بهجت ماسبيرو
1
كان ناجي الغول – اللواء بمباحث أمن الدولة- يصعد سلالم إحدي عمارات باب اللوق بعينين زائغتين وخطوات منكسرة وقلب ممزق..مصطحبا ابنه الوحيد بهجت..ومتجها إلي عيادة طبيب الغدد الشهير في الدور الرابع..وما إن وصل إلي باب العيادة حتي كاد أن يموت من النهجان..فلعن التدخين..والكرش..والاهتمام بأحوال البلد ..ولحظات وانتظمت دقات قلبه..وجف العرق علي جبينه..فأخرج من جيب معطفه-البني ذي الجلد الطبيعي- علبة المارلبوروالأحمر وأشعل واحدة..ونظر إلي بهجت وابتسم..تلك الابتسامة التي تقول (اطمئن ..كل شيء سيصير علي مايرام)..تلك الابتسامة التي تحمل ثقة أبدية في الحياة..وأملا لاينتهي في رحمتها..وربت علي كتفه بحنان بالغ..وغير متوقع..فبادله بهجت بابتسامة خجولة ومتساءلة..أكان لابد أن أمرض لكي تعاملني هكذا؟..من يصدق أنك بكل تلك الرقة..والوداعة..والعذوبة..منذ ولدت وأنا محاصر بأوامرك..ونواهيك..وغضبك..وانتقامك..ويكفي أن تقول ماما ( هاقول لبابا لما يرجع من الشغل) حتي أنتفض رعبا..وأقسم أنني سأسير علي العجين دون أن أترك عليه أثر أقدامي..انتهي اللواء من سجارته..سحقها بحذائه الإيطالي..نقر الباب باستعلاء وقرف..فتح ممرض أربعيني سمين تسبقه ضحكة مائعة بلهاء تميز كل صبيان الصنايعية..ضحكة بنت حرام..لاتعرف لها أصلا من فصل..هل هي ضحكة فرح بالرزق القادم..أم ضحكة حسرة علي أن هذا الرزق لا يخصه..أم ماذا؟؟..أمثال ناجي الغول لا يضحكون في وجوه هذه الأشكال..من العيب جدا أن تضحك في وجه إنسان ليس من مقامك..ولامنزلتك..إلا إذا كنت مستعدا أن تعيش حياته..لابد من وجود دائرة ..لاتخرج عنها أفكارك..وأسرارك..وضحكاتك..ودموعك..وكلما ضاقت تلك الدائرة..كلما ازدادت هيبتك..ومكانتك في عيون الناس..إياك يابهجت أن تعتقد أن الناس تحب الشخص الاجتماعي الودود..خطأ..إنهم يهنئون أنفسهم علي وجود شخص أكثر غباء منهم..لذا يضحكون في وجهه..كراهية الناس دليل علي نجاحك..وغضبهم عليك دليل علي أنك تسير في الطريق الصحيح..هذه بعض قناعات اللواء التي كان يقولها لابنه الوحيد بهجت..الذي أنجبه بعد خمس عشرة عاما من اليأس..والحلم..والحزن..والخجل..واللامبالاة..وعندما جاء بهجت لم يفرح..أو فرح وقاوم فرحته..واحتقرها..واحتقر الدنيا التي تسخر منه..وتلعب بأعصابه..بنفس الطريقة اللاأخلاقية التي يتعامل بها في عمله..ماأبشع أن تقدم لك الدنيا طعاما بعد تعودك علي الجوع..وامرأة بعد ضمور شهوتك..وابنا بعد تخطيك الأربعين..كأنها لاتكتفي بمواجعك القديمة..بل تأتي لتقليبها..والسخرية منها..ومنك..وبعد أن ألقي اللواء نظرة بانورامية علي المرضي الجالسين في غرفة الانتظار قال للممرض
- أدخل قول للدكتور..اللواء ناجي الغول بره..مباحث أمن دولة
أمن دولة..كلمة تكفي لإذابة مفاصل الجن الأزرق..وتتضاءل بجوارها كل مصادر الخوف القديمة..جهنم ..والنداهة..وابو رجل مسلوخة..فجأة اختفي من أمام الممرض العالم الآمن الذي كان يضحك له ضحكته البلهاء..وصار عبارة عن كابوس طويل مرعب..ولم يعد لديه أي قدرة علي التفكير..والرؤية..فكر أنه بدأ أخيرا في الحفاظ علي الصلوات الخمس..وتوقف عن التدخين..وابتعد عن أصدقاء السوء..وحياته الجديدة صارت مثارا للقيل والقال..ودخل علي الطبيب وركبتاه تصطكان في بعضهما..وقال مراقبا أثر كلامه علي الطبيب
- حضرتك ..فيه لواء أمن دولة عايز حضرتك
وسرعان ما هرب الدم من وجه الطبيب..وقال بلسان جاف
- خليه يتفضل
واعتذر للمريض الذي يجلس أمامه..المريض خرج من الغرفة متفهما الأمر..في الصالة همس في أذن جارله اندهش من خروجه دون كشف..وفي أقل من دقيقة كان المرضي يتسربون واحدا تلو الآخر..والغريب أن الممرض لم ينتبه لخروجهم..إذ كان مشغولا بتذكر ما تيسر من فيلم الكرنك..
2
دخل اللواء بقامته الطويلة العريضة علي الطبيب..وابتسم ابتسامة ذات قطر محسوب..يبتسمها للبشر الذين يضطر إلي طلب معونتهم..ويتسع القطر اتساعا طرديا مع حجم المعونة..والمعونة هذه المرة ضخمة..لذا جاءت الابتسامة واسعة..وعميقة..وفيها اعتراف بالضعف..الذي لا فائدة من إنكاره..مد يده وضغط علي يد الطبيب بمودة..وإنسانية..وقال
- ابني بهجت زي مانت شايف يادكتور..
(للمرة الأولي ينتبه الطبيب أن شخصا برفقته..)..فجأة بقي كده..الكلام ده من أسبوعين..قبل كده كان زي الفل..حاجة كده زي سيدنا يوسف..ودي صورته (بعد أن أخرجها من محفظته)..
ألقي الطبيب نظرة متفحصة علي بهجت..كان يعاني من تضخم كل جزء من أجزاء جسده..الجمجمة..والجذع ..والأطراف..كان من الواضح جدا أنه يعاني من داء العملقة..وهو مرض يظهر بسبب زيادة هرمون النمو في سنوات البلوغ..وطالما أن المرض ليس بسبب ورم في الغدة النخامية – سيدة الغدد- فالأمر لايستدعي سوي علاج طبي طفيف..ولكن الأعضاء المتضخمة لاتعود إلي ماكانت عليه..تظل هكذا..وعلي( بهجت )أن يرضي بالأمر الواقع..ويعيش..ولكن لابد من عمل هذه الفحوصات..في هذه الحالة لا تسلم الأعضاء الداخلية..لابد من عمل أشعة فوق صوتية علي القلب (إيكو)..وتحليل السكرفي الدم والبول..وتحاليل أخري كثيرة..كتبها الطبيب علي ظهر الروشتة بخط يشبه نكش الفراخ..
المهم أن حضرة اللواء لم يقتنع بكلام الطبيب..وذهب إلي ثاني ..وثالث..ولم يختلف الكلام..لابد من الرضا بالأمر الواقع..ولابد من حمد الله إذ أن بهجت ليس بشع الشكل كالحالات النموذجية..التي يبرز فيها الفك السفلي بروزا قبيحا..كل مافي الأمر أن بهجت ضخم..إنسان (كومبو)..والأمر ليس بكل تلك الخطورة..هكذا قال الأطباء بطريقتهم السمجة في الهزار..والتهوين من كل شيء..أود أن أعرف ما فائدة الطب والأمراض الحقيقية مازالت مستعصية علي العلاج؟؟..
3
أصبح اللواء ناجي الغول في الأيام التالية كثير الشرود والسرحان..وتزعزعت ثقته في الطريقة التي عاش بها حياته..والتي يؤدي بها عمله..حياة جادة..جافة..عقيمة..روتينية..من الذي أدخله في هذه الدوامة؟..التي استهلكت ثلاثين عاما من عمره..وهو يعيش منسحقا..ومنبطحا..لكي يرضي رؤسائه عنه..في جهاز الداخلية رضا الرئيس المباشر أهم من رضا الرب..لا أقل من العبودية الكاملة..هذا ثمن الأبهة..والعظمة..والسيارة المرسيدس السوداء..والنادي ذي الاشتراك الخرافي..والترقية الدورية..وكنت ضابطا منضبطا إلي أقصي حد..وتوحدت مع الدولة توحدا نهائيا..وعملت علي استقرارها وأمنها..وشاهدت أعداء الدولة وهم يختلفون من زمن إلي أخر..فأحيانا هم الشيوعيون..وأحيانا هم الإخوان..وأحيانا هم الكتاب اليبراليون..وأحيانا هم الجماعات الإسلامية..كانوا يختلفون عاما بعد عام..وكنت أنا ثابتا علي مبدأي..صديق طفولتي بدرالدياسطي كان متمردا جدا..لأنه كان يقرأ كثيرا في كل المجالات..وأصبح يسخر من الجهاز الذي نعمل فيه..ومن جهل القيادات..ومن ضيق أفقهم..وكان يقول لي
- ناجي..هل أنت مقتنع بما نفعله؟هل أنت مقتنع بأن هؤلاء الذين نقبض عليهم هم أعداء الوطن؟؟إنهم شباب في عمر الورد..وأغلبهم فقراء..ضاقت بهم الدنيا..فخلقوا عالما واسعا من الأحلام..والأماني ..حيث يستطيعون أن يعيشوا فيه كما يليق بإنسان..وتستغلهم قيادات انتهازية – إسلامية وشيوعية- في تحقيق أغراضها..
فأرد عليه محتدا
- بدر ..أرجوك أن تحتفظ بآرائك لنفسك..القبض عليهم ضروري جدا..لكي لا يقلدهم أقرانهم ..وبذلك تتحول تلك الجماعات إلي دولة داخل الدولة..والشيء الثاني أننا لسنا مصلحين اجتماعيين..نحن نؤدي الوظيفة المطلوبة منا فقط..وانتماء كل إنسان هوللجهة التي يحصل منها علي مرتبه..لايوجد إنسان يفكر في الوطن..الكل يفكر في مصلحته الخاصة جدا..وعندما تقع لن تجد من يتعاطف معك..أو يتذكرك بالخيرأو بالشر..أنت صديقي ..ومن حقك علي أن ألفت نظرك..أنت تعيش في عالم من أحلام اليقظة..والقيادات فاض بها الكيل من آرائك ..وتصرفاتك..وطلبوا مني أن أنصحك..لكي لا تضطرهم إلي اتخاذ اجراءت تؤذيك..
فيقول مترددا
- كيف تستطيع أن تكون بكل تلك القسوة..ليتني مثلك؟
فأرد
- الموضوع ليس بالصورة التي تراها..نحن نؤدي عملنا بالطريقة التي يؤدي بها الجراح عمله..لا مفر من أن يتوجع المريض..ولكن هذا في مصلحته..والجراح الحنون من الأفضل أن يبحث عن مهنة أخري..
وحزنت جدا عندما لم يتوقف بدر عن هلوساته..واضطروه أن يتقدم باستقالته ..وكان مازال رائدا..وكتب تعهدا علي نفسه بألا يبوح بأسرار مهنته..ما جعلهم يتصرفون معه علي هذا النحو الكريم هو أنه ابن دبلوماسي كبير في وزارة الخارجية..وبعدها عرفت أنه تزوج ..وهاجر إلي كندا..ليعيش مع أخوته هناك..لا أدري مالذي يجعلني أتذكره الآن..ربما لأنني سأكون مضطرا في الأيام القادمة أن أبتعد عن المهنة التي احتلت كل ذرة من ذرات كياني..بهجت لابد أن يعيش..ويفرح..الطبيب قال بأن قلبه متضخم ..وأنه مصاب بالسكر..وسيعيش علي الأنسولين..وأنا كنت قاسيا عليه في طفولته بما فيه الكفاية..كنت أريده أن يكون مؤهلا للعمل في نفس الجهاز الذي أعمل به..فكان لابد من الصرامة..والحزم..ولانضباط..ولكن زوجتي الطيبة قالت لي ذات
مرة:
- ناجي ..بهجت ليس ضابطا تحت رئاستك حتي تعامله بكل تلك القسوة
فقلت لها - اخرسي
وأنا مندهش من جرأتها علي مراجعتي..وكان هذا يحدث للمرة الأولي..منذ طفولتنا وهي تعتبرني لا أنطق ولا أتصرف عن الهوي..هي ابنة خالتي..وجارتي..وزوجتي منذ ثلاثين عاما..
ثم ندمت علي مابدر مني..وأنا ألمح عينيها مغرورقتين بالدموع
- أنا آسف يا فاطمة..
وتقدمت بضع خطوات ناحيتها..ورفعت يدها اليمني..وطبعت قبلة رقيقة عليها..لا توجد امرأة تستحق الحب مثلها..أحبتني حب عبادة..بعد الزواج اتضح أن عدم الإنجاب كان بسببي..ورفضت أن تتركني..قالت لي بأنني كل شيء في حياتها..وأنني طفلها الذي ستظل طول العمر تربيه..
فقالت وهي منهارة
- بهجت لن يكون ضابطا مثلك..بهجت فنان..لديه موهبة عظيمة في الرسم..
فجاوبت ببرود
- مالمانع من أن يكون ضابطا ورساما في وقت فراغه..عملنا يحتاج أحيانا إلي تلك الموهبة
- لماذا لم تبدي الرغبة في رؤية مايرسم؟ يخيل لي أحيانا أنك تكره بهجت..
- هل يوجد إنسان يكره ابنه يافاطمة؟؟
- إذا اعتبر أن هبة السماء جاءت بعد فوات الأوان..لذا فأنت تتعامل معها معاملة الرافض..والمحتقر..
فكرت أن كلامها قد يكون به شيء من الصحة..فطلبت منها أن تفرجني علي بعض رسومات الفنان الواعد..فهش وجهها وبش..وذهبت إلي حجرة بهجت ..وأحضرت بعض الرسومات المرسومة علي ورق أبيض ..وذهلت..بورتريه لوالدته يكاد ينطق..وكان هناك أيضا بورتريه لي..كتب أسفله ( أبي..كما أرغب أن يكون)..رسمني مرتديا ملابس شارلي شابلن..البرنيطة..والرداء الطويل..والبنطلون الفضفاض..والعصا..والشارب القصير..اجتاحني غضب شديد..وتركت زوجتي..وذهبت إلي الشرفة..أشعل سجارة من أخري..الولد يسخر مني..أنا الذي يحترمني الجميع ابني يسخر مني..وفجأة غرقت في الضحك..كالماء الذي يتفجر من الحجارة..تفجر الضحك مني..كان ضحكا عذبا رقراقا..وجريت علي غرفة بهجت..كان مستغرقا في النوم كملاك..وطبعت قبلة رقيقة علي جبينه..وكانت ليلة لاتنسي مع زوجتي..وقررت أن أبدأ صفحة جديدة في حياتي..ومن سخرية القدرأن يصحو بهجت وقد تضخمت كل أعضاءه..
4
في العمل تفهموا ظروفه..ووافقوا علي تسوية معاشه..وتفرغ اللواءوزوجته لإسعاد بهجت..
رحلات داخل مصر وخارجها..مسارح..سينمات..كتب..ألوان..ورق أبيض..صداقة..سهر..وكانت أيام سعادة حقيقية تركت أثرا كبيرا علي نفس بهجت..
5
وفاجأ بهجت والديه بحصوله علي مجموع كبير يؤهله للالتحاق بكلية الطب..وكانت الفرحة كبيرة..هاهو الابن المريض يخطو في الحياة خطوات واثقة ناجحة..وفي الكلية ظهرت و تبلورت شخصيته التي ستستمر معه إلي سن تقاعده..شخص اجتماعي..منطلق..بشوش..كريم..لاهم له إلا إسعاد الناس..في هذه الفترة قرأ كل ماوقع تحت يديه من روايات..وشاهد أهم الأفلام المصرية والعالمية..واندمج مع الناس..هو عضو في كل النشاطات التي تقوم بها الكلية..ورئيس اتحاد الطلبة..وعضو في الكثير من الأنشطة التي تقوم بها وزارة الثقافة..ومع ذلك كان ينجح كل عام..بتقدير جيد جدا..والسر في عدد ساعات نومه القليلة..أربع ساعات يكفونه..ومرت الأيام ..وتخرج..وتخصص في الطب النفسي..وتزوج من فتاة طيبة اختارتها له أمه من بنات إحدي قريباتها ..ومرت الأيام وتوفي والده..ووالدته..ولم يعد له إلا أقرباؤه في مدينة أسوان..ومرت الأيام ..وأصبح رجلا عجوزا..ولم يعد سوي شهر يفصله عن التقاعد..ولكنه مازال محتفظا بصحته..التي يحسده عليها الكثير من زملائه..
6
لانهاية للأثر الطيب الذي يتركه بهجت علي كل من يتعامل معه عن قرب..فلم يحدث أن دخل سكن الأطباء ويده فارغة..دائما توجد (نمرة)..والنمرة عبارة عن وجبة شهية..وهي غالبا لاتتكرر إلاكل شهرين..ومن المدهش أنها تتكلف أضعاف ما يحصل عليه من نوبتجية الحكومة..يعني العملية واقفة عليه بخسارة..ولكنه لايفكر في الحياة بهذه الطريقة..لا يستطيع أن يعيش في جو يخلو من البهجة..يختنق..يموت..حتي وإن اضطر لشرائها..ولحظات ويتحول السكن إلي مهرجان..كرنفال..يلتف الأطباء الشباب حول الدكتور بهجت ماسبيرو وهو يحكي لهم بأسلوب شيق وخفيف الظل عن ذكرياته..وحكاياته بها من كل فروع المعرفة زهرة..
يسأله طبيب شاب عن رأيه في توفيق الحكيم فيجيبه وهو يجلس كسليمان الحكيم علي كرسيه..بصوته الممتليء الواثق..
- أيوه آه طبعا توفيق الحكيم هرم كبير من أهراماتنا..ورائد من روادنا الكبار..وكاتب مسرحي من الطراز الرفيع..لا يقل في حال من الأحوال عن الكاتب الأيرلندي برناردشو ولا الكاتب الإيطالي بيرانديللو..اعتمدت أعماله علي استلهام الأساطير الإغريقية والمصرية وقصص من الكتب المقدسة..أنا قريت له-أول ما قرأت- في الثانوية العامة كتاب (حماري قال لي) كتاب في منتهي الظرف..والعمق في نفس الوقت..تشاء الأقدار أني أقعد مع ابنه اسماعيل علي نفس التختة في الثانوية العامة..كان شاب هايل..وموهوب جدا في عزف الجيتار..وكان يكره والده كراهية عمياء..مش طبعا كراهية بالمعني المتعارف عليه..أقصد كان يتمني إن والده يكون شخص عادي ومغمور..كان حاسس إن قدامه جبل عالي ..وعشان الناس تشوفه لابد يكون أعلي منه..ودخلت الطب..وهو شق طريقه..وعمل فرقة في سبعينات القرن المنصرم..واشتهرت لبعض الوقت..ومن يومها ما عرفتش عنه حاجة..عن طريق اسماعيل أخدت معاد من والده..وقابلته ..ودردشت معاه في موضوعات كتير جدا..حكالي عن الأيام الجميلة اللي قضاها في باريس..وفشله في دراسة الحقوق..وخلافاته مع والده..وعن أيام الصعلكة مع كامل الخلعي..أيام ما كان الفن وصمة عار..دلوقت الفنانين ماشاء الله بياخدوا ملايين..وأخبارهم ليل ونهار في الجرايد والتلفزيون..أنا كنت في يوم من الأيام باحلم ابقي ممثل..وعن طريق أحد قرايبنا اللي كان صديق شخصي لنور الدمرداش والد معتز وزوج كريمة مختار رحت قابلته..وامتدحت دوره في (صغيرة علي الحب) جدا..الراجل ضحك..وكانت ضحكته مميزة جدا..كأنه بيضحك بعضلات جسده..مش عضلات وشه.. وقاللي يابهجت إنت تنفع في المسلسلات التاريخية..وأفلام الإنتاج الضخم..هاتصل بيك إن شاء الله..خدت الموضوع بجدية..وقعدت اقرا في كتب التاريخ..واشوف الشخصيات اللي ممكن أمثلها..وبعد شوية انطفأت رغبتي..وظهرت رغبة جديدة تماما..
ويسأله طبيب آخر عن رأيه في الحب
- الحب شعور جميل طبعا..وأذكر إني حبيت لأول مرة مدرسة الحساب في المدرسة الابتدائية..وكانت تشبه للمطربة ليلي مراد..اللي اعتزلت في قمة مجدها..عشان كده صورتها مازالت محفورة في الأذهان وهي قاعدة علي شاطئ الغرام في مرسي مطروح..وبجرأة شديدة رحت صارحتها..وكان أفقها واسع جدا..وقالتلي وانا كمان باحبك يابهجت..بس ارتباطنا ببعض قدامه عوائق مستحيلة أولها إني متجوزة..وربتت علي ظهري وهي تضحك..وسقراط قال عن الحب إنه الشوق إلي امتلاك الخير علي الدوام..يعني المحبوب بيكون حاجة جميلة ونحن نرغب في امتلاكها..وعلي الدوام..وفي الحقيقة هو ده مصدر العذاب في الحب..كان فيه ولد ابن واحد زميلي كان محامي نقض في المعادي..الولد ده كان شغال لبيس لممثل مشهور ماينفعش اقول اسمه عشان كان شاذ ..والعهدة علي الراوي..المهم الولد حب فنانة جدا..وكل إنسان مهما كانت وظيفته بيبقي شايف نفسه حاجة كبيرة..الفنانة اتصدمت من كلامه..وهزأته..النتيجة إنه حاول ينتحر..صديقي اتصل بيا في لهيب الليل..ركبت العربية بتاعتي..وفي أقل من نص ساعة وصلت من مدينة نصر للمعادي..كنت سايق علي مية وعشرين..والقاهرة كانت هادئة جدا في تلك الليلة..يتصادف إنها الليلة اللي اتقتل فيها السادات ..الله يرحمه..رغم إنه مارحمش البلد في فترة حكمه..لقيت الولد سايح في دمه ..وكاتب علي صدره اسم الفنانة ..قصدي اقول إن الانسان لابد ينتقل من جمال الأجساد إلي جمال النفوس..ومن جمال النفوس إلي جمال النظم والقوانين والأديان والعلوم..ولايكتفي بشيء واحد فقط..عشان يحتفظ بسلامته الروحية..
7
انجب بهجت ماسبيرو ولدا وبنتا..وكانوا مختلفين عنه كل الاختلاف..فلم يكن لأحدهما أي هوايات خارج الدراسة..وكانا خجولين ..وعاجزين عن الاندماج في المجتمع..وحاول بهجت أن يزرع فيهما حب الفن..والجرأة علي الناس..وباءت محاولاته بالخيبة..فاقتنع أخيرا أن الكتكوت الفصيح يخرج من البيضة يصيح..وأن الجينات لها دور كبير في تكوين الشخصية..وانصرف إلي حياته..مكتفيا بما يوفره لهما من احتياجات مادية..من الجدير بالذكر أنه لم يفتح عيادة..وعاش علي الثروة الضخمة التي تركها له والده..ونادرا مااهتم بالطب..متعته الكبري في المناقشات الفكرية..مع الشباب..في المستشفي..والفرجة علي التلفزيون..والقراءة..في البيت..
8
في إحدي طرقات المستشفي أوقفه موظف بشئون العاملين قائلا
- دكتور بهجت..حضرتك بدأت في تجهيز أوراقك ولا لسة
فقال مستغربا
- أوراق أيه ياأستاذ عبده
- أوراق المعاش
نزلت الكلمة علي قلبه كالصاعقة..هل مرت الأعوام بهذه السرعة..وماذا سأفعل بعد ذلك..لقد تعودت علي الحياة بين الشباب..معظمهم شباب مثقفون..ومرحون..ولكن لابد مما ليس منه بد..مالذي فعلته في حياتي..هل ضاعت سدي كما قال خضر التابعي صديق الطفولة والصبا والكهولة..
9
خضر التابعي هو صديق بهجت ماسبيرو الحميم..تعارفا أيام الجامعة عن طريق أخي خضر (وليد)الذي كان زميلا لبهجت في الجامعة..ولم يفترقا..رغم أن خضر يعمل في مجال بعيد كل البعد عن عمل بهجت..فشل في الدراسة..وخرج من الصف الثالث الإعدادي..وتطوع في الجيش..وفي حرب 1973أصيب بشظية في إحدي قدميه..وخرج..وكان عمره لم يتجاوز العشرين..فعمل في إحدي محلات الأقمشة الكبيرة في شارع الأزهر..ووثق فيه صاحب المحل..واقترح عليه أن يعمل محصل أموال..التجار من مختلف أنحاء الجمهورية يأتون إلي المحل..ويحملون البضاعة..ويدفعون مبلغا..ويسددون الباقي بالتقسيط..وبدلا من أن يأتوا إلي القاهرة في نهاية كل شهر..من الأفضل أن يذهب إليهم محصل..ويكون له نسبة..ولأن خضر عفريت..ويلعب بالبيضة والحجر..ولايوجد من هو قادر علي مراوغته..وأمين ..فهو أصلح من يتولي تلك المهمة..وقبل..وبدأت صفحة جديدة من حياته..أصبح محصلا لكل التجار في شارع الأزهر..وطاف الجمهورية قرية قرية..وعزبة عزبة..وكسب أموالا كثيرة..وعاش حياته بالطول والعرض..كان الزواج أسهل وأرخص من الزني..والحشيش أوفر من السجائر..وكان قارئا ممتازا ..كان الكحلاوي- بائع الجرائد في شارعه في روض الفرج- يذهب إليه صباح كل يوم بكل الجرائد والمجلات الصادرة..وتزوج من امرأة طيبة جدا..وتريد أن تعيش في ظل أي رجل..وكان خضر متطرفا في كل شيء..في سماحته..وتوحشه..في حبه..وكراهيته..ولايحتمل أن ينام وفي جيبه مليم واحد..الفلوس لا بد من صرفها في أي شيء..المستقبل لايوجد في قاموسه..لا يوجد غير اللحظة الحاضرة.. وكم من سيارة اشتراها..وباعها..وفيلا اشتراها ..وباعها..إخوته يقولون عنه بأن الرجل الذي يتاجر في الخسارة..يشتري السيارة بالشيء الفلاني..ويبيعها بثمن بخس ..وهو لايبالي..سيكسب..هو يثق جدا في الله..وفي الزمن..وإن كان لايثق في جنس مخلوق..وأحبه بهجت ..واعتبره توأمه..إنه يعيش علي حافة الحياة..والخطر..ولايفصله عن الموت سوي فركة كعب..والأولوية في حياته للحظة..وساعة الحظ..إنه – مثله- يهرب من الحياة..ولكن الحياة لاتفارقه..أقرب إليه من حبل الوريد..حياة الناس تخلو من الحب..والدهشة..والطفولة..وكل ما هو حقيقي..الأيام تتراكم فوق الأيام..والتجاعيد فوق التجاعيد..والدهون تحت الجلود..والأحزان في أعماق القلوب..إنها مجرد استمرار..
10
في الأربعين أصيب خضر بالبول السكري..ولم يهتم..يأكل كل ما يحلو له..وبالشراهة التي اعتاد عليها..ويقول له بهجت
- يابني آدم فوق..إنت بتنتحر..وراك خمس عيال..ومراتك أغلب من الغلب..لو حصلك حاجة..هيتلطموا..فيها أيه لما تمشي ع العلاج..أنا عندي السكر بقالي خمسة وعشرين وصحتي زي الفل..اعتبرته صديق..مش عدو..واتعايشت معاه..
فيجيبه خضر وهو يشعل سيجارة حشيش
- اوعي تفتكر يابهجت إني عاجب نفسي..بالعكس..أنا أكتر واحد مش راضي عنها..بس أنا ضعيف..وإرادتي مافيش أهش منها..أيه رأيك في أهش دي..جاية من هشيش..
واستغرقا في الضحك..وتبادل القفشات..
11
بدأت صحة خضر في التدهور..وهجمت عليه أسوأ مضاعفات مرض السكر..فشل كلوي ..وقدم سكري..وفقد للبصر..وعاش علي الغسيل الكلوي في مستشفي الساحل التعليمي..وبترت قدمه..وأصبح حاله عبرة لمن يعتبر..وحزن بهجت كثيرا..وساعد أولاده بمبلغ مالي محترم في بداية كل شهر..ولم يتوقف عن زيارته إلي أن تغمده الله برحمته..
12
أولاد بهجت تخرجوا في الجامعة..والبنت تقدم لها عريس مناسب..ووافق..والولد سافر إلي إحدي دول الخليج..أما زوجته فلا تخرج من عملية إلا لتدخل في أخري..عملت كل العمليات بدءا من الرأس إلي أخمص القدم..المية البيضاء..واللحمية..واستئصال اللوزتين..والغدة الدرقية في الرقبة..ودعامة في القلب..والفتق..والزائدة الدودية..وتفتيت حصوات في المرارة..وأخيرا تغيير مفصل الركبة..قالت له ساخرة ذات يوم
- يعني يابهجت ماتشيلش بدالي حبة..أنا خارجة من عملية داخلة عملية..وانت صحتك أربعة وستين حصان..
- امسكي الخشب..
ويتركها ليسقي الزرع في الأصص الفخارية في الشرفة..ثم يجلس علي كرسي من الخرزان ليقرأ الجرائد..ويشرب عصير العناب..ويفكر فيما سيفعله بعد المعاش..
13
لا أحد يعرف علي وجه التحديد من الذي سمي بهجت ب( ماسبيرو)..لأنه كان مرجعا في كل ما يبثه التلفازمن برامج وإعلانات ومسلسلات وأفلام..وأحب هو الاسم ..بل وفخر به..أما عن موهبته في الرسم فقد توقفت عند رسم البورتريه..ووجد نفسه عاجزا عن مجاراة مدارس الرسم الحديث..فهجر القصة برمتها..واكتفي أن يكون عاشقا للفن بكل فروعه..لا منتجا له..ودار هذا الحوار بينه وبين أحد زملائه
- أنت موهوب جدا يابهجت في الرسم..فلماذا لم تطور نفسك ..وتصير محترفا..
فأجاب
- في الحقيقة أنا فكرت في الموضوع ده كتير جدا..ودخلت في صراعات رهيبة مع نفسي..مازالت بتطلع علي هيئة كوابيس وانا نايم..وأيامها قلت لنفسي
أنا عايز اكون سعيد ..واستمتع..وإنتاج الفن مسئولية خطيرة..وهم لاينقطع بالليل ولا النهار..ومحتاج رهبنة..وصوفية..وانطواء علي الذات..واستغراق رهيب..عشان تقدر توصل لحاجة تستاهل الناس تشوفها..وبأمانة شديدة ما كانش عندي استعداد أعيش بالطريقة البائسة دي..اكتفيت بالتلقي الفعال..والتذوق..
- عمرك ما فكرت تبقي مشهور..
- الشهرة نوعين..شهرة مؤقتة..وشهرة دائمة..الأولي تأتي بضربة حظ..وفرحها لايدوم طويلا..بل تنتهي بمأساة عندما تنقطع..أما الشهرة طويلة المدي فالحصول عليها يحتاج لضريبة كبيرة كما قلت لك لست مستعدا لدفعها..
14
دولاب الدكتور بهجت في السكن مدهش كشخصيته..ومكتوب عليه بخط ضاحك(صندوق الدنيا)..ففيه من الإبرة للصاروخ..ومفتوح دائما..والخير لاينقطع..الشاي..والسكر..وكنكة القهوة النحاسية ذات السحر الذي لايقاوم..والفناجين..والصابون..والبرفان..والمجلات..والكتب..والطاولة..والدومينو..والشطرنج..ولم يحدث ذات يوم أن سأل عن شيئ ضاع..يشتري غيره في صمت كريم..بعد أن يتقاعد الدكتور بهجت سيكون هذا الدولاب طللا..وشجرة خريفية تقف عليها طيور الذكريات الجميلة لتقول للأجيال القادمة
(هنا رجل عظيم عاش..وضحك..وأضحك بحضوره..وأبكي بغيابه)
15
كان حفل تقاعده ساحرا..ومستحيل التكرار..وبقدر ماكان مفرحا بقدر ماكان مبكيا..امتلأ السكن عن آخره بالأطباء..ومنهم من ألقي شعرا..ومن غني..ومن أدي بعض الاسكتشات..وخرجت طبيبة شابة لترقص معه رقصة أوروبية كلاسيكية.. رقصة انتزعت التصفيق من الأيادي والعيون..وألقي كلمة عن الأيام التي قضاها في المستشفي..وحكي لنا قصة حياته من البداية..وأعطانا من خلال قصته عن أبيه صورة كاملة عن ضابط أمن الدولة..كيف يفكر..ويعيش..ويربي أولاده..وأنهم ليسوا بالصورة البشعة التي يروج لها الفن..وقال لنا بأن الفن يعتمد علي التطرف..والمبالغة..رغبة في جذب الأنظار..فعندما تقول مثلا السماء تمطر بغزارة في ميدان التحرير ليست فنية كجملة المطر وصل إلي الركب أوالخاصرة في الميدان..لذلك كان القدماء يقولون أجمل الشعر أكذبه..وحدثنا عن الحب كما عاشه والده..وكما عاشه هو..وكما يعيشه أولاده..وفي النهاية تمني لنا التوفيق..وبكي..من كل قلبه بكاء مسموعا..
16
ما أصعب أن تشعر بأن مستقبلك وراءك..وأنك لم يعد لك دور في الحياة..ولاعليك سوي انتظار السيد عزرائيل..ما أصعب أن يمر اليوم دون أن يتصل بك أحد..دون أن يزورك أحد..وتجد نفسك كالجريدة القديمة المهملة..كانت الأيام تمر ببطء شديد..وكان لايرغب في الاستيقاظ..ظل لفترة يذهب إلي النادي ويجري..ولكنه مل..متعته الحقيقية في الساعات التي يجلسها في العصاري في الشرفة يتأمل الناس..والسيارات..والباعة..وواجهات المحلات..والإعلانات الضخمة المضاءة ..والساعات التي يجلسها مع زوجته أمام التلفاز بين المغرب والعشاء..وهذا ليس كافيا..هو من النوع الذي يعتبر الوقت هو أكبر ثروة..ولاينبغي تبديدها..لابد أنه يوجد شيء عظيم ينفقه فيه..
17
علاقة بهجت بالدين طوال حياته كانت وثيقة..فهو يؤدي الصلوات الخمس في مواعيدها..وجماعة..وفي المسجد..ويصوم رمضان..والأيام المستحبة في بقية الشهور..كيوم عاشوراء..ويوم عرفة..وأيام في رجب..وفي شوال..وقرأ في الدين بتعمق..ولكنه أبدا لم يكن متعصبا..وكان له أصدقاء من مختلف الملل والنحل..القبطي..والشيعي..والشيوعي..والوجودي..ومنكر السنة..ومنكر نبوة الرسول..ومنكر وجود الإله..وكان يتقبل كل الآراء..ويعرف أن وراءها حججا وبراهين قوية..والتصدي بالعقل لايجدي معها..والدين شيء فطري..روحاني..وجداني..أن تعبد الله كأنك تراه..وما وقر في القلب..وصدقه العمل..الدين المعاملة..وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق..والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده..الجوانب الروحانية هي التي تلمسه في الدين..وتجعله في حالة سلام وسكينة..وكان محبا لآل البيت..وعندما يتوتر..ويضيق صدره..كان يذهب للصلاة في الحسين..أو السيدة زينب..أو السيدة نفيسة..ولكنه لايفهم الصراخ الديني..وهستيريا قراءة القرآن في المترو..وهوس ارتداء الجلابيب القصيرة..والشعبية العظيمة التي ينالها كل من يتكلم في الإعجاز العلمي للقرآن..والعلاج بالبول..والحجامة..وكل الطرق الأخري التي عفي عليها الزمن..المسلمون في حالة دفاع مريض عن أنفسهم..كالقلب المتضخم دفاعا عن فشله في ضخ الدم بحجمه المعهود..وبدلا من أن يعرف المسلمون نقاط ضعفهم لينهضوا ويلحقوا بقطار التقدم يكتفون بالعناد وأنهم يملكون ما يعجز الغرب عن امتلاكه..ويقفون أمام المعجزات العلمية التي لايتوقف العلماء الغربيون عن إدهاشنا بها قائلين بوجه جامد كريه (وأيه يعني؟؟ الكلمة الوحيدة التي يقولها المسلمون هي وأيه يعني..)..والعلم في نظرهم هو علم التفسير..والفقه..والحديث..وكل من يجرؤ علي تقديم رؤية جديدة هو مبتدع..وعميل..وعلماني..وفرويد في نظرهم كافر..ودارون كافر..وأينشتين يهودي ملعون..ورجال الدين تغيروا..أصبحوا رجال دنيا من الطراز الرفيع..ولأن الدين حمال أوجه ..فقد حل عبد الرحمن بن عوف مصدر الصدارة..أصبحوا يرتدون ملابس بالالاف المؤلفة..ويقومون بعمليات تجميل..ويزرعون الشعر..ويركبون سيارات يكفي ثمنها لتزويج مائة من شباب المسلمين..نعم الأسلام يدعو أن يظهر أثر نعمته علي عبده..ولكنه حارب البهرجة..والرياء..واستفزاز الفقراء..فالسيارة ليست إلا وسيلة انتقال مريحة..وليست قصرا متحركا يركبه رجال الدين..والغريب أنها من صنع الكفرة الفجرة أعداء الإسلام الذين لايكفون عن مهاجمتهم..ربما يعتقدون أن الله سخرهم لخدمتهم..أشياء كثيرة كان يراقبها بهجت مكتفيا بالصمت..وبالحزن النبيل..الذي يحاول جاهدا أن يتخطاه..وأن يزرع الأمل في نفوس الشباب..فالخير لابد أن ينتصر..لأنه الأقوي..ولو كان للشر كل هذا الجبروت الذي يظهر به لانقرضت الحياة منذ قتل قابيل هابيل..ولكن قابيل أحس بالخطيئة..وتحول أخوه إلي ضميريعيش في عقله..وضريح يبكي أمامه..ويزرع أمامه الصبار..والرياحين..
بهجت لايكتفي بقراءة القرآن قراءة عابرة ..سطحية..إنه يقف أمام القصص..يتأملها..ويحاول أن يغوص ليستخرج الدر الكامن في الأعماق..مالذي جعله هكذا؟؟..لايدري..فأبوه وأمه لم يكونا يهتمان كثيرا بالدين..ولم يحدث أن رأي أحدهما يصلي أو يصوم..يذكر أنهما اصطحبانه في طفولته لحضور حفلة لأم كلثوم في سينما قصر النيل..وكانت كل النساء مثل أمه..بلا حجاب علي الشعر..ويرتدين جوبا قصيرا يغطي الركبتين علي استحياء..ولايذكر أنه مشي في الشارع..وسمع صوت أذان..في الواقع أن هذا الجيل - جيل أبويه- كان الفن هو نافذته الروحانية..فقد كان الهرم الاجتماعي معدولا..بالتعليم والكفاءة الأدبية والعلمية تستطيع أن تكون واحدا من أفراد الطبقة الراقية..أما الآن فبالفهلوة..والشطارة..والجهل..تحصل علي منصب وزير..أصبحنا نعيش في مجتمع لامعقول..في الماضي كان الوزراء ذوي مكانة علمية وأدبية ممتازة..وكانت المناهج التي ندرسها في منتهي الدسامة والثراء..لماذا أحن إلي الماضي بهذا الشكل؟..هل لأنه مرتبط بأيام الشباب..والعنفوان..والمتع التي بدت بلا انتهاء..لابد من شيء ينتشلني من الفراغ الذي أغرق فيه..
18
وكانت فكرة الحج إلي بيت الله الحرام..والذهاب إلي المدينة النورة..والوقوف أمام قبر الرسول..وتذكر يوم وفاته..عندما خرج عمر شاهرا سيفه ليقطع رقبة كل من يردد الخبر..ويخرج أبو بكر الصديق ويقول بقوة تخفي انتحابا لاحد له قولته الشهيرة(من كان يعبد محمدا..فإن محمدا قد مات..ومن كان يعبد الله ..فإن الله حي لايموت)..وتذكر يوم الطائف (اللهم أشكو إليك ضعف قوتي..وقلة حيلتي..وهواني علي الناس)..وتذكر الرسول حين قال لعمه أبي طالب(والله لو وضعوا الشمس في يميني..والقمر في يساري)..وتذكره وهو يقول مرتعشا لخديجة (زملوني..زملوني..دثروني..دثروني)..وتذكر عام الحزن..والإسراء والمعراج..وتذكر فتح مكة..وخطبة الوداع..اليوم أتممت لكم دينكم..ورضيت لكم الإسلام دينا..وهناك قابل ابنه الباشمهندس الذي يعمل في بريدة..وعاد مغسولا..كمن ولدته أمه..
19
ثم جاءت فكرة افتتاح مقهي (بريد الجمعة)..طوال حياته وهو يحب تلك الصفحة..ويحب صاحبها المرحوم عبد الوهاب مطاوع..وعن طريقها أحب الطب النفسي..وتخصص فيه..ولم يفتح عيادة لأنه كره التعامل مع الحالات الميئوس منها..كان يريد التعامل مع شخصيات يفيدها الدعم..والنصيحة..ويجعلها قادرة علي تجاوز ماتلاقي من صعاب وحيرة..ولم ينتظر من المقهي مكسبا سوي أن يجعل لحياته معني وقيمة..ويري السعادة في عيون الآخرين..ككل النشاطات التي قام بها في حياته..والغريب أن أمواله لم تكن تنقص..كانت تزيد..لأن والده ترك له الكثير من العقارات..والأراضي الزراعية..وبهجت اعتاد أن يشتري عقارا جديدا بنصف الثمن الذي يبيع به عقارا قديما..بالفطرة وحدها أصبح تاجر عقارات..ورغم أنه لم يكن يشغل باله أبدا بموضوع الفلوس..إلا أنها كانت تطارده..وكانت أسعار العقارات تتضاعف بطريقة جهنمية..ولم يكن فرحه خالصا..كان يعرف أن الفلوس التي تأتي إليه مقتطعة من لحم الفقراء..وليست رزقا من السماء..لا يوجد في البلد اقتصاد حقيقي..لايوجد إلا التجارة في السلع الاستهلاكية التافهة..والعقارات..التي شاءت الصدفة وحدها أن يمتلك الكثير منها في زمن يلهث وراءها..لم يكن لها قيمة في عهد والده..وهاهي الأيام تدور..وتلعب لعبتها الأزلية..الغالي يرخص..والرخيص يغلي..والقوالب تنام..والأنصاص تقوم..علي رأي أمثالنا العامية..التي مازلت أندهش من قدرتها العبقرية علي الإمساك..والإلمام..والإحاطة.. بكل قوانين الوجود..
20
أقام بهجت المقهي في أحد أحياء مدينة نصر في الدور الأرضي من عمارة حديثة..وكان بسيطا جدا..واعتمد فيه علي الديكورات التي تجعل المقهي قريبا من عشة..ومن بستان..ومن شاليه علي البحر في مدينة ساحلية هادئة..فكان للرمل حضور..وللأزرق الهاديء حضور..وللأزهاروالنباتات الخضراء حضور..وللخشب المقطوع لتوه من شجرة ..والكراسي الخيزران حضور.. أما عن خدمة الزبائن فهم يفعلون ذلك بأنفسهم..يقف الزبون خلف البار ..ويضع البراد علي النار..ويصنع المشروب الذي يريده..والثمن- علي حسب ما يخرج من ذمته- يضعه في صندوق خشبي مخروم من أعلاه موجود علي يمين البار..أما عن الكراسي فهي موجودة حول مائدة مستديرة..وهذا المقهي هو ملك زبائنه..فهم الذين يستمعون إلي مشاكل بعضهم البعض..وهم الذين يقترحون حلولا لبعضهم..أما هو فيكتفي بالحفاظ علي النظام فقط..وعلي لائحة بيضاء كبيرة كتب بخط أسود قواعد المقهي التي لايجب الخروج عليها..التدخين ممنوع..والتردد علي المقهي بصفة منتظمة ممنوع..في حالة وجود مشكلة مستعصية فقط..ووقت الجلوس لايتعدي نصف ساعة ..يسرد فيها الزبون مشكلته بطريقة مختصرة..ومركزا فيها علي جوهر المشكلة..لتأكده من حب المصريين للشكوي دون أن يكون هناك سبب واضح..
21
اجتذب المقهي في البداية بعض عواجيز الحي..ووجدوا في (بهجت ماسبيرو) نعم الرفيق..انحرف المقهي عما خطط له ..ولكنه قال لنفسه إنه اختلاف شكلي ليس إلا..حتي وإن صار المقهي بيت مسنين..فهو يقدم خدمة إنسانية..ومهمة- رغم ضآلتها- تخفف من الأحزان المتربصة بالبشر..وانضم إلي المقهي رجال ونساء من شتي الوظائف..المدرس..والطبيب..والمحامي..والمهندس..والمحاسب..ورجل الأعمال..والوزيرالسابق..وكان أول من جاء فتحي الورداني – أستاذ الفلسفة المتقاعد والكاتب بالأهرام- ولم يتصور بهجت-وهو أحد قرائه- أبدا أنه أحد جيرانه..واعتبر تلك المعرفة بشري خير..كان فتحي قد تخطي الثمانين من عمره..ولكنه مازال متحمسا للحياة..والكتابة..والمناقشة..وعيناه تلمع بالمكر..والسخرية..دخل المقهي متكئا علي عصا غليظة ومتفقدا أرجاء المكان فاستقبله بهجت بهيكله الضخم مرحبا
- تفضل يا أستاذنا..
فقال له فتحي بهدوء ساخر
- إنت مين..عفريت هارب من قمقم..ولا حارس عوامة ثرثرة فوق النيل..
فأجاب بهجت بأدب كأنه تلميذ يقف أمام أستاذ
- أنا بهجت الغول
- اسم علي مسمي
- والشهرة بهجت ماسبيرو..طبيب نفسي متقاعد..وحضرتك؟
- فتحي الورداني
- حضرتك أستاذ الفلسفة وكاتب الأهرام
- بالضبط..هل تقرأ لي؟
- منذ أكثر من عشرين عاما..وكم تمنيت مقابلتك
- وأنا أيضا كان سيفرحني جدا أن مقالاتي تنال استحسان رجل في مكانتك وضخامتك..(قالها وهو يقهقهه..)
واستطرد فتحي
- أخشي أن يجرحك كلامي..أنا رجل محب للدعابة..وفي وجهة نظري أن الثقافة التي لا تدفعك إلي المرح..والسخرية..والتفاؤل هي ثقافة مشوهة..والجهل أفضل منها..
- هذا ما يجعلني مهووسا بك..كتاباتك عبارة عن فياجرا للعقل ..تجعله متحفزا..ويقظا..ولديه رغبة في تجاوز منغصات الحياة اليومية..
- عندما نتكلم عن فياجرا العقل بكل هذا الحماس..فمعناه أن الفياجرا الأخري والأكثر أهمية بالتأكيد لم يعد لها وجود..
قال بهجت ضاحكا
- أليس صعبا أن أعترف لك في ساعة تعارفنا الأولي أنني فاقد الرجولة
- أو يحتاج هذا إلي اعتراف؟؟..أنت تفكر إذن أنت مفقود جنسيا..هناك علاقة طردية بين الفحولة ودرجة البلاهة..وسلوان المفكرين في النشوة العقلية التي يصلون إليها عقب كل فكرة جديدة وطريفة..
- وما رأيك في الكلمة التي قالتها صباح عن رشدي أباظة بأن المرأة التي لم تتزوجه لم تتزوج..
- دعك من الصورة الخارجية..رشدي كان فنانا..ومدمنا للخمر..وربما لمخدرات أخري لانعلمها..والفن حفر في الأرض..والإدمان حفر في السماء..هذا إنسان يحاول حفر نافذة للهروب من وجوده..تري هل وجد ما يدعوه للبقاء؟
- ولماذا قالت صباح ذلك؟
- امرأة تخطت السبعين..وأصبحت في حالة ترثي لها..هل يوجد أروع من جملة تقولها تجعل الناس يحسدونها ..هذه لعبة طفولية ياصديقي..مايحرك الإنسان في هذه الحياة رغبته المتوحشة في أن يكون محسودا..
-أو مثيرا للشفقة والعطف..
- هذا لايتناقض مع ما قلت..النوع الذي تتحدث عنه يريد أن يبدو شهيدا في عين الآخرين..في الاستشهاد والانتحار ياصديقي بحث مستميت عن النجومية..أي أن يكون محسودا
- ولماذا يخاف الإنسان من الحسد ؟
- لأنه يريد حلاوة من غير نار..كلما ازداد ارتفاع الجبل كلما ازدادت القوي التي تعمل علي انهياره..وخاصة إن كان هذا الارتفاع ليس قائما علي أساس سليم..كل فكرة يابهجت تحمل في داخلها ما يهدمها..ولكل إنسان كعب أخيل..أي نقطة ضعف بمجرد أن تضغط عليها ينهار البنيان كله..
ظل الحديث يتشعب بين بهجت وفتحي في كل الدروب..حتي جاء موعد أذان الظهر..وأغلق بهجت المقهي ليصلي..ويتناول الغذاء..وينام حتي أذان العصر..وبعدها ينزل ليفتح المقهي حتي المغرب..
22
يوما بعد آخر كان وجه بهجت يزداد إشراقا..وإقبالا علي الحياة التي لاتنفد مباهجها..تحول المقهي إلي صالون أدبي رفيع المستوي..وبعد أن كان متحدثا أصبح مستمعا وتلميذا..فهو يجلس الآن بين أساتذة متخصصين في كافة الفروع..ويندم علي العمر الذي مضي دون أن يقابلهم..وكانت مفاجأة أن يكون بين رواد المقهي صديق والده – الذي طالما حدثه عنه في أيامه الأخيرة- بدر الدياسطي..الذي عاد من كندا منذ بضع سنوات ليموت في القاهرة..ودار حديث ذو شجون بين بهجت وبدر..مااجمل أن تعرف قصة أبيك من أصدقائه..وذات مرة رآها معه..عرف أنها ابنته..واسمها (مي)..وفي الخامسة والثلاثين من عمرها..ومذيعة في قناة أجنبية..ومتزوجة من صيدلي شهير في مصر الجديدة..ولديها ولد وبنت..وتعيسة في زواجها..والسبب أن زوجها رجل عملي أكثر من اللازم..كانت ممتلئة الجسم في رشاقة..وجميلة..ومرحة..وشعرها الفاحم السواد ينسدل علي رقبتها وكتفيها بطريقة مثيرة..وملابسها دوما عبارة عن بادي(BODY)يكشف بوضوح عن نهديها النافرين وجينزوصندل ذي كعب عال..أما عن رائحة برفانها فمسكرة كالنظر إلي شفتها السفلي المكتنزة.. والأهم أنه انجذب إليها كما لم ينجذب إلي امرأة من قبل..عاش نزوات المراهقة.. وتزوج بطريقة تقليدية..وقابل الكثير من البنات الجميلات..ولم يحدث له ما يحدث الآن..شعرت زوجته به..للمرة بدأ يهتم بكي ملابسه..وتلميع حذائه..وتصفيف شعره..إذن هناك امرأة..ولأنه لايعرف اللف والدوران فقد صارحها وهويضحك ..واستوعبت زوجته – كعادتها- مراهقته..ووجدت في حكاياته عنها شيئا مسليا..ومضحكا..ولم يعد لهما سيرة غير( مي)..قالت زوجته لنفسه بهجت أصبح مجنونا..وفقد عقله..وقالت لابنها وبنتها في اتصال هاتفي..وأصبح حب بهجت حديث الساعة اللذيذ..وبالفعل كان الموضوع في البداية مزاحا في مزاح..وانقلب الأمرجدا..ولم يعد بهجت مستعدا لعمل أي شيء غير رؤيتها..والاستمتاع بحديثها..وقال لنفسه إنني عشت لإسعاد غيري..آن لي اليوم أن أكون سعيدا..ومي أيضا استراحت له..وأحبت أحاديثه الشيقة..وحياته الثرية..وحكاياته التي لاتنتهي..واقترحت عليه ذات مرة أن يصطحبها إلي دريم بارك..كانت مخنوقة ..وتريد أن تخرج من المود..وتعود إلي طفولتها..وترتمي علي صدر أبيها..وهو مثل أبيها..هكذا قالت له..فحزت الكلمة في نفسه..شعرت بذلك..كانت تقصد أن ترمي هذه الكلمة لتري رد فعلها علي وجهه..تجاهلت الأمر..وانطلقت بالسيارة..وهو إلي جوارها..كانت الشمس علي وشك الرحيل..والناس في طريقها إلي بيوتها..والطيور في طريقها إلي أعشاشها..وهو يسير علي خيط رفيع جدا يفصل بين الحياة والموت..بين العبث والمعني..بين الامتداد والديمومة..حياته السابقة كانت – رغم كل شيء- نمطية..متحفظة..خالية من الخطر..والجنون..والتطرف..تذكر صديقه خضر التابعي..وحكي ل(مي) عنه..فهتفت
- نفسي أعرف راجل زي خضر..
- الله يرحمه مات موتة حقيرة بس عاش حياة عظيمة..
- وانت كمان إنسان هايل يابهجت
..هكذا قالت بدون أي ألقاب..وأوقفت السيارة علي جانب الطريق..وأغمضت عينيها..ووجد شفتيه تتسللان في صمت مرتعش ..ومتوتر..ومنتشي.. نحو شفتيها ..لتسرقا قبلة..من العبث وصفها..لأنها مالاعين رأت..ولا أذن سمعت..ولا خطر علي قلب بشر..
23
اقترابه من (مي) جعله يفهمها أكثر..هي ليست تعيسة في زواجها كما تقول..ولكنها تردد هذا دائما لتلمح في عيون الرجال مشاعرهم الحقيقية نحوها..ولحظتها تستطيع أن تختار من يروق لها..هي أنانية جدا..وتحب أن تكون محبوبة من الجميع..وأن يلهث الكل خلفها..في البداية تفتعل الطيبة..والمسكنة..إلي أن تتأكد أنها صارت أفيونا في دم ضحيتها ..وبعدها ترميها..زوجها مشغول بفروع صيدلياته..وطموحاته التي لاحد لها..يريد افتتاح فرع في شرم الشيخ..ويريد شراء برج في الشيخ زايد..ويريد دخول مجلس الشعب..ولا وقت لديه للتفكير فيها..وحسنا فعل ذلك..ماهي فيه ليست بسببه..هي هكذا منذ فشلها في قصة حبها الأول في كندا..ومن يومها فقدت الثقة في نفسها..وفي جمالها..وتريد التأكد من حين إلي آخر من أنها مرغوبة جنسيا..وأن تري الرجال ولعابهم يسيل عليها..يجب التنويه إلي أنها محترمة جدا..ولم يحدث أن أعطت رجلا أكثر من قبلة أو حضن..وبعدها تهرب..تختفي من حياته كأنها فص ملح وداب..كانت تريد أن تقول للرجال إنهم ولاحاجة..وإنكم كالطبل المنفوخ علي الفاضي..ولكنها هذه المرة أحبت بهجت بصدق..وودت أن تعطيه نفسها..وجسمها..دون تردد..المشكلة أن حبه لها ليس حبا جسديا ..إنه يحب روحها..لمس الأوتار التي كادت أن تذبل في أعماق مشاعرها..أحست بذلك عندما أنهي القبلة بطريقة من يتلذذ بقطعة جاتوه ..ثم يتقيأها..لأنه تذكر أنها سامة..وفتح باب السيارة وجري..شعر أنه يسير في طريق لايريده..ولايريد أن تنتهي حياته به..يريد أن يقابل الله بكتاب ناصع البياض..وهو من النوع الذي لا يدوس علي الوفاء..والواجب..ومشاعر الآخرين من أجل مشاعره الشخصية جدا..ذاته لاتقتصر عليه فقط..وأنما تتسع لتحتوي أقرب الناس إليه..وخيانتهم خيانة لذاته..وبعد خيانة الذات..لالذة..ولا امتلاء..ولا حياة..ليس إلا الوحدة..والفراغ..والموت..
24
عاد بهجت إلي البيت في ساعة متأخرة..كانت زوجته قلقة..واتصلت بهاتف المقهي..لا أحد يرد..واتصلت بابنته..لم يذهب إليها..وقالت لنفسها ربما يكون مع (مي)..وكان كما ظنت..ولكن ماله مكتئب..وبوزه ممدود شبرين أمامه..وقالت له ضاحكة كعادتها معه
- الحب بهدلة..
فنظر إليها وابتسم ..ابتسامة من يحسد نفسه علي أن هذه المرأة رافقته في مشوار حياته..وقال
- بهجت اتجنن يازينب..وعايز ينحرف علي كبر..
- وماله؟؟إنت عشت حياتك ماشي ع الصراط المستقيم..ما يضرش قليل من الانحراف
- يازينب ..بدل ماتنصحيني أعقل..تشجعيني ع المعصية..
- أهم حاجة عندي تبقي مبسوط ..ومفرفش
- مش خايفة اتجنن ..واتجوز عليكي..
- مستحيل ..أنا لسة عارفاك النهاردة..دي عشرة خمسة وتلاتين سنة..يعني بقيت واثقة فيك أكتر مانا واثقة في نفسي
- يعني شايفاني ازاي يازينب
- راجل عارف ربنا حق المعرفة..وماتستحملش تحط راسك ع المخدة ويكون غضبان عليك..
- الحمد لله علي نعمة الإيمان..وانتي كمان أميرة..وكنتي نعم الزوجة الصالحة..الباشمهندس ماتصلش النهاردة؟
- اتصل وسألني عليك .. قلتله في موعد غرامي..قال هيتصل بكرة عشان عايزك في موضوع
- أكيد عايز يتجوز طبعا..وانا في سنه كنت متجوز بقالي خمس سنين..مش عارف لزمتها أيه الشحططة..الخير كتير والحمد لله..وراسه وألف سيف عايز يبني نفسه بنفسه..زي ما يكون الإنسان غاوي يتعب روحه..
- الحياة كده..الناس بتعيشها بالطول..أما الجماعة الرومانسيين اللي زي حالاتك بيحبوا يعيشوها بالعرض..كل الناس بياخدوا خطوات لقدام..وانتوا واقفين مكانوا ..قاعدين تنطوا..عشان تمسكوا نجوم السما..
- قصدك إني ضيعت حياتي هدر يازينب
- بالعكس يابهجت..قليل قوي اللي استمتع بحياته قد ماانت استمتعت بيها
ماإن انتهت من جملتها الأخيرة حتي صرخت صرخة مدوية..وفي مستشفي خاصة قريبة أعطوها مسكنا قويا..وأخذوا عينة بالمنظار من القولون..تبين في اليوم التالي أنها مصابة بسرطان القولون..ولم يتردد بهجت لحظة واحدة بالسفر بها إلي فرنسا كما نصحه طبيب زميل تعرضت زوجته لنفس المرض..وماتت هناك..ورغم أنه لم يكن خالي الذهن للفرجة علي البلد..إلا أن كثيرا من ملامحها قد انطبع في ذهنه..وذهب الحزن..ولم يبق إلا الشجن..والذكري..وتأمل أحوال الدنيا..
25
بعد ستة شهور من وفاة الأم تزوج الباشمهندس..وأخذ زوجته معه إلي السعودية..وبقي بهجت وحيدا..كان قد أغلق المقهي منذ مرض زوجته ..ولكنه لم يستطع أن ينسي (مي)..وربما هي التي كانت السبب وراء صبره وتجلده..أحبها..وكان يعرف أنه حب مستحيل..وهي أيضا أحبته..وعرفت أن هذا الرجل لايتكرر بسهولة..ولعنت اليوم الذي عرفته فيه..قبله كانت مستريحة..ومطمئنة إلي أن الرجال لايوجد فيهم من يستحق قلبها ..وإخلاصها..وبمقابلته تأكدت أن أفكارها محض وهم..ومحض هروب..وحقنة مورفين تخفي بها عجزها عن العثور عليه..قالت لنفسها بأن زماننا لم يعد به فرسان نبلاء..وأن الندالة صارت فضيلة الرجال الكبري..قالت لنفسها كلاما كثيرا..وفي النهاية لم تستطع إبعاده عن مخيلتها..وأحست أنها تفتقده بتوحش..وكان لابد أن تراه..لايهم الساعة التي تشير إلي الحادية عشر مساء..ولايهم زوجها الذي ينام ككيس الجوافة بجوارها..ولا يهم الإتيكيت..وماذا يقول بهجت عنها..كل مايهم أنها قد تموت إن مر اليوم دون رؤيته..
26
بعد زواج ابنه اقترح عليه أخواله في أسوان أن ينتقل للعيش هناك..ووجدها فكرة براقة..ذهب إلي هناك مرة في مراهقته مع والديه..وأحب أسوان..وناسها..ونيلها..ومعابدها الفرعونية..وثانيا هو يخاف من أن يموت ولاينتبه إليه الناس إلا حين تظهر رائحته..ففكر..وقرر..وكان يوجعه أن يبتعد عن(مي)..علي الأقل هو هنا يتنفس نفس الهواء الذي تتنفسه..ومن حين إلي آخر يلمحها وهي خارجة من العمارة متوجهة إلي سيارتها..السيارة التي قبلها فيها..ومازال طعم القبلة علي شفتيه..القبلة التي فرقت بينه وبينه..لو لم يحدث ذلك لكانا إلي الآن صديقين..ولكن (لو) من الشيطان..بفضلك ياحبيبتي عدت إلي الرسم..ورسمت لك بورتريها من ملامحك المحفورة علي ظهر قلبي..من صوتك الساكن في محارات أشواقي..أرأيت إن كنت قابلتك منذ عشرين عاما هل كنت أبتعد كما ابتعدت..أم كنت أسجد في رحابك غارقا في دموعي وابتهالاتي..كيف أنت الآن ؟..يا ذاتي التي عشت أبحث عنها..هاأنت موجودة..وأنا علي وشك الغياب..والرحيل..وهاهي الشمس تغطي جرحها الأزلي بشاش أسود..أسود كشعرك ..وكليل طويل ينتظرني..ينتظرني هناك في الجنوب..بالقرب من منبع ظمأي..وعطشي الذي لا يرتوي..إلا بك..يابدايتي..ومنتهاي..هناك ينتظرني نهار..مضيء كوجهك..وذو جبروت كعذابي..علي حافتيه الصبار والياسمين..والقرآن والموسيقي..والشروق والغروب..يا(مي) ..ياهداي..وضلالي..أحبك يا أنا..
27
كادت(مي) أن تجن عندما ضربت الجرس مرات عديدة..ولم يرد..هو لايملك موبايل..كان عاجزا عن التعامل مع كل الأجهزة الإلكترونية..ويأست ..ولم يكن من الممكن أن تذهب دون أن تراه..نزلت وأيقظت البواب..أخبرته أنها تريد الدكتور بهجت في حالة طبية طارئة ..فأطرق إلي الأرض..تذكرت أن شيئا في هذا الزمن لم يعد دون مقابل..أخرجت من شنطتها عشر جنيهات ووضعتها في يده..انفرجت أساريره..وكان جوابه
- الدكتورياهانم سافر أسوان عند قرايبه
- إمتي
- النهاردة المغرب
- كان لوحده
- كان معاه شاب بيقول ابن خاله معاه عربية لانسر نبيتي
انطلقت بسيارتها بسرعة مجنونة..وأخذت أكثر من مخالفة..ولم يهمها..زوجها واصل..وينهي مثل هذه الأمور باتصال واحد..وطوت سيارتها الفولكس الطريق تحتها..لحقت به بعد المنيا..دق قلبها عندما رأت السيارة اللانسر النبيتي..سارت بموازاتها..والتفتت..والتقت عيناهما..أمر بهجت ابن خاله أن ينتحي بسيارته جانبا.وانتحت هي الأخري بسيارتها..ونزل هو وابن خاله..ونزلت..تقدمت نحوه ..واحتضنته..منعها من التمادي - وهو في غاية الحياء- بضغطة حنونة علي كتفيها..سيطرت علي نفسها..وتوقفت..وابن الخال مندهش من هذا المنظر الغريب..الأجانب فقط هم من يتصرفون علي هذا النحو..أما المصريون فيفعلون ماهو أكثر من ذلك في الخفاء..هو يعمل في السياحة وذو خبرة كبيرة بمثل هذه الأمور..فاجأته (مي) بسؤالها
- تسمحلي يا أستاذ.. الدكتور بهجت يركب معايا في العربية بتاعتي لحد أسوان..
فابتسم وقال
- أسمح طبعا لأني عارف إنه معاكي هيصحصح..أما معايا هينام وياكل رز مع الملايكة..
وفي الطريق تعاتبا..وتخانقا..وتصارحا بكل شيء..وبمنتهي العقل عرفا أن حبهما لاينبغي أن يأخذ أكبر من حجمه..وأخبرها بأنه قرر أن يقضي أيامه الأخيرة في أسوان..ووعدته أن تزوره..كان الفجر قد شقشق..ورفعت الشمس برقعها..وتركت الطيور أعشاشها..وبدت أسوان كعروس في صباحيتها..قال لها
- هذه المدينة تشبهك يا(مي)..النساء كالمدن..وأسوان مثلك يكفي أن يراها الأنسان مرة واحدة ليتذكرها باقي العمر..
شكرته..ورفعت يده ذات الجلد المكرمش وقبلتها..وهي تنظر في عينيه..وقالت له إن من يعرفه لابد أن يؤمن بالحب لأنه أحد أوليائه الصالحين..وأمام منزل أبيض من طابق واحد يقف وحيدا في الفراغ توقفت سيارة مي خلف سيارة ابن الخال..ونزل بهجت..واستدارات مي بسيارتها..ولوحت له بيدها تلويحة من تعرف بطريقة غامضة أنها لن تراه مرة أخري..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق