مدمن أحلام يقظة
1
أجمل شيء تفعله في هذه الحياة(التي أحمد الله أن جئت إليها) أن تهرب منها..أن تحفر في جدرانها بعض النوافذ..ليدخل هواء الأحلام..ويغسل غبار واقعك الكئيب..ويرسم علي وجهك إحساسا ساذجا ومستفزا بالتفاؤل..وأسوأ شيء أن تواجه ..وتأخذ كل شيء علي أعصابك..وعلي قلبك..وعلي عقلك..وتعيش في دور العاقل والناضج..الذي يريد دائما أن يكون عند حسن ظن الآخرين فيه..صدقني..الحياة لاتستحق..كل تلك الجدية ..وكل هذا الاهتمام..الزمن – صديق البشر اللدود- يساعدنا في حل الكثير من المشاكل الذي يكون هو السبب غالبا في وقوعنا فيها..كل ما عليك أن تتمدد علي سريرك- ذي الملاءة البيضاء كملاك- وتستغرق في أحلام يقظتك..احلم ..شيد قصورا من رمال..وأبراجا من اللذة..وانطلق علي طريق مرصوف بالعبير..حتما ستجد حديقة في نهايته..وفراشات علي جانبيه..أنا سعيد جدا بالتعرف عليك..وقلبي يقول لي بأننا سنصبح أصدقاء..ولدي شعور جارف أن أحكي لك قصة حياتي..أعرف أنك تريد أن تسمعها..قرأت لك بعض الروايات ..وأعجبتني..وربما تجد في قصتي شيئا جديرا بالكتابة..مارأيك أن نجلس في الشرفة..منظر رائع..وأنت تري النيل والكورنيش من الطابق العاشر..وفي هذا الوقت من الليل..هل يحتاج الشاي إلي سكر؟؟..تفضل سيجارة..هل هناك علاقة بين السجائر والإلهام؟؟..كل الفنانين يدخنون بشراهة..أعترف لك بأنني دخنت لأثبت لزملائي أنني فنان..هناك-بالطبع- أسباب أخري..أن تنال إعجاب الفتيات..وتقول لكل من حولك أنك لم تعد الطفل العاجز عن اتخاذ قرارته بنفسه..أو حتي لمجرد التمرد علي مجتمع ترفضه..الكثيرون يتحدثون عن أضرار التدخين..وأنه يسبب المرض والوفاة المبكرة..ولكن مالذي يوجد في بلادنا غير ضار..الهواء..والماء..والضوضاء..والقهر السياسي ..والنفاق والتطرف الديني..والجري اللاهث والمرير وراء لقمة العيش ..ومسلسلات رمضان..وأحوال التعليم..وبجاحة الحزب الحاكم..التفكير في حال البلد يجعلك عرضة لكل الأمراض النفسية والعضوية..أحيانا أسأل نفسي هل الغباء أفضل من الذكاء..الذكاء الذي يجعلك تري الحقيقة البشعة..زمان كنت أردد مع المتنبي
ذو العقل يشقي في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ولكنني لم أعد مقتنعا بأن الغباء يمكن أن يكون سببا في أي سعادة..لأن الغبي يعيش ..ولايحيا..هو يأكل لأنه جائع..ويمارس الجنس لأنه مستثار..ويكتئب لأن رئيسه في العمل خصم من مرتبه بضع جنيهات..ويتعذب لأنه عاجز عن الفهم..والحياة تحتاج إلي ذكاء..ووعي..وفلسفة..التغابي-مثلا- أحد فلسفات السعادة..والكسل الذكي الذي يجعلك تنجز في ساعات قلائل ما ينجزه الآخرون في أيام..لماذا لاتترك الكتابة وتعمل معي في السينما؟؟..أنت تمتلك أهم أدوات الممثل..الإصغاء..ووجهك أشبه بصفحة الماء التي تنعكس عليها أنفاس الرمال..وتنهدات الصخور..وهمسات الريح..
2
أنفي الأفطس..وعيناي الجاحظتان..وشعري الأكرت..ورقبتي المدكوكة في جسمي المكتنز القصير..هي الصورة النهائية التي استقر عليها شكلي (الخالق الناطق أمي)..والذين يزعمون بأن الشكل لايختار مضمونه..ومحتواه..وجوهره..اسمح لي أن أقول لهم بالفم العريض أنتم أغبياء..فحياتي كلها كانت دفاعا متواصلا ومستميتا عن قبح هيئتي..تفوقي الدراسي..وعلاقاتي النسائية المتعددة..ونجاحي كممثل سينمائي..كان بسبب هذا القبح..هل أنا من الحالات التي بني عليها عالم النفس العظيم (أدلر) نظريته عن عقدة النقص..ربما..ولكنني معجب أيضا بفرويد..النساء –أيضا- كن محور حياتي..أرجو ألا تعتقد أنني مثقف..وقاريء عظيم..لأنني تحدثت عن أدلر وفرويد بكل تلك الحميمية..وبعد قليل سأحدثك عن كل عظماء التاريخ بحميمية أكثر..فالواقع أنني لاأعرف عنهم أكثر من مانشيتات جرائد..بمنتهي الصراحة أنا لا أقرأ..وثقافتي كلها سماعية..ولكن من حسن حظي أنني كنت تلميذا للأستاذ (يوسف الطوخي ..وصديقا ل (ياسين الطوخى)..الأول كان مدرسا للفلسفة في مدرستي الثانوية..والثاني كان موظفا بمركز الشباب في قريتي..وهما أخوان رغم اختلافهما شكلا وموضوعا(البطن قلابة)..وسيأتي الكلام عنهما بالتفصيل في حينه..لأن البداية الصحيحة لأي قصة حياة لابد أن تبدأ بالأب..
3
اسمي الحقيقي (سيد جميزة)..وجميزة هو أبي..كارثة حياتي الكبري..أحد الحالات النادرة التي تقابلها في الحياة ..ولكنها موجودة..ومن سوء الحظ أن يكون أبي..لم يكن مجرما..ولا قوادا..ولاتاجر مخدرات..أبي كان أمي..هل تفهم شيئا..في بيتنا كان الوضع معكوسا..أمي هي التي تعمل(بائعة جرجير)..وتكد..وتشقي..وأبي ست بيت..يكنس..ويطبخ..ويخبز..ويغسل الهدوم..وليس له أصدقاء رجال..لا يصلي..لا يجلس علي مقهي..لايفعل شيئا مما يفعله الرجال..هو أنثي ..وأنجب ولدين..أنا ..وأخي الأكبر ناصر..وكان ست بيت شاطرة جدا..لهلوبة..كتلة من النشاط والحيوية..نفسه في الطبيخ يجنن..وكان مرحا..لايكف عن الهزار..والتنكيت..وكان محبوبا جدا..فاكهة الشارع..والجميع يثق في أمانته..وأخلاقه..الرجال يأمنونه علي زوجاتهم..وبناتهم..كأنه ملاك يسير علي الأرض..لا أحد في حنانه..وفي طيبته..وفي زهده..لايتأخر عن خدمة أحد..
-والنبي خد بالك من العيال ياواد ياجميزة
- من عنيا الاتنين يأميرة..يابنت الناس الأمرا..
-ابقي اخبزلي طبق عيش معاك ياجميزة..
- دانتي تؤمري يام صبري
- ابقي هاتلي معاك من السوق اتنين كيلو طماطم وكيلو خيار ياواد ياجميزة
- افتكري..تكوني عايزة حاجة تاني..
- أنا عندي شوية مواعين ..عايزين يتغسلوا..وجسمي بينشر عليا مش قادرة
- أنا رايح أغسل في البحر..هاتيهم اغسلهم بالمرة مع المواعين بتاعتنا..
وعلي ناصية الشارع توجد فيللا الحاج أحمد المنصوري..صاحب أطيان..وفاحش الثراء..وكريم جدا..كان أبي يخدمه..وفي المقابل كان يجود عليه بما لذ وطاب من الطعام والشراب..وملابسنا- أنا وأخي- هو الذي كان يشتريها لنا..كنا فقراء.. معدمين..علي فيض الكريم..ونعيش في بدروم بيت قديم يخزن فيه الحاج احمد المنصوري غلاله ..ومع ذلك كنا نأكل ..ونشرب..ونلبس..كالأغنياء..
الحاج أحمد أيضا هو الذي تكفل بتعليمنا(طبعا في أضيق الحدود..فلا أحد يعرف قيمة القرش مثل الأغنياء) ..وكان يحنو علينا ..ويوصي علينا المدرسين..كان له بنت في نفس عمري تدعي زينب..أنجبها من زوجته الثانية(إحسان)..بعد أن قضي عمرا طويلا لاينجب من زوجته الأولي الحاجة (علية)..
في السنة الأولي الابتدائية أدركت الحقيقة..والسبب كان خناقة قامت بيني وبين أحد زملائي..كنت أتمتع بعافية شديدة..وكنت عدوانيا..ربما بفضل التغذية الجيدة التي كان يفتقدها أغلب رفاقي..وعندما وجد زميلي نفسه طريح الأرض..غارقا في دموعه ..ومحاصرا بالنظرات الشامتة..قال كلمته التي كانت موجعة أكثر بكثير من اللكمة التي وجهتها له
- والله لاوريك يابن جميزة الشحات والمرة
وأعماني الغضب..كأن إنسانا واجهني بحقيقة كنت أتعمد نسيانها..وتجاهلها..ووجدت نفسي أنهال عليه بالشلاليت والبوكسات حتي كدت أن أقتله..لم أتراجع إلا وأنا أراه يفقد الوعي..وشعرت بالرعب..وجريت..لا أعرف إلي أين ..كنت أتمني أن أجد مكانا خارج المكان..وخارج الزمان..كنت أجري- بسرعة جنونية- ناحية الغروب..واهتديت إلي دورة مياه في أحد المساجد البعيدة..البعيدة جدا عن الشارع الذي أسكن فيه..ودخلت أضيق حمام..متر في متر تقريبا..ولكنني أحسست أنه واسع اتساعا خانقا..وأدركت يومها- علي نحو غامض- الراحة التي كنت أشعر بها عندما كنت في الرحم..
4
أكون كاذبا لو قلت لك أنني أتذكر ماحدث لي في تلك الليلة..كل ما أتذكره أنني كنت في المدرسة في اليوم التالي..وكان زميل الأمس جالسا في مكانه المعهود ..ويبدو علي وجهه المرح..وفوجئت به قادما ناحيتي ويقول
- باعرف امثل ..صح..كله كان بيحسبني ميت امبارح..وانا سامع كل الكلام.. وعمال اضحك في سري..أمبارح كان أحسن يوم في حياتي ..جابوا لي مانجة وموز..وكلت لحد ما بطني كانت هتفرقع..ولسة معايا في الشنطة ..استني لما اروح اجيبلك واحدة من دي وواحدة من دي..وامي راحت لعمي جميزة ..وقعدت تزعق معاه..وامك جت تتدخل..امي قالتلها – وكانت بتتكلم بجد- يابدرية الحريم لما يتكلموا مع بعض المفروض الرجالة مايتدخلوش..وفجأة الخناقة اتحولت لضحك وهزار..وابوك قال لامي – ينيلك يابت ياصفاء انا مش مالي عينك يابت ..دنا راجل اكتر من ابوكي ..أبوك دمه زي العسل ياسيد..أحسن من ابويا ألف مرة..يخلي الحجر يفطس علي روحه من الضحك..الأيوب هايجيب الكورة الكفر بتاعته النهاردة وهنلعب في الجرن..اتفقنا..
لاتوجد طفولة تعيسة..ربما تكون هناك ذكريات سيئة..وتترك أثرا في النفس لايمحي..ولكنها غالبا تعد علي الأصابع..الطفل ليس لديه الوقت- كالبالغين- ليحزن ..إنه مشغول دائما باكتشاف الحياة..يكتشف الكلام..والأصوات..والنباتات..والحيوانات..والمأكولات..والألوان ..والأماكن..مهما كانت الظروف التي نشأ فيها هوقادر علي الاستمتاع..والانشغال..من المستحيل أن تجد طفلا يعاني من الملل ..والزهق..لانهاية للمشروعات التي يريد أن يفعلها..الكباريشتهون المال..أو الجنس..أوالسلطة..أو الشهرة..والأطفال يشتهون الحياة نفسها..لأن حواسهم تكون شرسة..وعنيفة..وعقولهم تكون مفتوحة علي مصراعيها..وتبدأ لعنة التربية..والتشويه..مع سبق الإصراروالترصد..وبدلا من أن نتعلم منهم..نعلمهم..ونحشو رؤوسهم بأفكارنا المتخلفة..وخيالنا العقيم..والكسيح..سيل من الأوامر..والنواهي..ونحن نعتقد اعتقادا يقينيا أننا نجعلهم أفضل..ويالنا من معتوهين..
5
اعتقدت دائما أنني مركز الكون..أو يجب أن أكون هكذا..ودعم اعتقادي قوتي البدنية..ومهارتي في كرة القدم..ونجابتي في الدراسة..وفي النقيض كان هناك الأب الذي وصفته لك..وكان البدروم..وكان أولاد الأغنياء الذين كانوا يتجاهلونني..وكأنني غير موجود..ولولا (زينب)لما شعرت بهذا..كانت تلعب في الفسحة مع تامرابن العقيد صفوت خليفة..صحيح أنها كانت تعاملني معاملة طيبة..ولكنها معاملة شفقة..نفس معاملة أبيها لأبي..ولكنني لست أبي..وفي يوم ما سأصبح أغني من أبيك ألف مرة..وأهم من سي (تامر)مليون مرة..عرفت الحقد ..الذي سيكبر عاما بعد عام..ويملؤني عزما وإصرارا علي أن أكون كما تخيلت..في هذا الوقت اكتشفت المستقبل..وتعلقت به..وأصبح الحاضر بالنسبة لي بئرا عميق القرار أحاول الخروج منه..وكأن القدر كان مصرا علي استفزازي..في السنة الابتدائية الخامسة طلبت إدارة المدرسة صورة فوتوغرافية..وكانت تتكلف في هذا الوقت – في أواخر الثمانينات- أربعة جنيهات..وكان مبلغا كبيرا..ولا أصف لك مقدار ما شعرت به من عار وأبي يذهب ليستدين هذا المبلغ من والد زينب..قبل ذلك كنت غافلا عما يدور حولي..والآن بدأت أعي بشدة المأساة التي أعيش فيها..من المؤكد أن زينب تعلم..وربما تخبر تامر بهذا الأمر..المشكلة الثانية كانت في قميص عليه القيمة أرتديه..كانت كل قمصاني بالية..وفي صمت ذهبت أمي لتستعير قميصا من أحد زملائي(الطفل الذي ضربته)..وبكبرياء رفضت..وتصورت بأنظف قميص عندي..وفوجئت به جديدا في الصورة..ولم أجد أي مشكلة في ياقتة المنحولة..ولا أزراره المفقودة..في الفسحة كانت زينب واقفة مع تامروتتفرج علي صورته
- الله ..جميلة قوي ياتامر
وطبعت –ببراءة- قبلة عليها
نادت علي ..وقالت بلهجتها الباسمة
- سيد ..هات صورتك عشان اتفرج عليها
أخرجتها من جيبي..وأعطيتها لها متصورا أنها ستفعل معها مع ما فعلته مع صورة تامر..وكانت المفاجئة التي ذبحتني..والتي مازلت أتذكرها حتي الآن وأضحك بمرارة..ألقتها من يدها علي الأرض ..كأنها تتخلص من فأر ميت..وقالت بقرف
- وحشة خالص
انحنيت..والتقطت الصورة..والدموع تكاد تقفز من عيني..
6
في الوقت الذي كنت أشعر فيه بأنني دخلت الدنيا عن طريق الأسرة الخطأ..كان أخي ناصريعتبر نفسه سعيد الحظ ..لأنه يأكل مالا يأكله أحد من أقرانه..وبدا لي أن شيئا لايؤرقه..فهو لايخجل من أبيه كما أخجل..ولايخجل من مهنة أمه..ولايخجل من البدروم الذي نسكن فيه..كل ما كان يفعله هو أن يأكل..ويزداد سمنة يوما بعد يوم..ومن المشاهد التي كانت تضحكني عندما كنت أراه محشورا في المريلة الكحلي خانقا خصره بحزامها وعلي ظهره الحقيبة القماشية(تشبه الحقيبة التي يذهب بها صبيان الفقهاء إلي المقابر صباح كل خميس والرجوع بها ممتلئة بالقرص والفاكهة)..ذاهبا إلي المدرسة بخطوات بطيئة متثاقلة كالذاهب إلي حبل المشنقة..وبعد بضع أعوام سيتخرج في مدرسة الزراعة دون أن يتعلم أبسط قواعد القراءة والكتابة..ولا أتصور أن تلميذا في العالم كله تلقي نصف ما تلقي من عقاب بشتي أنواعه..كانت عصا المدرسين تنكسر علي يده(بطنا وظهرا)..وعلي مؤخرته..وعلي باطن قدمه..ويبدو أنه كان يستمتع بذلك..وبالضحكات التي كانت تنفجر في الفصل عندما يصرخ المدرس وهو لايري علي وجهه علامة من علامات الوجع
- يابني حرام عليك..اتقي الله فينا..ما بقيتش عارف أنا اللي باعاقبك ..ولا انت اللي بتعاقبني..أنا كرهت التدريس بسببك..شغلانة مهببة..دا لو تور كان قال آه..اضحك عليا وقول آه..عشان خاطر قول آه..عشان اشوف غيرك..
وبخفة ظل ورثناها عن أبينا يقول آه بطريقة تشبه طريقة العجول الصغيرة
فيحاول المدرس أن يكتم ضحكته حفاظا علي هيبته أمام تلاميذه..وقلما كان ينجح..
كان محبوبا من كل أقرانه..وكانوا يتمنون أن يكون في فصلهم..ليخفف عنهم وطأة اليوم الدراسي..أطلق عليه أحد المدرسين اسم كليبر(القائد الفرنسي الشهير..الذي قتله سليمان الحلبي)..لأن ملامح وجهه كانت قريبة الشبه منه..وعندما كبرت تأكدت فعلا من هذا..والتصق هذا الاسم به ..وذهب اسمه الأصلي إلي غياهب النسيان..كم أشفق علي القائد كليبر..فما الذنب الذي ارتكبه ليلقي كل هذا الهوان..في موته..وبعد موته..كان زملاؤه يرتكبون كل ما يحلو لهم من أخطاء..ويلصقون التهمة بكليبر..وكان كليبر يتلقي التهمة بصدر رحب..والعقاب بصدر أرحب..وفي المقابل كانوا يغدقون عليه السندوتشات في الفسحة..ويلتفون حوله ليعرفوا آخر أخبار المعزة التي تظهر له في الغيط في عز القيالة (الحر الشديد) وهي ترتدي بدلة رقص وخلفها فريق من الماعز مجهز بكل الآلات الموسيقية..أو عن النداهة التي نادت عليه وهو جالس تحت الجميزة وقالت له ياكليبر الواد فلان بيحب البنت فلانة..أو عن الجنية التي خرجت له وهو يستحم في البحر في عز القيالة أيضا واصطحبته معها إلي مملكتها في قاع البحر..وعزمته علي وجبة سمك لم يأكل مثلها من قبل..وروادته عن نفسه..ولم يستطع أن يقاومها كسيدنا يوسف ..لأنه خاف أن تسجنه ..ولايعود..فتقوم المدرسة برفده..ويضيع مستقبله..كان موسوعة في أخبار الجن والعفاريت..وكنا نجلس حوله بالساعة والساعتين فاغري الأفواه من الدهشة..وكان أيضا مدمنا للأفلام الهندية..ومن كثرة تكرارالأفلام حفظناها..ويأتي يوم ويقول لنا بأنه شاهد فيلما هنديا لم يشاهده أحد في مقهي الزنوكي..وكنت أعرف أنه كاذب..ولكن ماإن يبدأ في الحكي
حتي نندمج..ونتمني أن نشاهد هذا الفيلم من روعة قصته..وسيكبر كليبر..وتدعكه الحياة..وسيسافر إلي ليبيا..والأردن..وأخيرا إلي لبنان..وسيظل محتفظا بخياله المتوهج..والمحلق..وسيتحفني بحكايات مدهشة عن البلاد التي سافر إليها..حكايات – كالعادة- أبعد ماتكون عن العقل والمنطق..وسيحزن كثيرا لأن الناس لم يعودوا يهتمون بسماعها..ويعارضونه دائما قائلين
- كلامك كله غلط ..إحنا كنا هناك وعارفين..
ذات مرة قال لي مرة بمرارة
- الناس ولاد الكلب بيصدقوا الأفلام والمسرحيات..وكلها ضحك ع الدقون..وييجوا قدام حكاياتي ويبقوا ناصحين..ويسألوا ازاي..المنطق بيقول غير كده..من إمتي الحكايات بيبقي فيها منطق..
قلت له
- الحل الوحيد ياكليبرتتجوز وتخلفلك كام عيل ..عشان تحكيلهم حكاياتك من غير ما حد يقاطعك
فكر بجدية
- تصدق عندك حق..إزاي كانت غايبة عن دماغي..
وأردفت
- الحل التاني تروح هوليود ..هيفرحوا بيك قوي..وكل حكاية من حكاياتك هيدوك قصادها مليون جنيه..
قال بحسن نية
- وهوليود دي فين في مصر..(ثم أخذته جلالة الحكي )أنا أعرف بس أجزاخانة هوليود اللي في ليبيا..علي ناصية شارع سيدي عمر..شارع ياسيد طبق الأصل الشارع بتاعنا..وهناك قهوة اسمها عكاشة برضه..جنب جامع..وع البحر..وأول ما قعدت ع القهوة ..لقيت عكاشة جايبلي الطلب بتاعي بالظبط من غير مااقول..شاي تقيل كوبية..وشيشة معسل عباس..المشكلة بدأت لما لقيته ساب شغله ..وسحب كرسي ..وقعد جنبي..وقاللي المعلم باسط اتسرقت بهيمة من الزريبة بتاعته ..وشاكك فيك..اتنفضت في مكاني..ووشي جاب ألوان الطيف الخمسة..أصفر واحمرواسود..وقلتله ياعكاشة أنا من مصر..وما اعرفكش..ولسة أول يوم ليا في ليبيا النهاردة..تيجي تلزقلي تهمة..قاللي لو كلامك صحيح عرفت اسمي ازاي..اتلجلجت في الأول..وبعدين قلتله المصريين هما اللي اخترعوا الفهلوة ..وبيعرفوا اسم الواحد من وشه..واللي اسمه عكاشة بتبان عليه الأعراض..وقلت في نفسي أنا شكلي هاتحط في مشكلة كبيرة ..عشان زعلت أبوك قبل ما سافر..وزي مانت عارف ربنا بيغفر الذنوب كلها إلا عقوق الوالدين..وكمان ابونا ياسيد غير كل الأبهات اللي في الدنيا..طيابة أيه..وحنية أيه..وأمارة أيه..والعيبة عمرها ما طلعت من بقه..تغلط فيه قد ما تغلط ..ومايردش غير بالله يسترك..والله يسامحك..المهم طلع الراجل بيحب يهزر مع المصريين الجداد..وطلع ابن نكتة..وابن حظ..بس كان شغال معاه واد ابن كلب..للأسف طلع مصري م المنوفية..المنايفة دول بيشوهوا سمعتنا في الخارج..وفي الداخل أكتر..وحب يصيع علي اخوك..بس علي مين ..دنا اعرف القرد بيخبي ولاده فين..
وأتحفني كالعادة برائعة من روائعه..
7
المشكلة الكبيرة التي ظلت تطاردني طوال دراستي هى سؤال المدرسين المستفز عن مهنة أبي..كنت أضع رأسي في الأرض ..وأقول بصوت منكسر وهامس..بصوت مفتت ..يشبه العيش الذي يفتته أبي إلي قطع لانهائية لتقديم وجبة تسمي
(بسيسة )للفراخ..- أبي لايعمل
أما أخي كليبر فكان يقول بصوت أجش وغليظ وممتليء بالفخر والغباء
- أبويا مابيشتغلش يا أستاذ ..راجل باشا..وحر نفسه..
فينفجر الجميع بالضحك..وتتبدد سحابات أحزاني..
في بطاقة أبي العائلية أيضا كان مكتوبا بجوار خانة الوظيفة : عاطل عن العمل..
عندما سأكبر سأفكر في هذا الموضوع كثيرا ..فأبي يعمل ..وينتج..أكثر من آلاف الأشخاص الذين قابلتهم في حياتي..ومع ذلك هو في عداد العاطلين..وتعلمت أن الأمور ليست كما تبدو..هناك دوما في الأعماق أشياء أخري ..تستوجب الانتباه إليها..ووضعها في عين الاعتبار..ولكن حياتنا ياصديقي حياة مظاهر..مشكلتي أن مشكلتي كانت علي عينك ياتاجر..الكل يعرفها..وكنت أعلم ما يعاني الآخرون منه..وكنت أتساءل هل من الأفضل أن تكون العيوب واضحة أم مختفية..واكتشفت مع الوقت أن العيوب الواضحة أفضل..لأنها تضغط عليك باستمرار ضغطا يدفعك إلي معالجتها..أما العيوب المختفية فهي تظل تستفحل حتي تتلف حياتك بأكملها..
8
من خلال أدوار قصيرة أستطعت أن ألفت أنظار الجمهور والنقاد..والجميع يتنبأ لي بمستقبل باهر..ويتساءلون كيف -وأنا مازلت في الثلاثين- تبدو علي وجهي كل تلك الخبرات العميقة؟؟..ذلك أنني مررت بكل الأحاسيس التي يمكن أن يمر بها إنسان..عرفت كيف يكون الحزن..وكيف يكون الحقد..وكيف تكون الرغبة..وكنت دائما في حالة استنفارويقظة..أراقب نفسي..وأراقب الآخرين..وفي أحلام يقظتي كنت أتقمص كل شخصيات شارعنا..لأهرب من نفسي..ومن همومي..وكان في هذا سلواني..وعندما أنظر إلي تجاربي الماضية من الارتفاع الذي أجلس عليه الآن أفرح به ..لأنه النهر الذي أغرف منه جواهري ..وأزين بها صدري..وأستطيع أن أبهر الزملاء قبل الجماهير..وهذا يجعلك تتمهل كثيرا في الحكم علي ماضيك..لاتحكم عليه إلا في لحظات حياتك الأخيرة..التجارب المؤلمة هي التي تقف خلف كل النجاحات التي أحققها..وهي التي تدفعني بعنف إلي الانغماس في المتعة من ساسي إلي راسي..
9
أكثر المدرسين تأثيرا في نفسي هو الأستاذ ناجي الفيل ..مدرس الرسم ..كان سمينا جدا..وصامتا جدا..يعيش في عالم آخر غير الذي نعيشه..وحصته كانت حصة الحرية..والجرأة..والانطلاق..كل ما كان يفعله هو أن يجلس علي كرسي خشبي (ماركة النسر..صناعة دمياط) أمام الفصل متلذذا بشمس الخريف..ونحن نفعل كل ما يحلو لنا..نأكل..ونقفز علي الأدراج..ومن الشبابيك..ونشخبط علي السبورة..ونقوم بعمل واجب الحساب والعربي (واجبات يعجز الجن الأزرق عن القيام بها).. لنتفرغ بعد انتهاء اليوم الدراسي للفرجة علي أفلام إسماعيل يسن ..وفؤاد المهندس..وفريد شوقي..وتوم وجيري..ومازنجر..وكابتن ماجد..وأحببت هذا الأنسان..لأنه الوحيد الذي لم يقم بتشويه طفولتي..
10
مدرستي الابتدائية تستحق قصيدة شعر..في سبتمبر 1987 كنت أرتدي مريلة زرقاء أنيقة ..وأحمل علي ظهري حقيبة جديدة..وأقف أمامها بخشوع مأخوذا بجلالها.. ويقول لي أخي كليبر:اسم مدرستنا (الوحدة)..فينشرح صدري لمعني اسمها الجميل..وآخذ قرارا سريا أن أكتشف الفرح المخبوء في كل المفردات الحزينة..
كانت المدرسة آسرة..كأن المهندس الذي صممها كان صديقا لشاعر الجندول..فهي من طابق واحد فقط..والفصول متراصة جوار بعضها..كأشجار علي حافة نهر..والفناء رحيب ومفروش بالعشب تتوسطه حديقة غناء ..بها نخلة معوجة (كنت أتصور أيامها أن أمير الشعراء زار مدرستنا وكتب قصيدته التي درسناها عن تلك النخلة)..وأدراج خشبية تطن فوقها أسراب النحل..عندما أقابل إنسانا لايحب الفن..أرثي له ..وأقول في نفسي ..ليس ذنبه أنه لم يتعلم في مدرستي..سأزور هذه المدرسة عندما أكبر..وسيصدمني المبني الكالح متعدد الطوابق الذي حل مكانها..والفناء الرملي الأصفر..واللون الأسود الذي احتل وجوه المدرسين (اللحي) والمدرسات(النقاب)..وأنسي كل الأيام الكئيبة التي قضيتها فيها..ولاأتذكر سوي أنها كانت فردوسا لم يعد له وجود..تري هل تنجب تلك المدرسة تلميذا يتكلم عنها بحب في يوم من الأيام..؟؟
11
صور كثيرة في الطفولة مازالت محفورة في ذهني..والفقر كان مبررها الوحيد..العماص الأبدي في عيون الأطفال..والمخاط الأخضر الذي يتدلي من أنوفهم ويمسحونه في أكمام قمصانهم..والقمل في شعرهم..ودماء البراغيث علي ملابسهم الداخلية..والطين تحت الأظافر الطويلة..ورائحة الجاز المنبعثة من شعور البنات..وسندوتشات البلح الأسمر(والعجوة)..ورجل يحمل فوطة علي كتفه متوجها للمسجد للاستحمام..رجال واقفون في انتظار خلو حمام في دورة مياه المسجد (وخصوصا بعد إفطار رمضان)وسيمفونيات تنطلق دون أدني شعور بالاشمئزاز..ولا أريد أن أقول إن هذه الأصوات كانت مبهجة جدا..أكوام الأطفال جالسون علي حسيرة في الكتاتيب بينما يتناول العريف طبق الفطور الشهير(عبارة عن عيش مفتت مدلوق عليه كمية كبيرة من مشروب الحلبة العصي أو المدشوشة)..المقاهي عندما كانت سينما الفقراء..وخصوصا لحظة إذاعة مسلسل السابعة (بيوت قليلة هي التي كان يوجد بها تلفزيون أبيض واسود..وهي التي سافر أحد أفرادها إلي العراق أو الإمارات أو السعودية..كانت الناس تخاف من السفر جدا في هذا الوقت ..وهو ما جعل علماء الاجتماع يتهورون كعادتهم في الحكم علي المصريين بأنهم شعب يحب الاستقرار..في أواخر التسعينات لن تجد شابا علي أرض المحروسة إلا وهو يحلم بالسفر)..السفر وما يصاحبه من طقوس..والتوديع الحار والدامع كأنه الوداع الأخير..ولعل الشعب المصري هو صاحب براءة اختراع الشرائط المسجلة للاتصال بالأولاد المسافرين..الناس وهم يتبادلون الماعون(مفرد مواعين)..كوب شاي ..كوب سكر..كوب زيت..أو كرسي ..أو أكواب زجاجية فارغة في وجود ضيوف أو أغراب..اتنظار الأطفال لانصرافهم للا نقضاض علي واجب الضيافة ..الذي غالبا ما يكون فاكهة أو زجاجات حاجة ساقعة ( اللي كان عنده تلاجة أيامها كان يبقي النقيب خاله..والنبي يام فلان حطيلي إزازة المية دي عندك في التلاجة)..والشارع كان مسرحا للكثير من الأعمال..إصلاح البواجير..سن السكاكين بآلته الشهيرة..لحام الشباشب البلاستيك والأواني البلاستيكية..بيع البوظة والترمس واللب وشعر البنات والجيلاتي والعنب البناتي الفرط وكل أنواع الفاكهة والخضروات الأخري(غالبا من الدرجة التالتة..وكانت تباع بالشروة لابالكيلو) والأقمشة والأدوات المنزلية وتجهيز العرائس..بائع المناخل..بائع المقشات ..وكان منظرا مألوفا جدا أن تري حلاقا يمارس مهنته علي مصطبة الزبون..والتمرجي أيضا كان يجول في القرية علي دراجته البخارية..ومن المناظر اللذيذة منظر البائع وهو يلبب البطيخة بالنقر عليها بطريقة ماهرة ليعرف إن كانت حمراء أم قرعة ( وهي تقوم علي نفس القاعدة التي ينقر بها الأطباء علي بطن المريض ..لمعرفة حالة الأعضاء الداخلية..ومن الظلم أن تنسب إلي الغرب ..والمصريون هم أول من اكتشفوها)..الأفراح المقامة علي مقطورة ..أو الكوشة علي كنبتين منصوبتين فوق بعضهما..منظر الشوار وهو عبارة عن عربات تلف القرية لتستعرض أجهزة العروس..مولد النبي كانت له طقوس غريبة لعلها تعود إلي العصر الفاطمي..علاوة علي الأحصنة والعرائس الحمراء..كانت هناك السيارات التي تطوف في البلد في مهرجان رهيب..وشباب القرية يمضون حولها وهم شاهرون سيوفهم..توقف هذا الاحتفال تقريبا في أول التسعينات عندما قامت مشاجرة بين شابين ..وطعن أحدهما الآخر بسيف في بطنه..ومن المدهش التسامح الغريب الذي عامل به أهل القتيل القاتل..كان كل ما يهمهم في الأمر ألا تخضع جثته للتشريح..وتدخل أحد كبارالقرية ..ومنع هذا..وهو جميل مازالوا يحملونه له..كان ذبح الجزار لجاموسة حدثا ذا شأن عظيم أيضا..كان الجزار يسحبها وراءه ليلف بها القرية والأطفال يزفونهما معا..حتي تأتي لحظة الذبح العظيم ..وبعدها يتسارع الأطفال ويغمسون أيديهم في الدماء ليطبعوها علي أبواب بيوتهم.. وكان مألوفا أيضا أن تري البيوت – التي حج رجلها الكبير إلي بيت الله الحرام- مدهونة بلون أصفر أو أزرق فاتح ومرسوما عليها وسيلة المواصلات التي سافر بها (طائرة أو باخرة) ومكتوبا بخط جميل ( حج مبرور وذنب مغفور) وآيات قرآنية..لا أنسي أيضا أنني عندما تعلمت القراءة كنت مشغوفا بقراءة كل الكلام المكتوب علي الحوائط ..وكنت يحالفني النجاح غالبا..اللهم إلا الآية المكتوبة أعلي القبلة في كل الجوامع (فلنولينك قبلة ترضاها)..وعندما نجحت في قراءتها ونطقها كان فرحي طاغيا..وكان منظر الخريجي بملابسه السوداءوحذائه المطاطي ذي الرقبة الطويلة التي تصل إلي ركبتيه وهو ينزح البكابورتات
( الطرنشات) ونحن نلعب الكرة في الوسعاية منظرا لاينسي ..أجمل ما في الأطفال لو قال لنا الكبار أن هذه الروائح هي أجمل الروائح لشعرنا بالنفور من رائحة الزهور..واندهشنا من الأمم التي تستمتع بها..كما نندهش الآن من الذين يأكلون الصراصير والقطط والكلاب والخنازير..ما تأكدت منه أن الطبيعة محايدة ..ونحن الذين نضفي عليها المعاني التي نريدها..ونعتقد بعد ذلك أن هذا هو الأصل..الزهرة جميلة فقط في رأسنا..ولحم الطير لذيذ فقط في فمنا..هناك بشر ينفرون منه..بل ينفرون من اللحوم بكافة أنواعها ويرفضون أن تكون بطونهم مقبرة للحيوانات..
12
هناك بالطبع ذكريات أخري كثيرة..ولكنني لا أريد أن أكون مملا..أردت أن أقول لك فكرة تراودني وتلح علي..وهي أن الطفل الذي يولد في أي عصر من العصورسيشعر حتما بكل العصور التي سبقته..ألا تقرأ مثلا عن أيام الرسول والصحابة وتشعر أنك تكاد أن تراهم بعينك..وقبل ذلك أيضا..بل إنني أحيانا أشعر بآدم وحواء والشجرة المحرمة وإبليس ونوح والطوفان شعورا يملك كل حواسي..
وأشعر بيوسف وهويحلم..وهو يخبر أباه بحلمه..والحقد يلمع في عيون إخوته..وهم يتآمرون عليه..وهو في البئر..وامرأة العزيز تراوده عن نفسه ..وتقطع قميصه من دبر..وأشعر بموسي وهو يملأ الماء لابنتي شعيب..وأشعر ببلقيس وهي تكشف عن ساقيها حين حسبت الصرح لجة..كأنني عشت في كل هذي العصور..ولكن هذه القصص الموجودة في الكتب المقدسة توجد أيضا في حضارات أخري لم تعرف الأديان لويصارحهم بالحقيقة..قصص عن اللعنة التي تطارد البشر..وعن الموت الذي ينتظرهم وينقض عليهم دون سابق إنذار..قصص عن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان..عن الحقد كيف يعمي القلوب..وعن المال والرغبة الجشعة في اكتنازه..وعن النساء والرغبة المتوحشة في الاستمتاع بهن..وهذه النقطة تحتاج إلي توضيح ..إذ يتخيل بعض المفكرين أن لفظ النساء في الكتب المقدسة يعني الأنثي ..وهو فهم مغلوط في وجهة نظري..فالنساء تعني الجنس ..أي العلاقة التي تربط بين الذكور والإناث..فليس صحيحا أن نتصور أن الإنسان القديم فهم المرأة كمتعة للرجل وليس العكس..كأن كلمة الرجال تعود علي النوعين وليس علي الذكور فقط..أعرف أنها فكرة صعبة ..وأنني عاجز عن توضيحها..لأنني أفهمها علي نحو غامض جدا..اقترابي من النساء جعلني إعتقد اعتقادا لاشك فيه أنهن ذكور يرتدون أقنعة..فهم يفكرون في الحب والجنس ويتحدثون عنهما بنفس طريقتنا..حاول أن تكتب رواية عن ذكرياتك العاطفية..واذكر أدق التفاصيل ..وفي النهاية..اشطب اسمك..واكتب اسم امرأة..سيصفق لك الجميع..وسيتساءلون كيف فهمت المرأة علي هذا النحو العميق..أنت من قرية مثلي علي ما أتذكر..ألا تلاحظ أن المرأة القاهرية تكاد تكون رجلا في ملابسها..وطريقة كلامها..هذا لأنها تعمل نفس أعمال الرجال..وتمر بنفس ما يمرون به من تجارب..سيمون دي بوفوار- عشيقة سارتر- قالت هذا..قالت بأنه لا أحد يولد رجلا أو امرأة..المجتمع هو من يجعله كذلك..خذ حالة أبي كمثال..كان هو الطفل الوحيد الذي عاش لجدتي..لذا كانت تخاف عليه من النسمة..وارتبطت به ارتباطا مرضيا..وخافت عليه من الأولاد الأشقياء..إذا أراد أن يلعب فمع البنات المسالمات..وكبر علي تلك الطريقة..لم يكن ذكرا إلا من وجهة النظر التشريحية فقط لاغير..أنت بالطبع تريد أن تعرف موقفي من الدين..وسأكون صريحا..الدين عبارة عن طقوس وشعائر..بمعني أنك لاتستطيع ان تدعي بأنك مسلم وأنت لاتصلي الخمسة فروض ..ولاتصوم..ولاتزكي..ولاتنوي أن تحج عندما تتوفر لديك المقدرة المادية..وأنا لا أفعل ذلك..سأقول لك رأيا أتمني أن تتحمله..عندما يتهم السلفيون نجيب محفوظ بالكفرلايبتعدون كثيرا عن الحقيقة..هو كافر بكل ما يؤمنون به..وفكرته عن الله..وعن الأنبياء..وعن قصص القرآن.. تختلف جذريا عن فكرتهم عنها..ويغيظني أن ينكرالمفكرون ذلك ..ويقولون إن نجيب مسلم..وأن روايته أولاد حارتنا ليس بها ما يسيء للدين..وأن الفن يجب قراءته بكيت وكيت..هذا استغفال للعقول..واستهتار بها..في الحرافيش تجد مافي أولاد حارتنا بأسلوب فني شديد الرقي..ما العيب في الكفر بمعتقدات تؤمن الغالبية بها..هذه حرية شخصية..وليس من حق أحد أن يحاسب أحدا علي ما يعتقد..يجب أن تكون هناك دولة قوية..تنظم العلاقات بين الناس.. وتعاقب الخارجين علي قوانينها..ومصطلح التكفيريجب أن ينقرض..ليس من حق أشخاص أن يفرضوا تصوراتهم وعقائدهم علي الآخرين تحت أي مسميات..والذين يفعلون ذلك هم مرضي بالحقد والكراهية والتعاسة..ولذا هم يبحثون عن عدو(شيطان..أو إبليس) ليلقوا بتبعة تعاستهم عليه..ويتصورون أن التخلص منه هو الحل لكل مشاكلهم النفسية..لماذا أقول لك ذلك ؟؟لأن إنكار كفر نجيب محفوظ وفرج فودة ونصر ابوزيد وسيد القمني ونزار قباني( قلما تجد مفكرا مسلما بالمعني التقليدي) تأكيد لأفكارهم..سنظل ندافع عن الأقباط ..وعن البهائيين..وعن الشيعة..وعن الشيوعيين إلا مالانهاية..يجب علي الدولة أن تقول نعم هم كفار وما دخلكم في ذلك..نحن دولة تكفل حرية العقيدة لكل من يعيش علي أرضها..هذا هو الكلام الذي يجب أن يقال لتنتهي تلك القصة السخيفة ونتفرغ للإبداع والابتكاروالنهضة ونلحق بقطار التقدم الذي يسير بسرعة جنونية..ونحن مازلنا عاجزين عن حل مشكلة بديهية..خائفين من الإخوان..ومن السلفيين..ومن الجهاد..المشكلة سياسية من الدرجة الأولي..هي جماعات تستقطب المهمشين والمطحونين اقتصاديا..ولدي الشباب الذين ينضمون إليهم حق..فالقادة يرسمون لهم دنيا وردية..عندما ينتصر الإسلام..سيتزوجون من أربع ..ويرتعون في نعيم لانهاية له..هم الذين يسكنون في عشوائيات تأبي الحيوانات أن تسكنها..والطبقات الحاكمة ترفض بإصرار أن تتخلي عن مزاياها..ولاترمي إلا بالفتات إلا للشعب..الشعب المصري تغير كثيرا ياصديقي..لم يعد يعتقد أن الدنيا سجن المؤمن..والفقر نعمة..هويشاهد في التلفزيون الذين يأكلون اللحم..ويلمسون اللحم..وينامون علي اللحم..وهم ينامون علي لحم بطنهم..الذي لايمتلئ حقدا وغلا وكراهية هو من المؤكد شخص عديم الإحساس..وعديم الكرامة..ولكن معظم الناس يمتلكون حواسا تري وتسمع وتشم وتنفعل ..ويمتلكون غرائز تحلم..وترغب..وتريد..وتشتهي ..وتضغط علي أعصاب متعبة ..ومنهكة..ويائسة ..ولكنهم يفتقدون عقولا تفكر..وتعقل..وتفهم السبب الحقيقي..وراء فقرهم ..وهوانهم علي العباد..وفي المقابل يوجد أشرارأذكياء..أشرار يريدون إضعاف مصر أكثر مما هي ضعيفة..حفاظا علي إسرائيل..وحفاظا علي المواد الخام الرخيصة التي يستوردونها من المنطقة العربية..وحفاظا علي السوق الكبير الذي يستوعب الكثير من منتجاتهم التي تشبعت أسواقهم بها..وهناك رجال أعمال يصنعون ويستوردون الملابس الإسلامية (الحجاب..النقاب..الجلابيب الباكستاني القصيرة..القفازات السوداء..الأسدال)..وهناك شركات تكسب المليارات من وراء الحج..ومولد النبي..وشهر رمضان..وعيد الأم..وشرائط الكاسيت..والكتب الدينية..والقنوات الفضائية التي تروج لهذا الخطاب .. ليس هناك دين للا قتصاد..دولة كالصين مثلا لاتؤمن بدين الإسلام..ومع ذلك تصنع السجاجيد..والسبح..وفوانيس رمضان..ولديها دور نشر تخصصت في طباعة القرآن الكريم..وكتب التراث الأخري..أرجو ألا تفهم أن هذا هجوم علي الإسلام..بالعكس
-وليس هذا نفاقا أو رغبة في كسب ود أحد –الإسلام دين حضاري جدا..وفي تراثنا شخصيات تطاول النجوم في نبلها وإنسانيتها وسعة أفقها وطهارة أهدافها..ولكن هذا الإسلام الجديد غريب علينا كمصريين..لم تكن المظاهر تهمنا أبدا..شاهد حفلات أم كلثوم..وأنت تري كيف كانت المرأة في مصرتكشف شعرها وساقيها بدون تبرج..وتذكر أن النساء في الريف والعواجيز كانوا يغطون شعرهم بإيشارب خفيف جدا ومن الخلف تتدلي ضفائرهم..وكان الرجال يلبسون دبلة دهب دون أدني حرج..حتي كان عام 1974وظهر المد الديني في مصر..وكان لابد من التفريق بين المسلمين والأقباط..الرجال بالدبلة الفضة..والنساء بالحجاب..ماحدث هو ماكان يجب أن يحدث..بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت أمريكا سيدة العالم ..وخبا ضوء إنجلترا وفرنسا..وضاعت منهما المستعمرة إثر الأخري..ولكن الاتحاد السوفيتي كان قويا..وخصما عنيدا لأمريكا..وكان يدين بالشيوعية..وبدأت الحرب الباردة..التي كانت تزداد سخونة مع الوقت..وفي زمن جمال عبد الناصر كنا أصدقاء للاتحاد السوفيتي..الذي كانت تسدد له أمريكا لكمات قوية..وكان يتهاوي ببطء..وكنا نتهاوي معه..وجاءت هزيمة1967..وانكسر جمال..وانكسر الشعب..وولي زمن..ليأتي زمن آخر..جاء السادات ليرفع يد أمريكا..في حلبة الملاكمة..ويعترف بأن الزمن القادم زمنها..ويطرد كل رعايا الاتحاد السوفيتي من مصر..ويأتي نيكسون إلي مصر كأنه يزور مستعمرة من مستعمراته..ولكن فلول الشيوعية كانت موجودة..وتأبي أن تعترف بهزيمتها..وكان لابد من توجيه ضربة أخيرة وقاضية..ووقفت أمريكا مع السادات..ووقف السادات مع الإخوان..أو أعطي لهم الضوء الأخضر..الدولة وحدها كانت عاجزة عن القضاء علي الفلول الحالمة بوطن مستقل وعادل..فاستعانت علي الشعب بالشعب..ووقفت أمريكا مع السعودية..وباقي العرب..وتحت المظلة الأمريكية أصبح السادات صديقا لهم..صداقة جديدة..تختلف عن صداقة جمال عبد الناصر..أنا هنا لاأتعامل بمنطق الحب أو الإدانة..أنا أتخيل سيناريو للذي حدث..ليريحني من الغموض الذي يكتنف التاريخ..التاريخ الذي يشبه مباراة كرة لم نري سوي أهدافها فقط..كل شيء ياصديقي يتحول إلي تاريخ..السياسة..والحب..والكراهية..والصداقة..والعداء..وتذهب كل المشاعر..والانفعالات..ولايتبقي سوي الرغبة في الفهم..والمعرفة..لذا كان أرسطو يقول بأن الفضيلة هي المعرفة..والرذيلة هي الجهل..ومع ذلك فالمعرفة الكاملة مستحيلة..وغير ممكنة..وتخضع لانحيازات وأهواء خفية..إذا أردت أن تفهم تلك الفترة اقرأ كتاب (ماذا حدث للمصريين؟؟ لجلال أمين)..أجمل مافي كتاباته أنه يضع بين يديك العديد من المفاتيح لفتح باب واحد هو المجتمع..وكيف تتشابك الفلسفة مع السياسة مع الاقتصاد مع الأغاني مع الدين في صناعة نسيجه..الحياة معقدة جدا ..والمشكلة أن البشر لديهم ميل فطري للتبسيط ..والاختزال..والنظر إليها من خلال خرم إبرة..
13
كنت علي ما أعتقد في الصف الثالث الإعدادي..عندما كنت منهمكا في لعب كرة القدم مع رفاقي..في النادي الذي لم يغيره الزمن..وجاء ياسين الطوخي..بجسمه الطويل العريض..وملابسه المكوية بعناية فائقة..وبين إصبعية سجارة السوبر..ونادي علينا بطريقته اللا مبالية..فتركنا اللعب واندفعنا نحوه ممتلئين بالفضول
أخذ نفسا عميقا من السجارة وقال
- فيه مسابقة جري تبع مركز الشباب..واللي هيفوز هياخد خمسين جنيه..واللي مش هيفوز هياخد تلاتة جنيه ..وهيتغدي غدوة حلوة..حد فيكو عايز ييجي..
فوافقنا دون تردد..وركبنا الميكروباص..ونحن في غاية المرح..وشاء حظي أن أجلس إلي جواره في المقعد الأمامي ..وأشعل سجارة ثانية ..وسألني عن اسمي
فأجبته
- سيد..سيد جميزة..
- أخو كليبر
- أيوه
( كان أخي كليبر أشهر طفل في القرية..بسمنته اللافته..وتبادله النكات مع الجميع..وتقبله سخرية الكبار بمنتهي السماحة)
- إنت بقي الجوكر بتاع المدرسة الأعدادي..بتطلع الأول..وبتقدم الإذاعة..وبتقلد الأساتذة..والممثلين المشهورين..
- أيوه..
وأثلج صدري..أن أكون مشهورا إلي هذا الحد..وستظل الشهرة الطيبة هي الشيء الوحيد الذي أريده من تلك الحياة..
- قلد عادل أدهم كده..
فقلدته..وكان يتابعني بفرح كالطفل الواقف أمام اراجوز..وقلدت له جميع مدرسي المدرسة
- عايز تبقي لما تكبر
- القرية دي تبقي باسمي
- دانت مغرور قوي..
- علي أساس..مش مغرور ع الفاضي
- أبوك شغال أيه؟
كنت أعرف أنه يعرف..وأنه تعمد تذكيري بأصلي..فأجبته بجسارة إنسان باع القضية..وقطع البطاقة..ولم يعد لديه ما يخجل منه..لأن عورته أصبحت علي مرأي الجميع..ولم يعد ليه خيار سوي المواجهة أو الانتحار..
- نفس الشغلانة اللي بيشتغلها أبو كليبر..
- أنت سابق سنك..وموهوب..بس بلدنا المواهب
- ما حدش يقدر يقتل موهبة حقيقية..لازم تفرض نفسها..
فارتسمت علي وجهه سحابة حزن عابرة..جعلته يشعل سيجارة..وسألني هروبا من الموضوع..
- مافتكرش هتقدر تعمل مركز في المسابقة بتاع النهاردة
- إشمعني
- عشان وزنك زيادة حبتين..
- هي المسافة قد أيه؟
- خمسة كيلو
- يبقي هاكسب
- أشمعني
- الخفيف يكسب علي المدي القصير..والتقيل يكسب علي المدي البعيد..
-إزاي
- لأن المكسب علي المدي البعيد..بيعتمد علي الصبروالإرادة والعزيمة
مش ع السرعة..
- ورينا شطارتك..
- رهان..هاطلع الأول
- رهان
- هاتدفع كام
- خمسة جنيه من عندي..وانت ؟
- أوعدك أبطل غرور..وابدأ تدخين..أطلع فيه إحباطي
- أنت شايف التدخين إحباط
- ويأس..وعدم ثقة في النفس
- إنت بتقرا
- عمري ما قريت غير كتب الدراسة
- أمال بتجيب الكلام ده منين..كلام كبير قوي علي واحد في سنك
- باسمع كلام الناس واعكسه..يطلع زي مانت شايف عميق جدا
- خالف تعرف يعني
- بالظبط كده
- هتقابل مشاكل كتير في حياتك..
- هادوس عليها وابقي طويل..وعالي..واقعد علي النجوم ..وادلدل رجلي..
- ياه..أنت بتفهم أكتر من ناس كبيرة بشنبات
- لأنهم بيجروا ورا لقمة العيش..والأنسان اللي بيفكر ماينفعش يشتغل حاجة تانية..عشان كده الأطفال والطلبة خيالهم أوسع من الكباربكتير..لأنهم ما بيشتغلوش غير يفكروا..ويحلموا..
- بكرة الدنيا تاخدك وتلهيك..وتبقي زي كل الناس اللي مش عاجبينك..أنا كنت زيك..فاكر نفسي ياما هنا..ياماهناك..وباقول ياأرض اتهدي..ماعليكي قدي..وأديني زي مانت شايف..موظف في مركز شباب في قرية مش موجودة ع الخريطة..ولاعلي سكة القطر..اسأل أساتذتك في المدرسة عني..يقولولك مين ياسين الطوخي..كنت المفروض أبقي زي حسام حسن وحازم إمام ومحمد أبوتريكة..النجاح ياسيد نتاج الظروف السعيدة..الحظ خدم الناس دول كتير قوي..
كان الميكروباص قد وصل إلي طريق يفصل بين قريتين..ونزلنا..وانقطعت خيوط الحديث..لتبدأ صداقة عميقة بيني وبين ياسين الطوخي..وبعد عامين سأتعرف علي أخيه مدرس الفلسفة(يوسف الطوخي)..لست في حاجة أن أقول لك بأنني حصلت علي المركز الأول في مسابقة الجري..في البداية كان الجميع يسبقني..مدفوعين كالأرانب بالحماس..والفوران..وثقافة(هيلا هوب..وشدي حيلك يابلد)..وكنت كالسلحفاة التي تسير ببطء واثق نحو غايتها..كنت أسمع وأنا صغيرمن مشايخ إذاعة القرآن الكريم مقولة عبقرية صارت فلسفتي في الحياة..هذه المقولة هي( قليل دائم.. خير من كثير منقطع)..وقال لي أحد الأصدقاء يوما قصة أعجبني مغزاها..هتلر وموسوليني وتشرشل كانوا جالسين حول حمام سباحة وأرادوا اصطياد سمكة من الحمام..بتهور أخرج هتلر مسدسه وصوب ناحية السمكة عدة طلقات متوالية وأخطأ الهدف..وموسوليني خلع ملابسه ونزل يسبح خلفها وفشل أيضا..تشرشل بمنتهي الهدوء بدأ يتخلص من ماء الحمام بفنجان قهوته وهو يضحك ويقول لهم (بطيء..بطيء جدا..ولكنه فعال)..
14
كان ياسين الطوخي لاعبا موهوبا جدا..وذا شخصية قيادية..يمتلك قدرة ساحرة علي التأثير في الناس..ولكنه كان مزجانجيا(حريقة سجاير..وحشاش..وديله – لامؤاخذة- نجس..ويعشق الاستدانة من الناس..ويسهر طول الليل..وعندما يؤذن الفجرينام ولايصحو إلا مع صلاة العصر)..التحق لفترة بأحد أندية الدرجة الثانية..وكان دائم التذمرمن الفلوس القليلة التي يحصل عليها..ومشاكله مع إدارة النادي لاتنتهي..وكثيرا ما كان يتغيب عن حضور التدريبات لأنه ليس في حاجة إليها علي حد قوله..أو يغيب عن حضور مباراة مهمة لأنه راحت عليه نومة..وفصلته إدارة النادي..واكتفي بتدريب مركز شباب القرية مقابل راتب مخزي..ظل أعواما هو حديث القرية ..وممتعها ..وخصوصا في دورات شهر رمضان ..كان يسير في الشارع رافعا أنفه إلي عنان السماء..وهو يري الكباروالصغاريلهثون وراء صداقته ويخطبون وده..عندما يجلس علي المقهي يفاجئه أحد الزبائن
- خلاص ياأستاذ ياسين..الحساب وصل..
وفي المواصلات العامة نفس الكلام..أما عن الحشيش والنسوان فكان أولاد أغنياء القرية يتكفلون بذلك..وبرغم سمعته السيئة استطاع أن يتزوج من ابنة صيدلي في مدينة مجاورة عقب تخرجه في الكلية مباشرة..كانت متيمة به..وعاش في أحد شقق العمارة التي يملكها والدها في وسط المدينة..وكان والدها هو الذي يتكفل بمصروفات بيته..ولم يكن يشعر بأي حرج..كان لديه إحساس أن أمثاله من الموهوبين يجب أن يتكفل المجتمع برعايتهم والإنفاق عليهم حتي يتفرغوا لموهبتهم فقط..وبدا أنه سعيد بتلك الحياة..واعتقد أنها ستستمر علي هذا المنوال..وكان يكبر..ومهارته تتناقص تدريجيا..ولا جديد..كل مايفعله هو الحلم بالانضمام إلي نادي الأهلي ..أو أضعف الإيمان إلي نادي الزمالك..وكان أخوه يوسف يصيح فيه
- ياياسين فوق لنفسك..الحياة اللي انت عايشها دي هتضيعك..المجد اللي انت بتحلم بيه مش هيجيلك علي طبق من دهب..لازم تطلع السلم خطوة..خطوة..ارجع لنادي الدرجة التانية اللي انت فيه..وابدأ من هناك..وبطل المدعوق اللي انت بتشربه..
- أنا عارف مصلحتي كويس
- فين مصلحتك..في السهروالنسوان والحشيش..والمقاطيع اللي انت ماشي معاهم..تقدر تقوللي آخر مرة اتدربت إمتي..انت بدأ يطلعلك كرش..
- واحد شايل كرشه..التاني زعلان ليه..
- زعلان عشان أخوك الكبير..وخايف عليك..
- خاف علي نفسك..المثل بيقول أخوك يعوزك تعيش..بس يعوزك تعيس..
- أنا عايزك تعيس يا ياسين..دنا باتمني الخير للإنسانية كلها..هاتمني لك انت الشر..
- الفلسفة لحست دماغك ..بدل ماتتمني الخير للإنسانية إتمناه لنفسك..تقدر تقوللي قاعد ليه لحد دلوقت من غير جواز..وانت داخل ع الخمسة واربعين..
15
تفوقي الدراسي جعل جميع المدرسين يعترضون علي التحاقي بالقسم الأدبي في الصف الثاني الثانوي..أول من شجعني هو الحاج أحمد المنصوري..وقالت لي أمي بأنه لايريدني أن أكون طبيبا كابنته زينب لكي لا تتساوي الرؤوس..وكدت أن ألتحق بالقسم العلمي لأثبت للحاج أنني لاأقل عن ابنته..وشاء القدر أن يدور هذا الحوار بيني وبين الأستاذ يوسف الطوخي
- قررت أيه يابو السيد ..علمي ولا أدبي
- والله ياأستاذ يوسف محتار قوي..أنا باحلم ابقي ممثل..وكله بيكسر مقاديفي..ويقولولي انت ماشي في طريق اللي يروح ما يرجعش..السكة دي عايزة كوسة ..وفلوس..فلوس كتير قوي..وكمان بتعتمد علي الحظ بصورة كبيرة..ممكن ممثل موهوب قوي ..وما ينجحش..وممثل عبيط ولايمتلك ذرة موهبة ويكسر الدنيا..
- ممكن تستحمل تعيش وانت دكتور مدفون في وحدة صحية..
- أنتحر..حضرتك عارف إن هدفي في الحياة هو الشهرة..وكل الناس تتكلم عني
- ممكن تبقي دكتور مشهور؟؟..بتحب تذاكر أحياء وفيزيا وكيميا
- خالص..متعتي مع القصص والروايات..والأفلام والمسرحيات والمسلسلات...
- يبقي تدخل علمي ليه
- عشان ابقي دكتور..
- الدكاترة علي قفا من يشيل..وشهرتك هتبقي علي مستوي ضيق جدا..بالظبط زي اخويا ياسين ..عايز تبقي زيه..
- خايف ماطولش بلح الشام..ولاعنب اليمن..والكل يشمت فيا..
- إحساسك بالخوف والخطر هيبقي السبب في نجاحك..مش هيبقي عندك ترف الفشل..طارق بن زياد كان بيحرق المراكب وراه..عشان جنوده ما يفكروش في الهروب..الانتصار أو الشهادة..مافيش حل تالت..
- يعني رأيك.....
- ادخل أدبي..بس انا مش مسئول عن النتيجة..إنت لوحدك المسئول..
- تفتكر أنا قدها يأستاذ يوسف
- لو شايف نفسك مش قدها..امش في الطريق المضمون..اللي غالبا نهايته معروفة..دكتور في وحدة صحية..مرتبه ميتين جنيه..أو حتي ألف جنيه..وفاتح عيادة..وتتجوز واحدة زميلتك ..وتعيش في تبات ونبات..وتوتة توتة..خلصت الحدوتة..والديك يدن..وأدرك شهرزاد الصباح..وسكتت عن الكلام المباح..
- والطريق التاني......
- تبقي أحمد زكي..وأخبارك في كل الجرايد..وصورك علي كل المجلات..وكل شهر تبقي في بلد وإيدك في إيد ممثلة بجمال ميرفت أمين ونجلاء فتحي وشمس البارودي وليلي علوي..واصحابك يبقوا الوزرا ..ورجال الأعمال..والكتاب المشهورين..
- هابقي سعيد
- أبدا..هتفضل وقت طويل ماحدش واخد باله منك..وفين لحد ماتاخد فرصة..كومبارس في مسرحية ..وهتفرح جدا..وتفتكر نفسك خلاص وصلت..والمجد بقي قاب قوسين أو أدني..ترجع تاني للصعلكة..وما تلاقيش في جيبك تمن علبة السجاير..وتيأس..وتلعن البلد..والكوسة..والفساد..وتفكر في الهجرة..وتندم إنك سمعت كلامي..وتعدي علي أي مستشفي ..تحسد الجماعة اللي لابسين بالطو ابيض..وبيتعاملوا بتناكة مع المرضي..وبيهزروا طول اليوم مع الممرضات..وباين علي وشوشهم التفاؤل والرضا..وترجع البلد تشوف الشماتة والعطف في العيون..تكره نفسك..وتلاقي كل الناس بتتقدم..وابوك وامك واخوك لسة ساكنين في البدروم..تكره نفسك أكتر..وتوصي واحد صاحبك يشوفلك شغلانة في الفندق اللي بيشتغل فيه في شرم الشيخ ..وتروح..تكسب قرشين حلوين..وتعمل علاقة مع كام سايحة أجنبية..وخبرتك في الحياة تزيد..ويصدمك تحكم كل واحد أعلي منك فيك..والعبودية اللي انت عايشها..عشان أيه؟؟..عشان فلوس بتكسبها..وتصرفها ع الهلس..ملعون أبو الشغل..تصرخ من جواك بأعلي صوت..وعرق الفن والمجد والشهرة ينقح عليك..ترجع مصر تاني..وتقبل الواقع الموجود..وتحاول تكسب أكبر قدر من الأصدقاء في الوسط..عامل البوفيه في أي مسرح هيبقي بالنسبة لك شخص في منتهي الأهمية..وتتمني تتعرف عليه..عن طريقه ممكن تعرف ممثل مشهور..ومن طرف مناخيره ممكن يوعدك بدور في فيلمه الجديد..وغالبا هيخلف وعده..لأنه أصلا مش فاضي يفكر في أمثالك ..أمثالك الكتير جدا..بيحلموا زيك يبقوا نجوم ..هتيأس..وتحس إن أحلامك بتضيع منك..وهتبقي زي الراجل اللي قاعد علي القهوة هناك لابس بدلة كالحة قديمة علي قميص ياقته سودا ولحمه ع العضم مافيش عضلات وقاعد يتأمل في خلق الليل والنهار..وصاحب ابن حلال دمه خفيف وغالبا صعيدي مدقدق هيحكيلك قصته..إنه كان غني جدا..ودرس سينما في ألمانيا..وشارك في مهرجانات كتير بأفلام روائية قصيرة..وانتهي زي مانت شايف..يملاك اليأس..
وتشتري كام كانز بيرة عشان تنسي..وتشرب لحد ما تسكر طينة..وتفتكر كلمة الزعيم سعد زغلول الشهيرة مافيش فايدة..وبعد خمس سنوات من هذا الحال المأساوي علي أقل تقديرستحدث لك نقلة نوعية..دور في مسرحية يلفت الأنظار إليك..وتتلقي صيحات الإعجاب من الجمهور..ويكتب عنك ناقد في جريدة متوسطة الشهرة..وتضع قدميك علي أول السلم..ثم تقف..تقف طويلا..حتي تكاد أن تشك فيما حققت من نجاح..وفجأة تأتي النقلة والقفزة الكبيرة..وستشعر أن النجاح طعمه مر..مر كالعلقم..هذه هي قصة أغلب الفنانين الذين بدأوا من الصفر مثلك..فهل أنت مستعد؟؟
هذا هو ماقاله لي الأستاذ يوسف الطوخي بالنص..وكان كأنه يقرأ الغيب..ما مررت به قريب جدا مما أخبرني به..رغم أنني أيامها تصورت أنه يبالغ في الصعاب التي تقابل الفنانين..ربما رغبة منه في اختبار عزيمتي وإصراري علي المضي في هذا الطريق..مازلت أعتبر نفسي محظوظا لأن هذا الرجل صديقي..يعاملني معاملة الأب لابنه..ويقرأ بدلا مني..ويقول لي كل الكلام الذي يمكن أن يقوله كل الناس..ويقول لي كلاما لايستطيع أن يقوله أحد سواه..
16
أبدا لم أعرف الحب..الحب بمعني أن تسهر..وتفكر..وتستمع إلي الأغاني العاطفية..وتكتب الرسائل الغرامية..ويدق قلبك عندما تري حبيبتك..ويتجمد الكلام علي شفتيك..كنت مشغولا بنفسي..وبأفكاري..وطموحاتي..وكنت أيضا معجبا بالنساء الكبيرات..وكان اشتهاء جنسيا خالصا..ولأنهن كن يترددن علي بيتنا دون أدني حرج فقد كان سهلا أن أنتقل من أحلامي إلي الواقع..وكنت لاأفتقد الجسارة..ولا الجرأة..كن يجلسن مع أبي بمنتهي الحرية..سيقانهن مكشوفة إلي الركبة..ويرضعن أطفالهن بلا حرج..وكانت خالتي(نادية)أنثي بكل ماتحمله الكلمة من معني..جسدها أبيض كلمبة النيون..وأطري من المهلبية..والبحة التي في صوتها كانت تدغدغ أعصابي..ومشيتها كمشية القطة..وكانت ترتدي دائما عباءات شفافة تظهر لون قميص نومها..وكان أخي كليبريقول لي هامسا وهو يتنهد بحرقة بعد أن نطفيء النور استعدادا للنوم
- أدفع نص عمري مقابل أن أراها في قميص نوم أحمر..
فيندفع الدم إلي رأسي وإلي أماكن أخري وأقول
- أو اسمر..اسمر ع الأبيض يهوس..يجنن..الله يخرب بيتك ياكليبر..إنت لازم تتعب أعصاب الواحد قبل ماينام..
- أنا لو مكان ما خرجش م البيت..خسارة فيه المعفن..مش عارف الرجالة الوحشة يتجوزوا نسوان حلوة كده إزاي..
- يبقي اطمن هاتتجوز واحدة حلوة..
- وانت كمان ياظريف..دايما تفسد اللحظة الحلوة..تخيل ياد ياسيد هي معاك دلوقت تعمل أيه..
- نام ياكليبر..وماعنديش استعداد أصحي الصبح أروح الجامع أستحمي..إحنا في طوبة ..والجو تلج..
وكأنه لم يسمع كلمة واحدة مما قلت
- عارف امبارح..حصل حتة موقف..
- حصل أيه
- كنت معدي ع البيت..ونادتني..قالت لي عايزاك ياكليبر..كانت في البيت لوحدها..ولادها في المدرسة..وجوزها في الشغل..والشارع ما كانش فيه صريخ ابن يومين..دماغي راحت لبعيد..لبعيد قوي..دخلت وراها البيت..وانا غرقان عرق..وباترعش..واقول اوافق..ولا ارفض..أوافق..ولاارفض..طب افرض حد طب علينا..
- لخص ..وهات م الآخر..عايز انام..
- إتخمد ..يبقي ابن ستين كلب اللي يحكيلك حاجة تاني..المهم ياسيدي كانت عايزاني أرفع الطشت قصادها..بس بصت علي البنطلون بتاعي..وضحكت..وقالتلي والله وكبرت ياواد ياكليبر..هاقول لجميزة يشوفلك عروسة..كان منظري زفت..وكنت عايز الأرض تنشق وتبلعني..
كدت أن أقع من علي السرير من شدة الضحك..فقال وهو مهموم
- مش هاتبطل الداء الوسخ اللي فيك ده..كل حاجة تاخدها هزار وتريقة..نام ياخويا..نامت عليك حيطة..إلهي تنام ما تقوم..عشان الأوضة تبقي بتاعتي لوحدي..
17
كان الموضوع الذي حكاه لي كليبر هو البداية..وكنا في وقت القيلولة..وأبي كان في بيت الحاج أحمد المنصوري..أما أمي فكانت عند جدتي..وأخي كليبر كان يساعد أحد أصدقائه في حصاد القمح..وجاءت خالتي نادية..وكانت ترتدي عباءة سمراء حدادا علي وفاة أحد أعمامها..العباءة محزقة جدا..وصدرها مفتوح..ومنبتا ثدييها ظاهران كأرنبين علي وشك الوثوب..كانت تريد غربالا..قلت لها بأنني لا أعرف مكانه..دخلت ..قلت لها
- البقية في حياتك يام خالد
- حياتك الباقية ياسيد
- صحيح هتشوفي عروسة لكليبر..
ضحكت..فازداد جمال وجهها..وقالت
- الواد ياخويا..ولا بلاش..هي دي حاجة تتحكي..
فسألتها
- إنتي اتجوزتي وانت عندك كام سنة يام خالد
- ستاشر..سبعتاشر..حاجة زي كده..
- مادخلتيش المدرسة خالص
- ولاعتبتها
- تعرفي لو كنت اتعلمتي..كنتي بقيتي أبلة..إنت مخك نضيف قوي ..وكان زمانك اتجوزتي دكتور أو مهندس ..مش كهربائي..
- منه لله أبويا..الله يرحمه كان يموت ع القرش..
- تعرفي إن نفسي اتجوز واحدة شبهك..إنتي مافيش واحدة في الدنيا في جمالك
ابتسمت ..وقالت
- إنت لسة رحت ياسيد ولا جيت عشان تقول كده
- أيوه طبعا..والله إنتي أجمل من الستات اللي بيظهروا في التلفزيون
- مش للدرجة دي
- أقولك علي حاجة وماتزعليش مني..
- مش هازعل
- أنا باحلم بيكي كتير..مافيش يوم بيعدي من غير ماحلم بيكي..
- ياواد يابكاش..بتحلم بأيه بقي
- هتزعلي لوقلتلك
- قلتلك مش هازعل
- باحلم إني راكب عربية جميلة قوي..وانتي راكبة جنبي..ولابسة فستان جميل قوي..وبعدين العربية تقف قدام فيلا بجنينة..وبواب اسود زي الجلابية اللي عليكي بيفتح لك باب العربية ويقولك وهو حاطط وشه في الأرض اتفضلي ياهانم
- هانم مرة واحدة..وبعدين
- ندخل نلاقي سفرة كبيرة عليها أكل من الجنة..وفجأة تظهر تحية كاريوكا..رقصها ما يعجبكيش..تقومي خالعها الفستان بتاعك ..وتبقي عريانة خالص..وترقصي أحسن منها ألف مرة..وبعدين ابقي عايز ابوسك واحضنك تقوليلي لما تبقي راجل وتكبر..
كان الحلم المفبرك ترك تأثيرا عليها بصورة لا أتخيلها..وتأكدت من قدرتي علي التمثيلية الجبارة عندما قالت لي بتأثر شديد
- ليه ياسيد دانت راجل تملا عين أي واحدة..دا مافيش راجل يعرف يقول نص الكلام اللي انت قلته..
ووجدت نفسي أتهور وأطبع قبلة سريعة علي جبهتها العريضة..لم تقاوم..طبعت أخري علي خدها..وثالثة علي فمها..ورابعة علي عنقها..وغرزت يدي في صدرها..وعنيك ماتشوف إلا النور..وأصبحت (خالتي نادية) عشيقتي..وسيدة مراهقتي الأولي بلامنازع..ومن هنا كان احتقاري لكل علاقات الحب الساذجة التي لاطائل من ورائها سوي وجع الدماغ..يجب أن نعترف أن كل كلام الحب ماهو إلا مراوغة سياسية هدفها اجتذاب المرأة إلي السرير..
18
كان الأستاذ غزالي رأفت – مدرس التاريخ- رجلا وسيما جدا..ومهذبا جدا..ويؤدي عمله بإخلاص نادر..وإتقان شديد..ومع ذلك كان يقف كاللقمة في حلقي..كنت أكره حصته كما تكره أنت اللبن بكل أشكاله..اعتمدت علي نفسي في مادته اعتمادا كليا..الدروس الخصوصية أخذتها فقط في اللغتين الإنجليزية والفرنسية..كان الأستاذ غزالي إخوانيا نشطا..الكثيرون كانوا يكتفون بحضور جلسات الجمعة ..ومشاركتهم اللعب بعد صلاة الفجر..والذهاب معهم في رحلاتهم إلي مصايف بلطيم وجمصة..ومساعدتهم في إعداد النادي لصلاة العيدين..أما هو فكان أمره مختلفا..كان ذا مهابة بين أعضاء الجماعة..وكانت حالته المادية الميسورة مثار آلاف التساؤلات الباحثة عن إجابة شافية وافية..فهو يعيش في بيت ماشاء الله..وكل دخله يعتمد علي المرتب الحكومي الهزيل..ولكن الانضمام للإخوان المسلمين لم يكن نعيما خالصا..ربما يساعدونك في الحصول علي عمل..ويساعدونك في الزواج..ويستمعون إلي مشاكلك بفهم واحترام..وستحظي بصداقة شباب حاصلين علي تعليم ممتاز..وهي كلها أشياء تجعل الجماعة قادرة علي البقاء والاستمرار رغم الحروب القذرة التي تشنها الدولة عليها..أنت تكون إخوانيا فأنت مهدد بالاعتقال في أي لحظة..وروحك علي كف عفريت..وأمن الدولة يقف لك بالمرصاد..وحقوق كثيرة تستحقها ستحرم منها بسبب انتماءك..نعود إلي الأستاذ غزالي رأفت..استوقفني وأنا خارج من المدرسة ذات يوم وانتحي بي جانبا..عزم علي بكيس سكوتش منت( نوع من النعناع كان يحظي بنجاح رهيب في منتصف التسعينات)..وقال لي بصوته المنخفض البطيء واضح النبرات
- عايز اتكلم معاك في موضوع ياسيد..
قلت في استظراف محاولا إخفاء توتري
- كلي آذان صاغية..
فابتسم ومارس هوايته العتيقة التي كانت تعجبني في ذلك الوقت
- صاغية خطأ..الصحيح مصغية..من الفعل أصغي..يصغي..مصغ..المهم..أنت تعرف أنني شديد الإعجاب بك..أولا بتفوقك الدراسي..ثانيا بموهبتك التمثيلية..ولكنني لاحظت في الفترة الأخيرة علاقتك الوثيقة بالأستاذ يوسف الطوخي..وهو كما يعلم الجميع يشكك في كل ثوابتنا الإسلامية..ولا يقرأ إلا في كتب العلمانيين والمستشرقين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم..ومن واجبي عليك أن أحذرك منه..
قلت بتحفز لأنني كرهت دائما أن يمارس أحد – كائنا من كان- وصايته علي
- أنت لم تري في الأستاذ يوسف إلا هذا الجانب..ونسيت أنه شديد التفاني في عمله..ويعطي دروسا خصوصية تكاد تكون مجانية..ولم يحدث أبدا أن تكلم في موضوع الفلوس..وكل ما ينادي به إعمال العقل في كل مانمر به
- هناك أشياء لايصح للعقل أن يتدخل فيها لأنها أكبر من إدراكه
- أي أن الإيمان ينبغي أن يكون بالقلب فقط
- بالظبط
- هذا بالنسبة لكل البشر أم للمسلمين فقط
- لا أفهم ماذا تريد أن تقول
- أعني مافهمت..الأستاذ يوسف يري أن الإيمان لابد أن يكون بالعقل ..لأن الصحابة دخلوا الإسلام عن طريقه ..والله يقول للرسول ادع إلي ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..والحكمة هي العقل ..وتقديم البرهان..والصراع بين الرسول وبين الكفار كان صراعا عقلانيا جدا..ولكنهم لم يستطيعوا أن يقدموا أي براهين عقلية علي كفرهم..
- لقد غسل مخك..
- مخي لم يكن قذرا..
- أقصد أنك ما زلت صغيرا واستطاع أن يزرع في مخك أفكاره بسهولة..
- زرع بذورا فاحتضنها عقلي وصنع منها أشجارا ذات ثمار ناضجة وظلال وارفة..
- تعلمت منه الجدل العقيم
- الجدل حياة فكيف تتهمه بالعقم..حضارة الإغريق قامت علي أكتاف مجادلات سقراط وأفلاطون وأرسطو ..والحضارة الإسلامية كانت في ذروتها أيام الخليفة المأمون بسبب المعتزلة..وعندما تمكن الأشاعرة من فرض رأيهم..وغربت شمس المعتزلة..غربت شمس الحضارة..وثانيا نحن نصف الشخص العظيم بأنه مثير للجدل..أليس هذا ما يقال عن حسن البنا؟؟
- الإمام حسن البنا
- الإمام هو من يأتي بفكرة جديدة لم يسبقه إليها أحد..مالجديد الذي أتي به؟؟ كان جامع أفكار ليس إلا..الإمام هو محمد عبده..
- عقلك خسارة في العلمانية..
- لماذا تسبب لكم هذه الكلمة كل تلك الحساسية..وهي لا تعني إلا الاعتراف بأن العالم يتغير..والظروف تتغير..ويجب أن تتغير الأفكار..وتتطور..لأن ما كان صالحا في عصر..لا يصلح في عصر آخر..العلمانية ضد السكون والجمود والأفكار المحنطة..
- الإسلام صالح ومصلح لكل زمان ومكان
- إسلام من ياأستاذ غزالي..إسلام السنة ..أم إسلام الشيعة..إسلام الإخوان أم السلفيين أم الجهاد أم التكفيروالهجرة..القرآن حمال أوجه كما يقول الأمام علي ابن أبي طالب..وكل جماعة تفهمه حسب أهوائها..
- لا أمل في إصلاحك
- الأمل في من يقولون سمعا وطاعة..لكل أوامر قادتكم..
- ربنا يهديك إن شاء الله..وانتبه لمذاكرتك ..ومستقبلك..هي أهم شيء..
وشد علي يدي بقوة محاولا أن يظهر لي أنه لم يغضب من الكلام الذي قلته..وابتسم ابتسامته المصطنعة وتركني وذهب..ومع الأيام سيزداد احتكاكي بأفراد كثيرين من تلك الجماعة..وسأتوقف كثيرا أمام ملامحهم الخارجية والداخلية..ابتسامتهم..ضحكتهم..طريقة سلامهم باليد..طريقة تقبيل الرجال للرجال..كتبهم..نكاتهم ..أسلوبهم في الحوار..ثقافتهم..الأشياء التي يحتفظون بها في حقائبهم..استقبالهم للضيوف..كيف يحبون..ويتزوجون..ويحتفلون بأفراحهم..
وكيف يرفهون عن أنفسهم..أنا ممثل..ومراقبة الناس وتقمصهم مهنتي التي خلقت من أجلها..العواطف العمياء تقتل الممثل..لاكراهية عمياء..ولاحب أعمي..أحاول – بكل ما أملك من حيادية- أن أري المناطق المضيئة والمعتمة في كل شخص أقابله..هذا أفعله أيضا مع كل الجماعات الأخري..ومع الأقباط..ومع المدرسين..والأطباء..وبائعي البطاطا علي الكورنيش..أبحث دوما عن الخيوط المشتركة بين كل فئة..حتي بين الأسماء أفعل هذا..وأسأل نفسي هل توجد علاقة ما تجمع من لهم نفس الأسم..وبين الكلمات أفعل هذا..ما العلاقة- مثلا- بين نهر ونهد؟هل الارتواء..هل الحياة..هل الإحساس بالراحة والسكينة أمامهما وكأنهما مهد وشهد..مالعلاقة بين النهد والفهد؟؟هل الشراسة..والوثوب..أفكار قد تبدو شديدة الجنون..ولكن هل يوجد فرق بين الفن والجنون؟؟
19
عندما دخلت غرفة الأستاذ يوسف الطوخي لأول مرة وقفت مدهوشا أراقب الكتب التي تخفي الجدران خلفها..اللهم إلا جدارا التصق سرير به..عليه بطانية حريرية ناعمة..وملاءة حمراء مزركشة بالورد (كانت موضة في منتصف التسعينات)..وبجوار السرير مكتب خشبي جديد (نوفي)..عليه تسجيل ياباني عتيق (اختفت الآن وحل مكانها التسجيلات الصيني..دنيا)..وفي الأدراج كانت شرائط العندليب وكوكب الشرق ونجاة وشرائط بصوت الشاعر العملاق نزار قباني..وشرائط أيضا للمنولوجست خفيف الظل حمادة سلطان..في الحجرة أيضا كان هناك ثلاجة صغيرة (محندقة) انبهرت بها..وتمنيت أن يكون لي واحدة مثلها..مثل الثلاجة..وأيضا مثل الغرفة كلها..من تحت نظارته الكبيرة المتدلية علي أنفه الطويل الحاد نظر لي نظرته الثعلبية الوديعة الباسمة وقال
- كان عندي كتب وشرايط أكتر من كده بكتير..بس مافيش واحد يدخل الأوضة دي إلا ويشيل اللي يقدر عليه..وأقسم بالله يابوالسيد ماحد خد حاجة ورجعها أبدا..وياريت بيبان عليهم أي ثقافة..ولا الهوا..أحنا شعب بيعشق حاجة اسمها الاقتناء من أجل الاقتناء..وبيوتنا تلقاها مليانة كراكيب مالهاش أي لازمة..إزازة زيت فاضية..كرسي مالوش رجلين..باب عربية..جزمة مالهاش كعب..ونخاف نتخلص منها..ماعرفش ليه..متوقع من شعب بياكل فول أيه أكتر من كده؟؟
- إنت مش بتحب الفول
- ولاعدت باطيقه..الفول عامل زي المصريين تمام..عنده قدرة فظيعة علي التلون والنفاق..مرة فول بالزيت العادي..ومرة بالحار والطحينة واللمون..ومرة بالبيض..ومرة بالطماطم ..ومرة فول نابت..ومرة بصارة..ومرة طعمية..حاجة تخنق..بالأنجليزي (فول) يعني غبي..والغريبة واحد كاتب كتاب بيقول فيه الفول سبب مرح المصريين عشان فيه مادة السيروتونين اللي بتدخل في أدوية الاكتئاب..الفول المفروض يبقي أكل الحيوانات..واللبن كمان..ماينفعش واحد عنده اسنان ويشرب لبن..اللبن للأطفال فقط..الطبيعة بتقول كده..
- وكمان مابتحبش اللبن..
- ماشربوش لوحده أبدا..أحطه علي شاي..كاكاو..سحلب..عصير موز..عصير جوافة..مااحبش أشوف اللون الابيض قدامي..عايش في دور الملاك البريء اللي مالوش أي أخطاء..زي رجال الدين تمام..تسمعهم يعقدوك..ويحسسوك إنك مهما تعمل رايح جهنم رايح..مافيش جدال..ويحكولك عن اللي كان بيصلي ميت ركعة في اليوم..ويختم القرآن في ليلة..ويصلي الفجر بوضوء العشا لمدة عشرين سنة..واللي اتقطعت رجليه وهو بيصلي من غير ما يقول آه..قصص تخليك تحس إنك شيطان..وليك قرنين وديل..أيه الفرق بقي بين الشيطان والنفس..وعلي فكرة كل الجرائم في القرآن بسبب النفس الأمارة بالسوء مش الشيطان..راجع جريمة قتل قابيل لهابيل..وقصة سيدنا يوسف..
ثم يحكي لي عن رأي فرويد في الشيطان..وقصة فاوست لجوتة..وقصة توفيق الحكيم عن رغبة الشيطان في التوبة..وينتقل من موضوع إلي آخربمنتهي السلاسة..كنت أتركه ورأسي علي وشك الانفجارمن الأفكار الجديدة..كان يقول لي بطريقته التي تدعوك للضحك رغم أنفك
- يابوالسيد لو مرعليا يوم من غير ماعرف فكرة جديدة أنتحر..ودايما بتبقي أفكارغربية..ماعندناش في مصرحد بيجيب جديد..كلها أفكار منقولة ..حتي أفلامنا ورواياتنا كلها مسروقة..عندهم مفكرين يابوالسيد يخلوا شعرك يشيب..طول مافيه حياة..مافيش نهاية للأفكارالجديدة..إحنا بس اللي بنقول مافيش جديد تحت الشمس..في الغرب كل لحظة بيطلع ملايين الكتب..وملايين الأفلام..ومئات الاختراعات والاكتشافات..الدنيا بتتغيرواحنا لسة بنختلف ندخل الحمام باليمين ولاالشمال.. كل واحد في فلاسفة الغرب عايز عمر لوحده عشان تستوعب وتهضم أفكاره..ديكارت ..وبرجسون..وشوبنهاور..ونتشة..وهيجل..وماركس..وجان جاك روسو..وفولتير..وميكيافيللي..ومونتسكيو..وسارتر..وماري دوجلاس..وجون ديوي ..ونعوم تشومسكي..كل واحد في دول يخليك تشوف الكون من أول وجديد..وغيرهم كتير..في كل المجالات ..إنت فاكر الأغاني اللي في مصر دي أغاني..مصر قدامها كتير قوي عشان تعرف موسيقي هايدي وموزار وبيتهوفن..وتشايكوفسكي..واوعي تكون فاكر شعر شوقي وحافظ ابراهيم شعر..دا إنشا..وكلام منظوم..الشعر الحقيقي تقراه عند بوشكين..وطاغور..وناظم حكمت..ورامبو..وبودلير..وشكسبير..وبيرون..
واوعي تكون فاكر النسوان اللي عندنا دول نسوان..دول أميبا..كائنات المفروض تتحط ورا اقفاص في حديقة الحيوان بالجيزة..
كان يؤمن بكل ماهوغربي إيمانا راسخا..ويري العرب لايختلفون كثيرا عن إنسان الكهوف..ويحول كل الموضوعات إلي فلسفة..حتي وهو يتناقش مع الحلاق ..والجزمجي ..والفلاح البصمجي الذي لايعرف الألفمن كوز الذرة..ومع ذلك كان محبوبا جدا..لأنه كان خفيف الدم بصورة رهيبة..وحوارته تبدأ بالجنس..وتنتهي به..والمصريون كما تعلم يرون الدنيا من فتحة أعضائهم التناسلية..
20
في عام 2001كنت في السنة الأخيرة في معهد الفنون المسرحية..وذات يوم من أيام فبراير الممطرة كنت أسيربالقرب من حديقة الأسماك بالزمالك متأبطا ذراع صديقة ..وفوجئت به أمامي وجها لوجه..كان الأستاذ ياسين الطوخي..وكان علي سنجة عشرة..بدلة سوداء فاخرة..وحذاء لامع..وشعرلامع..كل مافيه كان يلمع..وشعرت بالزهو أمام صديقتي أن يكون هذا الرجل بلدياتي..القاهريون يعتقدون أننا في الأرياف مازلنا نرتدي الجلابيب ..ونستحم بالكوز في الطشت..هاهو واحد منهم..وسيم ..وأنيق..ولهجته أفرنجي خالص.. بعد لحظات سريعة من عدم التصديق أخذته بالأحضان ..وعرفتهما علي بعض (كانت رأسي في السماء وأنا أري الحسد في عينيه يكاد يقول:يابن الأيه ..عرفت الصاروخ ده إزاي)
- رشا ..زميلتي في المعهد..وزملكاوية..وبتعشق الشتا لما يدق البيبان..وريشة ويا ريشة..ممكن تعصبا لاسمها..أما الأستاذ ياسين الطوخي فساحر كرة القدم عندنا في البلد..ولولا الكوسة والفساد اللي للركب كان بقي خليفة روماريو وروبرت باجيو ورونالدو..لاحظت أنه شعر بالامتعاض الممزوج بالفرح من تقديمي له بهذه الطريقة..وكتبت له عنوان الشقة التي أسكن فيها في بولاق الدكرور..وأكدت له بأنني سأنتظره لنتناول العشاء معا..وجاء في موعده..وخرجنا – لأن الشقة لاتليق بمقامه- وجلسنا علي أحد المقاهي في شارع العشرين..أحضرت بضع سندوتشات حواوشي من محل مجاور..وحبسنا بالشاي وحجرين تفاح..وسألته
- بتعمل أيه في مصر
- كنت باقابل منتج سينمائي
- عشان؟؟
- عشان يحلقلي دقني..سؤال غريب جدا..عشان أمثل طبعا..
- بس أنت أيه علاقتك بالتمثيل..إنت حياتك كلها كورة
- الكورة خلاص ..اللي في سني بيعتزل دلوقت..بس خلاص..أنا كنت تايه وفقت..مستقبلي في السينما..
- الموضوع مش بالسهولة اللي انت فاكرها
- صعوبة وسهولة مين ياعم الموهوم..السينما عايز واحد وسيم وجذاب ..وشكرا علي كده..وكل النجوم دخلوا من الباب ده..كمال الشناوي..ورشدي أباظة..وشكري سرحان..وعمر الشريف..عايز تقنعني إنهم بيعرفوا يمثلوا..ويتقمصوا الدور..والكلام الكبير ده..
- الزمن اتغير..
- في الدنيا كلها إلا في مصر..بلدنا ياصاحبي قايمة ع النفخة الكدابة..وتاكل عقل اللي قدامك ..وده اللي انت مش قادر تفهمه..شكلك ما ينفعش كممثل..واحمد زكي صدفة غير قابلة للتكرار..نصيحتي ليك فكك من المعهد اللي انت فيه..وادرس إعلام..ممكن بثقافتك تشتغل في البرنامج العام أو صوت العرب..شكلك – وماتزعلش مني- الكاميرا مش هتقبله..
- رأيك فيا بيدل عليك مش عليا..
- أخويا يوسف جننك زي ماهو مجنون
- ياسين ..باين عليك مخنوق جدا..فيه أيه؟؟
وتحول من النقيض إلي النقيض..من قسوة مفتعلة إلي ضعف حقيقي..وكاد أن يجهش بالبكاء..وقال وأنفاسه تتقطع
- ماتزعلش مني ياسيد..إنت عارف باحبك قد أيه..إنت هتبقي نجم كبير في يوم من الأيام..غصبن عني..وغصبن عن كل الناس اللي قاعدين دول..عشان إنت عارف قيمة الموهبة اللي ربنا إداهالك..أما انا ضيعت نفسي..لحد مابقيت زي الكلب الأجرب..اللي كل الناس بتحدفه بالطوب..بقيت مديون لطوب الأرض..ومراتي خلعتني..وطردتني من البيت..والاحتقاربقي في كل العيون وحش بينهش في لحمي وكرامتي..عمري ماتخيلت ياسين الطوخي ينتهي كده أبدا..ياسين الطوخي اللي كان ممكن يكون معبود كل الجماهير في مصر بقي كلب ولايسوي..خلاص مش هاقدر اعيش تاني في البلد..هاعمل انتداب لمحافظة البحر الأحمر..واعيش في الصحرا..أبكي طول العمر علي نفسي..
هناك لحظات تخونك فيها كل الكلمات..وتجدها عاجزة عن تخفيف حزن إنسان تحبه..فتكتفي بالصمت المتفهم ..وبالنظرة الحانية..وباللمسة المواسية..هناك لحظات تقف فيها أمام بوابة الوجود الشامخة والمغلقة علي أسراروطلاسم أزلية وتتساءل ..وأنت تعرف أنك أتفه وأضأل من أن ترد عليك السماء..هناك لحظات لابد أن تطويها كورقة قذرة وترميها في بئر الشمس ..وتستأنف حياتك ساعيا خلف حلمك بإصرار الجمل..وصبر الحمار..وحماقة الأرنب..وغفلة الخروف..
21
حطم الأستاذ يوسف الطوخي الرقم القياسي في عددالخطوبات الفاشلة..ومن أمتع اللحظات في حياتي عندما كان يحكي لي قصص تلك الخطوبات ..
- كانت صيدلانية..ولاتفقه شيء في الدنيا..وأهلها فلاحين ولاد كلب..تخيل بيفطروا سبانخ ..وبيغمسوا الكشري بالعيش..ودورة المية بتاعتهم في وسط الدار..واللي يغيظك مش فقرا..عندهم أكتر من خمس فدادين..باقول لابوها مرة إنت المفروض تبيع فدان ..وتبني البيت بالأحمر..وسيبك بقي من تربية الجمايس ..والقش واقراص الجلة اللي فوق السطح ..النضافة حلوة..ولقيته زي اللي ركبه ستميت عفريت..وكان رده – خلص واجبك وماعندناش بنات للجواز..قلتله الحمد لله إنها جيت منك ..وخدت ديلي في سناني ..وقلت يافكيك..
- كانت أبلة في المدرسة الابتدائي..وعليها بوز يقطع الخميرة من الدار..ووشها عامل زي فردة الشراب المقلوب..زي ماتكون ماتعرفش إن الدنيا فيها حاجة اسمها ضحك وفرفشة..وكلامها عامل زي الدبش..وفي يوم قعدت أقول في كلام رومانسي من اللي قلبك يحبه..وهي زي ابوالهول ..قلت ياواد امسك إيدها..جايز تحس..وتنفعل..لقيت البوكس نازل علي مناخيري زي سهم الله..والدم نازل علي البنطلون زي شتا أمشير..قمت أيه..خدت ديلي في سناني وقلت يافكيك..
- كانت دكتورة ..وفاكرة نفسها أبو العريف ..وكل كلامها حكم ومواعظ ..إنت لازم تبطل تدخين..ولازم كرشك ينزل شوية..ولازم تاخد فلوس من كل العيال اللي بياخدوا عندك دروس..ماتخليش حد يستغفلك..ولازم تبطل تهزر مع الناس..اعمل لنفسك شخصية..قمت أيه؟؟..خدت ديلي في سناني..وقلت يافكيك
- كانت في كلية دراسات إسلامية..وكل كلامها قال الله ..وقال الرسول..وطول مااحنا قاعدين مع بعض..صليت الفجر النهاردة ولا لأ..وقريت كام جزء م القرآن..وكل حلمي أحج لبيت الله الحرام..والتلفزيون تقول عليه مفسديون..وماينفعش يدخل بيتنا..لأن ولادنا لازم ينشأوا نشأة أسلامية صحيحة منذ نعومة أظافرهم..قمت أيه؟؟خدت ديلي في سناني..وقلت يافكيك..
- دي بقي كانت جميلة جدا..ومرحة جدا..ودلوعة بكل معني الكلمة..بس كانت عايشة في الدور..وفاكرة نفسها بنت المنزلاوي باشا..والغريبة أبوها كان مكوجي..إحنا عايزين نعيش في مدينة..مش هينفع اعيش في قرية ..ولازم توفر فلوس الكتب اللي بتشتريها عشان نشتري عربية..وانا كل لبسي توكيلات..ومش باسمع أغاني قديمة خالص..وخالو في اسكندرية كان عايز يخطبني للبشمهندس عماد ابنه ..بس ماما رفضت..عشان ابقي جنبها..قمت أيه؟خدت ديلي في سناني وقلت يافكيك
حكايات لاتنتهي..كان يحكيها بطريقة كاريكاتيرية لذيذة مليئة بالأمثال ..والتشبيهات الريفية ..وكانت النتيجة أنه تخطي الأربعين دون زواج..وكان أكثر ما يحزن أمه هي فلوس النقطة التي ضاعت علي الأرض..كانت سيدة مجاملة جدا رغم بخلها..وكانت أول من دفع الميت جنيه نقطة ..كسبت كثيرا من محل الأدوات الكهربائية التي ورثته عن المرحوم زوجها..الذي مات في ريعان شبابه..وترك لها يوسف وياسين..ورفضت الزواج..وهاهي تشعر أن بختها مال في الدنيا خيبة مابعدها خيبة..
22
أجمل مافي قريتنا أنها تقع علي هضبة عالية..ويقع النيل في فنائها الخلفي..وعن اليمين والشمال وفي الأمام توجد أراضي زراعية فسيحة رائعة الخضرة..يقطعها من المنتصف طريق أسفلتي يربط بينها وبين القري المجاورة حتي يصل إلي المدينة المركز..وفي قريتنا هناك ارتباط وثيق بين المساجد والمقاهي..ففي ظهر كل مسجد مقهي..المسجد دائما مكان استراتيجي حيث تتدفق عليه يوميا أعداد غفيرة من البشر.. ولذا ترتبط به كل أماكن أكل العيش( البقال والحلاق والجزمجي والشحات)..هناك وظيفة أخري يخدم بها المسجد علي المقهي دون أن يتقاضي أجرا وهي دورات مياهه المجانية..وأكثر الناس استفادة منها هم الذين لايصلون..في الثمانينات كانت المساجد تفتح ليلا ونهارا..وكان من يقوم علي أمره ( إمامة..وخطبة جمعة..ونظافة ) أناس متطوعون..في أواخر التسعينات وكرد فعل للتطرف الديني الذي وصل إلي ذروته قررت وزارة الأوقاف ضم جميع المساجد إليها..وتعيين موظفين يخضعون لإشرافها..وأصبحت المساجد لاتفتح إلا في أوقات الصلاة الرسمية فقط..وصارت مشكلة كبيرة لرواد المقاهي..من حسن الحظ أن في تلك الفترة كانت معظم البيوت قد أدخلت الصرف الصحي..ولم تعد هناك حاجة للا ستحمام في حمامات المساجد..
23
بعد صلاة العصراعتدت أن أتمشي مع الأستاذ يوسف ناحية المقابر..وهي -علي عكس ما تتخيل- مكان بديع..يحيط بها من ناحية غيط جوافة..ومن الناحية الأخري غيط خوخ..ويتقدمها عدد لابأس به من أشجار التوت والجزورين والنخيل..وفي الخلف غيطان شاسعة من البرسيم..والكرنب..والطماطم..ويتقدمها مضخة مياه (طرمبة) ماؤها سلسبيل..وتوجد مصطبة مغطاة بالقش بجوارمصلي صغيرناحية غيط الجوافة..وعليها كنا نجلس حتي يحين موعد آذان المغرب..وكان شعورا رائعا أن نرجع وسط الفلاحين العائدين من غيطانهم بعرباتهم الكارو وبهائمهم التي ترمي روثها خلفها علي الأرض بثقة وزهو وكأنها تنثر الدر والياقوت..أيام لا أتخيل أبدا أنني عشتها ..
24
المرة الأخيرة التي قابلت فيها ياسين الطوخي كانت أثناء تصوير فيلمي الأخير..الذي لم يعرض بعد..عن أحد العرب الذين كان لهم دوربطولي في حرب أكتوبرالمجيدة..وفقد فيها ذراعه الأيسر..وبعد أن انتهت الحرب..عاملته الحكومة معاملة لاتليق ببطل..فاحترف تجارة المخدرات والأسلحة..وكان التصوير في حلايب وشلاتين..كنت أعرف أنه يعمل هناك ..وبعد أن انتهيت من العمل..خرجت هائما أتأمل الصحراء..وفوجئت به يلعب مع بعض الأطفال علي أرض مرصوفة بالبلاط أمام مركز الشباب هناك.. وكان اللقاء عاصفا..أحضان وسلامات..سألته عن أحواله ..أخبرني أنه تزوج من أبنة مدرس لغة عربية يعمل هناك منذ ثلاثين عاما..وأدهشني ألا يعرف أنني أصبحت نجما سينمائيا شهيرا..ولم يصدق ذلك إلا حين جاء معي ورأي آلات التصوير..وبقية كاست العمل..تغيرت سحنته وقال بكراهية مجنونة
- أنا عمري ما شفت حد جواه الحقد والغل اللي جواك..إنت عايز مني أيه..ليه عايز تحطمني..جاي من القاهرة لهنا عشان تثبتلي إنك بقيت النجم الكبير..وإن بلدنا ما جابتش حد غيرك ..عرفت ..بس ماتنساش إنك ابن جميزة..الشاذ..والخدام..طول عمرك وصولي وانتهازي..صاحبت أخويا يوسف ..وأقنعته إنك مؤمن بأفكاره..عشان يصرف عليك ويساعدك ..اللي كان يستاهل يبقي نجم أنا..أنا اللي مافيش لاعب علي وش الأرض في مهارتي..كلكم حطمتوني..وسبت كل حاجة ..وبعدت ..جايين ورايا..لو ماكنتش عظيم ما كانش حد حطني في دماغه..أنا أعظم منكو كلكو ..هافضل عايش مرفوع الراس ومناخيري في السما..وهاموت مرفوع الراس زي النخلة..أنا نخلة ..وانت هتفضل طول عمرك جميزة..
وباغتني بالتقاط حجر من علي الأرض..وقذفني به..تفاديته بأعجوبة....وتذكرت الموقف القديم ..عندما ضربت زميلي ..وادعي الموت..وشعرت بالرعب..نفس الرعب تملكني..وبدون إرادة جريت..بسرعة جنونية جريت..ونظرت في السماء..كانت الشمس تميل ناحية الغروب..فغشيتني سكينة من سيغادر..المكان..والزمان..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق