم بمنتهي الحب والإخلاص عن زوجها..قلت لنفسي لعلها محترمة..ولكنها شخصية اجتماعية..ولذا يساء فهمها..وتكثر حولها الإشاعات..حدثتها عن حبي للسينما..وأن هناك فيلما جميلا يعرض في سينما الجوهرة (واحد صفر)..وأنني أرغب في مشاهدته .. الناقد طارق الشناوي كتب عنه مقالة مغرية..أخبرتني أنها ستقول لأخيها هاني..وربما جاءا معي لمشاهدته..تأكدت أنها محترمة..هي من عائلة متفتحة جدا..وليس لديها العقد التي تستوطن في أعماقنا..
وحدثتها عن حبي للقراءة..قالت إنها تحبها أيضا..كان معي رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي..أرادت أن تستعيرها..ورغم أنني كنت في منتصفها إلا أنني لم أمانع..أمام المرأة الجميلة يكون الإنسان فاضلا لأقصي درجة..وتري الإيثاروقد أصبح سيد الأخلاق..
اليوم الثاني
المكان :أمام سينما الجوهرة والزمان السادسة مساء والجو كان شاعريا جدا..وصلت قبلها بدقائق قليلة..كان الاتفاق أن يأتي أخوها هاني معها..نزلت من التاكسي بمفردها..كانت متألقة..أمرأة أخري غير تلك التي تراها في المدرسة..أمرأة ذاهبة إلي حفل سواريه..قالت إن هاني لم يستطع المجيء ..وإنه حملها سلامه إلي ..وأنه يود التعرف علي..رفضت ساندرا بإصرار أن أعزمها..قالت ضاحكة إنها الأكبرسنا ومقاما..لم أستطع أن أقاومها..في السينما جلست علي يساري..أخرجت من حقيبتها باكو لبان تشيكلس ..وأفرغت بضع وحدات في كفي..كذبت ظني أن تكون عرضا للبدء بتقبيلها..هناك حركات صغيرة لها معاني بعيدة جدا..والبنت التي ترغب في رجل تلجأ إلي طرق ملتوية كطريق اللبان في قاعات السينما المظلمة..المهم أنني انتبهت إلي الفيلم..علمتني التجارب ألا أكون متهورا..وأصل إلي هدفي بطريقة ناعمة..علي قدر التشابه الموجود بين البنات يوجد اختلاف..لذا فالحرص مطلوب..والتحسيس واجب علي كل أعمي..التجربة الجديدة بلد جديدة..والمغامر غريب عنها..التهور قد يجعل الشرطة تنتبه إليك..وتطردك خارجها..بدأ الفيلم..شيء رائع فعلا..كتابة وإخراجا وتمثيلا..كانت إلهام شاهين تمثل دور امرأة مسيحية متزوجة وترغب في الطلاق لأنها تريد الارتباط بعشيقها..همست في أذني إن قصة إلهام شاهين هي نفس قصتها ونحن خارجان من السينما..أمام السينما وقفنا قليلا..نظرت لي وابتسمت وقالت بجدية:
- وائل ..أنا محترمة
كانت جملة غريبة..فسألتها
- ليه بتقولي كده..
- عشان خرجت معاك
- أيه المشكلة إحنا مش بقينا أصحاب
صمتت قليلا ثم قالت
- فيه حاجة تانية عايزاك تعرفها
- قولي
- خايفة تفهمني غلط
اشتعل فضولي أكثر
- هاني مش أخويا..هاني الإنسان اللي باحبه..
كأن أمرأة في الدور الثلاثين دلقت علي رأسي جردل ماء متسخ..كنت أتوقع أن تقول إنها تحبني أنا لكي يصير كلامها معقولا ومقبولا..فمن هو هذا الهاني الحقير الذي يستحق هذا الجسد أكثر مني..تمالكت غيظي وصدمتي وقلت لها
- أليس من الأفضل أن نجلس في كافيه لنتكلم بحرية أكبر..
أوقفت تاكسي ..ركبنا..لا أدري لماذا تذكرت في هذا الوقت بطلات إحسان عبد القدوس..في كافيه عمر الخيام طلبت زجاجتا كولا وشيشة خوخ..دخنت معي..حكت لي عن هاني (زفت)..وأنها تعبده عبادة..وأن والدتها تعرف..وأن زوجها يعرف أيضا..قلت لها مغتاظا وأنا أنفث دخان الشيشة إلي أعلي
- وما هو المطلوب مني الآن..أن أكون طبيبا نفسيا لسيادتك..وأستمع إلي مأساتك ..وأحاول حلها..اسمحيلي أنا شخص أناني جدا..وعندما أجلس مع أحد أحب ألا يخرج الكلام عن كلينا نحن الاثنين
قالت لي وهي تتأملني بإعجاب
- ومين قالك إني باحب هاني..خلاص بقينا اصحاب..وكل اللي بينا مكالمة في التلفون كل شهر أو شهرين..
فسألتها بلامبالاة
- وأنا فين بالنسبة لك؟
فقالت هامسة كلبؤة مستثارة
- أول ماشفتك حبيتك..
لفظ الحب بالنسبة لأمثالنا هو تعبير مهذب جدا عن الاشتهاء الجنسي..وفي تلك اللحظة انطفأ النور في الكافية لدقيقة ..ولما كنت من رواد هذا الكافيه الدائمين فقد كنت أعرف أنها حيلة خبيثة يفعلها صاحبه من حين لآخر لجذب الزبائن ..في تلك الدقيقة – وكنا نجلس علي فوتيه متجاورين- وضعت يدي علي عنقها ..واختطفت منها قبلة طويلة..طويلة جدا..وضممتها بقوة إلي صدري..وعندما أضاء النور رأيت علي وجهها غضبا راضيا..وقالت
- ماتصورتش ده يحصل بسرعة كده..
كنت منتشيا جدا بمعرفة امرأة رخيصة من سيدات المجتمع..وأحببت فيها وضوحها الشديد..واختصارها لخطوات كانت تطول إلي درجة الملل في كل علاقاتي السابقة..وبعد صمت لذيذ قالت
- ياريت الموضوع ده ما يحصلش تاني في مكان زي ده..إحنا مش مراهقين
سألتها ببرود بعد أن تأكدت أنها قد صارت ملكي
- عايزاه فين؟
- عندي في الشقة
قلت لكم إن علاقاتي السابقة لم تصل إلي هذا الفجور..كانت قاصرة علي قبلات مسروقة في السنيمات والحدائق العامة..لذا أذهلني ماقالت..عرفت ساندرا ما أفكرفيه فاستطردت
- جوزي بيبقي عنده نوبتجية 24ساعة اتنين وجمعة..اختار اليوم اللي يناسبك..
كان يوما من أسعد أيام حياتي..أحسست أنني أصبحت إنسانا عميق التجربة..وعرفت شخصية مثيرة..وتمتلك أسرار الحياة الحقيقية التي كنت مشوقا لمعرفة ماأستطيعه منها..
اليوم الثالث
أصبح الهاتف المحمول بطل تلك الفترة..وكنت أشتري كارت شحن يوميا بخمسين جنيها..وانقطعت علاقتي بها تماما في المدرسة..وتأكدت أن الناس الذين يعتقدون في وجود علاقة مشبوهة بين رجل وامرأة يجلسان كثيرا في مكان عملهما جهلاء..إذ أن من يفعلون ذلك يعاملون بعضهما بتجاهل تام أمام الآخرين..ولكنني تعلقت بها جدا..وأصبحت رؤيتها طقسا يوميا لابد من ممارسته لكي أشعر بأنني علي مايرام..كنت علي يقين أنها علاقة قصيرة العمر..وينبغي علي أن أنهل من المتعة بقدر ما أاستطيع..وكان موعدنا الجمعة..اتصلت بها في تمام التاسعة ..أخبرتني أنها في انتظاري..وأن شقتها في الدور الثالث في إحدي العمارات المواجهة لمطعم سمسمة الشهير..وفي أقل من نصف الساعة كنت هناك..اتصلت بها ..ردت.. وحددت لي العمارة عن طريق لونها ورقمها..وقالت لي إنها ستقف في البلكونة..رأيتها..ابتسمت..ورأيت بسمتها أكثر وضوحا من بدر التمام..رغم أن المسافة التي كانت تفصلني عنها كانت بعيدة..تيقنت أن الحواس لها قدرات خارقة لا نعرفها إلا في لحظات خاطفة من عمرنا..تلك اللحظات التي نكون فيها علي شفا حفرة من النار..أو الجنة..لا أنكر أنني كنت خائفا جدا..هل في الأمر فخ ما..تساءلت.. ولكن رغبتي كانت أقوي من أي تردد..وصعدت حتي وصلت إلي الدور الثالث..ربما لو رآني أي أحد من سكان العمارة لعرف ما أنا مقدم عليه..بشرط واحد..أن يكون نجس الذيل مثلي..فالمحترمون لاتذهب عقولهم إلي تلك المنطقة أبدا..لايتصورون أن أمراة يمكن أن يسمح لها ضميرها بالإقدام علي تلك الخطيئة..لاحظت ذلك وأنا أتناقش مع زملاء من تلك العينة مثل مصطفي السعدني الذي كان يعتبر كل حكاياتي عن مغامراتي العاطفية هلاوس وضلالات..أحكيها رغبة في استعراض ذاتي ورجولتي..لم أحتج إلي الضغط علي الجرس..بمجرد أن وقفت أمام الباب فتحته..دخلت (أو دلفت بلغة الكتاب الجهابذة)..كانت ترتدي قميصا ربع كم ماركة نايك وبنطلونا رياضيا ماركة أديداس وسابوه ( زنوبة البنات الهاي)..كانت شقة فخمة وقريبة الشبة من تلك الشقق السينمائية التي كان يصممها مهندس الديكور الموهوب نهاد بهجت..فتحت الثلاجة وأحضرت زجاجة شمبانيا..الكثير من الإخوة الأقباط يتعاملون مع الخمور كالأوربيين..ويعتبرون قليلا منها لا يضر..الحشيش هو كيفي المفضل..ولكن هذا لايمنع أنني جربت أنواعا كثيرة من الخمور في رحلات إلي شرم والغردقة وأسوان في فترة الجامعة..كانت معظم هذه الرحلات مدعمة عن طريق مكتب أمانة الحزب الوطني في سمنود..بعد أن شربت كأسي ( أو تجرعت بلغة الكتاب الجهابذة أيضا ) نسيت كل مخاوفي ووساوسي..وانتبهت لمفاتنها..وفاجأتني عندما رفعت يدي وقبلتها..بتلك القبلة شعرت أنها امتلكتني..وعرفت من تلك اللحظة أن الحب ليس فطريا كما يعتقد السذج..هناك همسات ..ولمسات معينة تدغدغ مشاعر الجنس الآخر..وتجعله أسيرا لك..وهذا ما يجعل رجلا واحدا قادرا علي جذب مئات النساء في حين أن مئة رجل يعجزون في أوقات كثيرة عن اجتذاب امرأة واحدة..الجاذبية تحتاج إلي فن ..والفن يعتمد اعتمادا كليا علي الأكاذيب والحيل والمرواغات..بشرط أن تبدو صادقة ومقنعة..في الحب والفن تأكدوا أن الوضوح كريه إلا إذا كان يخفي خدعة ما..الشخصيات الواضحة الطيبة المحترمة لانتذكرها..لانتذكر إلا الأندال..والأشرار..والكذابين..لا نتذكر إلا من جرحنا ..وعلم علي قفانا باللغة الدارجة..نعم إنه تذكر مصحوب باللعنة والحسبنة (أن تقول حسبي الله ونعم الوكيل )..ولكنه تذكرعلي أية حال..مازالت الشوربة ألذ طعما من الزبادي رغم لسعاتها القاسية..الزبادي بارد..ومحايد..ودمث أكثر من اللازم والمفروض..إنه – كالبيض المسلوق- مفيد ولكن لاطعم له..ليس هذا رغبة مرضية في تعذيب النفس كما يقول علماء النفس الأفاضل..ويتوقفون ..وأفادنا وأفادكم الله..داخل كل إنسان رغبة شرسة في المعرفة..والمعرفة التي أقصدها ليست تلك الموجودة في الموسوعات والقواميس..إنها النوافذ التي نري بها أنفسنا وغيرنا بطريقة أفضل..وحياتنا – بعد تعرضنا لخدعة ما من ندل- أعمق بكثير منها قبلها..نعم أردت أن أقول ما قاله الشاعر الإنجليزي ألكسندربوب ( الشر الجزئي ما هو إلا خير كلي)..أي أن الهدف النهائي من الحياة هو الخير..هل ابتعدت عما حدث في تلك الليلة كثيرا؟؟..تعمدت أن أفعل هذا.. أريد أن أكون محترما مع الورق الأبيض لأنني عاجز عن أن أكون كذلك مع الأشياء الأخري البيضاء..ولكن من الطريف أنه قبل أن يحدث بيننا أي شيء وجدتها تقول لي
- اوعي تفتكر أنا قلتلك تيجي هنا عشان أكتر من إنك تحضني..لازم تعرف إني عندي برود ..ومافيش راجل يقدر يحركني..
كانت امرأة استثنائية لاتنطق كلمة إلا وهي تعرف ماذا ستفعل فيمن تحدثه..لا أعرف متي وكيف اكتسبت كل تلك الحنكة..لاحظت أنها لاتصل إلي الأورجازم إلا وأنا أهمس بالكلمات البذيئة في أذنها..هي التي لفتت انتباهي..وقالت لي إن كل النساء يشتهين ذلك..والخجل والعفة المصطنعة هي التي تمنعهن من البوح والمصارحة والمكاشفة..
بعد أن انتهينا..وكانت الساعة تشير إلي الثانية عشر..أخرجت رواية ذاكرة الجسد
من درج الكومودينو جوار السرير وفتحته علي صفحة فيها هذه الجملة
- الوفاء لأجساد الآخرين خيانة لأجسادنا..
ثم فتحته علي صفحة أخري فيها هذه الجملة
- النساء إما عاهرات ..أو قبيحات
ثم قالت
- علي فكرة أنا مش باحب القراية..أنا أخدت الكتاب منك عشان يبقي معايا حاجة من ريحتك ..وقريته بس عشان خاطرك..ودول أجمل جملتين في الكتاب..
أيام أخري
يمكن أن توضع تحت بند اليوم الثالث..فقد تكرر ماجري فيه بحذافيره..
اليوم الرابع
يمكن أن يوضع أيضا تحت بند اليوم الثالث..ولكن ما يجعله يوما ذا نكهة خاصة أنه كان في إحدي شقق مدينة رأس البر..وعلي شاطيء بحرها الرائع..قضينا يوما كاملا هناك..في الوقت الذي كنا نقضيه معا كانت تترك أولادها عند جارتها نرمين..التي كانت تعرف قصتنا معا..
اليوم الخامس
كان في الواقع أياما..هي التي شجعتني علي شراء سيارة لانسر بالتقسيط..كنت رافضا تماما لفكرة الشراء بتلك الطريقة..ولكنها قالت لي
- زوجي كان مثلك ..كان بيخاف قوي من فكرة المغامرة..ويقعد يحسب فيها..علمته ازاي يدخل بقلب جامد في أي حاجة..الناس اللي بتنجح هي الناس اللي بتغامر..ماتعملش زي الفلاحين..يفضلوا عاملين حساب لبكرة ليوم ما يموتوا..وتلاقي الواحد فيهم عنده كذا فدان..يجيبوا الشيء الفلاني..ومش لاقي ياكل..ولا لاقي يلبس..ولاقي يعلم ولاده..لو غامر وباع فدان..واشتري حتة أرض مباني..وبعدين بعد ست شهور باعها هيكسب فلوس يعيش بها ملك.. الناس اللي بتخاف تخسر.. عمرها مابتكسب ياوائل..عشان تكبر في الدنيا لازم تحط نفسك في ضغط..وتبقي في خطر..هاتلاقي نفسك بتعمل حاجات عمرك ماتتصور أنك يوم ممكن تعملها..ادفع اللي معاك مقدم..ويوم ماتتزنق في التقسيط هاساعدك..وعارفة إنك فلاح (سمنود في نظر المحلاوية أرياف..والمحلة في نظر القاهرة والأسكندرية أرياف أيضا..وأهل القاهرة في نظر البدو فلاحين..نأسف للمقاطعة) ..وهترفض واحدة ست تساعدك ..تبدأ تدي دروس خصوصية..مستني أيه..
وأقدمت علي تلك الخطوة..وهي التي علمتني القيادة بصورة محترفة في إحدي الأماكن الشاسعة القريبة من حي الشعبية في مدخل المحلة الكبري..وذات مرة حاولت تقبيلها فوجدتها تبتعد وتقول
- وائل ..عشان خاطري ماليش نفس
تضايقت جدا..ولم أبادلها الكلام ..ظللنا صامتين طول الطريق..وعند أول شارع شكري نزلت من السيارة ..كنت قاسيا جدا عليها..ولم أكلف خاطري بالسلام عليها..
بعد أن وصلت المنزل..وجدت الهاتف يرن..كانت هي..فتحت ..وقلت ببرود
- أيوة..عايزة تحرقي دمي تاني
كانت تبكي وهي تقول
- ماكنتش اعرف ياوائل إني رخيصة عندك كده..إوعي تفتكرأنا باعمل معاك كده عشان أنا عايزة كده..لأ أنا باعمل كل ده عشان ماخسركش..مش ينفع أخسرك..إنت أحلي حاجة في حياتي..من يوم ما عرفتك بطلت تدخين..وبطلت ترامادول..كل اللي نفسي فيه أفضل اتكلم معاك وانا حاطه راسي علي صدرك..
بنت اللذين استطاعت أن تستولي علي تماما..لم يعد هناك أي مساحة أخري للتفكير في أي شيء سواها..
اليوم السادس
كنا في سيارتي في الطريق إلي رأس البر..لم نكن ننوي سوي الجلوس علي الشاطيء لساعة أو ساعتين ثم الرجوع..بل لم يكن هدفنا الوصول بقدر ماكان الاستمتاع بالانطلاق..كان معي في السيارة شريط فضل شاكر – مطربي المفضل- الأخير (نسيت أنساك)..الشريط الذي يعتبر خير مؤرخ لعلاقتي بها..كنا في ذروة العلاقة..وكنت قد شعرت بالإشباع التام منها..وفي مثل هذا الوقت يشعر الإنسان برغبة غامضة في الانسحاب..والتراجع..إلي كهف خصوصيته..وقوقعة استقلاليته..كأن وجود أخر في حياتنا بكل هذا الحضورالصاخب يهدد ذواتنا..في الشريط كانت هناك أغنية جميلة تقول (هاخلي بالي من نفسي..واحاول ماشوفكشي..خايف أقابلك تاني..قدامك ماقدرشي..أنا ليه كل مااشوفك..بانسي قوام وارجعلك..لازم أغلب ضعفي..مش لازم أسمعلك..وعشان اعرف اسيبك ..هابعد وما أقولكشي..هاخلي بالي من نفسي..)..كانت هذه الأغنية صدي لصوت يتردد في أعماقي..كانت قد أصبحت أفيونتي..استعبدتني..خناقات كانت تقوم بيننا لأن ساعة مرت دون أن تتصل بي..أو ذهبت إلي مكان ما دون أن تخبرني..أو ارتدت بلوزة تكشف عن منبت نهديها..أو وقفت مع مدرس زميل وتبادلت معه الضحك..أو صبغت شعرها بلون لا أحبه..أو اتصلت بها وكان هاتفها مشغولا لفترة طويلة..أو قالت إنها قضت ليلة حميمة مع زوجها..
جملة اعتراضية
أحب أن ألفت نظر القاريء الكريم إلي أنني لا أعتبر اليوم أربعا وعشرين ساعة..اليوم هو المدة التي تحمل حالة خاصة..قد يكون ساعة..وقد يكون أسبوعا..وقد يكون شهرا..أيام الامتحانات – مثلا- في رأيي هي يوم واحد..أي أن الزمن النفسي هو الذي أعترف به..لذا أري من السخف أن يقول إنسان إن عمره كذا سنة..العمر الحقيقي هو عدد الأيام التي تركت بصمة علي مشاعرنا..هناك أناس عاشوا مائة عام وعمرهم الحقيقي لايتجاوز بضعة أيام..وهناك العكس..أناس عاشوا سنوات قليلة ولكنهم عواجيز بعمق التجارب التي مروا بها..ويعجبني في ذلك رباعية صلاح جاهين:
أنا شاب لكن عمري ولا ألف عام
اليوم السابع
ثلاث أيام كاملة وأنا لاأتصل بها..ولا أرد علي اتصالها..وأغاظني أكثر أنها لم تتصل سوي مرة واحدة فقط..كنت في عذاب لايوصف..وانتظرت أن تتصل أكثر من مرة..ولم يحدث..في صباح اليوم الرابع اتصلت بي ..لم أستطع أن أتجاهلها كما كنت أنوي..قلت بغضب مكتوم
-أيوة
قالت بلهجة حيادية
- إنت جاي المدرسة النهاردة ؟
قلت
- عايزة أيه
قالت كالمعترضة
- إنت بتزعق كده ليه..
قلت بصوت واطيء متجاهلا رغبتها في فتح حوار
- عايزة أيه
قالت
- عايزة أديك الهدايا اللي انت جبتهالي
قلت
- خمس دقايق وهابقي في المدرسة..وهنتكلم في الموضوع ده..
بمجرد أن رأيتها فرت البسمة من شفتي ..ابتسمت هي الأخري..كان هذا أمام مكتب الحضور والانصراف..من حسن الحظ كان معظم المدرسين قد توجهوا إلي الفصول.. وضعت يدها في الشنطة وقالت
- استني خد الحاجة
- باين عليكي عبيطة
- ماتغلطش
- أغلط فيكي وف أهلك كمان
- مش إنت اللي عايز تبعد..ابعد براحتك..مش فارق معايا..
- مش هاينفع أكلمك دلوقت..لما نتقابل النهاردة بالليل
ضحكت ضحكتها الخبيثة التي لاحد لروعتها..ضحكة تغريني دائما أن أعتصرها في حضني..ولا يشفي غليلي..
اليوم الثامن
في كل علاقة حب لابد من وجود طرف أقوي من الآخر..طرف حاكم..وطرف محكوم..وطوال الأيام السابقة كنت أنا الأقوي..واكتشفت بعد ذلك أنني كنت واهما..هي أرادتني أن أعتقد ذلك..وكانت تفعل كل مايرضي غروري..ولكنها منذ هذا اليوم تأكدت أنني لم أعد قادرا علي الاستغناء عنها..لذا بدأت تظهر أوراقها المخبأة تحت الطاولة ( الترابيزة)..الورقة الأولي أنها مازالت علي علاقة بهاني..وأنه حبها الحقيقي..وأنه يريد أن يتعرف علي..وحدث أن قابلته..ودار بيننا حديث قصير عن الجو..والسيارات..والأهلي والزمالك..لم أستطع أن أغوص في أعماقه ( أسبر أغواره بلغة الجهابذة)..وتبادلنا أرقام الهواتف..وفوجئت بها تقول لي
- امسح رقم هاني
سألتها مندهشا
- ليه؟
فكان ردها الذي لم أفهمه
- عشان لو زعلنا مع بعض..ماتتصلش بيه وتقول له
لم يكن يعنيني رقمه في شيء..من العبث أن تفكر في الحكمة من ظهور بعض الأشخاص في حياتك..إنهم أشبه بالأشخاص الذين يعبرون أمام الكاميرا أثناء تصوير حوار تلفزيوني مع لاعب كرة بعد المباراة..وحاولت أن أفهم منها لماذا أراد أن يتعرف علي..ولكنها لم تكن تجيب
اليوم التاسع
استيقظت من النوم علي رنة الموبايل ( الله علي حبك إنت)..
- أيوة مين معايا
فسمعت صوتا أنثويا فيه بحة مثيرة لم أسمع مثله من قبل ولا من بعد..
- أنا عارفاك كويس..ولسة شايفاك النهاردة.. بس إنت مش عارفني
- يعني مش هتقولي إنت مين
- لما اطمنلك هاقولك..تعرف إني ماكنتش اعرف إن صوتك في التلفون حلوقوي
- صوتي بس اللي حلو ..فيه حاجات تانية أهم ..
- أنا عرفت إن آخرك بوس..وانا شبعانة بوس
- وعرفتي أيه تاني
- إنك بخيل آخر حاجة
- وعرفتى أيه تالت
- إنك مغرور.. مش عارفة علي أيه..
- طيب كلميني عن نفسك شوية..
- أنا سين..ومتجوزة..وجوزي مسافر..وعندي واحد وعشرين سنة..وصدرين كبارقوي.. وسخنين قوي..وممكن تشوي عليهم درة..
- واضح إننا هنبقي صحاب..
- مافتكرش
- أنا عايزة راجل عملي..وسمعت إنك كلام وخلاص..الكلام ده تضحك بيه علي المراهقات اللي بتعرفهم ..
وعلي هذا المنوال استمرت المكالمة بيننا ما يقرب من الساعة..كان حوارها شيقا جدا..ولأنني كنت فاضيا ..وكان تفكيري في الجنس متواصلا أربعا وعشرين ساعة..فقد استمرت علاقتنا الهاتفية وقتا طويلا..
بعدها بشهر كنت أجلس مع ساندرا في كوك دوور (فرع المنصورة..أمام بوابة الجامعة الرئيسية) وفوجئت بها تقول لي بعد أن انتهيت من أسطوانة الغزل المشهورة التي لابد منها لإذابة أعصاب أي امرأة قبل الدخول في الموضوع الأساسي..
- وأخبار المزة اللي بتكلمك أيه؟
قلت كأنني لا أعرف ماتتحدث عنه
- مزة مين؟
- نرمين صاحبتي..اللي باسيب عندها الولاد لما نكون مع بعض..كل مكالماتها معاك بتبقي قدامي..إنت عمرك ما قلتلي الكلام اللي بتقولهولها..
- أنا بحبك ياساندرا..وانت عارفة كده كويس
- كنت فاكره كده..علي فكرة نرمين متنيلة زيي في جوازها..وعلي علاقة بكرم أخوهاني..
9
روح الكمال شوقي
عرفت روح أثناء اليوم الرابع في علاقتي بساندرا..واستعرت قصة الحب الضائع من أحمد الرفاعي لأقرأها عساها أن تساعدني..وتذكرت قصة الطريق..والصراع بين نور (الجسد) وإلهام (العقل)..
* * *
مدرسة الرسم الجميلة..والرقيقة..والتي رأيت فيها من النظرة الأولي زوجة مناسبة..لم أكن منجذبا لها انجذابي لساندرا..ولكنني حسبتها بالعقل..الزواج يحتاج إلي امرأة من نوع روح..طيبة..وبنت ناس..وفي حالها..وهناك إجماع علي أخلاقها..وقيل بأنها مثقفة..ومختلفة عن كل البنات..وقيل بأن عبد الفتاح كتكوت وعدها بالزواج..ثم تخلي عنها..لذلك هي مكتئبة..ومنعزلة..قررت أن أقترب منها..وبعد محاولات مضنية استطعت أن ألفت انتباهها..وحصلت علي رقمها..واتصلت بها..فقالت بحدة ووضوح
- إنت عايز مني أيه ياأستاذ وائل
- عايز اتكلم معاك ..وتتكلمي معايا..جايز يتولد حب ويكلل بالارتباط
(كنت أحدثها بالطريقة التي تقنعها..)..ضحكت..وتبادلنا الحديث المعتاد في بداية كل علاقة..كل طرف يعطي نبذة مختصرة عن حياته ككل..ماذا يحب..وماذا يكره..أغانيه المفضلة..هواياته..أحلامه..ذكرياته الجميلة..الشخصيات القريبة من قلبه..مالذي أعجبه في الطرف الآخر..والليالي التي سهرها يفكر في الاقتراب منه..وبقية القصة الحمضانة والمملة التي تعرفونها أكثر مني..بعد انتهاء المكالمة كنت في قمة سعادتي لدرجة أنني ذهبت إلي أحمد الرفاعي في بيته ..قالت لي والدته إنه نائم..فرجوتها أن توقظه لأنني أريده في موضوع شديد الأهمية..فقالت بطيبة
- أدخل صحيه إنت ياوائل..هيزعقلي..إنت عارف صاحبك موته وسمه حد يصحيه م النوم..
عندما نفرح بشدة..أو نحزن بشدة..أو نغضب..أو ينتابنا أي شعور طاغ ننعزل تماما عن العالم ..وتنقلب عيوننا إلي الداخل..ولانري إلا أنفسنا..نصير أبطالامسرحيين..ويصير الآخرون جمهورا يجلس علي مقاعد خشبية في الصالة..لاعليه سوي أن ينفعل بكل ما نشعر به لكي نرضي عنه..ونقول بأنه جمهور واع وذو ذائقة فنية عالية..لذا لم أقدر أبدا أن أحمد رجع من المحكمة منهكا..وخصوصا أنه ينتقل من مدينة إلي مدينة جريا وراء القضايا محاصرا بالوقت الضيق..والمواصلات الصعبة..والجو الممتليء بالغبار..وروائح العرق..والمرتب الضئيل الذي يتقاضاه ..كل هذا من أجل أن يتعلم صنعة يستطيع أن يكسب منها ما يجعله يعيش في المستوي الذي أعيش فيه..المستوي الذي ولدت فوجدته كالملعقة الذهبية في فمي..
أزحت الغطاء عن وجهه (كوفرتا من بتوع الجيش )..وقرصته في ذراعه..
- إصحي يابني..عندي لك خبر يجنن..
قام وجلس وعلي وجهه علامات الإرهاق الشديد..قال لي
- روح اعملي كوباية عصير لمون الأول عشان أبدأ أركز معاك
ذهبت وفعلت..حزنت جدا وأنا أعمل له كوباية العصير دون ثلج ودون خلاط..
فاستعنت بماء الحنفية الساخن..وبالسكينة لكسر الليمونة..في ثواني كنت قد انتهيت..قدمتها له..شربها علي مرة واحدة..شعرت لحظتها بطيبة هذا الإنسان الذي خلق لكي يتحمل سخافات الآخرين..الفقر لايدع لديك أي مساحة للا ختيار..أو الرفض..أو الغرور..أو التعالي..أو الكرامة..وفي أمثالنا العامية عشرات الأمثال التي تسخر من كبرياء الفقراء ومن عزة أنفسهم..قلت له
- باركلي..روح ردت أخيرا علي النهاردة..وقعدنا نتكلم ساعة..بحمد الله مافيش واحدة في الدنيا تصعب علي اخوك..
- إنت ناوي تصيع معاها ولا أيه
- أنا حاطط لنفسي قاعدة ياحمام..اللي مش هاقدر اطولها في الحرام هاتجوزها
- وائل لازم تعرف إن مافيش ست في الدنيا تقدر تقاوم راجل وسيم وكلامه حلو كتير..الحديد نفسه بيلين بالضرب الكتير عليه..والموج العالي بيفتت الصخر..كل الرمل الموجود علي شواطيء البحار كان صخر في يوم من الأيام ..وموج من نفس عينتك قام بالواجب.. بس الفرق المهم بين المحترمة والمومس..المومس ممكن تدي نفسها لأي حد..المحترمة ممكن تضعف قدام إنسان بتحبه مرة ..وتفضل ندمانة طول العمر..
- هو فيه حاجة اسمها حب أصلا..كله وهم يامعلم
- حاجات كتير في الحياة وهم وبنصدقها..الحقيقة وهم..والعدالة وهم..
الحياة نفسها أكبروهم..أيه المعني من إنك تعيش وتحلم وتتعذب وتحلم وتموت..إحنا اللي بنحط معني ع الحب وع الحياة عشان تستاهل نعيشها..
- أيه المعني اللي ممكن نحطه ع الحب
- إنك تلاقي حد معاك وجنبك وساندك..تحميه ويحميك من الأيام..ياخد باله منك لو تعبت..ولو كبرت..ولو اسودت الدنيا في عينك..حاجة كدة زي اللي كان بين الرسول والسيدة خديجة..مودة ورحمة وثقة واحترام.. الحب ما ينفعش يبقي مشروط ..ماينفعش تقول أنا باحب حد عشان هو كذا..ده إعجاب..وف لحظة بيتقلب نفور..وكراهية..الحب إنك تحب حد رغم إنه كذا وكذا..إنك تبقي شايف عيوبه ومع ذلك بتحبه..
- الكلام ده كان زمان أيام جدي وجدك..أيام ماكان الجواز ببلاش..والقيم الروحانية والأخلاقية هي سيدة الموقف..والراجل بكلمته..والست ماترفعش عينها في عين جوزها..جوزها اللي يفضل يضربها ويعجنها وهي تقول سامحني ياسي السيد..ومستحيل تغضب وتروح بيت اهلها..تبقي كارثة..ودا مش عشان كان عندهم أخلاق أحسن من ستات اليومين دول أبدا..الحكاية إن الست كانت بتعتمد اقتصاديا ع الراجل..وعارفه إنها من غيره ممكن تموت من الجوع..عشان كده كانت بتستحمل زي العبيد تمام..دلوقت المرأة خرجت للعمل..وبقت بتكسب فلوس..ووثقت من نفسها..وما عدش راجل يملا عين واحدة فترة طويلة..عندك ساندرا مثلا جوزها راجل جراح مشهور..وغني..ووسيم..أوسم مني بمراحل..ومع ذلك زي مانت عارف..
- ساندرا دي حالة شاذة ياوائل..ماينفعش القياس عليها..الإنسان بطبيعته بيكره التعدد
- إتكلم عن نفسك..امرأة واحدة لاتكفي..التعدد هو الطبيعي..اتفرج ع الديك بيبقي معاه كام فرخة..حاول تخلي ديك تاني يدخل معاه كده..هتشوف صراعات رهيبة..عارف ياحمام أنا مشكلتي إني عايز جديد كل يوم ..باكره الحاجة اللي تتكرر مرتين..بازهق..واقرف..وابقي مش طايق نفسي..ياراجل أنا اتخنقت من الشمس..كل يوم اصحي الصبح ألاقيها..تحس إنها موظفة خنيقة..ومنضبطة جدا..لدرجة إنك تظبط ساعتك عليها..
- وليه ماتقولش الشمس عشان بتشتغل الشغلانة اللي بتحبها مابتزهقش..وفي صمت وإنكار للذات بتأدي عملها..عشان كده المصريون القدماء عبدوها..وتخيل بعد مابطلوا يعبدوها مازعلتش..ماقالتش والله مانا طالعة عليكو تاني ياولاد الكلب..الشمس هي مثلي الأعلي..في حبها لشغلها..وفي التزامها..وفي إصرارها إنها تؤديه لآخر يوم في عمرها..
- أيه ياعم الشاعر..أحنا كنا واقفين ع الأرض..فجأة بقينا في السما ورجعنا لرع وأخناتون..والله خايف لتقع علي جدور رقبتك من الخيال اللي انت عايش فيه..الإنسان جسد ..أنا مش مقتنع بموضوع الروح..تقدر تقوللي هي فين؟
- أيه المتعة في وجهة نظرك؟
- زي ما الشاعر القديم قال:أكل اللحم ولمس اللحم ودخول اللحم في اللحم
- وقراية رواية ..والفرجة علي فيلم مش ممتعة؟
- ممتعة جدا..بس برضه لأسباب جسدية بحتة..تتفرج علي مزة حلوة..ع البطل وهو بيثبتها وتتعلم منه..المتعة في إنك تتعلم حاجات تفيدك في الواقع اللي إنت عايشه..تضحك عشان تحرق زبالة التكشير اللي علي وشك..اللي بيشوف أشكال مايعلم بيها إلا ربنا..ياحمام إحنا عايشين في شارع أجارك الله..البنات اللي فيه مش هاقولك شكلهم مش حلو..اسمهم كمان يجيبلك اكتئاب..باتعة..وبخاطرها..ومحاسن..وحدقة..وام علي..ياراجل أقسم بالله اللي بيكبر من غير مايمر بمرحلة حب بنت الجيران بيبقي شخصية معقدة ومليانة كلاكيع زي حالاتنا..
- والمتعة في الصلاة؟
- اسمع ياحمام ..بعد أي تكليف وواجب ستشعر باسترخاء ومتعة..بعد ماتعمل واجب فرضه عليك مدرس غتيت..بعد ماترجع من مشوار رحته غصب عنك عشان امك ماتزعلش..بعد ماتروح تعزي واحد صاحبك في حد من قرايبه..وتفضل قاعد ساكت ومكتوم ربع ساعة طول مالشيخ بيقرا الربع..الموضوع أبعد ما يكون عن المتعة الروحانية..
- وائل ..ياريت ماتقولش الكلام ده قدام حد..هيقولوا عليك كفرت..
- الناس أجبن ماتتخيل ياحمام..وطول مانت بتعزمهم علي شاي وسجاير و بيبسي وشيبسي من الحجم العائلي بيبقوا زي الفل..وبيستحملوا كل الكلام اللي انت بتقوله..ممكن يقولوا عني هوائي..لاسع حبتين.. مش أكتر من كده..
- يعني ناوي تعمل أيه مع روح؟
- إنت عارف إني عمري ما فكرت في بكرة..باسيب نفسي للمود(المزاج بالإنجليزي ولكنها أصبحت لفظة عربية) بتاعي.. ومطرح ماترسي..
- يعني ناوي تلعب
- حياتي كلها لعب..وحب..وهزار..اليوم اللي ابقي فيه جد..والبس بدلة زي بتاعة محمد قنديل يبقي آخر يوم في عمري..
- ربنا يوفقك ..تعرف تمشي بقي عشان أنا عايز أنام..ورايا مكتب من الساعة سابعة..
- هترجع إمتي؟
- علي إتناشر..أتناشرونص..في الباص بتاع عمال شركة الغزل
- قشطة..هاستناك ع المصطبة اللي قدام سوبر ماركت أبو عبدالله..
* * *
في ظهيرة اليوم التالي لتلك المكالمة كنت مستندا علي سور الدور الرابع أمام أحد الفصول..ومستغرقا في التدخين والتفكير في ساندرا وروح..ووجدت الأستاذ حنفي مدرس الصناعة يقترب مني ..هو رجل متوسط القامة..في حوالي الخامسة والخمسين من عمره.. أصلع ..تتوسط أعلي جبهته زبيبة صلاة..وفي يده تتدلي سبحة ذات فصوص لامعة..كان الكلام الذي يقوله ياقوت عنه بعيدا عن الحقيقة(عرفت بعد ذلك أن السبب عدم تنقيط الأستاذ حنفي له في فرحه عندما علم بموضوع ليلة الاختبار..والمصيبة أنه هو الذي فضح نفسه)..فالرجل ذو سمعة طيبة جدا في المدرسة..ولايتواني عن مساعدة كل من يحتاج إلي مساعدته..فهو يساعد من يريد الزواج بمبلغ محترم من المال..ويصلح بين المتخاصمين..ويعود المريض..ويمشي في جنازة المتوفي حتي وإن كان لايمت له بصلة..ولم يكن متشددا في الدين..فهو يستمتع بالأغاني الجميلة..ويناقش أفكار المختلفين معه بمنتهي الهدوء والتسامح..ولأنه محترم جدا فلم أجد مبررا يجعلني أقترب منه..لا أقترب إلا من الحشاشين..ومدمني أفلام البورنو..وأصحاب الآراء الشاذة في الدين..والجنس..والسياسة (الثالوث المحرم..أو تابوهات المجتمع)..أنا هكذا..لا أجد متعة إلا في مصادقة الخارجين علي النص..
* * *
قال الرجل وهو يضع إحدي يديه علي كتفي بحب
- إزيك ياوائل..ممكن اتكلم معاك في موضوع
- اتفضل ياأستاذ حنفي
وألقيت السيجارة في الحوش احتراما لسنه الذي يقترب من سن والدي
نظر إلي وجهي بتمعن ليعرف أثر كلامه
- إنت عايز أيه من روح الكمال
- هاخطبها..
قلتها بالفم المليان..لا يوجد مخلوق قادر علي تثبيتي..كل الناس علي عيني ورأسي..ولكن إذا حاول أحدهم أن يكون وصيا علي..أو قاضيا..أو ناصحا..فأنيابي تظهر..وأظافري تطول..وتخربش..وتمزق..حتي وإن كان أقرب الأقربين..
- ومستني أيه
- أعرفها الأول
- طيب ماتعرفها في إطار شرعي
- دخول بيوت الناس مش بالساهل ياأستاذ حنفي..شهر واحد نكون حطينا النقط علي الحروف..وربنا يتمم بخير
- ربنا يوفقك..روح زي بنتي..ولو كنت قابلتها وانا قدك عمري ماكنت هاسيبها
مشكلتي أنني لاأثق في حسن نوايا أي إنسان..وأفهم جيدا الغرائز الوسخة والمنحطة التي تختفي خلف أسمي القيم وأكثرها رفعة..وأكثر ما يغيظني ويحرق دمي أن يقول لي أحد إنه يتعامل مع زميلة كأنها أخته أو ابنته..فأعكسها..وأعرف أنه يشتهيها جنسيا بتوحش..ولأنها قد تكون متزوجة..أو صغيرة في السن فإنه لايتصور نفسه بهذه البشاعة واللأخلاقية..ويحاول أن يخترع تلك الحيلة اللفظية التي يحاول تأكيدها للآخرين..بينما هو يحاول تأكيدها لذاته..كل هذا يحدث طبعا علي مستوي العقل الباطن..وما يجعلني أفكر في ذلك الطريقة التي يقول بها الجملة..هل يقولها من طراطيف شفتيه وبلا مبالاة..أم يقولها من معاميق ( أعماق ولكن أردتها أن تكون علي وزن طراطيف) قلبه..لذا كانت هناك علامات استفهام كثيرة؟؟؟؟؟؟؟
***
في الهاتف سألتني روح
- أيه رأيك في الأستاذ حنفي؟؟
- إنسان محترم..(إجابة تقليدية اعتدنا أن نقولها عن كل إنسان لانتمني أن نكون مثله)
- قوي ياوائل..وقف معايا في مشاكل كتير..باحس إنه حتة مني
***
قالت لي روح إن أختها مدرسة في كلية الآداب..وإنها تريد أن تراني..رحبت جدا وحددنا موعدا وذهبنا..كانت تكبرها بسنوات قليلة..وتشبهها إلي حد كبير..كان يجلس معها في الغرفة أستاذ عجوز مكحكح ..إحدي قدميه في الدنيا..والأخري في الآخرة..عرفتني روح عليه قائلة
- الدكتور حفظي..جوز أختي
حاولت أن أخفي دهشتي..ووضعت في فمي حذاء قديما..وسكت..جاء الساعي بالمشروبات المثلجة التي قللت من حدة الحر والاستغراب والتحفظ..ولأنني مهتم بالأدب بحكم دراستي وقراءاتي الحر ..فقد دار حوار لذيذ وثري عن شكسبير..واللورد بيرون..وجون ملتون..وإليوت..وتشارلز ديكنز..وفرجينيا وولف..
وقال الدكتور حفظي بأنه حصل علي الماجستير والدكتوراه في جامعة أوكسفورد..وكان تخصصه في شعر ألكسندر بوب ..وحكي لي عن الشعب الإنجليزي كثيرا..وكيف أنه يقدس الصدق والصراحة..وأنهم يعتبرون الشخص سريع البديهة غبيا وسطحيا..ويحترمون كثيرا من يفكر قبل أن يرد..وحكي لهم أن كلمة الحب كلمة كبيرة جدا..وتعني الزواج..وعندما تقولها لبنت فأنها تدوخ..وتظل جالسة مع نفسها أسبوعا تفكر وتدخن وتبكي وتضحك وتتذكرالماضي وتتخيل المستقبل حتي تصل إلي رأي قاطع..هناك لاتوجد حاجة إلي الكذب..وإلي اللف والدوران..إذا اشتهيت امرأة..قل لها ذلك بكل وضوح..وبمنتهي الأدب ستقبل أو ترفض..وحكي لي عن المصريين في الغربة..وكيف أنهم لايندمجون في المحتمعات الجديدة بسرعة الجنسيات الأخري كاللبنانيين والهنود مثلا..وكيف أنهم لا يتخيلون أن الخط المستقيم هو أقرب طريق بين نقطتين..وفي تعاملهم مع الفتيات يعتمدون علي نفس الأساليب الملتوية التي يتبعونها هنا في مصر..وقال لي أخيرا إن المصريين يظل لديهم هوس الرجوع في كل لحظة..هل جربت التوقف عن التدخين؟..أنا جربت وفشلت ..في كل لحظة سيصعد وحش كبير علي أبراج عقلك ويصرخ: ارجع ..ارجع..كل لحظة بتقضيها بعيد عن السيجارة(مصر) لحظة ضايعة من عمرك..ارجع ماتبقاش عبيط..ارجع..لحد ماترجع..وتخسر صحتك الجسدية في حالة السجاير..وصحتك النفسية في حالة مصر..مصر ياوائل بلد مستحيل يتعاش فيها..سافر أي بلد أوربي واتفرج الناس عايشين إزاي..هناك مافيش حاجة ناقصاك..كل اللي انت عايزه بتلاقيه..هناك لو انت بتحب الحياة هتلاقي الحياة فاتحالك حضنها الكبير قوي..هنا زي مانت عارف..هتاخد فوق دماغك..كل واحد عينه علي غيره أربعة وعشرين ساعة..دا بيحب..دا اتجوز..دا سافر..دا اشتري..دا باع..دا محترم..دا ابن كلب..كل كلامنا عن الناس مش عن نفسنا..مش إحنا بنحلم بأيه..وأيه اللي بيخلينا مبسوطين..عارف أيه اللي بيخلينا مبسوطين هنا إننا نشوف الناس زعلانة..واحد طلق مراته..واحد سقط في الكلية..واحد سافر برة وراجع إيد ورا وإيد قدام..هي دي العيشة في مصر..إن عشت أغلب عمري هناك..وباندم إن رجعت..البنت المحنونة دي – وهو يشير علي أخت روح- هي اللي أصرت تتجوزني..ولاحظت أنا ذلك أيضا فقد كانت تتعامل بحنان بالغ..تسنده وهو يسير..تضع كوب العصير بالقرب من يده..وكل كلامها له (اتفضل يا أستاذي)..
المهم أنني ارتحت للدكتور حفظي ..وأخذته رقمه..وقال وهو يضحك ضحكة محيرة
- أيوة ياسيدي ..ماانت هتبقي عديلي..
كلمت الدكتور بعد ذلك في التلفون فوجدته يقول لي
- ياوائل كلمة من راجل لف الدنيا..اخلع ..دي عيلة سايكو..إنت زي مش واخد بالك إن روح دي عندها اكتئاب..البنت اللي تتجوزها لازم تكون مرحة..بسيطة..الضحكة اللي علي شفايفها عصير فراولة..ياوائل دي مش شبهك..
- طيب حضرتك اتجوزت اختها ليه
- ياوائل أنا راجل اتربيت في أوربا..يعني استحالة أعمل حاجة زي كده..أنا عندي سبعين سنة..وهي سبعة وعشرين ..أزاي..هي اللي طلبت ده..وقالت لي إنها مش تتجوز حد غيري.. وإنها من الآخر مالهاش في الجنس..وكنت عايش لوحدي..وعايز حد يخدمني..قلت أيه المانع..مادام بكامل إرادتها..
- وفي البيت وافقوا؟
- بيت مين يا أستاذ..كلهم من نفس العينة ..باباها خلص كلية التجارة من هنا واتجوز وراح اشتغل محاسب في السعودية..وخلف كل أولاده هناك..بعد عشرين سنة رجع..حط فلوسه عند الريان (شركة توظيف أموال كان يباركها الشيخ الشعراوي)
وبعدين خدها الغراب وطار..اعرفها قاعدة ..مافيش طفل مصري يتربي في السعودية إلا ويبقي مريض نفسي..هناك الحياة مزيفة..مصطنعة..منزوعة الطعم والسم..حياة ورق كرتون..مصر بلد بحر متوسط..تبع أوربا..أما السعودي نفسه فالحياة بالنسبة له طبيعية جدا..لأنه بيقدر يعمل كل المحرمات والمنكرات في السر..المصري هناك إقامة الحد عليه أسهل من رمش العين..لأن مصر دولة ضعيفة وما تقدرش تجيب حقوق ولادها..تقدر السعودية تقيم الحد علي أمريكي..أو بريطاني..أو ألماني..مع إن الأجنبي بيعمل في السعودية كل حاجة..بيشرب خمرة..وبيزني..وبيلعب قمار..ومش في السر..دا تحت عين الحكومة..ورعايتها..اللي بيحكم الحياة قانون القوة والمصلحة مش الأقوال الجميلة..والشعارات الجميلة..الحلال والحرام مش موجود ألا بين الفقرا..الغني يقدريعمل كل الحرام بطريقة حلال جدا..الزني يبقي جواز شرعي وعرفي ومسيار..والسرقة تبقي استثماروتوظيف أموال..والقتل يبقي دفاع عن النفس..أو قتل خطأ..الغني يقدر يجيب محامي كبير يطلعه زي الشعرة م العجين من أي قضية..
- الكلام معاك ممتع جدا يادكتورحفظي ..إحنا تقريبا أفكارنا واحدة..وأقوي صلة في الدنيا هي صلة الأفكار مش صلة الأرحام..عارف يادكتور الكلمة اللي أنا قلتها دي شكلها ضد الدين أما لو زودت عليها وقلت إن علاقة مصعب بن عمير بالصحابة أقوي من علاقته بأهله شكلها هيختلف..
- الناس في مصر ياوائل بيخافوا يفكروا..لأن التفكير متعب..وعايز بحث..وقراية..والقراية عايزة كتب..والكتب عايزة فلوس..والفلوس يادوب بتكفي الأكل وفواتير المية والكهربا والتلفون..الناس معذروة..الحكومة دايسة عليهم بالقوي..الناس عندهم مشاكل مادية متلتلة..تيجي أنت تحط عليها مشاكل فكرية كمان..مصر لو خيرها اتوزع ببعض العدل علي أولادها هتتفرج عليها..مصر بلد مش ساهلة ياوائل..مصر كبيرة قوي ..أكبر مما تتصور..حضارة بحق وحقيق
***
بعد أن تخطب ..ستكتشف في الأيام الأولي أنك قد تورطت..ستلحظ كل العيوب التي كنت غافلا عنها..وستري في وجهها أشياء غريبة ستنفرك منها..وستظل تسأل نفسك كل لحظة هل كان اختياري صحيحا..ألم أكن أستحق فتاة أفضل منها..وخصوصا عقب رؤيتك لفتاة أجمل منها..تذكر دائما أن البنات- كالملابس – جميلات فقط وهن خلف الفاترينات..واكتشفت أنني تورطت..احتقرتها عندما أخبرت الأستاذ حنفي بكلامي معها..هي ليست طفلة في المرحلة الإعدادية لتفعل ذلك..لابد أن أخلع ..وليكن ما يكون..وثانيا هي ليست جميلة علي الإطلاق..كيف كنت أراها جميلة؟..هل كنت معصوب العينين؟؟.. وثالثا كئيبة..ونادرا ما تختار موضوعا شيقا لتتحدث فيه..ورابعا بخيلة..ولم يحدث أن أتصلت بي..كل ما تفعله هو إرسال الرسالة المستفزة ( كلمني شكرا)..الكرم ليس علاقة بالفقر والغني..لأنه شيء معنوي وإن أخذ شكلا ماديا..والتعفف الذي وصف به القرآن بعض الفقراء هو قمة الكرم..الكرم الذي هو رغبة في العطاء لا الأخذ..وهي لم تكن تستحي من الطلب..ومرحها لم يكن يظهر إلا في تلك اللحظات
- مش هتعزمني علي الغدا النهاردة..أنا واقعة من الجوع..
في البداية كان هذا يفرحني جدا..فمن الجميل أن تتلاشي الحواجز بسرعة بين المتحابين..وأن يكون لكل منهما دلال علي الآخر..ولكن كما تقول أمي – السيدة البسيطة غير المتعلمة- لايوجد أثقل من ابن آدم (وان كان حبيبك عسل ماتلحسوش كله)..أصبحت عاجزا عن رؤية أي شيء جميل فيها..وأردت أن أخلع بطريقة محترمة وشيك..ولكن القدر كان له رأي آخر..
* * *
كانت ساندرا قد أصبحت كل شيء في حياتي..وكنت أحكي لها عن أعمق خلجات نفسي..ولما كنت أعرف أن علاقتنا بعيدة عن الحب..والزواج..والمستقبل..وهو ما لايخفي علي أي أحد يفكر بطريقة منطقية..ولكن رد فعلها الغاضب جدا جعلني أفهم شيئا جديدا عن عالم النساء..وهي أنهم يعيشون في واقعية سحرية..وليس في الواقع الذي يحيا فيه الرجال.. يعيشون في الواقعية الطفولية التي يحيا فيها الأطفال..الذين يبنون بيتا علي الرمل ويتصورون أنه حقيقي..أو عندما يقعون من علي الكرسي يضربونه ويسبونه كأنه شخص من لحم ودم..النساء أيضا يفعلون ذلك..كانت ساندرا تتعامل معي كأني زوجها..وأن علاقتنا ليس فيها أي شبهة حرام..فهي مسيحية ملتزمة جدا..تذهب إلي الكنيسة أيام الأحد والجمعة..وتصوم..وتذهب إلي زيارة القديسين والقديسات في أنحاء الجمهورية..من الطريف أن بعض المسلمين يتصورون أن المسيحية واليهودية أديان تدعو إلي الانفلات والانحلال..وأن الزني ليس محرما فيهما..وأن البعث بعد الموت والحساب والجنة والنار أشياء قاصرة علي الإسلام فقط..وأنه في عيد القيامة المجيد يطفيء القسس الأنوار ليتبادل المصلون القبلات وماهو أفظع وأضل سبيلا..لاشك أنها فكرة سينمائية جدا..وتشبع رغبة مكبوتة في العقل الباطن..ممارسة الزنا الجماعي في دار من دور العبادة( الله يخرب بيتك يافرويد .. بوظت دماغ البشرية بالنظرية بتاعتك..فعلا يهودي ..)..كان رد ساندرا
- عايز تخطب مين؟
- روح الكمال مدرسة الرسم
- وأيه اللي عاجبك فيها دي مريضة نفسيا..
- كل الحكاية إنها محترمة ..وفي حالها..وباحس إني خايف عليها..وعايز أحميها
- إنت سخن ياحبيبي ..أكلملك جوزي يوصفلك حاجة..إنت من إمتي بتحب حد غير نفسك..ومن إمتي بتخاف علي حد.. قول إنك عايز تنام معاها..وبلاش تلف وتدور..وعلي فكرة اللي زي روح دي هتلاقيها قطة مسعورة ع السرير..الكبت هينفجر زي البركان..مش دا اللي نفسك فيه ..عايز تجرب واحدة خام ولسة بشمعها..ممكن اعمل كده..إنت جيت في جمل..إيشارب نازل لوسطي ..وعباية واسعة..وعملية ترقيع..وابقي زي مانت عايز.. وروح دي بقي بتعرف تتكلم..
وترد علي كلامك..
- أيوة
وأنا أعطيها هاتفي
- شوفي الرسايل اللي بتبعتهالي
- الله ..دي شاعرة زي حالاتك..كل الكلام ده يطلع منها..
وفي هذا اليوم رفضت بإصرار أن أقترب منها
اليوم الأخير في علاقتي بساندرا وروح
استيقظت من النوم علي رنة رسالة علي هاتفي المحمول..فتحتها..توقعت أن تكون رسالة جميلة من ساندرا..أو روح..أو نرمين..وخاب توقعي..كانت الرسالة
- أقل إنسان محترم في الدنيا محترم أكتر منك..للدرجة دي إنت شخص سافل ومعدوم الضمير ومشاعر الناس ملهاش أي اعتبار عندك..
أعرف رأيي في نفسي..ولكن أن يكتشف الآخرون ذلك..فتلك مصيبة كبيرة..كان شعوري لحظتها فضولا وحب استطلاع أكثر منه غضبا..بل لم يكن غضبا علي الإطلاق..بل كان فرحا شديدا..إذ كان في تلك الرسالة خلاصي من علاقة مملة ومريضة..نفس الإحساس الذي يأتيك عندما يتوقف مدرس عن ضربك ..ويمطرك بأبشع الشتائم..ثم يعفو عنك..ويطلق سراحك..لذا فالشتيمة في هذا الوقت كالعسل علي القلب..إنها فرمان بالحرية..والانطلاق..وعناق السماء..
اتصلت بها أكثر من ستين مرة..وكانت تتجاهل اتصالي..اتصلت بساندرا ..هاتفها مغلق.. وبنرمين..لاترد أيضا..مالحكاية..فوجئت باتصال الأستاذ حنفي
كان يتكلم بهدوء كعادته
- كنت فاكرك أحسن من كده ياوائل
- أنا مش فاهم أي حاجة ياأستاذ حنفي
- ربنا ستر أنا لحقتها كانت هترمي روحها من الدور الرابع
- للدرجة دي
- أيوه ياسيدي..واحدة قالتلها إنك بتوري الرسايل اللي بتبعتهالك لساندرا..اللي انت علاقة بيها ..وبتروح شقتها اتنين وجمعة.. وانا مش مصدق إنك تعمل كده خالص..أنا واثق إنك محترم جدا..والموضوع فيه سوء تفاهم..
- أنا عارف مين اللي قال كل دا..الحكاية يا أستاذ حنفي إن ساندرا بتحبني جدا..وعايزاني أعمل معاها علاقة في الحرام أستغفر الله..وانا رافض..أنا عايز اتجوز واستقر..صحيح أنا اتشقيت شوية أيام الجامعة بس ربنا هداني
- كلنا مرينا بالمرحلة دي ..أنا كنت واثق أنك مستحيل تبقي بالقذارة دي ياوائل..ماتقلقش..أنا هاكلمها..وهاشرحلها الموضوع..
نزلت من علي السرير..وتوجهت إلي الحمام ..أخذت حماما ساخنا..أرتديت ملابسي علي عجالة..فتحت التلاجة..تناولت قطعة كيك..كان الشاي قد غلي علي النار..صببته في فنجال (لفظ المج أصبح أكثر تداولا..اللغة العربية عليه العوض ومنه العوض) عزيز علي نفسي لأنه هدية ساندرا الأولي لي..أشعلت سيجارة..وكنت أشرب الشاي وأعاتب الفنجال..لم أتخيل أن تكون نهايتنا ياساندرا علي هذا النحو البغيض..سريعا انتهيت من الشاي..ومن السيجارة..ومن عتاب الفنجال..ركبت السيارة..تحسست المقعد الشاغر بجواري متذكرا قديستي العاهرة التي طالما وزعت بركتها ولعنتها عليه ..وعلي قلبي..وذاكرتي..في أقل من خمس دقائق كنت أمام بوابة المدرسة..وكان الأستاذ ياقوت جالسا في الشمس كعادته بجريدته وصلعته اللامعة..بمجرد أن رأي سيارتي رأيته قادما تجاهي وهو يجري ويلهث ويقول من خلال أنفاسه المتهدجة (إحدي جمل كتابنا الجهابذة) ويهز ساعديه علي طريقة النسوان عندما يزفون إليك فضيحة يتمنون أن يفعلوها مثلك
- فضيحتك بجلاجل في المدرسة..وسيرتك علي كل لسان..دانت طلعت مجوسي..وعبد الفتاح كتكوت بجلالة قدره ما يجيش جنبك حاجة..المزتين اللي في المدرسة يامفتري علقتهم بالسرعة دي..دانت طلعت أستاذ علي رأي وديع (جملة كانت تقال في إعلان علي قناة ميلودي وكانت ذائعة الصيت وعلي ألسنة كل شباب مصر العلوج)
- احكيلي الموضوع بالتفصيل
- كان آخر يوم لساندرا في المدرسة النهاردة
- آخر يوم!!
- أيوة ..مهاجرة كندا مع جوزها الأسبوع الجاي
تذكرت أن فتحت معي هذا الموضوع في بداية علاقتنا..وعندما سألتها عن السبب
ردت
- يابني إنتو بتكرهونا.. واحنا عايشين مهددين..إنت عشان مابتصليش..ماتعرفش الشيوخ بيقولوا عننا أيه في الجوامع..
أثناء وجودي معها كنت أستحيل إنسانا بدائيا عاجزا عن الدخول في أي مناقشة جادة..وكنت أكتفي بالصمت..وبالنبيذ..وبالقبلات في كل ذرة من ذرات جسدها..من يصدق أن هذه الأيام انتهت..وصارت ذكريات مستلقية علي التراب بجوار أوراق الخريف..لا أصدق أنها كانت حقيقة..أراها الآن حلما عابراخاطفا لايمكن استبقاؤه ولو للحظات قلائل..سنة الحياة التي يجب التسليم بها..نزلت من سمائي إلي أرض الأستاذ ياقوت
- وبعدين يا ياقوت
- ولا قبلين..قبل ما تمشي قعدت تحكي علي إنك كنت بتجري وراها..وبتكتب فيها شعر..وبتكلمها في التلفون..وبتغير عليها..ومش عايزها تتكلم مع حد غيرك..وهي كانت بتاخدك علي قد عقلك..عشان هي مابتحبش حد يزعل منها..وحذرت روح الكمال منك وقالت لها إنها اكتشفت إنك علي علاقة بواحدة جارتها اسمها نرمين..
قلت في نفسي مبتسما( ماتبقاش ساندرا..لو ماعملتش كده) ..ونظرة ياقوت إلي علبة السجائر جعلتني أتذكر أنني لم أعزم عليه بسيجارة بعد..ففعلت..
زواج الأستاذ حنفي من روح الكمال
لم أفاجأ كثيرا بهذا الخبر..فقد كنت أتوقعه..كنت أعرف أنه يحبها..وهي أيضا تحبه..ولكنه كان حبا يحتاج إلي شيء من التأمل..كان يبدو أنه رجل قضي حياته سائرا علي الصراط المستقيم..أو الشاب الذي نشأ في طاعة الله كما يقولون..من البيت إلي العمل إلي المسجد..وقضي الفترة الأولي من شبابه فقيرا يكاد يجد الستر علي حسب ما وصل إلي سمعي..وفي اعتقادي أن تلك الشخصية هي التي تمر بأزمة منتصف العمر..لأن المراهق المسجون في أعماقها والذي لم يعبر عن نفسه في يوم ما يظل يطارده ..ويلح عليه..ويضغط علي أعصابه..وهاهو يفاجأ بأن قدرته الجنسية تضع الملابس في حقيبتها لترحل بلا عودة..هو الآن بين قطبي الرحي..وبين فكي الكماشة..تلك الشخصية عاشت وهي تضع نظرة الناس واحترامهم فوق كل اعتبار..والسمعة الطيبة هي القيمة الأسمي في الحياة..هكذا يعيش فترة طويلة من الحياة..ولكن لأنه يتمتع بدرجة ذكاء أعلي من الناس العاديين هي التي جعلته ينجح كتاجر..فهو يفهم الدين بصورة متسامحة جدا..الدين معاملة..وأخلاق..ولايوجد ضررمن الترويح علي النفس بالاستماع إلي الأغاني..ومشاهدة الأفلام..وفي المشاهد الإباحية سيغض بصره..وعندما تخطي الخمسين أصبح الموضوع حرجا جديدا..كل المواقف المسكنة لم تعد ناجعة..واليوم الذي يذهب لايعود مرة أخري..ولابد من اتخاذ خطوبتها..وأخفي سروره عندما انقطعت علاقتنا..الآن صارت الساحة فارغة..فليهنأ بها..وهناك نقطة ثانية وهي خاصة برغبة الكهول في الارتباط بفتيات في العشرينات من عمرهن..إنها الرغبة في استعادة العمر الذي تسلل كالرمل من بين أطراف الأصابع..إنها الرهبة من الشيخوخة..والعجز..والموت..أما عن روح الكمال شوقي فقد كانت شخصية هشة ضعيفة..عاجزة عن مواجهة الواقع..إنها نتاج تربية الشقق المغلقة في السعودية..حيث كل شيء صناعي..الحواديت مصدرها التلفاز لاأفواه الزملاء والزميلات..والهواء مصدره التكييف لا الطبيعة..وكم أشفق علي زملائي الذين يتصورون أن إبعاد أولادهم عن الشارع وإرسالهم إلي مدارس خاصة فيها تلاميذ من مستوي مادي معين شيء في صالهحم..متجاهلين أن الطبيعة تبدأ بالاختلاط وبعد ذلك تأتي الغربلة والتصنيف ..بعد أن تضيق دائرة معارفك مع مضي العمر..في الابتدائية يعرف الطفل أصدقاء من مختلف الطبقات والشوارع..في الإعداية تضيق الحلقة ويصادق من هم يشاركونه التفوق الدراسي أو هواية معينة..في الثانوية تضيق الحلقة أكثر..ولست أقصد عدديا..ولكن كيفيا..بمعني أن الشخص تصبح له شروط أكثر تحديدا في نوع الأفراد الذي يقترب منهم.. ولما كانت روح هكذا..وكان يبدو أن والدها أقل من أن تحكي له عنه..قالت لي إن رجل طيب..وصامت طول الوقت..ولايخرج من المنزل (القوقعة) منذ عودته من السعودية..أذكر أن قابلت أخاها الذي يدرس في كلية الهندسة ذات يوم وجلست معه في المكتبة..كان اسمه علي ما أتذكر سعيد ( أو سعد..حاجة أولها سين)..وكان خجولا جدا..ويبدو في عينيه الهلع من الناس..والشك في أنهم يسخرون منه..أو يرغبون في إيذائه..واشتكي لي أن بواب المدرسة عامله بطريقة غيرمهذبة عند دخول..وأنه – البواب- فيما يبدو كان يريد أن يسرق الحقيبة التي يحملها في يده..
مشكلة تلك العائلة- وأمثالها- أنهم يتصرفون بطريقة مهذبة من اللازم..ومشكلة الشارع المصري أنه يتصرف بطريقة وقحة أكثر من اللازم أيضا..
إذن كان طبيعيا أن تنجذب أختها إلي الدكتور حفظي..وأن تنجذب هي إلي الأستاذ حنفي..وكلا الرجلين يمتلكان شخصية قوية مؤثرة وناجحة..وقادران علي توفير الأمان الذي يفتقدونه..إن الرغبة في الإحساس بالأمان أكثر أهمية من الجنس..ولايشعر بها إلا من يفتقدها..ربما اكتشف الإنسان البدائي الجنس من خلال بحثه عن الأمان..عن درع يحميه من مخاطر الغابة..حيث الحيوانات المتوحشة..وأشباح الصمت والظلام..والدليل أن روح رفضت أكثر من شاب تقدم لها..كانت تريد رجلا ناضجا غنيا قادرا علي حمايتها..ولم أصدق يوما أنها قد تنتحر من أجلي..لايوجد إنسان ينتحر بسبب إنسان آخر..استحالة..من ينتحر يفعل ذلك لأسباب خاصة جدا..وفكرت أيضا أن فتاة كروح الكمال لايمكن أن تحب أحدا كبيرا أم صغيرا..لأنها لا تحب نفسها..لا تحب الحياة..وكانت ساندرا تقول لي إنها تقف أمام المرآة في الحمام بالساعات..كأنها لاتصدق أنها موجودة..كأنها تودع نفسها قبل أن ترحل..من ينامون فقط علي سرير الموت هم من نطمئن عليهم كل دقيقة وأخري..ونضع أيدينا علي نبضهم منتظرين الخلاص الي نخشاه..ولكن حتما أن يجيء..ونفسها كانت تحتضر..تمشي كمن تسير في جنازة روحها..ورغم تعاطفي معها..وتقديري لظروفها كنت أتحاشي رؤيتها..خوفا من أن تمتص روحي..وبهجتي..وفرحتي بالحياة..نفس الشعور كان يأتيني كلما رأيت الأستاذ حنفي..هما الاثنان نسختان متطابقتان..وتزوجا في صمت..طبعا بعد حريق الهمز واللمزوالقيل والقال في المدرسة ..وسيل الدموع والحزن في منزله..وكان رده
- أنا ماباعملش حاجة حرام..
في مصر العادات والتقاليد لها سطوة أكثر من الحلال والحرام..فطالما تعارف الناس علي شيء فهو حلال حتي وإن حرمته الأديان السماوية..
10
رفعت السلاموني أمين المكتبة
كان قارئا ممتازا في جميع المجالات..وكنت أستمتع بالجلوس معه..وكان متشائما خفيف الظل..فيقول بعد أن ينتهي من قراءة جرائد المعارضة
- مصر داخلة علي أيام سودة..ياعزيزي وائل استمتع بالسيء فالأسوأ القادم..الدولة ماعادلهاش هيبة خلاص..والجماعات الإسلامية طايحة في البلد..والحزب الوطني طايح في البلد..وأثيوبيا عايزة تمنع عننا المية..وانت وعبد الفتاح كتكوت طايحين في النسوان .. إحنا خلاص داخلين علي مرحلة الصومال..وهنشتغل قراصنة إن شاء الله..
رفعت في الخامسة والأربعين من عمره..وأعزب..وأنيق أناقة الفقراء..وقيل بأنه تقدم إلي روح الكمال ورفضته..ولكنني لم أصدق ذلك ..ولم أسأله..إذ لم ألمح في عينيه أي رغبة جدية في الزواج..متعته الحقيقية كانت في القراءة..وفي المناقشات الفكرية العميقة..قلت له محاولا استفزازه
- عيبك الحقيقي يارفعت أنك تسقط إحباطاتك الخاصة علي وضع البلد..مصر الآن أفضل كثيرا مما سبق..هناك هامش معقول جدا من الحرية..والحكومة تقريبا لاتمنع فيلما من العرض مهما كان موضوعه ..من يصدق أن تسمح الرقابة بعرض أفلام من عينة (عمارة يعقوبيان) و(هي فوضي)و(حين ميسرة)و(الجزيرة)..وجرائد المعارضة تنتقد الرئيس وعائلته بشكل سافر..وتقريبا لايكاد يوجد كتاب ممنوع..لافتات أحمد مطر تملأ السوق..وقصائد أحمد فؤاد النجم تذاع علي القنوات الفضائية..ورواية نجيب محفوظ ( أولاد حارتنا) سمحت الدولة بنشرها رسميا ..
- كان السادات الله يرحمه يقول بأن المعارضة جزء من النظام..
- أولا لايوجد فرق بين السادات ومبارك علي المستوي السياسي.. كلاهما انبطح تحت أمريكا وإسرائيل ..وأعتقد أنه كان قرارا سليما فعنترية عبد الناصر لم تكن ملائمة في تلك الفترة لأننا كنا أضعف من ضعفاء..وأمريكا كانت في ذروة قوتها..الفرق بين السادات ومبارك كان علي المستوي الشخصي فقط..الأول كان يمتلك كاريزما جبارة..وأسلوبيا خطابيا خاطفا للأسماع والألباب والقلوب..وكان حشاشا..والشعب المصري يعبد الحشاشين عبادة..
- يكفي السادات حرب أكتوبر 1973
- ماهي المكاسب السياسية التي عادت علي المواطن المصري منها..لم يستفد منها إلا القطط السمان..وثانيا هي ليست حربا بالمعني الكامل للكلمة..إنها أشبه باللكمة التي توجهها لخصمك فتجعله يترنح..ولا تجعله يسقط..كل هذا لأن المعلمة الكبيرة أمريكا نظرت نظرة حمراء للواد السادات فتوقف عن ضرب خصمه..
- ألا تري أي إنجازات للسادات؟
- بالعكس أراه زعيما مهما..اعتلي عرش مصر في منعطف شديد الوعورة..وخلال الإحدي الإحدي عشر عاما التي حكم خلالها مصر لم يذق طعم النوم..من ثورة تصحيح.. إلي إضرابات الطلبة مطالبين بالحرب ..إلي الحرب..إلي التوقف عن الحرب..إلي المظاهرات الرافضة لوقف الحرب..إلي الجماعات الدينية المتطرفة.. إلي الذهاب إلي إسرائيل إلي الإنفتاح الاقتصادي إلي ثورة الجياع..إلي اغتياله..كل هذا تقريبا في عشر سنوات..الرجل لم يذق طعم الراحة..أنا في رأيي أن ماحدث هو ماكان يجب أن يحدث..وأنا مع قانون الحتمية التاريخية..والطبيعية..كان هناك انغلاق شديد في فترة عبد الناصر..حتما يجب أن يكون الانفتاح بحجم الانغلاق..دعك من المقولة الحمقاء انفتاح السداح مداح..رئيس الجمهورية ليس سباكا ليظبط جلدة الحنفية..وأريد أن أقول لك رأيا قد يصدمك ..لايوجد بلد في العالم يخلو من الديمقراطية..بمعني أن رئيس جمهورية أي بلد هو خير من يمثلها في تلك الفترة..هل تذكر حديث الرسول (كما تكونوا يولي عليكم)..هذا بالظبط ماأريد أن أقوله..إنها ديمقراطية خفية..أو ديمقراطية ربانية..وأرجو أن تفهم كلمة ربانية بمعني اللاوعي الجمعي..إذا أردت أن تفهم شخصا فلا تستمع إلي ما يقوله ولكن استمع إلي ما لايقوله..وإذا أردت أن تفهم شعبا اتبع نفس الطريقة..الناس علي سبيل المثال ينتقدون الراقصة دينا والمطرب الشعبي الرقيع سعد الصغيرومع ذلك حلم كل شخص أن يستطيع إقامة فرح لأحد أنجاله ويتمكن من إحضارهما لإحيائه..أي لبعث الحياة فيه..هذا ما يجب أن تنتبه إليه..
- إذن أنت مع المقولة التي تقول:
السياسة هي تحقيق ماكان سيحدث بالفعل..
- معها تماما..لأن الناس في وجهة نظري كائنات غير مفكرة علي عكس ما يعتقدون..وأنهم يتصرفون بوحي غرائزهم كالحيوانات..وكل تصرفاتهم يمكن إدراجها تحت التقليد أو التكيف..
- أنت تلغي دور الإرادة الإنسانية..
- الإرادة موجودة..ولكن ما أقل من يشعر بوجودها..الكل يسير خلف القطيع..والمغامرون معدودون علي الأصابع في كل مجتمع..والناس تعتبرهم مجانين..حتي يأتي اليوم الذي يتمكن فيه المجانين من فرض أفكارهم علي أرض الواقع..
- آرائك ياسيد وائل كلها آراء فاسدة..ونصيحتي لك التركيز في موضوع النسوان..فمن الواضح أنك لاتجيد شيئا في الحياة سواه..وزي ماباقولك مصر داخلة علي أيام سودة طول مافيها أمثالك إنت وعبد الفتاح كتكوت..
قلت له ضاحكا
- هل تعرف أساطير الطبيعة الأربعة
قال
- لا..زدني علما
قلت
- اسمع ياسيدي..هناك أربعة أساطير حول الطبيعة..هناك إناس يعتبرونها سخية وكريمة إلي أقصي حد..وهؤلاء هم الفرديون والعصاميون ورجال الأعمال.. وهناك أناس يعتبرونها بخيلة وظالمة وهؤلاء هم الثورجية والمتشائمون سواء انضموا إلي أحزاب معارضة أم لا..المهم أنهم عاجزون عن رؤية أي شيء إيجابي..وشعارهم أن الأسوأ قادم مثل حضرتك ..ويدهشهم أن تسير الأمور علي مايرام..لأنهم يعيشون علي الاعتراض والنقد والغضب..وهناك أناس يعتبرون الطبيعة متقلبة ويقولون بأنها مثل الراقصة التي ترقص لكل إنسان بعض الوقت أو مثل الخيارة ..وهؤلاء هم القدريين والفقريين الذين يعيشون في القري والنجوع والعشوائيات وينتظرون ثروة تهبط عليهم من السماء..وهناك أناس يعتبرون الطبيعة مزيجا من كل ذلك وهؤلاء هم البيروقراطيين الذين يحملون ولاء كاملا للنظام الذي يعملون في ظله..وهم أغلب رجال الدولة..هذا هو تصنيف علماء الاجتماع لبنية أي مجتمع..ألا تشعر أن جميع هؤلاء الأنماط غاضبون..رجل الأعمال يشكو..والموظف يشكو..والرجل البسيط يشكو..والناقمون يصرخون..
- ومعني كلامك؟
- أن البلد علي وشك انفجار..عشان البلد محتاجة تترص من أول وجديد..نظام حسني مبارك تقريبا انتهي خلاص..أصبح بيستمد استقراره من فئة قليلة جدا في البلد..يعني خير إن شاء الله..مصر هتحلو..وبكرة تتفرج عليها..
- يسمع من بقك ربنا..
- بتقولها من ورا قلبك ليه بس
- ياوائل ارحمني..أنا راجل داخل علي سن اليأس ..ومش ها ستحمل أكتر من كده..
هكذا تنتهي دائما حواراتنا..
***
رفعت السلاموني ..كلاكيت تاني مرة
يدخن السيجارة بقرف..كأنه يلعن اليوم الذي عرفها فيه..ولكنه لايدخن كثيرا..العلبة تكفيه لمدة ثلاث أيام.. ويرفض التدخين أثناء المشي في الشارع..أو أمام الناس الذي يجلس معهم لأول مرة..ويعشق قزقزة اللب السوري( العباد..الذي يستورد من الصين حاليا) أثناء الفرجة علي برامج التوك شو..ويرفض فكرة السفر خارج مصر بتاتا ألبتة..يعتبر ذلك خيانة..ولا انتماء..برغم كل شيءيجب أن نتحمل..ونقاوم..وإما أن ننجو بها..أو نهلك معها..ويعلق قصيدة أمل دنقل (مقابلة مع ابن نوح) علي إحدي جدران غرفته..تلك التي يتحدث فيها عن أن الجبناء فقط هم من يركبون السفينة ويدعون الوطن يغرق..وأن الشجعان هم من يبقون وينزحون الماء ليتمكنوا من إنقاذ مايمكن أنقاذه..وكنت أري في ذلك رومانسية شديدة..وأقول له راغبا في استفزازه لأري علامات الغيظ الطفولية علي وجهه:
- أنا لا أعتبر نفسي مواطنا مصريا..أنا إنسان قبل كل شيء..ووطني هو العالم..أنت مهموم بمستقبل مصر..وأنا مهموم بمستقبل العالم..أنا أتوقع أنه ستتلاشي الحدود بين الدول..ويصير العالم دولة واحدة..
فأري علي وجهه ماكنت أرغب في رؤيته..وأستلقي علي ظهري من الضحك..فيقول وهو ينفخ ..ويخرج سيجارة لإشعالها
- القعدة معاك بتخليني أولع سجايركتير..أرجوك ياوائل ارحمني شوية من آرائك الشيطانية..
- تفتكر يارفعت الراجل لو مات من غير ما يتجوز تعتبر تجربته الإنسانية مكتملة..
أجمل ما فيه أنه مستعد دائما للحوار..ينجعص (عذرا..فلا يوجد لفظ في العربية الفصحي قادر علي إيصال هذا المعني) علي الكرسي ويقول
- اسمع ياسيد وائل..لما تبقي قدي في السن..يعني فوق الأربعين..هتكتشف إن شهوة الجنس تلاشت تماما.. وتاني شيء بتفهم الحريم قوي..والجواز عايز واحد مغفل..ومندفع..وبياخد بالمظاهر..أول ماقدرت أعمل شقة كان سني ستة وتلاتين..ومجال اختياري ضاق..ضاق جدا..كان المتاح واحدة فوق الخمسة وعشرين..واحنا حضرتك عايشين في سمنود..يعني في أرياف..والبنت اللي بتوصل السن ده من غير جواز بتبقي بايرة..واللي في قعر القفص زي مابيقولوا..عشان تتجوز ما ينفعش تبقي عاقل قوي..وخصوصا ربنا ابتلاني بداء وسخ وهو داء القراية..ومش قراية في حاجات عبيطة زي اللي انت بتقراها..قصص رومانسية وروايات بوليسية..أول كتب قريتها وانا في الإعدادي كتب زكي نجيب محمود..ونزلت القاهرة مخصوص عشان اقابله أنا وبعض الزملاء اللي كانوا أصدقائي في كلية الآداب..كان بقي عجوز جدا..وسمعه بقي ضعيف..واكتفينا بالسلام عليه..ومشينا..الله يرحمه..تالت نقطة كنت اتعودت علي حياة الوحدة والتأمل والخصوصية..أنا ماعنديش أي مشكلة أفضل قاعد مع نفسي أربعة وعشرين ساعة من غير ما اتحرك من مكاني..الكتاب..والشاي..والسيجارة..دول محور حياتي..والست الوالدة ربنا يديها الصحة وطولة العمر بتقوم بكل طلباتي..
- يعني مش نفسك في عيل يشيل اسمك
- كلام فاضي..كله بيموت وبيتنسي..اللي خلف واللي ماخلفش..رابع نقطة.. الجواز بيفرض عليك حاجات كتير إنت مش عايز تعملها..ممكن يخليك تسافر وانت مش عايز تسافر(قبله عشان تتجوز..وبعده عشان توفر حياة كريمة لأهل بيتك)..ويخليك تشتغل شغلانة بعد الضهر..وتدور في الساقية..وماتلاقيش وقت تقعد مع نفسك ولا مع عيالك..ولا مع مراتك..وفجأة تلاقي نفسك كبرت وعجزت..وتبقي غريب عن أقرب الناس إليك..وولادك كبروا وبقوا شباب زي الورد..بس ولا كأنهم يعرفوك..ولا كأنك أبوهم أصلا..إنت بالنسبة لهم بنك..فيك فلوس يقفوا قدامك طوابير ويبوسوا إيدك..مافيش فلوس آدي دقني لو واحد قالك صباح الخير يابابا..مش عايز حاجة من برة..أو فكر يقعد يدردش معاك في البلكونة...
- إنت ليه بتشوف نص الكوب الفاضي..
- الجواز فيه حاجات جميلة..اللمة حوالين السفرة في شهر رمضان..عيل يقولك يابابا..تشوف نفسك فيه..تفرح لفرحه..وتحلم معاه من أول وجديد..وتحب البنت اللي بيحبها..وتصاحب أصحابه..وتفتح الكتب اللي بيذاكر فيها..وتقارن بين أيامك وأيامه..زي ماتزرع شجرة في قصرية زرع..وترويها..وتشوفها وهي بتكبر قدامك..ومش كل الأولاد بيكونوا جاحدين..وعقوقين..الحياة مش موجودة في صفحة الحوادث بس..فيه ابن بيبقي كل حلمه إنه يعوض أهله عن التعب اللي تعبوه في تربيته..وقبل ما يتجوز يبقي عنده إصرار رهيب يخلي والده ووالدته يحجوا..
- إنت كده؟؟
- سيبك مني ..أنا ابن عاق..وتاني شيء أهلي مش مستنيين مني حاجة..البركة في اخواتي البنات..قايمين بالواجب وزيادة..اسمحلي نظرتك عدمية جدا..
فقال مستسلما
- أنا طبعا شخصية مش طبيعية..الجواز هو الطبيعي..والعزوبية شذوذ..
- مين قالك كده؟؟ الشذوذ برضه طبيعي..لأنه جزء من الطبيعة..كل إنسان بيختار الحياة اللي تناسبه..أهم شيء إن الواحد يبقي صادق مع نفسه..وتاني شيء أروع حاجات في حياتنا اللي قدمها الشخصيات الشاذة.. لا نيوتن كان طبيعي بالمعني المعروف..ولا شكسبير..ولا فان كوخ..ولا بيتهوفن..ولا أينشتين..
- يا أخي نفسي يبقي ماعنديش مبدأ كده زي حضرتك..كان الواحد ارتاح..كل رأي ليه عندك حجة ومبرر..
11
يوسف سلامة يأتي لمقابلتي
في صباح أحد أيام شهر فبراير الممطرة..وكنت أدردش مع تلاميذي في موضوع العادة السرية بعد أن انتهيت من شرح قصيدة كن جميلا لإيليا أبو ماضي في أقل من عشر دقائق كعادتي..كان الفصل في حالة من الصمت البهيج..وكانوا يستمعون باهتمام حقيقي..هاهو موضوع يهتمون فعلا بمعرفة جميع أبعاده..لأنه من صميم الحياة..حياتهم في تلك الفترة..وفوجئت بالأستاذ ياقوت يفتح الباب وإذا بالفصل ينفجر ضاحكا..كان واحدا من هؤلاء البشر الذين يمتلكون تلك الإطلالة المرحة..وبعد أن هدأوا بدأ في الكلام..تماما مثل الممثل المسرحي بعد انتهاء تصفيق الجمهور..وقال
بصوت لاهث
- عايزك ياوائل في كلمتين علي جنب
فهتف الفصل علي قلب رجل واحد
- سيبه..سيبه..
فقال
- يبقي أكيد بيتكلم معاكوا في موضوع العادة السرية..وقالها باللغة الدارجة
فازدادوا هياجا وصخبا
فتابع
- إنتوا عايزين الخيبة دي علي طول..عشان كده آدي دقني لو فلحتوا..ابقوا تعالوا اعملوا علي قبري كا كا..
وتتابعت تعليقاتهم..ولما رأيت الجدية واضحة علي وجهه علمت أن الموضوع مهم ونظرت لهم نظرة فهموا منها أن يكفوا مؤقتا عن العبث..وخرجت مع ياقوت..أمام الفصل مال علي قائلا:
- كارثة..مصيبة..نصيحتي ليك خد ديلك في اسنانك واهرب..
- إنت ضارب حاجة ع الصبح ياياقوت
- دا آخرة المشي الحرام..ياأخي ماكنت تتجوز أحسن لو كنت تعبان قوي كده..
- لو ماقلتش فيه أيه هاسيبك وادخل الفصل
- الدكتور يوسف سلامة موجود تحت في أوضة المدير..وعايزك..نصيحتي ما تقابلوش..ممكن يغزك بمشرط ولا حاجة..الجماعة الأقباط دول صهاينة..ومستحيل تعرف اللي بيفكروا فيه..
أكون كاذبا لو قلت بأنني لم أخف..ولكني نادرا ما أستسلم لهذا الشعور ..أحاول أن أحلله بعقل بارد بقدر استطاعتي..الخطوة الأولي هي إشعال سيجارة..بعدها أستطيع تقدير الأمر..إذا كان الرجل يرغب في إيذائي فمن غير المعقول أن يأتي إلي المدرسة ويجلس في حجرة المدير..ثانيا أنا لست عاجزا عن الدفاع عن نفسي..ثالثا الأطباء شخصيات مسالمة..وقلما يلجأون للعنف بتلك الطريقة..رابعا الأحداث السيئة لا تعطيك جرس إنذار..إنها تحدث بطريقة مباغتة..خامسا كنت ممتلئا بالفضول لمقابلته..ونزلت مع ياقوت الذي قال لي بصبيانية عرفت منها أنه يحبني
- أنا هاجيب شومة ..وهاقف قدام الباب..ما تقلقش
ضحكت حتي كدت أن أستلقي علي ظهري..ربما لإخفاء ما كنت أشعر به من توتر..
في حجرة المدير وقف الدكتور بمجرد دخولي..وشد علي يدي بحرارة شديدة..كان في حوالي الخامسة والأربعين من عمره..تبدو عليه طيبة أولاد الناس..ويرتدي بدلة سوداء أنيقة..وقال
- إزيك يا أستاذ وائل..أنا الدكتور يوسف سلامة..جوز الأستاذة ساندرا..
- حضرتك غني عن التعريف يادكتور..اتفضل استريح
وتدخل المدير قائلا
- الأستاذ وائل يادكتور يوسف شخصية ممتازة..وشاطر قوي في اللغة العربية..ورغم إنه في المدرسة من شهور قليلة إلا أن الطلبة بيعشقوه..وبيحبوا حصته قوي..
استغربت أن يقول عني هذا..وهو الذي لا يكف عن انتقادي..ياوائل ما ينفعش ما يبقاش معاك أجندة تحضير دروس..ياوائل ما ينفعش تيجي كل يوم المدرسة الساعة عشرة..ما ينفعش تتكلم مع الطلبة بالطريقة المنفتحة دي ..لازم يبقي فيه فاصل بينك وبينهم..
ودخل الدكتور في الحديث الجاد
- إنت عارف ياوائل إننا مهاجرين كندا..وخلاص هنسافر في خلال أسبوع أو اتنين بالكتير..وساندرا قالتلي إنك نفسك تشتري شقة في شكري القويتلي..عشان تتجوز فيها..أيه رأيك تيجي تتفرج عليها..علي فكرة أنا مش طالب فيها كتير..مية وخمسين ألف بس..يعني نص تمنها..وحلال عليك..
كانت الشقة بهذا السعر لقطة بكل المقاييس..ولم يكن من الممكن أن أدع الفرصة تفلت مني..
12
أبي لم يكن جزارا فقط ..كان تاجرا للمواشي أيضا..وكانت ثروته أكبر مما أتخيل..كنت قد فكرت أنني ربما أضطر لبيع سيارتي إذا كنت أريد شراء الشقة..وكان صعبا أن أقدم علي تلك الخطوة..فبعد أن تتعود علي السيارة لفترة يستحيل عليك أن تتصور الحياة بغيرها..إنها تصبح جزءا من ذاتك ..ومن وجودك..وعندما فاتحت أبي في الأمر قال بهدوئه المعهود
- ما تحملش هم..بس عايز أتفرج عليها الأول..
خبرة هذا الرجل في الحياة كانت تذهلني..وكان يعلمني كيف أسير في الظلام..وفي الطرق الملتوية..عندما تفرج علي الشقة أعجب بها جدا ..ولكنه أخفي ذلك أمام الدكتور وقال بمبالاة
- والله يادكتور يايوسف ..الشقة فعلا كويسة وطالعة من عيني..والمبلغ اللي انت قلت عليه أقل من اللي تستحقه ..بس أنت عارف أنا اللي طالع من جوازة البنت الكبيرة..وخدت اللي قدامي واللي ورايا..وكل الجاهز معايا دلوقت مية وعشرين..بس أقدر في خلال يومين تلاتة أتصرف في خمستاشر كمان ..بس مش ها قدر اقولك كده عشان عارف هابقي جاي عليك قوي..وانا راجل بابيع واشتري..وعارف ربنا..وما احبش الظلم..عشان كده خد فرصتك..جايز تلاقي حد يشتريها بالمبلغ اللي انت بتقول عليه..
أبي كان يعرف أن عمليات البيع تحتاج إلي طول بال..وأن الرجل لن يستطيع إيجاد زبون للشقة في تلك المهلة في هذا الوقت الضيق..وما جعله يعرضها بهذا المبلغ ليس إنسانيته معي..ولكن لأنه في ورطة ..ويريد أن يبيع والسلام..ورأي أننا أولي بمبلغ الخمسة عشر ألفا الذي خصمه من المبلغ المحدد نحن أولي به..
وفكر الدكتور قليلا ثم قال
- حلال عليك ياحاج..من غير فلوس خالص..الأستاذ وائل يستاهل كل خير..
وتمت الصفقة بنجاح..وأصبحت الشقة ملكي..وبدت لي الحياة وردية..هاأنذا أمتلك شقة في شكري مع سيارة..ولم يكن ينقصني إلا العروسة لتكتمل سعادتي..ويوم كتابة العقد رأيت ساندرا للمرة الأخيرة..ودار بيننا حوار بالعين يمكن أن يستنتجه القارئ..
13
بمنتهي الواقعية تزوجت..كما قلت لكم آنفا لم أتوقع من الزواج كثيرا..لم أنتظر حبا روائيا..ولا جنسا مشبعا..ولا استقرارا خادعا..كل ما أردته امرأة تخدمني مقابل أن أوفر لها حياة كريمة..وأن تكون طلباتها قليلة..وألا تتدخل في شئوني..ومن إحدي القري المجاورة خطبت علا النادي..كانت قريبة للأبلة برنسيسة أبو حلاوة مدرسة الزراعة..وفي كلية رياض الأطفال..ويحمل وجهها أمومة أكثرمما يحمل من أنوثة..وكان هذا هو المطلوب..وكان هذا رأي الأبلة برنسيسة التي قالت لي
- اللي ينفع واحد زيك ياوائل..بنت تكون غلبانة وعايزة تعيش..مالهاش في مياعة ومياصة بنات اليومين دول..مهما تشوف عمرها ما تغضب وتروح بيت أهلها..لو خدت واحدة مفتحة شوية مش هتعمر معاك..وطلبك عندي
- معقول يام عادل لسة فيه بنات بالشكل اللي انتي بتقولي عليه..
- أيوة ياخويا فيه..بناتنا مايرفعوش عينهم في عين اجوازهم..وإلا تنقطع رقبتهم..إنت بس شوف المعاد اللي يناسبك..واخليك تيجي تشوف علا بنت الأستاذ سمير سلفي..بلسم..وتتحط ع الجرح يبرد..ولهلوبة في شغل البيت..
وفتحت هذا الموضوع مع أحمد الرفاعي فقال لي
- كلامها مظبوط جدا..أنا وانت قناعاتنا إننا نتجوز بالطريقة الأوربية..الطريقة اللي انت تقابل واحدة واتنين..وتلاتة..لحد ماتقابل الواحدة اللي تلاقي نفسك عايز تعيش معاها باقي عمرك..بس في نفس الوقت لما تلاقي الحب مات مافيش مانع إن كل واحد يروح لحاله..دا طبعا مستحيل في مصر في الفترة اللي احنا فيها..مافيش حل لو عايزين نتجوز إننا نرتد لطريقة الآباء في الجواز..نوع البنت الموجود حاليا مش مضمون..بنت تايهة بين نانسي عجرم وبين امها..والنوع الوسط متعب..يإما نتجوز واحدة من عينة نانسي عجرم..يا واحدة من عينة أمي وأمك..
ووجدت كلامه مقنعا..وتزوجت من علا النادي ..التي أنجبت منها ابني الرضيع ذي الستة شهور محمد..
تزوجت في الشقة التي تعبق كل زاوية من زواياها برائحة ساندرا..وأيامها التي لا يمكن نسيانها..
14
أصبحت أسعد أوقاتي هي تلك التي أقضيها في المدرسة..سواء في الفصول مع الطلبة..أو في حجرة المدرسين مع الزملاء والزملاء..وكان ما يجذبني إلي أي زميل هو أن يتكلم من قلبه..ولم يكن يهمني درجة ذكائه..أو ثقافته..وكان مصطفي السعدني من هذا النوع متوسط الذكاء ولكنه جذبني إليه بصدقه مع نفسه..قال لي ذات مرة
- أنا من يوم ما تجوزت ياوائل وعندي مشكلة رهيبة
كل مشكلات مصطفي رهيبة..أكمل قائلا
- لما باجامع مراتي بقيت باتخيل واحدة تانية..وحاسس إن دي خيانة فكرية أمر من الخيانة الجسدية ..ومحتار مش عارف أعمل أيه؟..أنا حاسس إني باستمني في مراتي مش أكتر..
ولأن ياقوت ابوشوشة فالت اللسان فقد تهور وقال
- ما تقلقش يادرش..مش أنت اللي بتتخيل لوحدك..
تعكر وجه مصطفي للحظات..وسرعان ما استعاد هدوئه وقال
- إنت عارف طبعا إن كل أصحابي ملتحين..وكلمتهم في الموضوع ده..في الأول كلهم هاجموني..وياشيخ إتقي الله..ماتمشيش ورا الشيطان وعليك بغض البصر..وبعد كده علي انفراد كل واحد قاللي إني باعاني من نفس المشكلة..
قال حمدين عماشة الرومانسي
- لو اتجوزت مراتك عن حب ..عمرك ما كنت تقول كده..
فرد عليه مصطفي ساخرا من قلة خبرته
- كلنا واحنا قدك كنا بنقول كده..اللي إيده في العزوبية مش زي اللي إيده في الجواز..
سكت حمدين سكوت المحتقر لرأي مصطفي والمقتنع بصدق كل كلمة قالها..كان يعتقد في الحب اعتقادا يقينيا ..كما يعتقد أنه ملاقيه عن قريب..وقلت لنفسي ماذا لو تزوج من روح الكمال شوقي ..كما يتمني ..من المؤكد أنه سيكفر بالحياة نفسها..ومن حسن حظه أنه لم يكن يملك الجرأة الكافية لمصارحتها..إنني أشعر بالغثيان كلما تذكرت لحظم من لحظاتي مع تلك المخلوقة الكئيبة المحتضرة..
كنا في هذا اليوم نجلس في المكتبة ..وفاجأنا رفعت السلاموني بنظريته التالية
- سر تعاسة البشرية تكمن في العلاقات الأمامية..وسر سعادتها أن تعود إلي العلاقات الخلفية..
لم نفهم قصده بوضوح..فضحك ضحكة ساخرة من غبائنا وقال
- كل الحيوانات بلا استثناء تمارس الجنس من الوضع الخلفي..وهذا يمنع الوجوه والعيون من التلاقي..وبالتالي يمنع الألفة والحب..وبالتالي يمنع الجواز..بمعني الاكتفاء بشريك جنسي واحد طوال العمر..الذي هو أساس كل المصائب التي تتحدثون عنها ياحضرات..كل إنسان يحاول إقناع نفسه بأن امرأة واحدة تكفي..وهذا صحيح من وجهة نظر اجتماعية لا فردية..بمعني أن يعاني الفرد من أجل صحة الجماعة وترابطها..ولكن معظم البشر يحاولون إقناع أنفسهم أن الجواز امر طبيعي..وهو ليس كذلك علي الإطلاق..إنه وسيلة سببها تحرر اليدين الأماميتين ..وهذا جعل الإنسان يتواصل مع أخته الإنسانة..ويغار عليها..ويتصور أنه يستطيع أن يعيش معها بقية العمر..وبالتالي نشأت الأسرة..والقبيلة..واتحدت القبائل لتتكون الدولة..
انقسمنا مابين مؤيد ومعارض لنظريته..فاستطرد قائلا
- مشكلة إنسان تلك المرحلة أنه أصبح فريسة للتطلعات المادية والجنسية..في الماضي كان يصبر علي الفقر..وعلي الحرمان والكبت منتظرا التعويض في الحياة الأخري..الأن يبدو أن الجميع – بما فيهم الأخوة المتدينين- لم يعودوا قادرين علي الانتظار..ويريدون أن يحصلوا علي أكبر قدر من المتعة..وتم اختزال الإسلام في الجواري والزواج من أربع..واهمين أنفسهم أن الإسلام لم يحرم أتباعه من شيء..مع أن الأديان كلها تمنع الإنسان من الانغماس في الشهوات..ليصفو قلبه ويتسع للعبادات..
كنت مقتنعا بما قاله رفعت تقريبا..ولكنني قلت له فيما بعد
- أنت تعرف يارفعت أنني معجب جدا بثقافتك وبتحليلاتك العميقة..ولكن من المهم أيضا أن تختار البشر الذين تتوجه إليهم بتحليلاتك..هؤلاء بقر..ولا يعنيهم ما تقول من قريب أو بعيد..ولا يهمهم سر تعاسة البشرية أو سعادتها..إنهم فقط يستمتعون بالحكايات اللذيذة..وبمغزاها القريب الواضح لا أكثر..وأسلوبهم ليس خطأ كله..نعم له مساوىء كثيرة..ولكن له أيضا مزايا..فكما أن أفراحهم سطحية..فإن أحزانهم أيضا سطحية..أما من يحزنون بعمق فهم من يفرحون بعمق أيضا..
وهؤلاء سذاجتهم جعلتهم يقدمون علي الحياة أما أنت يارفعت فأنت إنسان (بلا)..بلا عقيدة..بلا عائلة..بلا طموح..
كأن حدائق نرجس نبتت في عينيه للحظة..خيل إلي أنني أراها..وأشم عطرها..وقلت لنفسي رفعت لا يستحق كل هذا الهجوم..إنه إنسان محترم..ومثقف..وقاريء..ولو كان يعيش في مجتمع سوي لكان له شأن آخر..يبدو أنني كنت محبطا جدا في هذا اليوم..وأردت أن أجعل العالم يحبط معي..ولكنه فاجأني وقال
- أنا فعلا إنسان (بلا)..وهذا هو مفتاح شخصيتي..وسر سلامي مع نفسي..ومع الآخرين..إنني أعيش من خلال كياني وذاتي ..لا من خلال ما أمتلك..لا أكتسب أهميتي من ماركة سيارتي..ولا من موديل هاتفي المحمول..ولا من النادي الذي أشترك فيه..ولا من المستقبل المشرق الذي ينتظرني..إنني أحيا هنا والآن..مستمتعا بلحظتي الحاضرة..ولا أخشي فقدان شيء..لأنني لا أملك شيئا..هناك فكرة رائعة قالها المفكر الألماني إريك فروم وهو أننا نتعامل مع أنفسنا كسلعة في سوق الشخصيات لا كبشر..كل إنسان يعمل علي تسويق نفسه ..فهو يريد أن يقول للناس تعالوا اتفرجوا علي ..إنني شخصية مرحة..أو اجتماعية..أو قادر علي تثبيت النسوان..ألا تتمنون أن تعرفوا شخصية بهذه المواصفات..إذن حاولوا أن تعرفوني..لكي أشعر أنني مهم وغالي..وعندما لا يحدث هذا..وعندما لا يتهافت عليه الآخرون..فإنه يشعر بالاكتئاب..وبالضياع..ويفقد الثقة في نفسه..كل هذا لأنه لا يمتلك رؤية عميقة قادرة علي الغوص في أعماق الوجود..هل تعتبر الوزير الذي يتهافت عليه الناس سعيدا..إنه يعرف أن الذباب مجذوب علي قطعة الكيك التي يحملها في يده..لذا شاهد وزيرا سابقا..ستجده بقايا إنسان..وستجده يحدثك عن قلة وفاء الآخرين..وستتعاطف معه..وهذا خطأ..لأنه في البدء لم يكن وفيا لذاته..ولا كينونته..لذا عاملته الدنيا بنفس الطريقة التي عاملها بها..إن الأنبياء ياصديقي كانوا هؤلاء الشخصيات الذين لم يكونوا يملكون شيئا غير ذواتهم.. سيدنا موسي مثلا مالذي كان يملكه..إنه في حالة خروج دائم..تاركا خلفه كل شيء..وسيدنا إبراهيم..وسيدنا يوسف..هل تعرف لماذا صبر سيدنا أيوب علي المرض؟لأنه اعتبر نفسه غير مالك لصحته..إنها ملك الله..وفي ذلك كانت قوته في الصبر..الملك هو ذلك الشخص الذي يصل إلي مرحلة لا يملك فيها شيئا..
- كلام جميل ويقترب من أفكار الصوفية
- فعلا
- ولكن هل هو واقعي؟
- ها أنذا أعمل به
- ولكن الناس تشفق عليك..وتسخر منك خلف ظهرك..من حسن حظك أنك لاتسمع مايقولون عنك وإلا انتحرت
- هذا ما يقولونه بأفواههم ولكنهم يحسدونني من داخلهم..وانتقاداتهم هي إعجاب معكوس..أنا إنسان أعيش بطريقة تحترم آدميتي..أستيقظ مع صلاة الفجر..أصلي (لا تضحك هي الصلاة الوحيدة التي أصليها)..أجري لنصف ساعة في هذا الجو الشاعري جدا..أرجع وأغتسل..وأتناول الفطور..أشرب كوب الشاي بالحليب..أدخن سيجارة..أستمع إلي إذاعة الأغاني..أجيء إلي المدرسة..أنهمك في القراءة..وفي الفسحة أجلس مع الزملاء والزميلات نتكلم في موضوعات عامة بعيدا عن الغيبة والنميمة..أنصرف في الثانية ظهرا..أتغدي مع الست الوالدة ..أنام ساعتين وقت القيلولة..أصحو بعد الخامسة..أتوجه بصنارتي إلي النيل..ومع غياب الشمس أعود..أتعشي .. وأشاهد مسلسلا أو فيلما..ثم أبدأ في كتابة بعض اليوميات..هذا هو نمط حياتي منذ أكثر من عشرين عاما..أي منذ استلامي للوظيفة..لا أعتقد أن أحدا يكرهني كراهية حقيقية لأنني لا أتصارع مع أحد علي شيء..
- ألا تعتقد أنها حياة مملة ورتيبة؟
- من يعاني من الملل هو من يعتبر الإثارة هدفا عظيما في الحياة..وذلك لأنه يمارس نشاطا حقيقيا يستوعب إنسانيته..وطاقته الداخلية..مثلك مثلا..تتصور أن الانتقال من امرأة إلي امرأة هو قمة السعادة والإثارة..وهو وهم بالفعل..إنك تهرب من ذاتك ياوائل..وأراهن أن متعتك تكتسبها من نظرة الناس لك علي أنك دنجوان..وستشعر بألم قاتل عندما تعجز عن معرفة نساء جديدات..وكأن وظيفتك في الحياة قد انتهت..
- أنا ألبي نداءات قلبي مثلك..وأريد أن أتذوق الحياة بشتي السبل..وأنا أحترم كل ماتقول..ولكن اسمح لي يارفعت أن تصل إلي ما أنت فيه عن قوة خير من أن تصل إليه عن ضعف وقصر ديل..يعني أن تفعل كل الأشياء التي تنتقد عليها الناس ثم تزهدها أفضل من أن تكتفي بنقدها دون أن تجربها..أبشع ما في الحياة أن تظل حبيس نظرة واحدة..وفكرة واحدة..وألا تجدد نظرتك إليها من حين لآخر..
- عيبي أنني فهمت الحياة بدري بدري..
- الحياة لا تفهم ..إنها تعاش فقط..
- والحكمة أليست مهمة؟
- تجعلك تخرج من دائرة الحياة
- والجهل يجعلك تبقي فيها؟
- الحكمة التي تجعلك تتوهم أن الأيام كلها متشابهة..وأنه لاجديد تحت الشمس..لا تختلف كثيرا عن الحماقة..الحكمة هي حالة من الدهشة المستمرة..لن أقول لك وكأن ما يحدث أمامك يحدث لأول مرة..بل لأنه فعلا يحدث لأول مرة..
- هل تقصد أن نتعامل مع الأشياء كأننا نفض بكارتها ..
- هذا صحيح..لأن الأشياء في حالة بكارة لا تنتهي..ولكننا لا ننتبه إلي ذلك..هل تعرف المثل الذي يقول يموت المعلم ولا يتعلم..السبب أن الكليات تتفق والجزئيات تختلف أو التفاصيل تختلف...هناك احتمالات لانهائية للتفاصيل..وهذا ما يجعل الناس يندهشون أمام الأحداث النمطية..سأضرب لك مثلا..أنت تحب فتاة ..وأخذت منها موعدا..هذا موقف شديد البساطة..ولكنه شديد التعقيد..ويحتوي علي احتمالات لا نهائية..تديك زومبة..وتخليك واقف ملطوع في الشمس..تيجي في معادها بالظبط..تيجي متأخرة دقيقة..اتنين..تلاتة..اربعة..وكلما تغير عدد الدقائق التي تنظرها تغيرت مشاعرك وهواجسك وظنونك وقرارتك..أن تأتي ويراها معك أحد أقاربها..ماذا لو كان أخوها مثلا؟..ماذا لو كان شرسا؟ماذا لوكان شخصا متفتحا..؟مليون ماذا لو؟تجعل الموقف جديدا ومختلفا وبكرا؟ ماذا لو لم يكن معك فلوس تكفي للجلوس في مكان شيك..ماذا لو حاولت تقبيلها في السينما؟ورآك البلاسير؟ ماذا لو كان البلاسير شخصا متشددا وأصر علي اصطحابك لبوليس الآداب ..خلاصة كلامي أن الحياة تفاصيل والتفاصيل لا يوجد إنسان علي ظهر الأرض التنبؤ بها..لذا نندهش..ونتعلم من الحياة ولا نكف عن ذلك..
عندما جلست مع نفسي حزنت علي حوارتي القاسية مع رفعت..إذ أنني أعرف أن الإنسان هش بصورة لا يتوقعها أحد..مهما كانت أفكاره وثقافته..يأتي علي الإنسان حين من الدهر يقف أمام بئرالوجود السحيق وجها لوجه ..ويشعر بالهلع ..وبالرعب..وكل العقائد والفلسفات ما هل إلا دروع بشرية يحمي بها الإنسان نفسه من المخاوف التي تملؤه..يكفي الإنسان فقط أن يستمر في هذه الحياة دون أن ينتحرأو يصاب بالجنون..قال لي أحمد الرفاعي ذات مرة
- أنت لا تعرف ياوائل المعاناة التي يعانيها الإنسان ليكسب أكل عيشه..وعيش أهله..قبل أن أعمل لم أتصور أن كسب المال بكل تلك الصعوبة..غني عائلتك هو الذي يجعلك تري الدنيا بكل تلك الرومانسية والثورية..الناس غلابة..الشعب المصري غلبان قوي ياوائل..وربنا بيبتليه بشوية زعماء قلبهم ما يعرفش الرحمة..بيعدموه العافية..أنا شغلي في المحاماة خلاني أشوف الدنيا علي حقيقتها..تحت المظاهر حاجات بشعة..يخليك تطلع في الشارع وتصرخ بأعلي صوتك آه آه زي أبطال النوم في العسل..
15
وكيل المدرسة علي العكيمي
كان رجلا فظا غليظ القلب..لا يسير إلا والعصا في يديه..وينهال بها علي مؤخرات الطلبة الذين يقفون أمام الفصل بين الحصص..يقول لي ياقوت أبو شوشة
- علي العكيمي هو المدير الفعلي للمدرسة..المدير بق علي الفاضي..ويتنرفز ويشتم ويصفي علي مافيش..أما علي العكيمي بلوة مسيحة..وواكل نص مكافأة الامتحانات في كرشه..أنت ماعرفتش أيه اللي حصل
وعندما فرك يديه إحداهما بالأخري عرفت أنه يريد سيجارة..أشعلها وقال
- فاتك نص عمرك إنك ماكنتش موجود..علي العكيمي ياسيدي كان سايق فصل تالتة رابع قدامه زي الخرفان عشان يلموا الورق من ورا المدرسة..وواقف يولع سيجارة في أمان الله إذا بطالب راضع من بز أمه يتبول علي راسه من أحد الفصول ..والعيال ماتت علي نفسها من الضحك..وعلي كاد يجن جنونه..جري ع الحمام..غسل راسه..وبعدين روح..وبعد ساعة لقيته جاي ..وكان الاحتمال محصور في فصلين تالتة تاني وتانية تاني..طلع عشان يطيح في الولاد..تصادف إن عبد الفتاح كتكوت كان موجود في فصل تالتة تاني..وعلي العكيمي داخل يضرب الفصل من غير إحم ولا دستور..عمك عبد الفتاح لسانه أطول من الخرازنة اللي في إيد..راح قال له
- بصفتك أيه عايز العيال تقف ..وبصفة أيه عايز تضرب العيال..شايفني طرطور ولا أيه؟؟
- مالكش دعوة يا أسناذ عبد الفتاح..هم عارفين كويس أنا هاضربهم ليه؟؟
- طب اتفضل اخرج واضربهم في حصة مش بتاعتي
غلي الدم في عروق عمك علي العكيمي..وقام نازل بالخرزانة علي كتف عبد الفتاح..وعينك ماتشوف إلا النور..عبد الفتاح انقض علي علي..وفين يوجعك..لحد ما طحنه طحن..وقام خالع جزمته ومده..والفصول كلها اتجمعت..وقعدوا يتفرجوا..كان مهرجان..باقولك فاتك نص عمرك..أسطورة علي العكيمي انتهت ..ماعادش طالب بيحترمه..والغمز واللمز شغال علي ودنه..المدير بينصحه يمشي من المدرسة..بس الغلبان فاكر إن المدرسة عمرها ما هتتظبط من غيره..
عندما جلست مع علي العكيمي لأول مرة حدثني بلهجته الصارمة والقاطعة عن أهمية أن يكون الإنسان ذا شخصية قوية..وبالذات أمام زوجته
- البيت اللي تمسك فيه الست اللجام قول عليه يارحمان يارحيم!!
ولا أدري لماذا تسلل إلي نفسي شعور مناقض تماما لما يقوله..وتخيلت أن زوجته سيدة قوية الشخصية..وأنه في المدرسة يقوم بعملية تعويضية..
كان علي العكيمي مغرما بتريد الشعارات البراقة والأقوال المأثورة ويقولها بطريقة محببة وهو يلوح بذراعه رافعا سبابته
- لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
- كن جميلا تر الوجود جميلا
وكان يتصور نفسه دكتاتورا عادلا..وأن هذه هي الطريقة المثلي لحكم الشعب المصري..ولا تأتي سيرة جمال عبد الناصر إلا ويقف ويقرأ عليه الفاتحة بطريقة مسرحية..وكان مغرما بالشعر الجاهلي غراما لا حد له ويكره الشعر الحديث كراهية عمياء ويري شعراءه عاجزين عن كتابة بيت واحد من أبيات المعلقات..كما كان متيما بعلم الفراسة..والأبراج..وكتب السحر..وسيرة الجان..وتأكدت من خلال حوارتي المتكررة معه أنه ليس بالصورة البشعة التي يراها كل من لا يقترب منه..وأحببته..وإن كنت أختلف معه كثيرا علي نظريته عن الدكتاتور العادل ..وأننا شعب لا يمكن حكمه إلا بتلك الطريقة..
16
قرار استقالتي من المدرسة
طوال دراستي وأنا أحلم بالتدريس..كنت أعتبر المدرس مناضلا سياسيا من الدرجة الأولي..ولكن الواقع أحبطني..المناهج عقيمة..والهدف هو حصول الطلبة علي درجات نهائية - أو تقترب منها- في المادة..هذا هو معيار المدرس الناجح..كنت أريد صناعة طالب قادر علي الإبداع..والاختلاف..ولم يكن يهمني المنهج..ولا الالتزام به..واعتبرت النشاط المسرحي هو خير وسيلة للنهوض بالطالب..وتوسيع مداركه..وزيادة ثقته بنفسه..كنت أري أن التعليم يجب أن يساعدنا علي الحياة بشكل أفضل..وليس مجرد معلومات نحشو بها الرءوس لنتقيأها في الامتحانات ..ولكن هذا باء بالفشل..اعترضت إدارة المدرسة..واعترض أولياء الأمور..ولم يهتم الطلبة المتفوقون..والطلبة المتوسطون تعاملوا مع الأمر بلا مبالاة شديدة..كان كل ما يعنيهم هو حصولهم علي الإعدادية..ثم الدبلوم من أحد المدارس الفنية ..ثم السفر إلي الخارج لتكوين أنفسهم..كنت كدون كيشوت الذي يحارب طواحين الهواء..ولم أكن من البشر الذي يمكن تدجينهم بسهولة..وأن يسيروا مع التيار..لكي تمضي الحياة..إذا لم يكن عملي رسالة قبل أن يكون وسيلة للرزق فلا مرحبا به..البطالة أفضل..واتخذت قرار الاستقالة..ولم أكن أعرف ماذا سأعمل..لم يعترض أبي فقد كان رجلا متفتح العقل جدا..وكان يفهمني..أو بمعني آخر كان يحترم كل رغباتي وقرارتي..ربما لأنني الابن الوحيد..وثانيا لأنه يثق في ذكائي..وثالثا لأنه ترك لي ثروة تجعلني مستغنيا عن المرتب الحكومي الهزيل.. وقال لي ياقوت أبوشوشة
- إنت مجنون رسمي ياوائل..ياجدع حد طايل وظيفة حكومية..ومرتب مضمون آخر كل شهر..دا المثل بيقول إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه..فكر مرة تانية وتالتة..إنت مش لوحدك ..إنت مسئول عن مرة..ومعاك عيل ربنا يبارك ويخلي..ممكن لما يبقي قدامك مشروع تاني تستقيل..تعرف أنا باحلم أفتح سوبر ماركت كبيرقدام المدرسة..وابقي حر نفسي..والواحد يخلع من أم المدرسة الفقر دي..الواحد زهق وروحه بقت في مناخيره..يارب توب علينا يارب..
وقال لي رفعت السلاموني
- أنا باحترم قرارك جدا..أهم حاجة في الدنيا إن الواحد ياخد قرار..ويتحمل مسئوليته..أنا متأكد إنك هتلاقي المهنة اللي تقدر تلاقي فيها نفسك..وأحلامك..وتصحي كل يوم من النوم عشان تعملها..أنا متأكد..بس ياريت تقلل من الحشيش والنسوان
وقال لي أحمد الرفاعي
- إنت موقفك صعب قوي ياوائل..مشكلتك إنك عملت حاجات كتير في سن صغير..الحاجات اللي الناس بتاخد وقت كبير عشان تعملها..إنت تقريبا إنسان أوربي في مجتمع مصري..غني ..وواعي..وجريء..وابوك تقريبا ما تدخلش في حياتك بطريقة قهرية أبدا..بالعكس يوم ما عرف إنك بتدخن في تالتة ثانوي بقي يجيبلك علبة المارلبورو ويحطها تحت المخدة بتاعتك..وقبل الجامعة كنت سافرت كل حتة في مصر..وصاحبت كل الأشكال والملل..وعرفت بنات..ونمت مع نسوان..عشان كده المرحلة الجاية بالنسبة لك مهمة..وهتنجح لأنك ماعادش عنده عقد عبيطة تخليك تاخد قرارات عبيطة علي أساسها..
كان أحمد سلامة صديقي في الثانوية العامة قد التحق بمعهد الفنون المسرحية وتخرج..وظهرت له بعض المسرحيات في البيت الفني للمسرح..كما تمكن من كتابة المسلسلات لبعض القنوات التلفزيونية..وكان يقرأبإعجاب شديد ما أكتبه أنا وأحمد الرفاعي..وكم تمني أن نعمل معه..ورفض الرفاعي لأنها مهنة بلا مستقبل واضح ولا مضمون..ورفضت أنا لأنه لم يكن لدي في هذا السن أي انشغال بالمستقبل..تصورت نفسي مراهقا طوال العمر..ولن يأتي اليوم الذي سأكون مضطرا فيه لاحتراف مهنة..وذهبت إلي القاهرة..وتعرفت من خلال أحمد سلامة علي نجوم كنت أراهم في التلفاز..وسرعان مااندمجت..ووجدت أن هذه المهنة هي التي تناسب شخصية زئبقية مثل شخصيتي..
17
كان الفيلسوف الفرنسي سارتر يندهش من ربط البشر بين الجمال والموت..فهم لايستمتعون بالشمس إلا في لحظة غروبها..ويتغنون بالأزهار الذابلة..ويقفون علي أطلال الأحبة الراحلين ليقولوا كلاما لا حد لجماله.ولا يرون في لحظتهم الحاضرة أي جمال يذكر..هل لأن الماضي أصبح كتابا مفتوحا وخاليا من المفاجآت..وأنهم عرفوا حد أوجاعه الأقصي..أما المستقبل فمازال غامضا ومريبا وغير مأمون العواقب؟؟..ربما..تذكرت تلك الفكرة وأنا أودع مدرستي في اللحظات الأخيرة..لاشك أنني عشت فيها لحظات بديعة..وتعرفت فيها علي شخصيات مسرحية بكل ماتحمل الكلمة من معاني..يكفي فقط أن تراهم وهم يتناولون فطار الصباح (فول وطعمية ومخلل بتنجان وعيش اسمر) في حجرة المدرسين بنهم شديد..ويلحسون خلفه أصابعم..ثم يحبسون بكوب الشاي والسيجارة السوبر..ثم تنقلب وجوههم فجأة إلي الجدية والوقار والهيبة استعداد لبدء اليوم الدراسي..يكفي فقط أن تراقب مدرسا محترما وهو واقف بذلة وخضوع أمام المدير ليعتمد له إجازة اعتيادية..أو يرفع عنه إحدي الجزاءات التي تعرض لها بسبب دفتره الناقص..وعدم اتباعه اللائحة التعليمية بتنظيم السبورة..فلابد من كتابة التاريخ الهجري علي أعلي يمينها..وكتابة التاريخ الميلادي علي أعلي يسارها..وكتابة موضوع الحصة في أعلي المنتصف..وتحت التاريخ الهجري يجب كتابة أهم العناصر..استعداد لقدوم أي مفتش من الإدارة أو المديرية..والمفتش غالبا ما يكون شخصا قليل الكلام ومحايد الملامح بحيث يجعلك لاتعرف ما يفكر فيه..وبالتالي يضغط علي أعصابك..وسيلفت نظرك بتهديد شديد النعومة إلي أخطائك الفادحة التي ذكرت بعضها سابقا..قسما بالله مسرحية هزلية..والأغرب أن المدرسين يلعبون أدوراهم بمنتهي الصدق والانفعال..لا أحد فيهم يفكر للحظة واحدة في تفاهة وحقارة الدور الذي يؤديه..يكفي أن تجلس مع الأستاذة برنسيسة أبو حلاوة ( تفتخر جدا باسمها) التي تعرف كل شاردة وواردة عن كل المدرسين في سمنود..الذي تزوج..والذي طلق..والذي يحب إحدي طالباته..والتي رفعت قضية خلع علي زوجها..والتي ماتت إحدي قريباتها وذهبت وهى واضعة روج علي شفتيها..و....و....وحكايات لاتنتهي..إنها الوجه الأنثوي من الأستاذ ياقوت أبوشوشة..ولكنها كانت محبوبة من الجميع..وخصوصا من المدرسات العوانس (وما أكثرهن في المدرسة)..التي كانت تبحث لهن عن عرسان باستماتة كأنهن بناتها أو أخواتها الصغيرات..يكفي فقط أن تقف في الدور الرابع بالشاي والسيجارة لتطل علي الحقول الشاسعة الممتدة من جهة..ومن جهة أخري علي الطريق الأسفلتي حيث السيارات الحديثة والموتوسيكلات وصخب الحياة الحديثة وكافيهات النت ومحلات اكسسورات المحمول..وتستطيع أيضا أن تلمح مصنع الملابس الشهير..هاأنت تقف وجها لوجه أمام الحضارات الثلاث التي مرت بها البشرية..الزراعية والصناعية والتكنولوجية..ولكنها مرحلة ولا يجب التوقف عندها كثيرا..وقبل أن أترك المدرسة بلا عودة..وجدت شخصا يجلس مع ياقوت أبو شوشة في ركنه البعيد الهادي..وخمنت أنه عبد الفتاح كتكوت..وقلت لنفسي بهذا تكتمل تجربتي في المدرسة..وعندما اقتربت من عبد الفتاح خيل إلي أنني رأيته قبل ذلك كثيرا..وهتفنا في ذات الوقت
- إنت بقي عبد الفتاح كتكوت
- وانت بقي وائل الدياسطي
وكأننا أصدقاء منذ مرحلة الطفولة..وكأن ياقوت أبو شوشة غير موجود..ووجدته أشده من يده
- تعالي نقعد علي قهوة السلطانة نشرب حجرين تفاح..
ووضعت يدي علي كتفه ..ومشينا تاركين ياقوت ذاهلا..وبدأت أهمس له بذكرياتي وأحلامي ..التي كانت قريبة الشبه من ذكرياته وأحلامه..وامتدت جلستنا وضحكاتنا وأحاديثنا ذات الشجون إلي أن قال صاحب المقهي وهو يحمل الكراسي الفارغة والطقاطيق إلي الداخل
- باستسمحكوا يا أساتذة ..
فقمنا..ومشينا بمحاذاة الترعة إلي أن وصلنا إلي أمام المدرسة..ثم ركب هو سيارته التاكسي..وركبت أنا سيارتي اللانسر..وكان الطريق خاليا..والليل مقمرا..والنسيم عليلا..فتسابقنا بسرعة جنونية علي الطريق المؤدي إلي المحلة..
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)