أشياء تحدث للغرباء فقط
كنت قد تخرجت في كلية الطب..وتخصصت في طب النسا والولادة..بحثا عن المادة لا أكثرولا أقل..فأنا لا أحب الطب أصلا..وكنت أتمني دخول الهندسة..ولكن هذا لم يكن ممكنا..كان لابد أن أستثمر المجموع الكبير الذي حصلت عليه في الثانوية العامة..وأهلي الفلاحون كان في انتظار اليوم الذي يصير واحد من أبنائهم طبيبا..ليقولوا في زهو أمام الجيران
- الدكتور راح ..والدكتور جه
أنا شخص قدري جدا..وفلسفتي في الحياة (مطرح ما ترسي دقي لها)..لست طموحا..ولا أريد أن أكون..إذ أن مطالبي في الحياة معدودة..ولا أهتم كثيرا بملابسي..ولا يضايقني الركوب في الميكروباص مع باقي خلق الله..ولا تدخين السجائر الكيلوباترا..ولا الجلوس علي الحسيرة مع عامل الوحدة الصحية..وأندهش من زملائي الذين ينصحونني بأن أعمل لنفسي (برستيج)..ليس هذا موضوعنا..موضوعنا هي تلك الحالة التي جاءت لي ذات يوم في عيادة الوحدة بجهينة التابعة لمحافظة سوهاج التي أنا منها
- اسمك أيه
- صفاء
- بتشتكي من أيه ياصفاء..
- نفسي بتغم عليا..ومغص في بطني داير مايدور
- من أمتي؟
- من امبارح
- متجوزة؟
- جوزي مسافر بقاله سنتين
- فين
- ليبيا
ورغم أنني إنسان ملتزم علي المستوي العملي..إلا أن كثرة البلاوي التي رأيتها في مهنتي جعلتني أشك في نفسي..وفي مثل هذه الحالات أول ما أفعله هو اختبار الحمل..وعمل السونار
- إنت حامل ياصفاء
قلتها بلا مبالاة..فتجمدت عضلات وجهها..وقالت باندهاش
- باقولك جوزي مسافرمن سنتين يادكتور..ومن يوم ما سافر وانا شايلة الوسيلة (وسيلة منع الحمل)
- باقولك إنتي حامل..وماعنديش وقت للكلام الفاضي بتاعك..لما تفتكري مين نام معاكي..ابقي تعالي وانا اساعدك..
- والنعمة الشريفة يادكتور أنا عارفة ربنا كويس..واستحالة أعمل حاجة تغضبه..
- الكلام ده ما بياكلش معايا..اوعي تكوني فاكرة نفسك مريم العذراء..
كل النساء اللائي يحملن حملا غير شرعي يقلن في البداية مثل هذا الكلام..ويرفضن الاعتراف..ولكن سرعان ما يستسلمن أملا في مساعدتي..أما صفاء فقد أصرت علي الإنكار..وقلت بقسوة
- اتفضلي ياصفاء..ورايا حالات تانية
خرجت منكسة الرأس..منكسرة الخطوات.. والذهول لايفارق وجهها..وعند الباب استدارات وقالت لي وهي مستغرقة في التذكروالتألم
- من يوم جوزي ما سافر..وانا قاعدة في بيت أبويا..
- وبعدين
- يوم وانا نايمة مهدودة..أصلي باسرح الغيط..وباشتغل باليومية..أهلي ناس غلابة وعلي قد حالهم..وما يقدروش يشيلوا مسئوليتي ومسئولية عيالي..وجوزي عويل..وفين وفين علي مايبعت حاجة مع أي حد نازل من ليبيا..أو مع تاجر الشنطة..
- إنت هتحكيلي قصة حياتك..هاتي م الآخر
كأنها لاتسمعني
- لقيت جسمي بيرعش..وغرقان عرق..بس كنت مبسوطة..مبسوطة قوي..حسيت إني باحلم وجوزي معايا في الحلم..وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم ..عيني فتحت للحظة..لقيت أبويا بيفتح الأوضة اللي أنا نايمة فيها أنا وعيالي وبيشد الباب وراه بشويش..كنت فاكرة نفسي باحلم ..وكملت نوم..معقول أب يعمل في بنته كده..ياخراب بيتك ياصفاء..
وظلت تخبط بيديها علي رأسها..وتركتني ومضت ..متجاهلة ندائي..عرفت من عامل الوحدة- الذي لم يكن يعرف شيئا بالتأكيد- أنها أصيبت بالجنون..صارت تهذي وتقول بأنها ممسوسة بالجن ..ما جعلني أتذكر صفاء هي تلك البنت الصغيرة ذات الأربعة عشر ربيعا التي جاءت إلي المستشفي تشكو من نزيف مهبلي حاد..وكان الهيموجلوبين (5..الرقم الطبيعي من 12إلي 15 )..وتم إسعافها سريعا بنقل كرات الدم المعزولة..وبعد أن استقرت الحالة..بدأ مسلسل البحث عن تشخيص..ولما كنت أصغر الأطباء سنا فلم يأخذ أحد رأيي..وظلوا في غيهم يعمهون..ويتخبطون..إلي أن قلت لهم
- أنا أقترح عمل اختبار حمل..وانطلقت السخرية من غبائي ومن غباءالصعايدة كالدم المنفجر من شريان الأورطي..ولكني لم أهتم.. شاركتهم الضحك..إلي أن قالت زميلة منقبة
- ياسالم حرام عليك..ماينفعش تفكر بالطريقة دي..
فقلت لها بغلظة
- الحرام والحلال في الجامع..إحنا هنا بنشتغل طب..والطب واحد اتنين تلاتة..والمفروض في حالة زي دي أول حاجة نفكر فيها الإجهاضABORTION (نطقي للغة الإنجليزية حاجة تكسف )ثم توجهت بكلامي إلي رئيس القسم
- يادكتور متولي إحنا اتعلمنا من حضرتك الدقة..مش ها نخسر حاجة لما نعمل اختبار حمل..وثانيا أنا شايف في السونار آثار حمل كان موجود..
الدكتور متولي إنسان شديد الاحترام..من أرياف الغربية..تزوج وعاش في القاهرة..ورغم أنه ماهر في مهنته إلا أن عيادته لا تلقي أي إقبال جماهيري..هل لأن الرزق قسمة ونصيب..أم لأنه غير أونطجي..ولا يتبع أسلوب السوق في معاملة زبائنه..كأن يستغل المستشفي الحكومي من أجل عيادته مثلا..أم لأنه كسول..ولا يحب أن يستهلكه العمل..أم لأنه لا يجيد استخدام السونار الذي هو عماد طب النسا والولادة..هذا الجهاز المستوحي من الحيوان الطائر المدعو بالخفاش (الوطواط)..الذي يطلق ذبذبات صوتية تمكنه من إدراك الحواجز التي تعترض طريقه قبل أن يصطدم بها..والذي لايجيد استخدامه إلا الأطباء الذين تخرجوا في أوائل التسعينات..الأجيال السابقة تعاني كثيرا في التعامل مع كل الأجهزة الإلكترونية..وكما يقول أحد الأصدقاء المثقفين بأن لهذا مغزي سياسيا كبيرا..في الماضي كان الكبار هم الذين يحتكرون المعرفة والخبرة..وكانت هناك فجوة وجفوة بينهم وبين الشباب..هذه الأجهزة الإلكترونية قلبت الموازين..وصار الشباب هم الذين يملكون المعرفة..وبالتالي من يملك المعرفة يملك السلطة..نادرا ما أقتنع بكلام الأخوة المثقفين..ولكن هذا الرأي مقنع إلي حد ما..وبه أختم قصتي دون أن أكون مضطرا لإخبار القاريء بنتيجة اختبار الحمل..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق