عمري في حياتي
1
أمنا في صلاة الفجر..كدت أن أبكي وهو يضرع إلي الله ونحن نردد وراءه(آمين)..ولأكثر من نصف الساعة جلسنا نتناجي علي كروايتة خشبية تحت شجرة توت في المقهي المجاور للمسجد..والمطل علي النيل..بينما الندي يتساقط علي جلبابينا..وهاهو الشروق يعزف مارش الرحيل..من المؤسف جدا أن يرتبط موعد إقلاع الطائرات بتلك اللحظة المقدسة..يأتي صاحب المقهي بجلبابه المخروم في مواضع عدة..وعلي وجهه بقايا نعاس..يلقي علينا تحية الصباح..يرد الشيخ خيرالله بصوته المفعم بالطيبة والحيوية..يفتح الرجل العجوز مقهاه..ويرش الماء أمامها..يصب قليلا من الكيروسين علي صفيحة ممتلئة بالقوالح..تتصاعد ألسنة اللهب..وبعد دقائق معدودة يجيء حاملا صينية عليها كوبا ينسون..نحتسيهما ببطء وتلذذ..نعود..أقف معه أمام داره قليلا.. ينظر في ساعته الكاسيو ..أحتضن وجهه بنظراتي..يشد علي يدي بيديه المشعرتين..يحتضنني ..ويطبطب علي كتفي بقوة حانية..أحاول أن أتماسك..أتركه ..وأعود إلي منزلنابخطوات مثقلة بالحزن الشفيف..
2
عزبة العراقي عبارة عن شارع واحد فقط..بيوت طينية متراصة ومتقابلة..وكل بيت له واجهتان.. الواجهة الخلفية تفتح علي فناء رحيب يضم الزريبة والفرن البلدي وأكوام من القش والدريس والتبن..وفي الواجهة الأمامية مصطبة يجلس عليها أهل العزبة يتسامرون في ليالي الصيف..ويشعلون فروع الشجر الجافة للتدفئة في الشتاء.. وفي مقدمة العزبة ترعة متفرعة من النيل الكبير..عليها معدية من نخلة سميكة العود تربط العزبة بالقرية الصغيرة المجاورة..وأهم مكان في العزبة هو مقام سيدي العراقي..الذي لا أعرف عنه شيئا يستحق الذكر..في طفولتي كنت أدخل ضريحه وأتمسح بالأقمشة التي تغطيه متبركا ..وراجيا إياه أن يحقق لي كل أحلامي الصغيرة..كأن يتوقف أستاذ الرياضيات عن السخرية من غبائي أمام الفصل..وألا يلصق علي ظهري ورقة من كراسة الرسم مكتوب عليها بالقلم الفلوماستر(أنا حمار)..ويطلب مني أن أدخل بقية الفصول وأحكي قصة فشلي..وعجزي عن حفظ جدول الضرب البغيض..كنت أتمني أيضا إتقان تسديد الكرة إلي الخلف بطريقة الدابل كيك ..وكانت أمنيتي الكبري أن ترتدي أمي جلبابا زاهيا غير الأسود الذي ترتديه..كل هذا كنت أطلبه من سيدي العراقي..ويبدو أنه لم يكن يحبني بالقدر الكافي..وظلت أمنياتي مجرد أمنيات..
3
جذبتني إلي الشيخ خير الله طيبته اللانهائية..وحنجرته ذات الأنغام شديدة العذوبة والشجن في تلاوة القرآن..وأداء الابتهالات الدينية..وفي الصف الأول الأعدادي أصبح صديقي..في تلك المرحلة توقفت نهائيا عن مصادقة أقراني..كان عالم الكبار مليئا بالخبرات المدهشة..والمعلومات التي أتوق إلي معرفتها..والكتب التي أسعي إلي قراءتها..وكانت مكتبة الشيخ خيرالله تبدو لي أكثر ثراء من مكتبة الكونجرس..إحياء علوم الدين للأمام الغزالي..الداء والدواء لابن قيم الجوزية..ديوان الإمام الشافعي..تفسيرابن كثير..الأربعون النووية..فقه السنة للسيد سابق..شرائط الشيخ كشك..ونصر الدين طوبار..وسيد النقشبندي..والشيخ الطبلاوي..كنت أقف مذهولا وقفة علي بابا أمام المرجان والياقوت..وبدأت أستعير..وأقرأ..وأتناقش..وأري الإعجاب في عينيه..فيزداد إصراري وعزمي علي الإبحار أكثر..للحصول علي مزيد من الإعجاب..وتصورت الحياة بين صفحات الكتب..والسعادة..والحب..والنجاح..وماعدا ذلك قبض الريح..وباطل الأباطيل..
4
اختلفت مع مدرسة التربية الدينية (وكان مدرسا للغة العربية أيضا) في مسألة فقهية لاأتذكرها..وعندما يأس من إقناعي سألني
- من هو مصدر معلوماتك؟؟
قلت بفخر
- الشيخ خيرالله الشرقاوي
فقال باستهتار
- وهل يفهم شيئا؟
اندفع الدم ألي رأسي..فما أفظع أن يسخر أحد من إنسان أنت تحبه حد القداسة..فاستطرد قائلا
- شيخك يا يوسف في السابعة والعشرين من عمره..ومازال عاجزا عن التخرج في كلية أصول الدين..بدأنا التعليم في نفس العام..وهأنذا أعمل منذ خمس سنوات..وهو مازال طالبا..هو إنسان طيب..ولكن لاتثق في معلوماته..
وكانت صدمة بكل المعايير..هل يعقل أن يكون الأستاذ المدخن ذو اللسان البذيء أكثر علما-وبالتالي ذكاء- من صديقي الملتزم بكل الفروض..واشتعل صراع رهيب في داخلي..وأنا أجلس مع الشيخ وفي داخلي أنه غبي..وبليد..كنت طالبا متفوقا في كل المواد عدا الرياضيات..والرسوب في الدراسة كان بالنسبة لي دليلا دامغا علي الغباء..وبلادة الحس..كيف يرسب؟؟ ..ويمشي بين الناس دون خجل..ويطاوعه قلبه علي الضحك..وتطاوعه معدته علي الأكل..كيف؟؟
5
قبل عشرين عاما من مولدي أويزيد جاء الدكتور لبيب طربوش إلي عزبتنا..واستقر بها..وعمل في مهن كثيرة..خولي دودة..إصلاح وابور الجاز..مساعد بناء..وعمل أخيرا بائع فول وطعمية..وهي المهنة التي تفتحت عيني عليه فيها..وكنت أندهش من مناداة الناس لبائع طعمية بهذا اللقب..وتساءلت ..وسمعت الكثير..قيل بأنه كان دكتورا في علم النفس وتم فصله من الجامعة لأن العميد كان يغار من عبقريته..وقيل بأن عقله لحس من كثرة القراءة والعلم..وقيل تم ضبطه مع إحدي الطالبات في وضع مخل ..وقيل لأسباب سياسية فقد كان شيوعيا..والدليل علي ذلك أنه لايصلي حتي في شهر رمضان..وأظرف تعليق سمعته من صديقي بكرالباسوسي – الذي يعتبر كل خبر في عزبتنا مهما كان تافها سرا عظيما- حيث قال لي ذات أمسية من أمسيات أغسطس ونحن جالسان علي سطح منزلنا بين صياح الديوك ونقنقة الدجاج بطريقته الهامسة وهو يميل علي أذني ورذاذ لعابه يتناثر علي وجهي
- مش أنا عرفت الناس بتقول للبيب طربوش يادكتور ليه؟؟
يمتلك قدرة جبارة علي إثارة فضولي
- ليه؟؟
- مش هاقولك غير ماتوعدني تديلي كتاب الأضواء أذاكر فيه النهاردة
- ماشي ..وعد
- الدكتور أصلا مش مهنته..الدكتور اسمه..زي مانت يوسف..وانا بكر..هو الدكتور..
ذاب شعر حواجبي في شعر رأسي من الدهشة..وأراحني هذا التفسير..بقدر ما أضحكني..إذ لايوجد سبب مقنع أبدا يجعل دكتورا في الجامعة – مهما تدهور به الحال- يحترف مثل هذه المهن الوضيعة..وبينما أنا غارق في التفكير والضحك إذا به ينغزني في ذراعي..ويقول ساهما
- بص يايوسف..خالتي زينات وركها باين..
ونظرت ..كانت ترمي الحب للدجاج من حجر جلبابها..وعرفت الإثارة للمرة الأولي في حياتي..كان فخذها عمودا رخاميا شاهق البياض..وظلت هذه السيدة رفيقة أحلام يقظتي لسنوات طوال..ومصدرا للذة لاتدانيها لذات أخري..وكانت أيضا مصدرا للعذاب ..والأسئلة الوجودية الكبيرة..
6
كان يحيي الشرقاوي- أخو الشيخ- في الثانوية العامة..وكان صايعا جدا..فهو يصفف شعره إلي الخلف..ويضع عليه الجيل..ويشمر أكمام قميصه إلي مافوق الكوع..ويفتح أزراره العلوية..ويرتدي بناطيل جينزضيقة ..ويدخن بلا حرج أمام الجميع..ولا يصلي إلا الجمعة..ويبدو علي ملامحه أنه يعرف الكثير من البنات..ومع ذلك كان متفوقا..ويحظي باحترام مدرسيه..وفي الوقت الذي تضاءل إعجابي بأخيه ازداد إعجابي به..وتمنيت أن أكون صديقه..ولكنه كان – فيما يبدو- يعتبرمصادقة من هم أصغر سنا انتقاصا من رجولته..التي كان يحاول إثباتها بشتي الطرق..وفي أواخريونيو1989ظهرت نتيجة الثانوية العامة..وحصل علي مجموع يؤهله لدخول الهندسة..ولكنه اختار الألسن..كان يحلم بالعمل في الترجمة..والتعامل مع الأجانب..والسفر إلي بلادهم..والزواج من إحدي بناتهم..وفي هذا اليوم دار بيننا هذا الحوار
- معقول حد يسيب الهندسة ويدخل الألسن...
قلت مندهشا
- معقول جدا في كل مكان إلا في عزبة العراقي
- ومالها العزبة..
- مالها؟..إنت شكلك كده هتعيش وتموت فيها..
- وهاروح فين يعني؟
- يا جو إنت شكلك بتفهم..وحرام يبقي طموحك حقير بالشكل ده
- أنا اسمي يوسف ..مين جو؟
- الناس الهاي بيدلعوا يوسف ب (جو)
انشرح صدري أن أكون عند حسن ظنه..وأثارت أفكاره فضولي فسألته
- وأنت طموحك تبقي أيه؟؟
- أبعد عن العزبة المتخلفة دي بأي شكل..واتعامل مع ناس نضيفة..ناس شيك..أركب عربية..ألبس توكيلات..أدخل نوادي..وديسكوهات..ألف الدنيا..وانت أيه طموحك؟؟
- أبقي مذيع في إذاعة القرآن الكريم..
- وليه مش في التلفزيون؟؟
- مافكرتش ..
- شكلك وسيم ..وتنفع..شد حيلك..
أسعدتني الكلمة جدا..فنحن ندرك أجسادنا من خلال الآخرين..وأصبح يحيي الشرقاوي مثلي الأعلي..أحاول تقليده في كل صغيرة وكبيرة..وكان يفرحني جدا أن يقارنني أحد أساتذتي به قائلا
- إنت بتفكرني بيحيي الشرقاوي..نفس أفكاره الغريبة..ونفس غروره..بس كان عبقري..كان بيقرا روايات تشارلز ديكنز بالانجليزي..وكان يكتب باراجرافات ينفع تتنشر في الأهرام ويكلي..
7
عام1989هو عام الفرح لأسرة الشرقاوي..وإن كان -ككل الأفراح- مشوبا بالمرارة..نجح يحيي..وتخرج الشيخ أخيرا..وعاد والدهما من العراق قبل نشوب حرب الخليج الثانية بأيام معدودة..وكان جميع سكان الشارع يشاهدون العربية الميكروباص المحملة بالشنط الضخمة بعيون ملؤها الحسد والفضول والحسرة..وتحت ضغط يحيي قررالأب أن يبيع المنزل ويشتري منزلا جديدا بالطوب الأحمر في القرية المجاورة..ويخرج الشيخ عن طبيعته المسالمة ويقول
- بيع البيت علي جثتي..زي ماتولدت فيه..هاموت فيه..مافيش احسن من البيت الطين..طراوة في الصيف..ودفا في الشتا..وبين قرايبنا..وجيراننا..وجنب غيطنا..
فترد الأم متعاطفة معه
- معاك حق ياخيرالله يابني..أبوك واخوك اتجننوا..وبيتبروا من أصلهم..
فيقول يحيي يعصبية
- الدنيا بتتقدم وانتوا عايزين تفضلوا محلك سر..أيه الجمال اللي في البيوت الطين..كلها قرف..ودبان..وناموس..وبراغيت..ونمل..وصراصير..أنا باستعر حد من زمايلي ييجي يزورني فيه..أقسم بالله يابا ماهاعيش يوم تاني في البيت ده..
وينتهي الأمر إلي الإبقاء علي البيت القديم كما هو..وينتقل الجميع إلي المنزل الجديد..ويبقي الشيخ وحيدا..كان حزينا جدا علي تفرق شمل أسرته..وكان سلوانه أن يقف في المقعد ( غرفة في الدور الثاني) ومن خلال انفراجة صغيرة بين ضلفتي الشباك يتابع زينات وهي منكفئة علي ماكينة الخياطة في وسط دارها..كانت في الأربعين من عمرها..وأرملة..توفي زوجها بعد عامين من زواجهما..ورأي طفله الأول سمير..ومات وزوجته حامل في ابنته سميرة..ورفضت الزواج..وآثرت أن تربي أولادها..وكان الشيخ معجبا بها إعجابا وصل إلي مرتبة الحب..وإلي كتابة القصائد العاطفية الركيكة تعبيرا عما يجيش به صدره..وكانت قنبلة في منزل الشرقاوي أن يعلن الشيخ رغبته في الزواج من زينات..بل حكاية تعجب لها الشارع كله..
8
قالت أمي ونحن نجلس علي الطبلية نتناول العشاء:
- تحت الساهي دواهي..الشيخ بيحب..بس زينات دي عقربة..وهي أكيد اللي اصطدته..قالت العيال كبرت..وعايزين مصاريف..والشيخ اتخرج من الكلية بتاعته..وشهر ولااتنين ويبقي موظف..ويساعد معاها..أصلها أنتوكة قوي..وشايفه روحها..وماتحطش في الواطي أبدا..ماتشتريش إلا الحاجات الغالية..ومافيش أسبوع يعدي إلا ماتقطع كيلو لحمة..عشان كده الدم بيبظ من خدودها..
فيقول أبي متهكما
- مش أحسن ماتبقي ناشفة زي عود الحطب
- قصدك أيه ياراجل ..ريحني زي ماهي مرتاحة ..وانا ابقي احسن منها..دانت بتستخسر تجيب أنفارللأرض..وبترمي كله علي سعدية ..زي ماتكون سعدية شاحتة صحتها..دنا فيا تعب يهد أجدع تور في العزبة..وخايفة أقول آه ماحدش ينجدني..كل ياخويا..ده اللي انت شاطر فيه..ياما ابوالقاسم الشرقاوي اتحايل عليك عشان تسافر معاه..وانت سمعت كلام امك..(وتبدأ في تقليد صوت جدتي) تسافر فين ياحمدين ياضنايا..يقطع الفلوس..ويقطع سنينها..سعدية بنت باتعة مش خاسس عليها حاجة..لو جرالك حاجة ماحدش قلبه هينفطر عليك غيري..
- أخوكي ماهو سافر..أيه اللي جد عليه..عويل بلاده..عويل بلاد الناس..
- اسم الله عليك ..النبي حارسك وضامنك..أنت اللي شملول..ودمك حامي..
- اكتمي بقي ياولية..مش ناقصين حرق دم وعكننة بالليل..
- انكتمت..
9
قلت لكم أن زينات كانت مصدرا للذتي..وهذا مفهوم..أما عن كونها مصدرا للعذاب..والأسئلة الوجودية الكبيرة..فكان سببه أن ابنها سمير كان زميلا لي في الدراسة واللعب..وكنت أشعر أنني أخونه..حتي وإن كانت خيانة علي مستوي الفكروالخيال..في هذا السن لم تكن الحدود بين الواقع والخيال واضحة المعالم..لدرجة أن اللذة تكاد تكون واقعية..أنا الآن متزوج..وأقسم لكم أن اللذة التي كنت أستمدها من خيالاتي تفوق أضعافا مضاعفة ماأحصل عليه الآن..كنت أقول هذا الكلام لزميل لي خارج الحكاية فقال لي (وأرجو أن تتحملوه كما أتحمله..فهو- ككل المثقفين- رذيل وثقيل وسفسطائي)
- في هذا السن تكون الحواس في قمة عنفوانها..واستثارتها..وأقل مثير يستخرج منها نتائج مدهشة..السجارة التي تدخنها في هذا السن قد تدوخك يوما بأكمله..ولكوب الماء بالسكر مذاق يفوق فطيرة عسل الآن..ومن هنا تستمد كل العلاقات والتجارب الأولي عذوبتها..ولهذا يحظي الماضي بكل هذا التبجيل والاحترام والحنين..وينسي الناس أن هذا لم يكن قاصرا علي اللذة وحدها..كان الألم أيضا كذلك..تعليق سخيف يقوله زميل يجعلنا ننهار..عجز عن شراء حذاء جديد يجعل الدنيا تتوقف..لاتوجد مواقف وسط..إما الفرح الطاغي..أو العذاب الجهنمي..لذا أنا لاأحن إلي الماضي..وأعرف أن الماضي ليس إلا أكذوبة رومانسية اخترعها شعراء حمقي..ورجال دين متخلفون عقليا..بالعقل وحده نستطيع أن نستعيد براءتنا ودهشتنا دون أن نفقد كل الخبرات العظيمة التي يمنحها لنا قطارالزمن..آن للزمن أن يكون صديقا..نقبله علي علاته..ونقبل عطاياه بفرح حقيقي..ولانأسي علي الثمن الذي يأخذه..مادمنا نعيش فلابد أن نتفهم قوانين اللعب..حبك لسميرة كان وهما أيضا..فمن المؤكد أنها لم تكن بالجمال الذي تصفها به..وحبك لها لم يكن حبا بقدر ماكان فرحا باكتشاف الحب..والخروج من قوقعة ذاتك إلي حدائق الآخرين..والحب الذي تشعر به نحو زوجتك ليس حبا أيضا..الأول كان رفضا للأمر الواقع..والثاني هو الرضي به ..والاستسلام له..
- وماهو الحب في وجهة نظرك؟؟
- هو الوقوف علي الحد الذي يفصل بين الاثنين..بين الواقع والحلم..بين الرفض والرضا..
- هذا عذاب
- وهل توجد متعة في غير العذاب..في تلك الحالة ستكون مشدود الأعصاب..واقفا علي صفيح ساخن وفي صدرك ريح الصبا..ولن يتسرب إليك الملل..
- تقصد أن الرضا بالواقع ممل..
- كحياة عبد
- هل أنت سيد بعذوبيتك؟
- حياة الأسياد أيضا مملة..وروتينية..مهما كان فيها من نعيم وترف..كالفرق بين الحلم والواقع..والجنون والعقل..والهواية والمهنة..والعشيقة والزوجة..والدين والعلم..والقرية والمدينة..خلق الأنسان ليتوتر..ويقلق..ويأرق..ويختار..ويتغير..لا ليستقر.. ويرتاح ..وينام..ويتجمد..وبهذا تظل الحيوية تجري في دمائه..
- وهل يحتمل أي إنسان أن يعيش بطريقتك؟؟ إلا ولديه رغبة مرضية في الانتحار..
- كما يقول الرسول(ص) آفة الجسم السلامة..إذن فالمرض هو الدواء ونحن لاندري
- كيف؟؟
- طالما أنت صحيح ومعافي ..فأنت خائف..ومخاوفك لاحدود لها..من رأي الناس فيك..أن يخصم المدير مبلغا من مرتبك..أن تخونك زوجتك..أن يغضب والدك من لامبالاتك به..من سقوط شعر رأسك..من وزنك الزائد..من العمر الذي يمضي دون أن تحقق أحلامك..من الأمراض التي قد تصيبك بسبب التدخين والحلويات وقلة ممارسة الرياضة..مخاوف لانهائية..تنتصب أمامك كالأشباح ليلا ونهارا..وحوارتك مع الناس هي غالبا حوارت معها..كل ماتريد هو أن تتخلص منها..ولكي تتخلص من شيء لابد أولا أن تعترف بوجوده..
- وبعد أن أعترف بوجودها
- ستتغير نظرتك إلي الحياة
- كيف؟
- ستسأل نفسك أنت تريد أن تمتلك أم تريد أن تكون؟
- وما الفرق؟
- الذي يريد أن يمتلك يؤجل متعته..وينتظرها من الخارج..أما الذي يريد أن يكون فهو منغمس من رأسه إلي أخمص قدميه في اللحظة الحاضرة..ومتعته يستمدها من الكنز المخبوء بداخله..
- لا أفهم
- البعض يعتقد أن هناك موضوعات قادرة علي إمتاعه..امرأة جميلة..مصيف..مكان سياحي..سيارة..ملابس..وهذا غير صحيح بالمرة..المتعة تكون في الاكتشاف..والتجربة..لا في الشيء الذي بذل كل هذا المجهود من أجل الوصول إليه..ولايلبث أن يغزوه الملل..ويشعر بالخواء..
- معني كلامك أن الحركة غير هامة..وما ينبغي أن يفعله كل إنسان.. أن يجلس علي السرير..ويقرأ..أويشاهد التلفاز..وانتهت القصة..
-هذا خطأ..ولكنك اقتربت من لب الوضوع..الجبال لاتتحرك ومع ذلك هي أكثر المخلوقات شموخا..وأكثرها وعيا أيضا..فهي التي رفضت حمل الأمانة..وحملها الإنسان..لأنه مغرور وجهول..معني كلامي أن تخدم الحركة السكون..لا الحركة بلا هدف ولا غاية..السكون يجعلك تري ماتريد بوضوح..وتأتي الحركة لتساعدك علي ذلك..كل عظماء التاريخ كانوا هكذا..بدأوا من نقطة ثابتة ومحددة..وظلوا يخدمونها إلي أن صاروا كالأوتاد في التاريخ..تأمل الناس جيدا..هم يتحركون في اتجاهات شتي..وفي النهاية لاشيء..الذين يعيشون في التاريخ فقط هم الذين عاشوا..ومن المؤكد أن بلايين آخرين عاشوا..ولكن مالذي يثبت؟؟..التاريخ ياصديقي لايفتح أبوابه لكل من هب ودب..من يعيشون فقط كما ينبغي للأنسان أن يعيش هم الذين يرحب بهم التاريخ..
ويجب أن تعلم أن التاريخ لايوجد به أشخاص شريرون..كما لايوجد به أشخاص طيبون..كل من دخلوا التاريخ أشخاص آمنوا بفكرة..وأخلصوا لها..وماتوا في سبيلها..أو كانوا علي استعداد أن يموتوا..
- هل تعني أن الحجاج ليس شخصا شريرا كما يقول المؤرخون
- هناك مؤرخون قالوا العكس تماما..ياعزيزي الملك فاروق كان محاطا بشخصيات فاسدة كثيرة..ولكن أحمد حسنين باشا هو الذي نعرفه..لا لأنه شرير..ولكن لأن سلوكه الشرير- في رأي الناس- كان نابعا من مبدأ آمن به..
- أفكارك غريبة؟
- ألم تمل من الأفكار العادية والسخيفة التي يتحفك بها الآخرون..ويعتقدون زورا وبهتانا أنهم يفكرون..
- دعني أكمل روايتي ..فكلامك جعلني أنسي تماما شخصياتها..ولابد أن النقاد سيقولون بأن حديثك خارج سياق الرواية..وأنه جعلها أقبح مماهي قبيحة..
(ملاحظة:هذا الفصل يمكن المرور عليه مرور الكرام دون أن تتأثر أحداث الرواية)
10
كان الدكتور لبيب طربوش في حوالي الخامسة والستين من عمره..كثير تجاعيد الوجه..أشيب الشعر..ضعيف البصر..ذا أذن حادة..عندما بدأت علاقتي به وأنا في الصف الأول الثانوي..وكان ساكنا بالإيجارفي غرفة علي سطوح منزل الشيخ خيرالله..وكان سليط اللسان..لاذع السخرية..ذا شهية مفتوحة دائما للأكل..والقهوة..والتدخين..ولم يحدث أبدا أن تكلم عن ماضيه..وإن ظهر في كلامه أنه موسوعة في علم النفس..وظلت تدور في رأسي أسئلة كثيرة بخصوص هذا الرجل اللغز..هل كان فعلا دكتورا في الجامعة؟؟..هل تزوج؟؟هل أنجب؟؟وأين تعيش أسرته الآن؟؟ماهو الماضي الذي يجعل أنسانا يهرب منه بهذا الشكل؟؟..ولكن أحدا غيري في العزبة لم يكن يسأل..اعتبره الجميع واحدا منها..بداية اقترابي منه عندما قال لي وهو يعد لي بنصف جنيه طعمية..
- حاول أن تقلل من العادة السرية
فأصبح وجهي كثمرة الطماطم من الخجل..كنت أعتقد أنني أفعل شيئا لايصح أن يفعله من هو في تديني والتزامي..وجف ريقي..وعجزت عن الرد..وتركته وجريت دون تفكير..
قال لي أبي وهو ينظر إلي يدي
- فين الطعمية؟
لم أرد
- الفلوس راحت منك يابن الهابلة..عليه العوض..نفطر جبنة قديمة..اغسل صحن..واطلع هات خرطة من الجرة من فوق..واوعي الصحن يضيع منك..
فقلت باقتضاب
- الفلوس ماضاعتش ولاحاجة
فقال وكان محبا للهزار ككل الحشاشين
- يبقي الطعمية اللي ضاعت..
- ولا الطعمية
- يبقي انت اللي ضعت..شوية واطلع ادور عليك..واقول عيل تايه ياولاد الحلال
- الدكتور لبيب طربوش..راجل قليل الأدب قوي..وسافل كمان..
فارتسمت علي وجهه ابتسامة من يفهم لبيب
- قال علي امك كلمة كده ولا كده
- دنا كنت شرحته
وقبل أن يرد علي ..فوجئت بالدكتور واقفا خلفي مستغرقا في القهقهة..وفي إحدي يديه قرطاس الطعمية..وفي اليد الأخري سجارة..وقال لأبي
- أبنك خام قوي ياحمدين ..وعايز يدردح
فقلت بوقاحة
- هو الواحد عشان يبقي مدردح ..يبقي سافل
ولم أكد أنتهي حتي كانت بلغة أبي تخترق أذني كالرصاصة..فجريت إلي غرفتي..والدموع تهطل من عيني..كانت المرة الأولي التي يضربني فيها أبي بكل تلك القسوة..كثيرا ما حكت لي أمي عن قسوته في شبابه..ولم أكن أصدق..كانت تقول
- أبوك اللي انت شايفه دلوقت مش ابوك بتاع زمان..موت اخوك السيد هو اللي هده..والمرحوم ياكبد امه كان ياخد منه كل طريحة وطريحة..يفضل راقد بسببها ع السرير أسبوع..وانا نفس الكلام..ولما كان المرحوم يشوفه وهو بيضربني..يقول له ماتضربش امي..واضربني بدلها يابا..الله يرحمه..كان زينة الشباب..وكان اللي يشوفه يقول ابن موت..وتجهش بالبكاء..
في هذا اليوم فكرت في الانتحار..وفكرت في الطفشان (الهروب)من الدار..وفكرت أخيرا في الوسائل التي تجعلني أبدو مدردحا في عين الناس..وتخليت عن أحلامي القديمة..وتمنيت أن أكون مثل يحيي الشرقاوي..
11
فكريا كنت أبتعد عن الشيخ خيرالله..ووجدانيا كنت أقترب منه أكثر..فهو الوحيد الذي يعاملني كرجل ناضج..ويحترم أفكاري..ويبوح لي بأدق أسراره..وكنت معجبا
بالبساطة التي يتعامل بها مع الحياة..فهولايعاني من أي نقص..وليس لديه أي طموحات كبيرة..ونادرا ماكنت أراه مهموما..أوساخطا من شيء ..أو علي شيء..وفي لحظات حزنه النادرة كان يذهب إلي حقلهم المزروع بالعنب..ويتناول الفأس..ويقوم بتسوية الجسور..وبعد أن يناله التعب والإرهاق..ينام في العشة التي تقع علي ذيل الأرض..والمظللة بشجرة صفصاف ضخمة..واقترابي منه جعلني أتجرأ وأسأله عن سر فشله الدراسي..فأجابني بشفافيته المعتادة
- عشان أنا عمري ماحبيت التعليم.. ولاالكتب.. ولا الامتحانات..وعمري ماحبيت حد قد الناس اللي مابتعرفش تقرا..ولا تكتب..الناس اللي ع الفطرة..وعمري ماتصورت نفسي ألبس قميص وبنطلون..وابقي أستاذ..الفلاحة هي أكتر مهنة حبيتها..طول الوقت وانت مع الشمس..والشجر..والمية..والطين..والطيور..ومع نفسي..وانا اتخلقت عشان اعيش مع الحاجات دي بس..ما باعرفش اتعامل مع الناس..لأني عمري ماعرفت ابقي كداب..ولاخبيث..وتاني حاجة باكره الحياة اللي قايمة ع المنافسة..الفلاح سيد نفسه..يصحي من النوم وقت ما يعوز..ويسرح الغيط وقت مايحب..وعمره مايجوع..ومابيخافش غير من اللي خلقه..جربت ابقي زي الناس وما عرفتش..والحمد لله إني ماعرفتش..أنا كده عايش ملك..ومثلي الأعلي في الحياة حديث سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام(من بات أمنا في سربه..معافي في بدنه..عنده قوت يومه..كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)..كل الكتب اللي عندي كانت من حظك..وكنت باشتريها عشان الدراسة..باكره القراية في أي كتاب غير كتاب الطبيعة اللي ربنا خلقها علي أكمل صورة..والإنسان بيحاول تشويهها بالأسفلت..والخرسانة..والطوب الأحمر..
كلامه هزني كثيرا..وقلت له وقد ازددت له حبا
- أنا قريت مقال في الأهرام عن فلاسفة بيقول كلام زي كلامك..
فسألني باهتمام عنهم فقلت
- جان جاك روسو..وثورو..ومانسن بتاع جماعة الهيبيز..
فقال بإعجاب
- ماشاء الله عليك يايوسف..
ثم استطرد
- لما تبقي كاتب كبير..أوعدك هاقرا كل كتبك..عشان انت كلامك حلو..وبيدخل القلب علي طول..
فاجأني كلامه..ونزل علي قلبي بردا وسلاما..إذ لم يخطر علي بالي قبل ذلك أن أحلم باحتراف الكتابة..كنت أتخيل الكتب ثمرة من ثمرات الطبيعة..لايوجد خلفها شخص من لحم ودم..بدأ قارئا..وانتهي كاتبا..ومفكرا..وفيلسوفا..وبدأ الحلم الكبير..الذي سرعان مانطوي تحت وطأة الثانوية العامة..والمذاكرة..والتنسيق..وكلية الطب..
12
كان أولاد القرية المجاورة يتعاملون معنا- نحن أولاد العزبة- بتعال شديد..وكأنهم يسبقوننا بقرون..وكان يدهشهم أن تنجب العزبة طالبا في وسامة وأناقة وتفوق يحيي الشرقاوي..ومثلي أيضا..لذا عذرت بعد ذلك أهل المدن في احتقارهم للفلاحين والصعايدة..وتصورهم أنهم شعب الله المختار..وسخريتهم من لهجتنا..وعودتني الأيام لمثل هذه السخافات..فسرعان ماتذوب..وتتلاشي..أمام مايملك الإنسان من مواهب..وصفاء نفس..وقدرة علي المرح والدعابة والسخرية من الذات..ضايقني أيضا لقبي الأخير (زرزور) لوقت طويل..وأندهش الآن من تفاهتي وحساسيتي المريضة..والسخرية من الذات دون انتقاص لها أسلوب تعلمته من بكر الباسوسي..الذي كان يسخر دائما من طول قامته..وقصرقامة أبيه..وبقية أخوته..فيقول
- كل طويل هابيل ماتقالتش من فراغ..الهوا بيضرب في الدماغ خبط لزق من غير ما يقابل أي مصدات..عارفين قابيل قتل هابيل ليه..عشان هابيل أكيد كان طويل وهابيل..
- لما بامشي جنب ابويا بنبقي عاملين زي رقم عشرة
- أنا رفعت امبارح السكينة علي امي..وقلتلها لازم تعترفي مين ابويا وإلا
- الناس الطويلة في العزبة بافضل ابحلق في عينهم عشان اشوف الدم هيحن ولا لأ..
وفي يوم سألنا المدرس عن طموح كل شخص فكانت إجابته أن يكون قصيرا..
ويعرف من هو أبوه..هكذا كان يتكلم أمام البنات في الفصل بمنتهي الأريحية..لذا فقد كان محبوبا من الجميع..وكان كل أولاد القرية يأتون العزبة خصيصا للجلوس معه..للضحك ..ومعرفة الأسرار العظيمة التي يدلي بها عن البلوغ..والاحتلام ..والبنات..والحب ..وبخبث محبب كان يلعب بأعصاب الزملاء فيقول
- عارف ياصلاح ..واحدة زميلتنا في الفصل بتموت فيك..وعندها استعداد تشم النسيم من تحت باطك..
- مين ؟وعرفت ازاي؟
- انت عبيط ياد..طول ما نا قاعد في الفصل..عيني بتبقي جايبة بفضل الله كل البنات..وعارف كل واحدة عينها مابتنزلش من علي مين..
فيأكله الفضول
- مين ؟؟
- مين كده حاف..من غير قرطاس لب اسمر..أوسوداني..
وكانوا يعرفون أنه يسرح بهم ..ويأكل بعقولهم حلاوة..ولكنهم راضون..
وتعلمت منه كيف أستولي علي قلوب الناس..أن تجاملهم بالكذب..ولاتذكر لهم إلامايدخل السرور علي أنفسهم..تناديهم ب (ياباشا..ياوزير..يامستشار..ياقبطان..يازعيم..ياكابتن..يابرنس الليالي..ياهرم)
وبمجرد أن تصير هذه الألقاب مستهلكة لابد من البحث عن لقب جديد..أن تعلق علي ملابسهم الجديدة بإعجاب شديد..وتسألهم عن ثمنها..ورغبتك في شراء مثلها..أن تحترم خبراتهم الساذجة..قرأت ذات مرة أن الإنسان العظيم هو الذي يكتشف العظمة في كل إنسان يقابله..وصدقني لايخلو إنسان من عظمة..
13
كان الصوات يملأ عزبتنا..صحوت من نوم القيلولة مفزوعا..وخرجت إلي الشارع..رجال واقفون بالقميص واللباس..ونساء يحاولن أن يسترن أجسامهن العارية..شب حريق في سطوح أحد المنازل..وكان هذا معتادا جدا في تلك الأيام..ولكنه هذه المرة كان كارثة..احترقت بعض الحمامات..ولأن جميع السطوح مغطاة بالقش..والحطب..وأقراص روث البهائم الجافة (يستخدمها الفلاحون لتخصيب التربة..وإشعال الأفران)..فقد شمل الحريق بيوت العزبة جميعها..وجاءت عربات المطافئ من المركز..ولم تهدأ النيران إلا علي غروب الشمس..واعتبر الناس أن هذا غضب من الله..واجتمعوا طوال الليل حول مقام سيدي العراقي ليشفع لهم عند المنتقم الجبار..وقال أبي منفعلا وهو يشد نفسا عميقا من الجوزة العجيبة (عود من الغاب وعلبة بيروسول فارغة):
اللي حصل عشان الخبص كتر في العزبة
فسألته مستفسرا
يعني أيه الخبص يابا؟؟
فقال
- الحرام
14
كان الحاج العبد البشلاوي أغني أغنياء العزبة..وكان مصدر ثروته التجارة في الحبوب والأسمدة وكل ما يخص الفلاحين..ولكنه كان بخيلا جدا..ويرتدي ملابس أكثر تواضعا من التي يرتديها بقية الناس..ولاتشتري زوجته إلا الشراوي من السوق (فاكهة وخضروات من الدرجة الثالثة) وأسأل أمي مستغربا
- ليه؟
فتقول
- الدنيا يايوسف مابتهونش إلا علي الفقير
..وماربيتك ياقرش إلا من جوعك ياكرش
هذا الرجل حرمه الله من إنجاب الذكور..وكان مصرا علي إنجابه..حتي أنجب عشر إناث ..ونذر إن أنجب ذكرا أن يتبرع بجاموسة للسيد أحمد البدوي..وقد كان في المرة الحادية عشر..ولم يوف بالنذر ..وكان من عادته أن يسحب جاموسته ليحميها في الترعة التي تقع علي ناصية العزبة..وذات مرة اختفت الجاموسة..كأن قاع الترعة انشق وبلعها..وسافر إلي طنطا ليعتذر للسيد..وفوجيء بجاموسته هناك..وقال له السيد وهو يطوف حول ضريحه
- حقي مابيروحش ياعبد..
عاد من هذه الزيارة..وهو إنسان غير الإنسان..ذهب لأداء فريضة الحاج..وأصبح كريما كرما لاحد له..ويقرض الناس ولا ينتظر ردا..حتي أوشكت أمواله علي النفاد..وسارت زوجته حسنية في الشوارع تهذي وتقول
- الحقوني ياهوه..الراجل كبر وخرف..ونسي إن وراه كوم لحم علي وش جواز..
وتحول منزله إلي جحيم ..خناقات مستمرة بينه وبين زوجته وبناته..وكان يسبها سبابا يمس شرفها ..وترد عليه زوجته وهي منهارة
- اختشي ياراجل..عشان بناتك ..يارب أنا عملت أيه في دنيتي عشان أشوف دا كله..أيام زمان كنت صابرة ع المر اللي أنا فيه..واقول معلش يابت عشان خاطر بناتك..استحملي..ودلوقت يرضيك يارب اللي انت بتعمله فيا..
وكانت أمي تقول لي عن خالتي حسنية
- أميرة..وتتحط ع الجرح يبرد..وما حدش يقصدها في حاجة وتقول لأ أبدا..لكن بختها مايل زي حالاتي..
15
لم تستطع أسرة الشيخ خيرالله الوقوف أمام رغبته..وتزوج من زينات..وكان الفرح صامتا..وأقرب إلي الخروج من الدنيا منه إلي الدخول فيها..وأطلقت الحاجة أصيلة – والدة الشيخ- زغرودة باكية ويتيمة..وبعد شهر واحد انقطعت دورة زينات..وتوحمت علي الفول النابت..وكان الشيخ في قمة فرحته..وجاءه خطاب التعيين من وزارة الأوقاف..وصار إماما وخطيبا لمسجد العراقي..وعشق الناس خطبته التي لم تكن تتعدي الخمس دقائق..ثم أنجبت زوجته توأمين سماهما حسن وحسين..وذاع صيته في القرية المجاورة.. فصاروا يستدعونه في سرادقات أمواتهم..ليقرأ ماتيسر من القرآن بصوته العذب الشجي..وكان يأخذ مايعطونه من مال ويضعه في جيبه دون أن يعرف كم..إلي هذه الفترة من أوائل التسعينات كانت الحياة تسير بخطوات هادئة وعاقلة..وسرعان ماتغير الوضع تماما..وأصبح الجنون واللهاث سيدا الموقف في عزبة العراقي..
16
الدكتور لبيب طربوش كان له تأثير كبير علي شخصيتي..بعد الموقف الذي حكيته لكم أصبحت أكثر قدرة علي مواجهة ذاتي..واستباطنها..واستفدت كثيرا من الحديث معه..وكان هذا يحدث وهو يرمي بأقراص الطعمية في الزيت الذي لم يكن يغيره إلا كل شهر..وكانت آراؤه مزيجا من التناقضات..فتارة يقول
- أهل العزبة متخلفون..بدلا من أن يواجهوا مشاكلهم ..ويضعوا أيديهم علي الأسباب الحقيقية لما هم فيه..يرمونها علي أكتاف سيدك العراقي ..ويتصورنه قادرا علي حل كل مشاكلهم..لن تتقدم العزبة إلا بهدم هذا المقام..
وتارة يقول
- الخرافة يايوسف موجودة في كل العالم..نحن هنا نقوم بحفلات الزار..وفي أوربا يدخلون الديسكو..وهي عبارة عن حركات هستيرية تشنجية لتفريغ الطاقة المتراكمة في الجسد..بعدها يشعر بالانطلاق..وهي عملية طبيعية جدا..وتشبه تنجيد المراتب..وتخليص القطن من ذرات التراب المتراكمة فيه مع الزمن..لايستطيع أن يعيش الإنسان بدون شيء يطوف ويدور حوله..وإن لم يجد ذلك لدار حول نفسه..الحياة عبارة عن دورة..ودائرة..ودار..ودير..ودور..والدوران ببطء يجعل الإنسان يتعفن..والدوران بسرعة يجعل الإنسان يدوخ ويترنح ويسقط..وكل الأشياء الجميلة في الحياة مدورة وبيضاوية..الشمس..والقمر في اكتماله..والنهد في نضوجه..والمستديرة الساحرة..والقباب ..وعندما يتوقف الإنسان عن الدوران سيبحث عن شيء يجعل رأسه تدور..كالمخدرات مثلا..
ومرة يقول
- علم النفس علم متخلف..عقد الحياة أكثر مماهي معقدة..في الماضي كانت الناس تعتبر الطالب الفاشل بليدا..أما اليوم فهو معقد نفسيا..وتبدأ رحلة العلاج النفسي السقيم..واليوم كل إنسان يعتبر غيره مجنونا وسايكو لمجرد أنه يتعامل مع الحياة بشكل يختلف عنه..من لا يدخن يعتبر المدخنين مرضي..ومن يحب الشاي يعتبر من يحبون الحلبة مرضي..وهكذا..
واخري يقول
- أجمل العلوم هو علم النفس..فهو يجعلك قادرا علي الغوص في نفوس الآخرين..وتفسير سلوكياتهم الغامضة..ومعرفة دوافعهم المكبوتة..وهذا يجعلك قادرا علي ترويضهم..وطيهم تحت جناحك..
ومرة يقول
- أنا أرفض الدين بعقلي ..وأقبله بوجداني
ومرة واجهته بآرائه المتناقضة فقال لي
- قمة الصدق مع الذات أن تخرج من المسجد وتتوجه إلي كباريه..لأنك تحترم الفجوروالتقوي اللذين أودعهما الله فيك..ولهذا كان يقول المصريون القدماء- وهم أقدر من فهم الحياة- ساعة لقلبك وساعة لربك..بمعني ساعة لفجورك..وساعة لتقواك..ولكن رجال الدين الأغبياء – الذين شوهتهم أفكارالصحراء- يهاجمون تلك الحكمة الأزلية..ولايفهمون مافيها من إعجازنفسي..العلاقة بين الفجور والتقوي ليست صراعا وإنما هي علاقة تعاونية..هدفها الوصول إلي السعادة الممكنة..لا إلي السعادة المستحيلة..
وأسأله
- مارأيك في يحيي الشرقاوي؟؟
فيجيب
- شخص غير ناضج نفسيا..يبالغ في شأن نفسه..ويحتقر العزبة..وناسها..وهو احتقار موجه إلي ذاته..أي أن الصراعات في داخله جحيم مستعر..ويتصور أن النعيم في حياة الأجانب..والأغنياء..وسيظل يعاني ويحترق حتي يصل إلي مايصبو إليه..نعم قد يتحطم الحاجز المادي الذي يفصله عنهم ..ولكن لن يختفي الحاجز النفسي..ولن ينتهي عذابه..
- والحل ؟؟
- كما قلت لك أن يتصالح مع نفسه..ويحل الوئام والسلام والتطبيع بين رغباته المتناقضة محل الصراع والتطاحن..
- لا أعتقد يادكتور لبيب أنه يعاني من أي صراعات..هو يعرف هدفه بوضوح..
- هذا مايبدو لك..يحيي واحد من الناس الذين يستمدون أهميتهم من الاختلاف والتميز..أن يكون أنيقا رشيقا متفوقا وسط مجموعة من الأفراد القذرين الأغبياء..في الأوساط الراقية لن يختلف عنهم كثيرا في المظهر المادي..بل سيكون أقل منهم..ولن يستطيع مجاراتهم..وسيكون الصراع نفسيا بالأساس..وهو ليس شخصا عبقريا ليكتشف نفسه علي حقيقتها..أو يفهم جوهر الأمور..
- لقد كنت أعتبره مثلي الأعلي
- هويستحق أن يكون كذلك في تلك المرحلة..أناقة ..ورشاقة..ولباقة..ودردحة..وتفوق..هذا ماينبغي أن يكون عليه أي مراهق..علي قدر ما يملك من إمكانات..أن يخرج من ذاته ليلتقي بذوات الآخرين..ويكتشف نفسه ..ونقاط قوته..وضعفه ..من خلال عيونهم ..وألسنتهم..
وسألته ذات مرة عن عمره فقال
- سؤال غبي..اسأل أي فلاح عن عمره..فلن يعرف..يولد الإنسان..ويموت..وبينهما مسافة..فيها الكثير من المحطات..الحب..الصداقة..السفر..المغامرة.. الزواج ..الأبوة..القراءة..الرياضة..الكثير من المحطات..مادخل السنين بهذه الأشياء التي تستطيع أن تفعلها في كل عمر..أتمني أن يمسحوا خانة تاريخ الميلاد من البطاقة..لاخانة الديانة فقط..رأيي ألا توجد بطاقة أصلا..
وسألته عن الشيخ خيرالله
- رجل تستحي منه الملائكة..
- ورأيك في أبي
- رجل تستحي منه الشياطين..لا أعرف كيف أنجبك..يخلق من ظهر الفاسد عالم..ومن ظهر العالم فاسد..
17
رغم أن أبي لايصلي إلا أنه اعتبرتوقفي عن الصلاة جريمة لاتغتفر..وكنت راجعا من إحدي سهراتي مع بكر الباسوسي في وقت متأخر..فإذا به مازال مستيقظا ..كان يدخن الجوزة في وسط الدار مستندا إلي الكنبة وفاردا ساقية المصابتين بالدوالي..وفاجأني قائلا
- أهلا ياسي يوسف..إنت خلاص عرفت طريق الشيطان بدري بدري..الناس ماعادوش بيشوفوك في الجامع ليه؟؟
- يعني..باصلي في جوامع تانية في البلد..
- ونمت مع نسوان ولا لسة..يابن سعدية..
دخلت غرفتي..ونمت..كنت قد تعودت علي أسلوبه..الذي لاأعرف هزاره من جده..
وفوجئت به قد علق في صباح اليوم التالي صليبا خشبيا علي باب غرفتي ..وحذرني من رفعه..وسمي غرفتي (الكنيسة)..فيقول لأمي
- روحي هاتي كذا من الكنيسة..
ومن الغريب أنه لم يكن يقتنع بغير الأطباء الأقباط..لايكشف إلا عندهم..وذات مرة قال ضاحكا للدكتور سامي فرنسيس- طبيب الحميات الشهيرفي المدينة -:
- مش تباركلي يادكتور سامي..بقي عندنا كنيسة في الدار..والقسيس بتاعها المحروس ابني..
فضحك الرجل..ولم يعلق..ضحكة من لم يفهم الدعابة..ولايحاول أن يفهمها..وعذرته فلم يكن لديه وقت للثرثرة مع زبائنه خارج الكشف..
18
كان البيت الذي اشتراه الحاج أبوالقاسم الشرقاوي في القرية المجاورة شديد الفخامة..فهو من ثلاثة طوابق..ومدهون بلون طوبي ساحر..وفيه بلكونات خلابة..وتحيط به جنينة صغيرة محاطة بسور قصير تتدلي أشجار الياسمين خارجه..كان يملكه مستشار في محكمة الاستئناف بالمدينة..وكان يكتنفه الجلال والغموض..فقلما كان يري أحد المستشارأو أحد أولاده..إلي أن باعه..وانتقل إلي مدينة المنصورة..واعتدت الذهاب مع يحيي إليه..وكنت أتامل جدرانه..وسيراميكه..وصالاته الواسعة متمنيا أن أمتلك مثله ذات يوم..وكم جلست مع يحيي في شرفاته غارقا معه في أحلامه التي كانت نسخة طبق الأصل من أحلامي..واعتبرت كلام الدكتورلبيب مجرد كلام شخص عاجز..وفاشل..وجماله لايتعدي المستوي النظري..كان يحيي يحدثني عن القاهرة..وشوارعها الصاخبة..وزميلاته الجريئات المتحررات..فيسيل لعابي..وأتمني أن ينتهي كابوس الحاضر..لأحيا في مستطيل المستقبل الأخضر..مستمتعا بكل ماهومستدير..وساحر..
19
كان يوم الحاج أبوالقاسم الشرقاوي الأخير عذابا لاينتهي..كان نائما في أمان الله..واستيقظ فجأة ليتقيأ دما داكنا يشبه القهوة..وكان يحيي في القاهرة..ولم يكن أحد في العزبة لديه تلفون أرضي..وقعت الحاجة أصيلة في حيص بيص..وقالت في نفسها-وهي تضع الطرحة علي رأسها متوجهة إلي العزبة- بأنها كانت تشعر أنهم لن يسلموا من العين التي فلقت الحجر..كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا..وكان الشيخ يغط في نوم عميق..ووصلت الحاجة إلي المنزل القديم..خبطت علي الباب خبطات متوالية عنيفة..استيقظ الشيخ مفزوعا..واستيقظت زينات..فتح الباب
- الحق ابوك ياشيخ خيرالله..ابوك بيموت..
وضع قدميه في مداسه..وخليكي انتي يام سمير مع الولاد..خير إن شاء الله..وتوجه- وهو بجلباب نومه- إلي بيت الزعوب الذي يعمل علي سيارة ميكروباص..لايستطيع أحد أن يتأخر عن خدمة الشيخ...له في كل بيت واجب..وصلوا المنزل..دخلوا الغرفة..للمرة الأولي يدخل الشيخ منزل أبيه الجديد..باسم الله ..ماشاءالله..هل كان مخطئا في عدم المجيء إليه ..أسئلة في غير وقتها..كان الأب مطروحا علي الأرض..وغارقا في بركة من الدماء..السيارة تسير بسرعة جنونية..والله فيك الخير يازعوب يابني ..ربنا يبارلك في شبابك ..ماتقوليش كده ياحاجة إحنا أهل..مستشفي القرية لايوجد بها عناية مركزة..ولاوحدة مناظير..والحل؟؟..طواريء المنصورة..الداخل مفقود..والخارج مولود..تلك هي سمعتها المنتشرة..ولكن لابد مماليس منه بد..الطواريء لاتعمل في هذه الأيام..والحل؟؟..مستشفي سندوب الدولي..وأين تقع؟..اسألوا..وعندما وصلوا..فتح الأمن البوابات..دخلت السيارة..جاء التروللي..وجاء طبيب صغيرتبدو عليه السعادة بالبالطو الأبيض الذي يرتديه..هل يستطيع طبيب في هذا السن أن يتعامل مع حالة بتلك الخطورة..قالت الأم في نفسها..وضع الطبيب الشاب أصابعه علي النبض..غيرمسموع..أخرج من جيب البالطو ولاعة..فحص بؤبؤالعينين..كان متسعا في ثبات..قال وهو يصطنع الحزن والتعاطف..البقاء لله..كتم الشيخ فم الأم بباطن كفه..كيف يمكن إبلاغ يحيي بالنبأ..وهو لم يترك هاتف المدينة الجامعية..لابد من السفر..السفر إلي القاهرة..إلي المدينة التي يخاف منها حد الرعب..أوقات عصيبة بخيل للإنسان أن الحياة ستتوقف عندها..ولكنها تنتهي..ولايبقي منها غير ذكريات باهتة..باهتة جدا جدا..
20
العزبة تتغير..وملامحها القديمة تختفي..وتنمحي..الشباب يسافرون إلي فرنسا..ويعودون بأموال طائلة..تختفي الدور الطين واحدة تلو أخري..ويحل مكانها دور بالخرسانة..عالية الطوابق..وتدخل أطباق الدش..والتلفزيونات الملونة..والأفران الغاز..والتلفونات الأرضية..والصرف الصحي..ويتحول مقام سيدي العراقي إلي أثر..خطوات محفورة علي الرمل تقول بأن هذا المكان مشي فيه ناس..رماد يخبرك بنيران كانت مشتعلة..ولم يعد إلا منزل الشيخ خيرالله..حقير بين أشراف..وقزم بين عمالقة..وباعت زينات منزلها بمبلغ معقول..ووضعته وديعة في البنك لأولادها من زوجها الأول ..وطلبت من الشيخ أن يطالب بميراثه..كان الحسن والحسين يكبران..وفلوس الوظيفة..وأرض العنب لم تعد تكفي أي شيء..الأسعار في جنون..وصار الناس يتكلمون بالآلاف..وعشرات الآلاف..بل ومئات الآلاف أيضا..فلان اشتري عشرة فدادين..وعلان اشتري عمارة..وترتان باع أرضه ليبني منزله..انقرضت كل أفعال اللغة..ولم يبق سوي اشتري وباع..وبني ..وسافر..وانقرضت نظرات الحب..والرحمة..والشفقة..والمواساة..ولم تبق سوي نظرات الحقد..والطموح..والتطلع..والاستعلاء..وكانت المقاومة جنونا..وهبلا..وعبطا..وعجزا..وتخلفا عن الركب..ولم يعد للعراقي مكان في العزبة..ولا للحلاج..ومحيي الدين ابن عربي..مكان في القلوب..سوي في قلب الشيخ خير الله..واضطر أن يتنازل..ويطاطي..ويطالب بميراثه..وقالت الأم بأن الأب وضع كل مايملك في المنزل..ولاتوجد فلوس سائلة..ويحيي مازال يبحث عن عمل..واجتمع أولاد الحلال..وقالوا له نصيبك البيت القديم..وفدان الأرض..وكان مستحيلا أن يبيع الأرض..ليبني المنزل..والحل؟؟..فليكن السفر إلي فرنسا..ماذا سيعمل هناك؟؟..لايدري..الأهم أن يثبت أنه غير متقاعس..وكان المطلوب مبلغا هائلا..قالت زينات ..الحل أن تبيع الأرض..وعندما تعود سنشتري بدلا من الفدان عشرة..وأراد أن يقول لها إن الموضوع كمن يبيع ابنه- الذي من لحمه ودمه- مقابل عشرة أولاد أغراب..الموضوع ليس موضوع مساحة..ولكن هذه الأرض بالذات قطعة من قلبي..كالبيت تماما..لكل خطوة فيه معني..ولكل ركن قداسة..ولكل عرق خشب جلال..البيت ليس جدرانا وسقفا..البيت سكن..وسكينة..واعتكاف...ومحراب..وقبلة..البيت جغرافيا لها تاريخ..وحضارة..وعبق..ومشيمة تربطني بالأجداد..وستربط الأحفاد بي..كان يريد أن يقول..ولم يعرف كيف يقول..ماأصعب أن تعبر عن مشاعرك..سيظل التعبير الجامع المانع مستعصيا عليك..حتي وإن امتلكت ناصية اللغة..وناصية الصدق..ومن يفهم في هذا الزمن لغة أخري غير لغة البيع والشراء..من يفهم قلبا يهتف (خلي نفسك وتعالي)..وتم ماأشارت به زينات..قال لنفسه من الظلم أن أفرض أسلوب حياتي علي أولادي..من حقهم أن يعيشوا في بيوت كالتي يسكنها زملاؤهم..حتي وإن كان الثمن ضياعي..
21
أمنا في صلاة الفجر..كدت أن أبكي وهو يضرع إلي الله ونحن نردد وراءه(آمين)..ولأكثر من نصف الساعة جلسنا نتناجي علي كروايتة خشبية تحت شجرة توت في المقهي المجاور للمسجد..والمطل علي النيل..بينما الندي يتساقط علي جلبابينا..وهاهو الشروق يعزف مارش الرحيل..من المؤسف جدا أن يرتبط موعد إقلاع الطائرات بتلك اللحظة المقدسة..يأتي صاحب المقهي بجلبابه المخروم في مواضع عدة..وعلي وجهه بقايا نعاس..يلقي علينا تحية الصباح..يرد الشيخ خيرالله بصوته المفعم بالطيبة والحيوية..يفتح الرجل العجوز مقهاه..ويرش الماء أمامها..يصب قليلا من الكيروسين علي صفيحة ممتلئة بالقوالح..تتصاعد ألسنة اللهب..وبعد دقائق معدودة يجيء حاملا صينية عليها كوبا ينسون..نحتسيهما ببطء وتلذذ..نعود..أقف معه أمام داره قليلا..ينظر في ساعته الكاسيو ..أحتضن وجهه بنظراتي..وأحتضن داره.. يشد علي يدي بيديه المشعرتين..يحتضنني ..ويطبطب علي كتفي بقوة حانية..أحاول أن أتماسك..أتركه ..وأعود إلي منزلنا الجديد بخطوات مثقلة بالحزن الشفيف..متخيلا بشاعة شارعنا وهو يخلو من داره الطينية القديمة..ومن أذان الشيخ خيرالله.. ومن مقام سيدي العراقي..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق