غواية
هي غير قابلة للغواية للأسف..لا لأنها محترمة والعياذ بالله..ولكن لأنها غبية..غباء يعميها عن رؤية جسدها الذي يتفجر بالفتنة ..والإثارة..ويجعلها عاجزة عن اصطياد عريس..والبنت التي تعيش في مدينة كبيرة كالقاهرة تختلف عن تلك التي تعيش في الأرياف..في القرية زواج البنت لايعتمد عليها..وإنما علي سمعة أهلها..وما يمتلكون من أطيان(جمع طين بمعني الأرض)..وعلي شطارة أمها أيضا..الأم هي التي تفكر..وتخطط..وترمي الشباك..أما في القاهرة..فالمسئولية كلها تقع علي عاتق البنت..واصطياد عريس ليس بالأمر السهل..إنه فن..يحتاج إلي ذكاء..وخبث..ودهاء..فالرجل لايتزوج امرأة سهلة..يستطيع الحصول عليها متي يشاء..وبدون تكاليف..اللهم إلا ترديد الإسطوانة المشروخة التي كان يهمس بها آدم في أذن حواء..وهو أيضا لا يحب البنت القفلة..التي تخلو عيناها من الشقاوة..والدلع..وعاجزة عن اللعب بمشاعره..وأعصابه (بالتقل ..والبغددة..ومال واحتجب..وادعي الغضب)..وهاهو العمر يمضي..وزميلاتها الصايعات تزوجن وأنجبن..وهي مازالت جالسة- كالخيبة التقيلة والعمل الردي- بجوارأمها..ولا يبدو في عينيها أثر اشتهاء لرجل..تتعامل مع كل زملاء العمل كأنهم إخوتها فعلا..وعندما أتعمد الاحتكاك-في غرفة العمليات- بمؤخرتها أو نهديها يخيل إليها أن ذلك بدون أي قصد..هل توجد امرأة بكل هذه السذاجة والطيبة؟؟..نعم..نجوي عمران..ممرضة نتاية في السادسة والعشرين من عمرها.. أما أنا فشيطان رجيم..أفكر في الجنس أربعة وعشرين ساعة متواصلة..وكل ما يهمني في هذه الحياة أن أضاجع أكبر عدد ممكن من النساء..
وبدأت بالتلميح مع نجوي..لافائدة..وانتهيت بالتصريح..لاحياة لمن تنادي..وبقي حل أخير ووحيد..أن أغتصبها..ولم يكن صعبا..فما أكثر الدهاليز..والأركان المهجورة في المستشفي..والليل طويل..وهي لاتستطيع أن ترفض طلبا لي..بالذات لي..لأنني أتحدث معها باستمرار..وأهتم بشئونها..وأتصل بها في الهاتف من حين لآخر..والعبيطة لا تفهم..تعتقد أنني أعاملها كأختي الصغيرة..وتقول لي بطيبة لامتناهية:
- إنت طيب قوي ياد.صلاح..ومش عارفة ليه البنات بيقولوا عنك كلام وحش..وبيحذروني من القعدة معاك..دانت طيب قوي..ودمك خفيف موت..
كلام يذيب قلب الحجر..ولكن رغبتي فيها كانت أقوي من أي عاطفة إنسانية طيبة..وكان اليوم المشهود..ليلة هادئة تماما..وعدد الموجودين في المستشفي لايتجاوز عدد أصابع اليدين والقدمين..كانت الأيام الأخيرة في ثورة 25 يناير..وكان هناك حظر تجول..والجميع خائف من مغادرة منزله..وكانت في تلك الليلة أجمل من أي يوم مضي..أما بقية الزملاء فكانوا مرزوعين أمام التلفاز في الدور الخامس في انتظار خطبة السيد الرئيس(الخطبة التي بكي لها نصف الشعب المصري بصدق..حين قال الرجل بأنه لن يموت إلا علي تراب هذا الوطن..الذي شارك في أكثر من حرب دفاعا عنه..)..بتناكة واستعلاء قلت
- نجوي ..أنت المسئولة عن العمليات النهاردة
- أيوة..يادكتور صلاح..عايز حاجة..
- لا دكتور صلاح ولا زفت..العمليات مفتوحة ياهانم..والقطط عمالة ترمح فيها..
فكرت للحظة ثم قالت معتذرة
- أنا آسفة يادكتور..أنا كنت باجيب حاجة ونسيت أقفلها
أنا الذي فتحت العمليات ..وكما هو متوقع..ذهبت إلي هناك..ذهبت خلفها..دخلت لتطرد القطط..دخلت ودفعت الباب خلفي بقوة..ومازال وجهي يرتدي قناع الاستياء..هي الآن في غرفة الملابس..غرفة في اتساع حمام بلدي قديم..تبادلنا نظرة خاطفة..وهذه المرة كانت نظرتها مختلفة..فيها فهم..وفيها رغبة..وفيها خوف..
انقضضت عليها كاتما فمها..وظللت أقبل في خدودها..ورقبتها..وشعرها الحريري (بعدما سقط الإيشارب عنه)..وبعد مقاومة واهنة..وضعيفة..استسلمت..وبادلتني القبلات بشراسة غير متوقعة..وفي غمضة عين كانت نقطة دم تسيل علي فخذيها..
ولم يكن لدينا وقت لكي نفكر..والتوقف كان مستحيلا..ذئبان ينهشان في بعضهما البعض..وارتعاش..وتوتر..وفوران..ولهاث..وصرخات مكتومة..ثم هدوء..وتتكرر الدورة السابقة بوحشية أقل..ثم بكاء..أخذت تبكي..ولا تعرف هل هو بكاء فرح..أم بكاء حزن..أم بكاء ندم..كان بكاء جامعا مانعا..احتوي كل ما في نفس أي إنسان من مشاعر..وانفعالات..وكانت كلها صادقة..وتغيرت نجوي بعد تلك الليلة تغيرا جذريا..
أسبوع كامل وهي مخطوفة..وصامتة..ومنطوية علي نفسها..وتتهرب من نظراتي..
في الأسبوع التالي أشرق وجهها..والتمعت عيناها بالذكاء والفرح..وفوجئت بها تتصل بي وتكلمني بانطلاق ومرح..وتتكلم معي في كل شيء إلا فيما حدث..وأحسست أنها بدأت تعاملني معاملة امرأة لزوجها..أحبتني بجنون..وأنا بالتأكيد لاأستحق ذلك..أنا أعرف نفسي..ولمسني ما تملكه تلك البنت من مشاعر نبيلة فعلا..وندمت علي ماكان مني..ثم قلت لنفسي ولم الندم؟..كانت قبلي مجرد جسد جميل..وبفضلي أصبحت أنثي ذكية وقوية..وقادرة أن تختارطريق الاحترام بإرادة ووعي..وبمنتهي العقل عرفت أن ارتباطي بها مستحيل..وعن طريق طبيب نسا زميل في مستشفي جامعي..قام بعمل عملية لها..وأصبحت صاغا سليما مرة أخري..واليوم هو موعد خطبتها علي مراجع الحسابات في المستشفي..ألف مبروك يانوجة..وربنا يتمم بخير..
الاثنين، 25 أبريل 2011
قصة( حصوة الحاج بدير)
حصوة الحاج بدير
هذه القصة ليست نكتة..فعالم الطب – علي عكس ما يتصور الكثيرون- مليء بالمضحكات أكثر من المبكيات..وخصوصا في بلدنا المتخلف..حيث يصير المرض وسيلة لاكتساب تعاطف الآخرين..المادي والمعنوي معا..وطريقة – رغم قدمها- مبتكرة للهروب من الضغوط..فتاة تريد الهروب من عريس مفروض عليها من قبل الأهل..زوجة تريد الهروب من مضاجعة زوج لاتحبه..شاب يريد الهروب من تأدية الخدمة العسكرية ( في بعض الأحيان يصل الأمر إلي قطع إصبع من أصابع اليد!!)..الأمثلة كثيرة..ولكن حصر الأمثلة ليس موضوعنا..هي قصة واحدة أردت أن أحكيها لكم..رجل في الستين من عمره..جاء المستشفي واضعا يده علي جانبه الأيسر..وتأوهاته كانت استعراضية أكثر منها حقيقية..خبرتي المتواضعة في الطب علمتني أنه كلما ازدادت صرخات المريض كلما كان مرضه تافها..لا يخيفني أكثر من الألم الصامت..الساهي ..الذي يخفي تحته دواهي لايعلمها إلا الله..تماما كالأنهار التي ليس يعلوها موج..عميقة ومخيفة..وبدون كشف ..شخص طبيب الاستقبال وجعه مغصا كلويا..وكتب له علي التذكرة:- حقنة فولتارين عضل..هنا هاج الرجل..وماج.. ..وهاج الأهل..بدون كشف ..تكتب لي علاجا.. كيف ؟؟..أنت طبيب مهمل ..وفاسد الذمة ..نعم ..وصل الأمر إلي هذا الحد من السفالة..الأعداد الغفيرة في استقبال المتسشفيات الحكومية تجعل من الكشف علي كل مريض عملا انتحاريا..والتذكرة المجانية تجعل العاطل مع الباطل يجيء..نحن شعب نقدس أبو بلاش..ولما كنت المدير المناوب وجراح المسالك في تلك النوبتجية فقد تم استدعائي..
في مثل هذه المواقف أفضل أمتصاص غضب المريض وأهله.. هو -لاشك -لديه حق في غضبه.. والمشاكل التي يعانيها الأطباء- من عمل شاق وضاغط مقابل مرتب هزيل- لا ينبغي أن تظهر بحال من الأحوال علي المريض..قمت بالكشف عليه..وعملت له أشعة تلفزيونية علي البطن والحوض..تبين وجود حصوة في الحالب الأيسر..حصوة كبيرة تستدعي إجراء عملية جراحية..هذا أربكني كثيرا..فألم الرجل لم يكن ألما حقيقيا..ومع ذلك يوجد سبب خطير خلفه..هذا علمني ألا أتعامل مع الطب بأحاسيسي..الطب علم..والعلم لابد أن يقوم علي حقائق موضوعية..الأشعات والتحاليل أصدق أنباء من الأحاسيس..ولكنني مازلت غير قادر علي تنحيتها جانبا..تذكرت كتاب زكي نجيب محمود عن الشرق الفنان ..الشرق الذي يهتم بالفن والدين- وكلاهما ذو منبع واحد- أكثر من اهتمامه بالعلم المجرد القائم علي الملاحظة والتجربة والاستقراء..توقعت -بعد ذكر كلمة العملية- أن يظهر الجزع والخوف علي وجه المريض..وخاب توقعي..الرجل كان في غاية السرور والحبور..وكأن آلامه قد تلاشت فجأة..كانت عيناه تنظر بمسكنة وشماتة نحو أولاده وتقولان:- أرأيتم ياولاد الكلب..حالتي خطرة..وتستدعي إجراء عملية..وأنتم لاتهتمون بي ..منذ تزوجتم وأنتم لاتهتمون بي..وهأنذا علي وشك الموت بسببكم..إذا حدث لي مكروه فذنبي في رقبتكم..
وتم حجزه في المستشفي..لعمل التحاليل اللازمة قبل إجراء أي عملية..رسم قلب..صورة دم كاملة..زمن التجلط..زمن النزف..وظائف كبد..وظائف كلي..مستوي السكر في الدم والبول..وهكذا..وتم مصادرة علبة الكيلوباترا التي في جيبه..وظهرت النتائج..كانت أعضاء الرجل – اللهم لاحسد- تؤدي وظائفهاالفسيولوجية علي أكمل وجه.. غرفة العمليات الآن مهيأة لاستقباله..الواقع أنها ليست مهيأة لاستقبال حيوان مريض..فهي غرفة عمليات تحت السلم..القطط تجري هنا وهناك..وأحيانا يشرفها كلب بالحضور من حين إلي آخر..وضوءالكشاف أشد خفوتا من ضوء أباجورة..غرفة حاصلة علي شهادة أيزو الحانوتية..بخطوات واثقة وثابتة دخل الحاج مرتديا بدلة بيضاء علي اللحم تصل إلي ركبته..نام علي السرير..وكان فمه يفوح برائحة السجائر..لافائدة من تأنيبه..خلع البدلة..الآن هو عار تماما كما ولدته أمه..تبدأ الممرضة في حلق شعر عانته..أسارير وجهه تنطق بانتشاء لاحد له..لعل العجوز الأمريكي لايشعر بتلك المتعة وهو يتجول أمام الأهرامات..قسما بالله كانت العملية تبدو له كرحلة سياحية عاش طوال عمره يحلم بها..الفقراء الطيبون في بلدنا يحلمون بالحج قبل أن يموتوا..ولكنه لم يكن طيبا..لاأقصد- بالطبع- أنه شرير..هو رجل – كما تنطق سحنته- شقي..ولعل شقاوته سبب فقره..الفلوس لاتعني له سوي شيئين: الحشيش والنسوان ..وبرغم هذا أحببته..لأنه كاد أن يكون صورة طبق الأصل من المرحوم أبي..هذا ما بدأت أن ألاحظه..حتي علي مستوي الشكل..قصير مثله..ونحيل مثله..وعيناه تلمعان بالمرح والشيطنة..وكان اسمه – وياللمفارقة الرهيبة- بدير( تصغير بدر)..نفس اسم أبي..هذا الاسم المصري الصميم الذي يوشك علي الانقراض..مع الوقت تفقد ضربة المشرط في الجلد دهشتها ومتعتها السادية..جميع الجراحين ساديون (تستولي عليهم رغبة دفينة في تعذيب الآخرين وفي الانتقام منهم..أنا مثلا لضآلة حجمي كنت عاجزا عن الدفاع عن نفسي وأنا صغير..لذا قررت الانتقام النافع)..هاهو الحالب..خرطوم دقيق يصل بين الكلية والمثانة..ولكن أين الحصوة؟؟..بهدوء أفتش..والوقت يمر ولاأثر لها..ضحكت ضحكة غير مبررة..سألتني الممرضة التي يرتكز كوعي الأيسر علي نهدها عن السبب..موقف في سنوات الطفولة الأولي..كان موعد الغداء..وأخي الأصغر ليس موجودا..سألني أبي في حنان
- فين أخوك؟؟
- مش عارف
- اخرج هاته من تحت طقاطيق الأرض..
خرجت أبحث عنه..ولما أعياني التعب..أوقفت رجلا كبيرا..وسألته
- ياعمو ..هي فين طقاطيق الأرض ؟؟
توالت النكات التي تدور حول البحث والتفتيش..وفي تلك الفترة كان برنامج المفتش كورمبو في قمة نجاحه..الجراح المساعد غاوي فلسفة..حكي لنا عن فيلسوف يوناني خرج في عز الظهيرة حاملا شمعة..سألوه عم تبحث؟؟فأجابهم بأنه يبحث عن إنسان..قصة جميلة..ولكن ليس وقتها الآن..البسطاء لايفكرون في الحياة بكل هذا التعقيد..الحصوة لم تظهر بعد..فلتت أعصابي وصرخت
- راحت فين الحصوة بنت المرة المومس ( بالطبع قلتها بالعامية)
قبل أن أتخصص في الجراحة لم يكن لساني زفرا بهذا الشكل..تعلمت هذا من أساتذتي..محاولة صبيانية لتفريغ شحنة التوتر..فاجأني عم بدير(في حالة التخدير النصفي يكون المريض منتبها)
- ما لحصوة نزلت في الحمام يادكتور النهاردة الصبح..
بغيظ قلت
- وما قلتش ليه ياحاج
بتناحة أجاب
- لو قلت ماكنتوش هتعملولي العملية..
شر البلية ما يضحك..للمرة الأولي أفهم هذا المثل العبقري..وانفجرنا في الضحك..ضحكا صافيا رائقا..منذ زمن لم أضحك هكذا..ألهث طوال اليوم خلف لقمة العيش..من المستشفي الحكومي في المنيرة إلي مستشفي خاصة في الدقي ..ثم إلي العيادة في دار السلام..ثم إلي الشقة في المقطم..عشرون عاما وحياتي علي هذا المنوال..انقطعت علاقتي بالسينما..وبالقراءة..وبأصدقاء الصبا..حتي أولادي لاأكاد أعرف عنهم شيئا..وفي النهاية لم أفعل أكثر مما فعله غيري..كل ممتلكاتي ..شقة المقطم..وسيارة لانسر..ورصيد في البنك الأهلي أخجل من ذكره..ماذا أخذت من الطب؟؟وماذا أخذ الطب مني؟؟..أيام زمان كانت مهنة الطب تنقل صاحبها إلي أعلي طبقات المجتمع..والآن هي تشده إلي القاع..ابني الأكبر موهوب في التمثيل..وحين حاولت إقناعه- عقب ظهور نتيجة الثانوية العامه العام الماضي- أن يدخل معهد السينما..قامت الدنيا.. واعتبرتني زوجتي مجنونا..مازال الطب كالنار الحارقة القادرة علي اصطياد الفراشات..أبي كان مدرسا للغة العربية..وبمرتبه استطاع تعليمنا – أنا وأخوتي- أحسن تعليم..كلنا دخلنا كليات قمة..بدون دروس خصوصية..وبدون كتب خارجية..رغم أنه لم يلجأ أبدا لأي أعمال إضافية..بعد أن يرجع من العمل في الثانية ظهرا..يتناول الغذاء معنا..وينام مرددا المثل (إتغدي واتمدي) ..يصحوعلي صلاة العصر..يصلي ..ثم يجلس في البلكونة في صحبة الراديو وإحدي روايات دار الهلال..وبين المغرب والعشاء يجلس علي مقهي في أول شارع المواردي مع أحد زملائه..وبعد تناول العشاء كان يراجع لنا الدروس ونحن نتناول الكيك والشاي..أيام جميلة فعلا..ذكريات أعود لها من وقت لآخر لكي أمتلك القدرة علي الاستمرار..في سكن الأطباء كان الحاج بدير محور حديثنا لأيام..تكلم البعض عن الفلوس التي يضعها الأقارب والجيران تحت الوسادة..وعن أكياس البرتقال والموز التي يأتي بها الأصدقاء..وعن لمة الأولاد حوله حتي يفك الخيط..وتكلمنا عن ثقافة الفقراء..وتكلمنا عن رأي نتشة في الضعفاء والمرضي..وامتد الحديث إلي السياسة والاقتصاد وكيف ننهض من التخلف الذي أصبحنا نتلذذ به..وشعرت بالرضي عن تلك المهنة التي وضعتني بين هؤلاء الأشخاص رفيعي الثقافة(من النادر جدا أن تقابل طبيبا لايقرأ..ولايدخن..ولايحب النسوان)..وأوصاني البعض أن أعود إلي هوايتي الجامعية القديمة ..هواية كتابة القصص القصيرة..وأن أكتب قصة هذا الرجل..وهاأنذا قد انتهيت من كتابتها..ولا أعرف إن كنت قد نجحت أم لا..وعلي أية حال هي بداية للبحث عن ملذاتي الضائعة..وذاتي المفقودة..التي أتمني ألا يكون مصيرها هو نفس مصيرحصوة الحاج بدير..
هذه القصة ليست نكتة..فعالم الطب – علي عكس ما يتصور الكثيرون- مليء بالمضحكات أكثر من المبكيات..وخصوصا في بلدنا المتخلف..حيث يصير المرض وسيلة لاكتساب تعاطف الآخرين..المادي والمعنوي معا..وطريقة – رغم قدمها- مبتكرة للهروب من الضغوط..فتاة تريد الهروب من عريس مفروض عليها من قبل الأهل..زوجة تريد الهروب من مضاجعة زوج لاتحبه..شاب يريد الهروب من تأدية الخدمة العسكرية ( في بعض الأحيان يصل الأمر إلي قطع إصبع من أصابع اليد!!)..الأمثلة كثيرة..ولكن حصر الأمثلة ليس موضوعنا..هي قصة واحدة أردت أن أحكيها لكم..رجل في الستين من عمره..جاء المستشفي واضعا يده علي جانبه الأيسر..وتأوهاته كانت استعراضية أكثر منها حقيقية..خبرتي المتواضعة في الطب علمتني أنه كلما ازدادت صرخات المريض كلما كان مرضه تافها..لا يخيفني أكثر من الألم الصامت..الساهي ..الذي يخفي تحته دواهي لايعلمها إلا الله..تماما كالأنهار التي ليس يعلوها موج..عميقة ومخيفة..وبدون كشف ..شخص طبيب الاستقبال وجعه مغصا كلويا..وكتب له علي التذكرة:- حقنة فولتارين عضل..هنا هاج الرجل..وماج.. ..وهاج الأهل..بدون كشف ..تكتب لي علاجا.. كيف ؟؟..أنت طبيب مهمل ..وفاسد الذمة ..نعم ..وصل الأمر إلي هذا الحد من السفالة..الأعداد الغفيرة في استقبال المتسشفيات الحكومية تجعل من الكشف علي كل مريض عملا انتحاريا..والتذكرة المجانية تجعل العاطل مع الباطل يجيء..نحن شعب نقدس أبو بلاش..ولما كنت المدير المناوب وجراح المسالك في تلك النوبتجية فقد تم استدعائي..
في مثل هذه المواقف أفضل أمتصاص غضب المريض وأهله.. هو -لاشك -لديه حق في غضبه.. والمشاكل التي يعانيها الأطباء- من عمل شاق وضاغط مقابل مرتب هزيل- لا ينبغي أن تظهر بحال من الأحوال علي المريض..قمت بالكشف عليه..وعملت له أشعة تلفزيونية علي البطن والحوض..تبين وجود حصوة في الحالب الأيسر..حصوة كبيرة تستدعي إجراء عملية جراحية..هذا أربكني كثيرا..فألم الرجل لم يكن ألما حقيقيا..ومع ذلك يوجد سبب خطير خلفه..هذا علمني ألا أتعامل مع الطب بأحاسيسي..الطب علم..والعلم لابد أن يقوم علي حقائق موضوعية..الأشعات والتحاليل أصدق أنباء من الأحاسيس..ولكنني مازلت غير قادر علي تنحيتها جانبا..تذكرت كتاب زكي نجيب محمود عن الشرق الفنان ..الشرق الذي يهتم بالفن والدين- وكلاهما ذو منبع واحد- أكثر من اهتمامه بالعلم المجرد القائم علي الملاحظة والتجربة والاستقراء..توقعت -بعد ذكر كلمة العملية- أن يظهر الجزع والخوف علي وجه المريض..وخاب توقعي..الرجل كان في غاية السرور والحبور..وكأن آلامه قد تلاشت فجأة..كانت عيناه تنظر بمسكنة وشماتة نحو أولاده وتقولان:- أرأيتم ياولاد الكلب..حالتي خطرة..وتستدعي إجراء عملية..وأنتم لاتهتمون بي ..منذ تزوجتم وأنتم لاتهتمون بي..وهأنذا علي وشك الموت بسببكم..إذا حدث لي مكروه فذنبي في رقبتكم..
وتم حجزه في المستشفي..لعمل التحاليل اللازمة قبل إجراء أي عملية..رسم قلب..صورة دم كاملة..زمن التجلط..زمن النزف..وظائف كبد..وظائف كلي..مستوي السكر في الدم والبول..وهكذا..وتم مصادرة علبة الكيلوباترا التي في جيبه..وظهرت النتائج..كانت أعضاء الرجل – اللهم لاحسد- تؤدي وظائفهاالفسيولوجية علي أكمل وجه.. غرفة العمليات الآن مهيأة لاستقباله..الواقع أنها ليست مهيأة لاستقبال حيوان مريض..فهي غرفة عمليات تحت السلم..القطط تجري هنا وهناك..وأحيانا يشرفها كلب بالحضور من حين إلي آخر..وضوءالكشاف أشد خفوتا من ضوء أباجورة..غرفة حاصلة علي شهادة أيزو الحانوتية..بخطوات واثقة وثابتة دخل الحاج مرتديا بدلة بيضاء علي اللحم تصل إلي ركبته..نام علي السرير..وكان فمه يفوح برائحة السجائر..لافائدة من تأنيبه..خلع البدلة..الآن هو عار تماما كما ولدته أمه..تبدأ الممرضة في حلق شعر عانته..أسارير وجهه تنطق بانتشاء لاحد له..لعل العجوز الأمريكي لايشعر بتلك المتعة وهو يتجول أمام الأهرامات..قسما بالله كانت العملية تبدو له كرحلة سياحية عاش طوال عمره يحلم بها..الفقراء الطيبون في بلدنا يحلمون بالحج قبل أن يموتوا..ولكنه لم يكن طيبا..لاأقصد- بالطبع- أنه شرير..هو رجل – كما تنطق سحنته- شقي..ولعل شقاوته سبب فقره..الفلوس لاتعني له سوي شيئين: الحشيش والنسوان ..وبرغم هذا أحببته..لأنه كاد أن يكون صورة طبق الأصل من المرحوم أبي..هذا ما بدأت أن ألاحظه..حتي علي مستوي الشكل..قصير مثله..ونحيل مثله..وعيناه تلمعان بالمرح والشيطنة..وكان اسمه – وياللمفارقة الرهيبة- بدير( تصغير بدر)..نفس اسم أبي..هذا الاسم المصري الصميم الذي يوشك علي الانقراض..مع الوقت تفقد ضربة المشرط في الجلد دهشتها ومتعتها السادية..جميع الجراحين ساديون (تستولي عليهم رغبة دفينة في تعذيب الآخرين وفي الانتقام منهم..أنا مثلا لضآلة حجمي كنت عاجزا عن الدفاع عن نفسي وأنا صغير..لذا قررت الانتقام النافع)..هاهو الحالب..خرطوم دقيق يصل بين الكلية والمثانة..ولكن أين الحصوة؟؟..بهدوء أفتش..والوقت يمر ولاأثر لها..ضحكت ضحكة غير مبررة..سألتني الممرضة التي يرتكز كوعي الأيسر علي نهدها عن السبب..موقف في سنوات الطفولة الأولي..كان موعد الغداء..وأخي الأصغر ليس موجودا..سألني أبي في حنان
- فين أخوك؟؟
- مش عارف
- اخرج هاته من تحت طقاطيق الأرض..
خرجت أبحث عنه..ولما أعياني التعب..أوقفت رجلا كبيرا..وسألته
- ياعمو ..هي فين طقاطيق الأرض ؟؟
توالت النكات التي تدور حول البحث والتفتيش..وفي تلك الفترة كان برنامج المفتش كورمبو في قمة نجاحه..الجراح المساعد غاوي فلسفة..حكي لنا عن فيلسوف يوناني خرج في عز الظهيرة حاملا شمعة..سألوه عم تبحث؟؟فأجابهم بأنه يبحث عن إنسان..قصة جميلة..ولكن ليس وقتها الآن..البسطاء لايفكرون في الحياة بكل هذا التعقيد..الحصوة لم تظهر بعد..فلتت أعصابي وصرخت
- راحت فين الحصوة بنت المرة المومس ( بالطبع قلتها بالعامية)
قبل أن أتخصص في الجراحة لم يكن لساني زفرا بهذا الشكل..تعلمت هذا من أساتذتي..محاولة صبيانية لتفريغ شحنة التوتر..فاجأني عم بدير(في حالة التخدير النصفي يكون المريض منتبها)
- ما لحصوة نزلت في الحمام يادكتور النهاردة الصبح..
بغيظ قلت
- وما قلتش ليه ياحاج
بتناحة أجاب
- لو قلت ماكنتوش هتعملولي العملية..
شر البلية ما يضحك..للمرة الأولي أفهم هذا المثل العبقري..وانفجرنا في الضحك..ضحكا صافيا رائقا..منذ زمن لم أضحك هكذا..ألهث طوال اليوم خلف لقمة العيش..من المستشفي الحكومي في المنيرة إلي مستشفي خاصة في الدقي ..ثم إلي العيادة في دار السلام..ثم إلي الشقة في المقطم..عشرون عاما وحياتي علي هذا المنوال..انقطعت علاقتي بالسينما..وبالقراءة..وبأصدقاء الصبا..حتي أولادي لاأكاد أعرف عنهم شيئا..وفي النهاية لم أفعل أكثر مما فعله غيري..كل ممتلكاتي ..شقة المقطم..وسيارة لانسر..ورصيد في البنك الأهلي أخجل من ذكره..ماذا أخذت من الطب؟؟وماذا أخذ الطب مني؟؟..أيام زمان كانت مهنة الطب تنقل صاحبها إلي أعلي طبقات المجتمع..والآن هي تشده إلي القاع..ابني الأكبر موهوب في التمثيل..وحين حاولت إقناعه- عقب ظهور نتيجة الثانوية العامه العام الماضي- أن يدخل معهد السينما..قامت الدنيا.. واعتبرتني زوجتي مجنونا..مازال الطب كالنار الحارقة القادرة علي اصطياد الفراشات..أبي كان مدرسا للغة العربية..وبمرتبه استطاع تعليمنا – أنا وأخوتي- أحسن تعليم..كلنا دخلنا كليات قمة..بدون دروس خصوصية..وبدون كتب خارجية..رغم أنه لم يلجأ أبدا لأي أعمال إضافية..بعد أن يرجع من العمل في الثانية ظهرا..يتناول الغذاء معنا..وينام مرددا المثل (إتغدي واتمدي) ..يصحوعلي صلاة العصر..يصلي ..ثم يجلس في البلكونة في صحبة الراديو وإحدي روايات دار الهلال..وبين المغرب والعشاء يجلس علي مقهي في أول شارع المواردي مع أحد زملائه..وبعد تناول العشاء كان يراجع لنا الدروس ونحن نتناول الكيك والشاي..أيام جميلة فعلا..ذكريات أعود لها من وقت لآخر لكي أمتلك القدرة علي الاستمرار..في سكن الأطباء كان الحاج بدير محور حديثنا لأيام..تكلم البعض عن الفلوس التي يضعها الأقارب والجيران تحت الوسادة..وعن أكياس البرتقال والموز التي يأتي بها الأصدقاء..وعن لمة الأولاد حوله حتي يفك الخيط..وتكلمنا عن ثقافة الفقراء..وتكلمنا عن رأي نتشة في الضعفاء والمرضي..وامتد الحديث إلي السياسة والاقتصاد وكيف ننهض من التخلف الذي أصبحنا نتلذذ به..وشعرت بالرضي عن تلك المهنة التي وضعتني بين هؤلاء الأشخاص رفيعي الثقافة(من النادر جدا أن تقابل طبيبا لايقرأ..ولايدخن..ولايحب النسوان)..وأوصاني البعض أن أعود إلي هوايتي الجامعية القديمة ..هواية كتابة القصص القصيرة..وأن أكتب قصة هذا الرجل..وهاأنذا قد انتهيت من كتابتها..ولا أعرف إن كنت قد نجحت أم لا..وعلي أية حال هي بداية للبحث عن ملذاتي الضائعة..وذاتي المفقودة..التي أتمني ألا يكون مصيرها هو نفس مصيرحصوة الحاج بدير..
قصة (شيء لأتذكرك به)
شيء لأتذكرك به
لا أعرف سر رحيلك المفاجيء..وصمتك الرهيب..وجالدا ذاتي أتساءل كيف فاتني أن أري نوايا السفر في عيون الأشرعة..وأحزمة الحقائب..وكأن الغياب لايأتي إلا بعد طول اقتراب..وطول فرح..ليكون الحزن تكفيرا عن كل أمسيات البهجة..وأغنيات الأمل..وساعات اللقاء..وعبثا أفتش تحت وسائد قلبي ..وفي أدراج عذابي عن رسالة شافية لغليلي..ولا فائدة..مازال الجرح مفتوحا..وأبواب السماء مازالت مغلقة..والليل شامت..والفجر صامت..وأنا وحدي أصرخ..وأستغيث..ثم أنهار..وأهمس ..ثم أنهار ..وأبكي..هل تصدقين كل هذا الكلام الفارغ ؟؟..وهل كنت تتوقعين مني أن أحبك بتلك الطريقة المائعة والزائفة؟؟..لكي أكون فارس أحلامك المعتوه..لا ياصديقتي ..فأنا واضح كالشمس..وصريح كالبحر..ودوغري كأولاد البلد..وفي لقائنا الأول كشفت كل أوراقي..وأخبرتك بقناعاتي في الحب ..والزواج..والحياة..قلت لك بأن الحب الأبدي لايعنيني..وأنني أنتقل من امرأة إلي امرأة..كما تنتقل النحلة من زهرة إلي زهرة..وكما ينتقل الشاعر من قصيدة إلي قصيدة..وكما ينتقل المطر من سحابة إلي سحابة..ولكنني لا أقرأ كتابين في وقت واحد..وقلت لك بأنك أجمل امرأة عرفتها..ولم أكن كاذبا ..أو مجاملا..فمع الوقت ازدادت خبرتي في معرفة المعادن النفيسة بمجرد النظر..وكان لك مطلق الحرية في الاستمرارأو الرجوع..ولما كنت شغوفة بالمقامرة..والمغامرة..وارتياد المجهول..فقد اخترت الاستمرار..ممتلئة بالفضول..وحب الاستطلاع..وكان لديك أمل غامض ومتوحش في إصلاحي..ولكنك لم تندمجي في اللعبة..وكنت متفرجة أكثر منك لاعبة..كأخصائية اجتماعية تراقب مسجونا..لتكتب تقريرا مفصلا في النهاية عنه..
والحياة لاتكون هكذا..لاتكون من خلف نافذة..أو تلسكوب..أو خرم باب..ولا من فوق مقصورة..ولامن تحت سرير..الحياة اشتباك..ولعب بالنار.. والتراب.. والأسلحة البيضاء..هذا إذا أردت أن تكتسبي خبرة ذات قيمة..وذكري ذات عنفوان..وحبا يظل حيا فيك حتي بعد أن تموتي..لأنه حب بلا أوهام ..ولا أكاذيب..ولا وعود..ولا مستقبل..حب يشرب من كأس اللحظة الحاضرة حتي الارتواء..والانتشاء..حب لايؤجل سعادة اليوم إلي الغد..ولايفقد عصفورا في اليد من أجل عشرة عصافير علي الشجرة..ولكنك مازلت أسيرة قصائد ساذجة..وأفلام بلهاء..وروايات مريضة..وغدا ستفهمين كلامي..عندما تصلين إلي نهاية الرحلة..وتجدين السراب..والخواء..والندم..وتكتشفين أن المتعة كانت في الرحلة..وأن السعي إلي الوصول هو الوصول..وأن حبي العابر لك كان حقيقيا أكثر من أحلام يقظتك الدائمة..بعناد أحمق رفضت الخروج معي..واكتفيت بعلاقة هاتفية مشوهة..كالذي يتوهم أن الفرجة علي فيلم في التلفزيون لها نفس متعة الفرجة في السينما..مادامت النتيجة واحدة..وهو معرفة قصة الفيلم..نعم ..قد لاتختلف حواراتنا كثيرا في كافيه ..أو في حديقة..أو علي ظهر مركب..ولكنك تناسيت أنك رحلت ..دون أن تتركي خلفك شيئا أتذكرك به..
لا أعرف سر رحيلك المفاجيء..وصمتك الرهيب..وجالدا ذاتي أتساءل كيف فاتني أن أري نوايا السفر في عيون الأشرعة..وأحزمة الحقائب..وكأن الغياب لايأتي إلا بعد طول اقتراب..وطول فرح..ليكون الحزن تكفيرا عن كل أمسيات البهجة..وأغنيات الأمل..وساعات اللقاء..وعبثا أفتش تحت وسائد قلبي ..وفي أدراج عذابي عن رسالة شافية لغليلي..ولا فائدة..مازال الجرح مفتوحا..وأبواب السماء مازالت مغلقة..والليل شامت..والفجر صامت..وأنا وحدي أصرخ..وأستغيث..ثم أنهار..وأهمس ..ثم أنهار ..وأبكي..هل تصدقين كل هذا الكلام الفارغ ؟؟..وهل كنت تتوقعين مني أن أحبك بتلك الطريقة المائعة والزائفة؟؟..لكي أكون فارس أحلامك المعتوه..لا ياصديقتي ..فأنا واضح كالشمس..وصريح كالبحر..ودوغري كأولاد البلد..وفي لقائنا الأول كشفت كل أوراقي..وأخبرتك بقناعاتي في الحب ..والزواج..والحياة..قلت لك بأن الحب الأبدي لايعنيني..وأنني أنتقل من امرأة إلي امرأة..كما تنتقل النحلة من زهرة إلي زهرة..وكما ينتقل الشاعر من قصيدة إلي قصيدة..وكما ينتقل المطر من سحابة إلي سحابة..ولكنني لا أقرأ كتابين في وقت واحد..وقلت لك بأنك أجمل امرأة عرفتها..ولم أكن كاذبا ..أو مجاملا..فمع الوقت ازدادت خبرتي في معرفة المعادن النفيسة بمجرد النظر..وكان لك مطلق الحرية في الاستمرارأو الرجوع..ولما كنت شغوفة بالمقامرة..والمغامرة..وارتياد المجهول..فقد اخترت الاستمرار..ممتلئة بالفضول..وحب الاستطلاع..وكان لديك أمل غامض ومتوحش في إصلاحي..ولكنك لم تندمجي في اللعبة..وكنت متفرجة أكثر منك لاعبة..كأخصائية اجتماعية تراقب مسجونا..لتكتب تقريرا مفصلا في النهاية عنه..
والحياة لاتكون هكذا..لاتكون من خلف نافذة..أو تلسكوب..أو خرم باب..ولا من فوق مقصورة..ولامن تحت سرير..الحياة اشتباك..ولعب بالنار.. والتراب.. والأسلحة البيضاء..هذا إذا أردت أن تكتسبي خبرة ذات قيمة..وذكري ذات عنفوان..وحبا يظل حيا فيك حتي بعد أن تموتي..لأنه حب بلا أوهام ..ولا أكاذيب..ولا وعود..ولا مستقبل..حب يشرب من كأس اللحظة الحاضرة حتي الارتواء..والانتشاء..حب لايؤجل سعادة اليوم إلي الغد..ولايفقد عصفورا في اليد من أجل عشرة عصافير علي الشجرة..ولكنك مازلت أسيرة قصائد ساذجة..وأفلام بلهاء..وروايات مريضة..وغدا ستفهمين كلامي..عندما تصلين إلي نهاية الرحلة..وتجدين السراب..والخواء..والندم..وتكتشفين أن المتعة كانت في الرحلة..وأن السعي إلي الوصول هو الوصول..وأن حبي العابر لك كان حقيقيا أكثر من أحلام يقظتك الدائمة..بعناد أحمق رفضت الخروج معي..واكتفيت بعلاقة هاتفية مشوهة..كالذي يتوهم أن الفرجة علي فيلم في التلفزيون لها نفس متعة الفرجة في السينما..مادامت النتيجة واحدة..وهو معرفة قصة الفيلم..نعم ..قد لاتختلف حواراتنا كثيرا في كافيه ..أو في حديقة..أو علي ظهر مركب..ولكنك تناسيت أنك رحلت ..دون أن تتركي خلفك شيئا أتذكرك به..
قصة (اجعلها تضحك)
اجعلها تضحك
1
من المؤكد أنك ستعيش وتموت دون أن تري فتاة في جمالها ورقتها واستقامتها..فالله-لحكمة لايعلمها إلاهو- لايخلق مثلها إلا كل مائة عام..في الثلاثين من عمرها..وتعمل مدرسا للأدب الانجليزي في كلية آداب المنصورة..والدها- الذي توفي منذ ثمانية أعوام والذي ورثت عنه حب الشعر- كان أستاذا في كلية الصيدلة..وأخوها الأكبرعماد تخرج في كلية الهندسة منذ عشرةأعوام(أي قبل رحيل الأب بعامين) وسافرإلي الإمارات..وتزوج هناك من مغربية..وقررأن يستقر في دبي للأبد.. وهو من النوع العملي الذي لايعر أي اهتمام للمشاعر الإنسانية..ورغم سهولة الاتصالات في هذه الأيام ورخص ثمنها إلا أنه نادرا ما يتصل بأحد..وحين توفي والده لم يكلف خاطره بالقدوم لحضورجنازته..قد تتعاطف مع شاب فقير يكره هذا البلد ويتمني أن يرحل منه ولايعود..ولكن عماد لم يكن فقيرا..والده وفرله ولأخته ما يجعلهما في غني عن العمل طوال حياتهما..منزل جميل في توريل – أرقي أحياء المنصورة- من أربع أدوارتحيط به حديقة فاتنة..ورصيد ضخم في البنك..ويبدو أن أسبابا أكبر من الفقر هي التي تتحكم في مصير الإنسان علي عكس ما يعتقد ماركس..كأن كل إنسان قد خلق ليعيش في مناخ معين يظل يبحث عنه حتي يجده..وهذا المناخ هو غالبا قيمة روحية أكثر منها مادية..هناك من لايشعر بوجوده إلا في مناخ من الحرية بكل معانيها..حيث لا يسأله أحد عما يفعل..وهناك من لايجد لهذه الحرية أي معني..هو يريد أن يستمتع بدفء القطيع علي حساب أي متعة أخري..ومنذ وضع عماد قدميه في دبي احس بارتياح غريب..هذه هي المدينة التي كان يبحث عنها..والتي تشبهه..كأنه يولد من جديد..وبدت له مصر زنزانة خانقة ومظلمة..وكان لايريد أن يتذكرها بأي طريقة..لذا لم يكد أن يمر عليه هناك ستة أشهر حتي انقطعت أخباره تماما..وامتلأ فكر الأب والأم بالوساوس المهلكة..هل حدث له مكروه؟..هل – لاقدر الله- مات؟..وعاشوا في حداد عليه..وكانت المفاجأة المفرحة الحزينة- بعد عام كامل- من أحد أصدقائه هناك..هو حي يرزق ..وتزوج..وأنجب..ويعيش حياة رغيدة..كان الحلم أن يسمعوا صوته..وهيهات..كانت نجوم السماء أقرب..في هذه الفترة تعرض الأب لأزمة قلبية حادة – بعد طول حزن- مات في إثرها..وارتدت الأم – وهي مازالت في ريعان فتنتها-الثوب الأسود..وارتسمت علي وجهها تجاعيد الحداد الأبدية..أما هبة فلم يكن لديها ما تفكر فيه في هذا العمر سوي نفسها..
2
كانت الغرور يسير علي قدمين..وكان لديها الحق في ذلك..فالفرق شاسع بينها وبين زميلاتها..تقف أمام المرآة – كنرسيس بطل الأسطورة الإغريقية- وتقول لنفسها
- لايوجد علي ظهر الأرض رجل يستحقني سوي ريتشارد جير..
وبخبث شديد كانت تتواضع..وتتحدث مع أكثر زملاءها الأولاد فقرا..كأنها لاتعرف أنها جميلة..وتستمتع بنظرات العشق والهيام في أعين الجميع..ولكن أحدا لم يجرؤ علي مصارحتها بشيء..مع أنها كانت مستعدة أن تفتح قلبها لأول طارق..ليس للحب ذاته..ولكن لتتعرف علي عالم الرجال عن قرب أكثر..واضطرت أن تبدأ هي..وكان أحمد توفيق هو صيدها الثمين..الأول علي الدفعة ..ومشروع الشاعر الكبير..ونجم حفلات الكلية ..وهو الوحيد الذي يتجنبها..كأنه الوحيد الذي يفهمها..يفهم كذب تواضعها..وزيف ضحكتها..وهي لذلك تريده..لتثبت لنفسها- قبل الآخرين- أنه لا رجل يستعصي عليها..وسرعان ما وقع..وتأكدت أن عزوفه عنها لم يكن إلا محاولة ريفية وطفولية لجذب اهتمامها..فالرجل الذي يستطيع مقاومة امرأة جميلة وغنية لم يخلق بعد..واحتقرته..لأنه ليس قويا..وليس واثقا في نفسه كما يحاول توصيل ذلك للآخرين..بالرغم من أنه يمتلك جميع المؤهلات التي تجعله رجلا استثنائيا..وتوقعت – علي عكس ما يتوقع له أساتذته وزملائه- أنه سينتهي شخصا عاديا جدا..العظمة تبدأ من ثقة حقيقية في الذات..وهو هش وضعيف..ويكاد يبكي إذا مر يوم ولم تتصل به كما عودته..بعد شهرين فقط قطعت علاقتها به إلي غير رجعة..وسرعان ما تحققت نبوءتها..تدهور مستواه الدراسي..واقتصر شعره علي البكاء علي أطلالها..وقال بعض الخبثاء أنها فعلت ذلك عمدا لتحتل المركز الأول الذي احتكره لثلاث أعوام متتالية..وجاء تقديره في العام الدراسي الأخيرا مخيبا للآمال..مقبول..وبهذا انطوت صفحته تماما..لعله يعمل الآن مدرسا في قريته (نوسا البحر)..ولعله سيعيش العمر معتقدا بأنه لولاها لكان له شأن كبير..وهل يستطيع أن يعيش الفاشلون دون أن يلقوا زكائب فشلهم وتعاستهم علي ظهورالآخرين؟؟
3
تعيش هبة الآن مع مامتها في شقة الدور الثاني..ويقوم الخال(زين السلاب) بالتشقير عليهم من وقت لآخر..هو رجل خمسيني حنون وتستحي منه الملائكة..ومتزوج من طبيبة تعمل في نفس تخصصه ( النسا والولادة)..ومن سخرية الأقدارأن تحرمهمامن الإنجاب ..ولكنهما راضيان وصابران(أو يحاولان ذلك بكل ما يملكان من إيمان وثقة في عدل الله) ..والخال زين يعشق شكسبيرواللورد بيرون وجون ملتون..والفضل يرجع إلي هبة وترجمة الفذ د.محمد عناني..عمر طويل وهو متقوقع في الأدب المصري العقيم..وأحلي الأوقات عندما يجلس مع هبة ويتناقش معها في مأساة الملك لير وعطيل وهاملت وماكبث..أو يستمع لها وهي تقرأ له شيئا من ملحمة بيرون الساخرة (دون جوان)..ورغم أن الأم كانت تترجاه أن يضغط علي هبة أن ترضي بواحد من زملائها الذين يتقدمون لها قبل أن يتسرب العمر من يديها إلا أنه لم يكن يفعل..فهو يعرف دماغ بنت أخته..عنيدة..وترفض أن يتصور أحد – مجرد تصور- أنه يعرف مصلحتها أكثر منها..لم تقابل الرجل الذي يملأ عينها حتي الآن..
ويعرف أيضا أن حياة أخته قد تنتهي بزواج ابنتها هبة..ويقول لنفسه هل قضي علي الإنسان أن يعيش حياته وهو مطارد بالوحدة واليأس..كيف يمكن العزف علي كمان ناقص الأوتار..لم أقابل إنسانا إلا وفي حياته وتر ناقص..يجعل كل سيمفونياته شائهة ومبتورة وجالبة للحزن أكثر من البهجة..والأمل الوحيد – ليصير للحياة معني- هو التجرد من الذات والاستغراق في الموضوع..شجرة نزرعها دون ان ننتظر ثمرها وظلها..ونهر نحفره دون أن ننتظر أن يروينا..وطريق نمهده دون أن ننتظر السير عليه..الهلاك والشقاء في انتظار نتيجة..لذلك كان أسعد البشر هم من عاشوا وماتوا في سبيل مبدأ..وبذلك لم يكن لديهم الوقت ولا الدموع للبكاء علي أنفسهم..ولكن من يستطيع أن يفعل ذلك سوي الأنبياء..
4
ليل المنصورة لايقل سحرا عن ليل القاهرة..وخصوصا علي المشاية(الكورنيش)..مزيج بديع من صفحة النيل الفضية وهي تتلألأ وتعلن رضاها عن أضواء السيارات الفاخرة وواجهات المحلات الراقية..كأن المنصورة- مركز المجموعة الشمسية- تمتلك يدا سحرية تحول القبح إلي جمال فاتن..في حوالي التاسعة مساء يكون شريف بندق – مدرس النقد وزميل هبة في الكلية- جالسا مع إحدي مززه في نادي الجزيرة..والجرسون (مدحت) يقدم لهما المنيو في انحناءة مهذبة وكريمة.. لاتوجد مهنة وضيعة..مدحت جرسون برنس..يشعر زبائنه بأنه لايقل رقيا عنهم..بتفانيه الشديد في عمله..وحرصه المطلق علي راحتهم..عندما تكون عبدا للعمل الذي تؤديه ..فحتما ستكون سيدا أوندا لمن تقدم لهم عملك..الجزمجي الشاطروالمخلص والمتفاني في عمله مستحيل أن تشعر أنك أرقي منه..كأنه لايهم المهنة التي تعملها ولكن الأهم كيف تعملها..وهذا هو الفن..طريقة ما في عمل شيء عادي جدا..هناك من يعملون في وظائف راقية جدا..ولكنك لاتحترمهم..لأنهم يؤدونها بطريقة عادية وروتينية..طريقة تخلو من الشغف والاهتمام..ولذلك يفقد مع الوقت وجههم مرونته وبشاشته وفرحه بالدنيا..ما جعلني أتكلم عن مدحت بهذا الإ سهاب هو
حب شريف بندق له..ينشرح قلبه له عند رؤيته..رغم أنه لم يتبادل معه سابق حديث.. كل ما يعرفه عنه اسمه فقط..والضحكة التي تلمع في عينيه حين يراه مع مزة جديدة..ضحكة تقول( باحسدك علي ذوقك..إنت باشا كبير قوي قوي..ممكن تقوللي إزاي بتقدر تعمل كده..)..وشريف أدمن تلك النظرة الضاحكة المتحدثة..لدرجة أنه بلهفة سأله عن سر غيابه بالأمس ..فأجاب مدحت بأدبه المعتاد
- كنت تعبان يادكتور شريف
ارتسمت علي وجه شريف ضحكة عريضة ..ضحكة إعجاب وعجز عن الامتنان..وقال
- ياااه..دانت عارف اسمي كمان
وهو مازال منحنيا بزاوية تقول بأنني خادمك المطيع ولكنني ابن ناس أيضا مثلك
- طبعا يافندم..حضرتك أشهر م النار عاالعلم
- ماشي يامدحت..ألف سلامة عليك..
- تؤمرني بأي حاجة يافندم
- شكرا يامدحت
من يعرف شريف من بعيد يتصور أنه إنسان مستهتر بلامشاعر..ولا مباديء..فهو خمورجي..وبتاع نسوان..ولا يقدس غير مصلحته ومتعته..عندما يطلبه أحد في خدمة..يرد عليه بمنتهي الجفاء والغلظة
- آسف..مش هاقدر..
مهما كانت هذه الخدمة تافهة..كأن يطلب منه أحد الزملاء أن يحضر له كارت شحن أو علبة سجائر وهو قادم في الطريق..هو لايطلب شيئا من أحد ..ولا يريد من أحد أن يطلب منه شيئا.. هو لايبالي بأي إنسان كائنا من كان ..والكلام السييء الذي يقال من خلف ظهره لا يهز شعرة في رأسه..أن تكون محبوبا من الناس فهذا معناه أن يطمعوا فيك ..وألا يكفوا عن ملاحقتك بطلباتهم الرذيلة..علاقته بالآخرين تنحصر في هذه المعادلة ( لكي أفيدك يجب أن أستفيد منك بنفس القدرحتي علي مستوي المشاعر المعنوية)..وكانت هبة لاتكف عن التفكير في هذا الإ نسان الغريب والمعقد..وتتلهف علي سماع آخر أخباره..وكم تمنت أن تنقذه من نفسه..المدهش أنه محبوب من الطلبة والطالبات..وفي محاضراته لاتكاد تعثر علي مقعد شاغر واحد ..أما محاضراتها فهي تعرف أن الطلبة لايحضرون إلا للفرجة علي طقمها الأخير..علي الصدر المفتوح..علي الساقين المخروطتين..ويستمعون إلي صوتها الذي يشبه صوت الفنانة الراحلة راقية أبراهيم..وكان لابد أن تعرف..وكانت الطريقة الوحيدة أن تقدم – بجسارة لاتفتقدها- علي حضور أحد محاضراته..وليكن ما يكون من إشاعات لايتقن المصريون شيئا سواها..
5
عندما دخلت المدرج تسارع الطلبة لتوفير مقعد مريح لأستاذتهم..ويابخته من أسعده حظه بالجلوس قريبا منها..عطرها مسكر كأقوي أنواع الخمور..وبدا المدرج كأنه صرح زجاجي حسبته (هبة) لجة فكشفت عن ساقيها..ولكن شريف لايحاول إبهارها..هو يتحدث كما اعتاد ..بطلاقة وصراحة وسخرية..وذهلت هبة..إنه يمتلك نفس روح (اللورد بيرون )الساخرة..يهزأ ويسخر من كل ما اعتدنا علي تقديسه..
ودق قلبها..لأول مرة يدق بحق وحقيق..ولمن؟..لآخر رجل في الدنيا كانت تعتقد أنه يستحق ذلك..للرجل الذي يتعامل مع المرأة كأنها زجاجة كونياك..ولا يحتقر شيئا قدر احتقاره للحب والزواج..ويردد دائما أن الوفاء لأجسادالآخرين هو خيانة لأجسادنا..ويسخر من هؤلاء الرجال الذين يعيشون ويموتون بين أفخاذ امرأة واحدة..الرجل قادر علي حب مئات النساء..ويعتقد أن سر تعاسة البشر في التعامل مع الكل لا مع الجزء..عندما نعجب بعضو في المرأة نتصور أننا نحبها كلها..حتي مع الرجال..نقول بأننا نكره فلانا لأنه كذاب ..أو لأنه لا يصلي..أو لأنه مغرور..والكراهية – كالحب- عمياء..لا تجعلنا نري الصورة بوضوح ..هناك إنسان كذاب ولكنه مرح وخبرته بالحياة تستحق أن نتعلمها..وهناك إنسان لايصلي ولكنه جدع وخدوم ومثقف ومحب للناس بإخلاص..وهناك مغرور طيب..وهناك مغرور ساذج ..فالصفات الجميلة موزعة علي البشر..والأعضاء الجميلة موزعة علي النساء..لا توجد امرأة قادرة عي إعطاء رجل جميع مايريده..والعكس أيضا..
هذه هي بعض معتقدات شريف بندق ..الذي حصل علي الماجستير في النقد الأدبي من أحد الجامعات الإنجليزية..والذي وقعت هبة في حبه دون أن يسمي أحد عليها..
6
تغيرت هبة في الفترة الأخيرة كثيرا..فقدت الكثير من نشاطها وحيويتها..وأصبحت تعاني من الشرود وفقدان الذاكرة..وأصبحت المحاضرات عبئا ثقيلا عليها..والطلبة لاحظوا ذلك..فقدت الكثير من نضارتها ووزنها..وهالات سوداء بدأت تظهر تحت عينيها..وملابسها لم تعد ملتصقة ومشدودة علي جسدها..وانقلب حسد زميلاتها لها إلي عطف وشفقة ..وإلي شماتة في بعض الأحيان..كان واضحا أنها جائعة للنوم..فهي تنام في مكتبة القسم حتي يقع الكتاب من بين يديها..وفي الكافتيريا كانت كؤوس العصير تندلق علي ملابسها..وكثر القيل والقال..والغمز واللمز..وأصبح الجميع يقسم بأن شريف بندق أفقدها عذريتها..وأنها قد تكون حاملا منه..ووصل الكلام إليها فازدادت حزنا واكتئابا..ولم يعرف أحد السبب الحقيقي..وهو الرائحة الكريهة التي بدأت تشمها في البيت..رائحة حيوان ميت ..ومسحت المنزل ركنا ركنا لعلها تعثر عليه ولكن لافائدة..الأيام تمضي والرائحة الكريهة تزداد..وتتوحش..وتستفحل..وهي تكاد تختنق..ولكن الأم لاتشمها..والخال لايشمها..هي وحدها فقط..وأصبحت ترش المنزل بكميات ضخمة من معطرات الجو..فتهدأ الرائحة ..ولاتلبث أن تظهر بعد ساعة ..فتعاود الرش..ولم تعد قادرة علي النوم..والأم تنظر لها بجزع ..وتحاول طمأنتها..أصبح الشغل الشاغل لهبة أن تشتري كل أنواع المعطرات والمنظفات في السوق..وصرفت علي ذلك مبالغ طائلة..وقل إقبالها علي القراءة..والاستماع لموسيقي بيتهوفن وموزار وفاجنر..وفقدت الرغبة في مناقشة الخال في أي موضوعات عامة أو خاصة..كان الرجل يأتي ويذهب دون أن تخرج من حجرتها لملاقاته..بدأت تدخن بشراهة..أملا في أن تنسي تلك الرائحة العفنة..
7
عندما اقترب شريف من هبة..تأكد أنها تختلف عن كل ما عرف من نساء..أميرة إنجليزية بكل ما تنطوي عليها الكلمة من معاني سامية..النبل والأصالة يجريان فيها مجري الدم في العروق..أخذت من الحياة كل ما يجعل أنوثتها تتألق وتسمو..لديها ذوق رفيع في اختيار ملابسها واكسسوارتها..وتقرأ الكتب التي ألفها مؤلفوها خصيصا لبنات الطبقة الراقية..كل شيء في حياتها إنجليزي صميم..الروايات..الأغاني ..الأفلام..وعلاقتها باللغة العربية تكاد تكون منعدمة..
في المنزل لاتتحدث مع والدتها إلا باللغة الإنجليزية..أما مع الخال فرغم أنه طبيب إلا أن طريقة نطقه مثيرة للسخرية والرثاء..وبرغم كبريائها إلا أنها أمام شريف في منتهي الخنوع والطاعة..وأخبرته بأنها لاتريد منه سوي أن تتشرف بأن تكون زوجته..وأنه حتما – وبدون تدخلها- سيمل من حياته العابثة وسيكون لها وحدها في نهاية المطاف..والواقع أن شريف اقتنع أنها هدية يقدمها له القدرعلي طبق من الماس..ومن السخافة إضاعتها..هو يكبر في السن..ولابد من الزواج..إن عاجلا أو آجلا..ولم لا؟؟وقرر أن يتخلي عن كل قناعاته السابقة ..ويتزوج..وباندفاع – اشتهر به- جذب الموبايل من تحت الوسادة وطلبها وأخبرها أن تخبر والدتها وخالها بأنه قادم غدا لطلب يدها..كان يعتقد أن الإرهاق التي عانت منه في الفترة الأخيرة بسببه..وأن هذا القراركفيل بإرجاعها إلي سابق تألقها وحيويتها..
8
ظلت تقفز علي السريرمن شدة فرحتها..وخرجت تعانق أمها التي كانت تشاهد التلفزيون وهي ساهمة..كانت الأم تفكر في الابن الذي ضاع منها.. وهاهي البنت تضيع أمام عينيها..ولاتستطيع أن تفعل أي شيء..قالت هبة منتشية ( بلغة أنجليزية ترجمتها إلي العامية)
- باركيلي ياماما
- مبروك ياحبيبتي..بس علي أيه
- شريف هييجي يقابلك بكرة..هادخل اكلم خالو زين..
( لاتوجد بنت لاتكلم والدتها عن أي علاقة عاطفية تدخلها)
طارت الأم من الفرح..وهي تري ابنتها تسترد عافيتها النفسية..ولكنها تذكرت الأب ..وتمنت أن يكون موجودا في مناسبة كتلك..وانزلقت دمعة علي خدها..وتذكرت عماد ..وأجهشت في البكاء..عادت هبة بعد أن اتصلت بخالها ورأت الأم
- ليه بتبكي ياماما
مسحت دموعها بمنديل جذبته من العلبة التي فوق المنضدة
- دموع الفرح ياهبة..مبروك ياحبيبتي..بس تفتكري هتبقي سعيدة معاه بحياته اللي عايشها دي
ردت رد من سأل نفسه هذا السؤال ألف مرة وكون إجابة واضحة ليقولها في مثل هذه الظروف
- ماما ..أنا مش بابقي سعيدة غير معاه..ماعرفش ليه ..عيني ما تجيش في عينه إلا وابقي عايزة أضحك ..واموت من الضحك..بابقي عايزه أحضنه..واحضن الدنيا عشان هو فيها..صريح صراحة مش عادية ..وبيقول كل الكلام اللي الناس بيخافوا يقولوه..أو بيتكسفوا يقولوه..ما بيعملش حساب لحاجة ولا لحد..باحس إنه طفل ..ومحتاج حد ياخد باله منه..وانا معاه بابقي طايرة..بابقي عايزة أولعله السيجارة..أمسح العرق اللي علي جبينه..أطبطب علي كتفه..وعارفه إنه أناني..ويبيع أي حد..عشان يبقي مبسوط..بالظبط كأنه صورة طبق الأصل من اخويا عماد..حد اتخلق عشان يتحب..مش عشان يحب..ماما..الريحة المعفنة بدأت تظهر تاني..هاتخنق..
وجرت نحو غرفتها لترش أكبر قدر من معطرات الجو..
9
في اليوم التالي استيقظت هبة مبكرا..وقلبت المنزل مسحا وتنظيفا حتي كاد السيراميك أن يستغيث من شدة الدعك فيه..كانت تخشي أن يشم شريف الرائحة..ويقول عنها بأنها غير نظيفة..وأنزلت صور أبيها وأجدادها الراحلين- ولم تستطع الأم أن تعارضها- من علي الجدران..فكرت أن تكون الرائحة بسبب الموتي..وفي صندوق محكم الغلق بالدور الأرضي وضعت الصور..وسرعان ما أحست بتأنيب ضمير..فقررت أن تذهب إلي المقابر لتقرأ الفاتحة علي أرواحهم..وهناك شعرت بطمأنينة عجيبة..فقد رأت أباها يفتح باب المقبرة ويخرج ليستقبلها..ويحتضنها..ويدردش معها في أحوالها..حدثته عن شريف..وحدثته عن عماد الذي لم تزل أخباره مقطوعة..وحدثته عن الملل الذي تعيش فيه..ليس في الحياة جديد..الأيام تتشابه..والناس تتشابه..والأفلام والروايات تتشابه..الجديد هو الرائحة العفنة التي بدأت تظهر في المنزل..التي لاتعرف كيف تتخلص منها..حدثته عن اللحي الطويلة والنقاب والإسدال واللون الأسود الذي يغزو الكلية..عن الطالب الذي نصحها بارتداء ملابس محتشمة..وعن الزميل الذي كان يعتقد أنها مسيحية لأنها لاترتدي حجابا..عن التعليقات السخيفة التي تسمعها وهي تتسوق في أحد المولات..وقال لها الأب بأنه السبب في كل ما تعانيه..لأنه لم يكن يعتقد في الخرافات..وأن المنزل الذي يقطنون فيه الآن بني علي أرض كانت مقبرة..
10
في الموعد المحدد جاء شريف وحيدا ومرتديا بنطالا جينزا وتشيرت نايك بربع كم وحذاء رياضيا ماركة أديداس..وكانت الأم والخال في انتظاره..وبعد الترحيب والتصافح جلس واضعا ساق علي ساق..وأخرج سجارة وعزم علي الخال ..وحين اعتذر الرجل بأنه لايدخن..أشعلها لنفسه..وجذب نفسا عميقا ونفثه في الهواء ..وبدون تحفظ تحدث بأريحية شديدة..وكان الحديث أبعد ما يكون عما أتي من أجله..تحدث عن مهزلة الانتخابات الرئاسية الأخيرة..عن الرجل الذي يرفع شعار( طربوش لكل مواطن)..عن أيمن نور وأنه لايصح أن يكون رئيس مصر اسمه أيمن..عن مبارك الذي يتعامل وكأنه يحكم شعبا من المغفلين..وهذا أكبر دليل علي عبقريته..فنحن كذلك فعلا..هل يوجد شعب في العالم يقضي ثلاثين عاما في بناء هرم..هل يوجد شعب في العالم يرضي أن يبقي لأكثر من ألفي عام تحت حكم الغرباء..ويؤمن بالدين الذي يؤمن به حكامه..ويتحدث بلغتهم..هذا شعب يستحق كل ما يحدث له..وبرغم الذل والقهر والجوع والناس مازالت مصرة علي الزواج وإنجاب أولاد ليكرروا المأساة التي عاشوها..أنا سأرتبط بالآنسة هبة ..وسنسافر إلي انجلترا..هي فين ..مش باينة؟؟..ونادي عليها بصوت جهوري:
- ياهبة..ياهبة..
بالطقم الجديد وبالمكياج تواري الشحوب واستعادت تألقها..ودون اعتبار لأحد ..قام من مكانه ..وتوجه ناحيتها..ورفع يدها ولثمها علي طريقة ليوناردو دي كابريو مع كيت وينسلت في تيتانك..الآن راح أثر الصدمة والذهول..وبدأت الأم ..وبدأ الخال في استيعاب هذا الكائن الغريب..وانشرحت الأسارير المنقبضة..ولاحت علي وجيهما -فجأة- محبة غامرة له..إنه فعلا صورة طبق الأصل من الابن عماد..نفس الغرور..ونفس الأنانية..ونفس الوقاحة..ولكنها تنطلق من حب ..لامن كراهية..فهو يعيش في العالم كأنه بيته..ويتدلل علي الناس كأنهم أهله..لا يعرف الخبث..ولا الحذر..ولا التجمل..وهو يعطي للآخرين نفس الحرية التي يعطيها لذاته..لايتدخل في حياة أحد..ولا في اختياراته..وانجذب له الخال..الذي اكتشف أنه مازال قادرا علي الضحك والتنكيت..وعلي إطلاق القفشات..وسرعان ما أصبح الاثنان صديقين حميمين..لايمر يوم دون أن يتصل أحدهما بالآخر..
11
الخال زين السلاب..أصلع..وبدين..وقصير..ومربوع القوام..ومفعم بالحيوية..وعاش عمره متدينا..وماشيا علي الصراط المستقيم..وانحرافاته اقتصرت علي فترة الجامعة في طب إسكندرية..فيها عرف التدخين..والعلاقات العاطفية المحرمة..ولكنه لم ينزلق أبدا إلي الزني..كان كل هذا في السنة الرابعة..وعندما سقط في نهاية العام..كانت كارثة بكل المقاييس..فهو لم يتعود أبدا علي الفشل..ولايعرف كيف يواجهه..أو يتعامل معه ببرود أعصاب..ثار علي نفسه..وقررأن يعود إلي ربنا..وعاد..وانضم إلي أسرة الإخوان المسلمين في الكلية..وكانت حالته الميسورة تسمح له باستئجارشقة..وكان يستضيفهم فيها..بدلا من بنات الهوي..إلي أن زاره والده علي حين غرة ..ورآهم معه..كانوا يقرآون القرآن علي سجادة في الصالة..وهم جالسون في شبة حلقة..واندفع الدم إلي رأس الأب..تاجرالعطارة الشهير في السكة الجديدة بالمنصورة..وطردهم..وبعد أن انصرفوا صاح فيه
- أنا لو جيت ولقيت عندك نسوان أهون عندي من الجماعة دول..إنت عايز تودي نفسك ورا الشمس..وما نعرفلكش طريق جرة..يازين يابني..اللي عايز يعبد ربنا..عنده القرآن..وعنده مليون جامع..أما ينضم لجماعة سياسية مستخبية ورا شعار الاسلام هو الحل ..لأ..الإسلام مش حل ..ومش مشكلة..الاسلام دين ..والدين لغة بين ربنا وبين عباده..واللغة مش كلام..وخطب..اللغة إحساس ..إشارة..تلميح ..إيماءة.. واللي بيحب ربنا بجد ..ربنا بيفيض عليه من فضله وكرمه..واللي بيحب ربنا ..بيحب الناس كلها..ويصاحب الناس كلها..وما بيكرهش..حتي اليهودي والنصراني..واللي بيعبدوا النار..
والد زين محب للصوفية..ولايفهم الإسلام إلا من خلالها..وقلبه دوما يردد مع محيي الدين ابن عربي
عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
ولم يكن زين لديه القدرة علي معارضة أبيه..لأنه هو الذي يصرف عليه..وإغضابه سيقلب حياته رأسا علي عقب..لابد أن نعترف أن المال هو عصب الحياة..وبدونه تتوقف تماما..والذي يصرف عليك ..لا يجب عليك أن تخالفه في كل ما يأمرك به..وإذا أردت التمرد فتحمل عاقبة أمرك..ولكن علاقة زين بالأب..كانت أكبر من الفلوس..كان زين واثقا بأن لايوجد رجل في المحروسة كلها يفهم الحياة كما يفهمها والده..والده الذي نشأ نشأة فقيرة في أحد أرياف مدينة دمياط..واستطاع-بعصامية- أن يصبح واحدا من أثرياء المنصورة ..والصوفية التي يحبها..ويحب أتباعها..لاتمنعه من مباشرة تجارته..والنجاح فيها..انتكاسة زين الثانية عن تدينه كانت في فترة الامتياز..تحت وطأة رغبة مشتعلة في وجود امرأة إلي جواره..بعدها عاد إلي المنصورة..وعمل في المستشفي العام..وتزوج..وحرص دائما أن تكون سمعته كالجنيه الذهب..حتي التدخين الذي لم يستطع أن يتوقف نهائيا عنه..كان يمارسه في الخباثة..وكان الأب يعرف..وبخبرة تاجر- دعكته الدنيا- لم يشأ مواجهته..أن يدخن خمس أو ست سجائر في اليوم خيرمن أن يمارسه جهرا ويصل إلي علبة وعلبتين..
انتكاسة زين الثالثة عن الدين كانت نظرية أكثر منها عملية..مشكلة العقم التي يعاني منهاوضعته وجها لوجه أمام أسئلة وجودية كثيرة..عن العدل والظلم..والصبرواليأس..والخيروالشر..عن الحكمة من تلك الحياة..والغاية من العذاب في الدنيا..وهل الإسلام هو الدين الصحيح وبقية الأديان باطلة؟؟..فأخذ يقرأ بنهم في كتب الفلسفة..في البداية لم يفهم شيئا..ومع الوقت اتضحت أمامه خارطة الطريق..وبدأت تتساقط الكثير من المسلمات..واشتعل صراع من نوع جديد..صراع بين العقل والإيمان..واقتنع أخيرا أن الإيمان يجب ألا يخضع للعقل..يجب ألا تسأل..أنت مؤمن بالله ورسله وكتبه وكفي..لا تسأل هل القصص القرآنية حدثت حقيقة أم لا؟لاتسأل عن حقيقة الإسراء والمعراج؟؟لاتسأل عن الناسخ والمنسوخ؟؟..لاتسأل هل الإنسان مسير أم مخير ؟؟..ودوما سيردد
- الإيمان يتنافي مع العقل بطريقة غريبة الشكل يادكتور شريف..أقسم بالله..فرويد وماركس وسارتربيقولوا كلام عن الدين فوق ما يتصوره عقل..كلام غريب الشكل..أنا عندي كتاب عن الدين والأسطورة..بيقول كلام أقسم بالله يكفر..يكفر بطريقة غريبة الشكل..العرب ماعادش ليهم لازمة علي وجه الكرة الأرضية..انتهت القصة خلاص..ما بنفكرش غير في الأكل والنسوان..وأفكارنا قديمة وبالية ومتحجرة بطريقة غريبة الشكل ..أقسم بالله ..يادكتورشريف..الكلام اللي أحنا بنقوله ده علي مستوي الأوضة..مايطلعش برة..أقسم بالله ..أنا في دماغي أفكار لو سمعها رجال الدين يرجموني..اللغة العربية انتهت القصة خلاص..ماعادتش تنفع..لغة ميتة وعاجزة عن استيعاب التطورات العالمية الجديدة..اقسم بالله لولا القرآن كانت انقرضت من زمان..أيه اللي السلفيين أضافوه للدين..ولا حاجة..بيتكلموا عن أهداف ما بيتكلموش عن وسايل..يابيه..أقسم بالله..اسألهم عن حل مشكلة البطالة..أو حل مشكلة التعليم ..أو حل مشكلة الصحة..أو حل مشكلتنا مع إسرائيل..هتسمع خطب عنترية غريبة الشكل..مش أكتر من كده يابيه..أنا مش مقتنع بأي واحد مش بيدخن..نفسي أعرف بيحافظ علي صحته ليه..دايما اللي بيدخن تلاقيه كريم ..ومرح بطريقة غريبة الشكل..واحد بتهون عليه صحته ..أيه اللي يهون عليه بعد كده..أقسم بالله يابيه عمرك ما هتقابل واحدة اسمها هبة ومش جميلة..مع أنها بدأت في الأيام الأخيرة تفكر بطريقة غريبة الشكل..فيه ريحة معفنة في البيت..وأقسم بالله ما فيه أي حاجة..أنا خلاص من كتر القراية ماعدتش باشوف الحمد لله..ما عادش فيا غير مناخير..أقسم بالله يابيه..
كان الخال زين اكتشافا مذهلا لشريف..فكم هو طيب..وكم هو خفيف الظل باللزمات الكلامية التي يكررها( غريب الشكل..فوق ما يتصوره عقل..أقسم بالله يابيه)وبأحكامه القاطعة التي لاتقبل الشك..وكم هو ثري في مناقشاته..والغريب أنه حريص- برغم أفكاره- علي تأدية الصلاة في مواعيدها..وحقيبته -التي يحملها أين توجه- لاتخلو من مصحف..
ويسأله شريف ذات يوم
- ممكن يادكتور زين لو مارتبطتش بهبة مشاعرك ناحيتي تتغير
فيرد الخال بتدفقه المعهود وضاحكا ضحكته الساحرة
- إزاي ..أقسم بالله ياد.شريف..صلة الأفكار أقوي من صلة الأرحام ألف مرة..أنا مابلاقيش نفسي غير معاك ..ومع مراتي..وأيام زمان مع هبة.. علاقتي بقرايبي تكاد تكون انتهت ..ماعندهمش كلام غير في الأكل والشرب وعايزين يشتروا كذا..وعايزين يصيفوا فين..وما فيش أكتر من كده..أنا متعتي في القهوة مع سجارة مارلبورو ابيض ..واقعد اقرا في كتاب للجابري أو محمد أركون..أو جابرعصفور..أو زكريا ابراهيم..أو في قعدة زي اللي احنا قاعدينها دلوقت..عمري ماانزل اجيب أي طلب للبيت مخصوص..وانا راجع من العيادة أو المستشفي أشتري بالمرة..الوقت عند الغرب بفلوس..واحنا هنا بنبعزقه بطريقة غريبة الشكل..بتضحك ليه..ياشرشر..
- لأ..أبدا ..أصل أنت عندك أفكار (غريبة الشكل)
تلمع عيناه..ويفهم الدعابة ..ويضحك..لحظتها يتأكد شريف أن العالم لم يزل بألف خير..
12
في حياة كل إنسان حقيقة مرة.. عقدة..نقطة ضعف..وصمةعار..عاهة..لعنة أبدية..يحاول إخفاءها..محوها..إنكارها..الهروب منها..وتظل تطارده..تخنقه..تحاصره..تفسد حاضره ..ومستقبله..نومه ..ويقظته..ولاحل..ولامفر..سوي بالموت..أو..الاعتراف بها..وإشهارها أمام الجميع..
والحل الأخير يحتاج إلي رقي إحساس..وإلي عبقرية إرادة..وإلي موت قلب..وهذا ما كان يفتقده شريف بندق..لايريد أن يعترف أن أباه مسجون في قضية مخدرات..وأن لحمه نبت من حرام..وأن النعيم الذي يرتع فيه الآن بسبب هذا الأب الذي يخجل منه..ولم يفكر يوما في زيارته..ولد في حي الخليفة بالقاهرة..وأبوه قهوجي..والمقهي عبارة عن زاوية صغيرة في بيت آيل للسقوط..وأخوته الكباريعملون مع الأب..وعندما كان في الثانوية العامة انتقلوا من المنزل القديم إلي منزل فخم بحي المنيل بالقرب من قصر الأمير محمد علي..ولأنه كان المتعلم الوحيد بين أخوته..وكانت تظهر عليه علامات النبوغ..قرر الأب أن يضمن له مستقبلا كريما..واشتري له عمارة في الشيخ حسنين بالمنصورة- مسقط رأس الأب- في نهاية الثمانينات ..وكتبها باسمه..ووضع عقد الملكية عند أمه(جدة شريف) هناك..وفي العام الذي التحق فيه بآداب المنصورة قبض علي الأب في صفقة ضخمة نشرتها الجرائد القومية آنذاك..وصودرت أملاك الأب..وحكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاما مع الأشغال الشاقة..وفلتت عمارة المنصورة بأعجوبة..وعاد إخوته مع والدته إلي البيت القديم..وأفشي لهم الأب بسر العمارة..ونصحهم بأن ينتظروا عامين أو ثلاث حتي تكون الأنظار ابتعدت عنهم..وأيضا يكون شريف قد بلغ إحدي وعشرين عاما..ويبيعونها..ويبدأون مشروعا نظيفا يعيشون منه..وقد كان..باعوا العمارة ..ووزعوا إيرادها عليهم بالتساوي..واشتروا لشريف الشقة التي يعيش فيها حاليا علي المشاية في إحدي العمارات القريبة من فندق المارشال الشهير..ولعل أسرة شريف هي السبب في عدم ارتباطه..وإن حاول أن يعطي الموضوع أبعادا فكرية..هو أول من يعلم ببطلانها..وهو لم يزل حتي الآن غير قادر علي مصارحة هبة بحقيقة أسرته..
الأسرة التي لابد من حضورها لتأخذ علاقتهما شكلا أكثر شرعية وجدية..
13
مازالت هبة تعاني من موضوع الرائحة إياه..ومازالت عاجزة عن النوم المشبع..ولكن بدرجة أخف كثيرا عن ذي قبل..كان الخروج مع شريف يملأها تفاؤلا وسعادة..أما شريف فقد أصبحت تلح عليه فكرة الهروب من تلك المسئولية التي ستفتح جرحا قديما..وستجعله يظهر بمظهر العاجز الضعيف الذي ينتظر رأي الآخرين فيه..البنت لقطة..وبنت ناس قوي..عاداتهم في الطعام والشراب ..وفي كل التفاصيل اليومية الصغيرة عادات أرستقراطية لايعرفها محدثو النعمة..وغنية جدا..وتحبه حبا يقترب من العبادة..ولكن لا..يفتح الله..وذات أمسية- وهما يتناولان العشاء في أحد الكافيهات الفاخرة- فاجأها
- لسة بتشمي الريحة
انتفضت ..كمن لدغها عقرب..وسألته والدموع تطل من عينيها علي استحياء
- مين قالك؟؟
- عرفت وخلاص..
- مستحيل تكون عرفت من ماما أو خالو زين..إنت أكيد شميتها..والله ياشريف إحنا ناس نضيفة قوي..ومش عارفة الريحة دي مصدرها أيه..
- أنا ما شميتش أي ريحة..الهوا اللي في بيتكوا يتعمل منه أحلي برفانات..
- بجد؟؟
- طبعا..
- طيب الحمد لله
محاولا افتعال مشكلة
- إنت هتاخديني علي قد عقلي..
- ليه ياحبيبي بتقول كده؟
- سؤال واضح ومحدد..إنت بتشمي ريحة وحشة في البيت ولا لأ؟
- باشمها.لكن من يوم ما تأكدت إني هابقي معاك علي طول ..الموضوع قل كتير..
- قل ..بس لسة موجود..لازم تعرضي نفسك علي دكتور نفسية وعصبية..
- أنا مش مجنونة ياشريف
- لأ..مجنونة
لايعرف كيف نطقها..كيف كان قاسيا إلي هذا الحد مع ملاك ..
أجهشت في البكاء..
- ما ينفعش كده..امسكي نفسك..كل الناس بتبص علينا..قومي ياللا نمشي..وعيطي في العربية علي راحتك..
14
غريب أمر هذا الحب..كأنه حرب..يفترس فيها القوي الضعيف..ما إن يكتشف أحد الأطراف ضعف الطرف الآخرحتي يستعبده..ويذله..ويهينه..ويتحكم فيه..ويتلاعب بمشاعره..وينفر منه..ويتوقف عن حبه ..والتفكير فيه..وهاهو شريف بندق..الذي لم يحلم في يوم من الأيام أن تحبه فتاة كهبة..التي كم لهث خلفها شباب من علية القوم..هاهو يركلها..لأنها أحبته بجنون..ولم تعد قادرة علي السيطرة علي مشاعرها أمامه..لم تعد تريد شيئا من الدنيا غيرأن تسمع صوته..وتتأمل ملامحه الخالية من الوسامة..كل حلمها أن ترتمي في أحضانه..وتنسي..تنسي كل شيء..ويبدو أن الإنسان- وليس شريف وحده- يرفض هذا النوع من الحب المستسلم..والداجن..الذي لا يقاوم..ولا يكذب..ولايراوغ..ولايعرف أن يقول مائة (لا) مقابل كل (نعم)..
ثلاثة أيام وهاتف شريف مغلق..ولا يأتي إلي الكلية..وهي لاتفعل شيئا غير انتظار اتصاله..اعتذرت عن المحاضرات..وجلست في المكتبة تقرأ في رواية(أوقات صعبة) لتشارلز ديكنز بنصف عقل..وكل حواسها مع هاتفها المحمول..وعندما يرن تلتقطه بلهفة..وتصدم عندما يكون اتصالا من مامتها أو خالها..تفكر في كتابة رسالة أخري..وتتراجع..فالرسالة الأولي التي كتبتها لم تصل بعد..بلغ توترها ذروته..وكان لابد أن تدخن..وباستهتار يائس أخرجت علبة السجائر من الحقيبة..وخرجت لتدخن أمام المكتبة..والعيون تنظر لها في دهشة واستنكار..
استدعاها عميد الكلية..فأطفأت سجارتها الثانية وذهبت..لم يكن الساعي موجودا..نقرت علي الباب نقرتين ..ودفعته..استقبلها الرجل بوجه بشوش
- اتفضلي ..يادكتورة هبة
جلست علي طرف الكرسي ..وهي مطرقة إلي الأرض..لا عن خوف ..ولكنها لم تكن راغبة في النظر أو الاستماع إلي أي مخلوق..أولاد الطبقة المتوسطة فقط هم من يخافون من رؤسائهم..أما الأغنياء فلا..المرتب الحكومي كله أقل من مصروفها
اليومي..
قال
- أنت تعرفين أنني كنت دائما معجبا بإخلاصك وتفانيك في عملك ..وثقتي في أخلاقك كثقتي في أخلاق بناتي تماما..ولكن الناس يابنتي الآن لم يعودوا يهتمون بغير المظاهر..وتدخينك أمامهم هكذا سيفتح بابا لكلام لا أحب أن يقال عنك..منذ فترة وأنا ألاحظ أنك مرهقة ..وأنصحك بأن تأخذي إجازة لأسبوع أو أسبوعين تستجمين فيها..نحن الآن في أواخر أكتوبر.. والجو في رأس البر رائع وبديع..وأتمني أن أراك كما اعتدت دائما متألقة وممتلئة بالحيوية..
15
لم تنتبه هبة إلي كلمة واحدة من كلام سيادة العميد..كانت تنتظر ..فقط تنتظر اتصاله..ثم فكرت بأن ماهي فيه أكبر من شريف..السبب في الرائحة الكريهة الموجودة في البيت..البيت المبني علي مقبرة..ظلت هذه الأفكارتهاجمها وهي تقود سيارتها عائدة إلي المنزل..وفي هذا اليوم تلقت شتائم لا حصر لها من سائقي الميكروباصات..ولكنها لم تعد تبالي..حتي الرائحة الكريهة لم تعد تخنقها..بل أصبحت تستمتع بها أكثر من مسرحيات شكسبير وسيمفونيات بيتهوفن..
وفي تلك اللحظة التقطت هاتفها من الحقيبة وقذفت به في الشارع..كان من نصيب شحاذ يجلس أمام أحد المساجد في شارع الجلاء..دخلت المنزل وكانت سعيدة أكثر من أي وقت مضي..وسعادتها أعمتها عن رؤية مامتها الجالسة في الصالة..توجهت إلي غرفتها..وجدتهم واقفين بلحاهم السوداء الطويلة وجلابيبهم القصيرة وأمامهم طاولة خشبية عليها زجاجات مسك في حجم الإصبع..فتحت الدولاب..وجدتهم أيضا وأمامهم نفس الزجاجات..انحنت ونظرت تحت السرير..وجدتهم أيضا..انفجرت في الضحك..وهي ترجوهم أن يظلوا معها..لأنها أدمنت رائحتهم..
انتهت..
1
من المؤكد أنك ستعيش وتموت دون أن تري فتاة في جمالها ورقتها واستقامتها..فالله-لحكمة لايعلمها إلاهو- لايخلق مثلها إلا كل مائة عام..في الثلاثين من عمرها..وتعمل مدرسا للأدب الانجليزي في كلية آداب المنصورة..والدها- الذي توفي منذ ثمانية أعوام والذي ورثت عنه حب الشعر- كان أستاذا في كلية الصيدلة..وأخوها الأكبرعماد تخرج في كلية الهندسة منذ عشرةأعوام(أي قبل رحيل الأب بعامين) وسافرإلي الإمارات..وتزوج هناك من مغربية..وقررأن يستقر في دبي للأبد.. وهو من النوع العملي الذي لايعر أي اهتمام للمشاعر الإنسانية..ورغم سهولة الاتصالات في هذه الأيام ورخص ثمنها إلا أنه نادرا ما يتصل بأحد..وحين توفي والده لم يكلف خاطره بالقدوم لحضورجنازته..قد تتعاطف مع شاب فقير يكره هذا البلد ويتمني أن يرحل منه ولايعود..ولكن عماد لم يكن فقيرا..والده وفرله ولأخته ما يجعلهما في غني عن العمل طوال حياتهما..منزل جميل في توريل – أرقي أحياء المنصورة- من أربع أدوارتحيط به حديقة فاتنة..ورصيد ضخم في البنك..ويبدو أن أسبابا أكبر من الفقر هي التي تتحكم في مصير الإنسان علي عكس ما يعتقد ماركس..كأن كل إنسان قد خلق ليعيش في مناخ معين يظل يبحث عنه حتي يجده..وهذا المناخ هو غالبا قيمة روحية أكثر منها مادية..هناك من لايشعر بوجوده إلا في مناخ من الحرية بكل معانيها..حيث لا يسأله أحد عما يفعل..وهناك من لايجد لهذه الحرية أي معني..هو يريد أن يستمتع بدفء القطيع علي حساب أي متعة أخري..ومنذ وضع عماد قدميه في دبي احس بارتياح غريب..هذه هي المدينة التي كان يبحث عنها..والتي تشبهه..كأنه يولد من جديد..وبدت له مصر زنزانة خانقة ومظلمة..وكان لايريد أن يتذكرها بأي طريقة..لذا لم يكد أن يمر عليه هناك ستة أشهر حتي انقطعت أخباره تماما..وامتلأ فكر الأب والأم بالوساوس المهلكة..هل حدث له مكروه؟..هل – لاقدر الله- مات؟..وعاشوا في حداد عليه..وكانت المفاجأة المفرحة الحزينة- بعد عام كامل- من أحد أصدقائه هناك..هو حي يرزق ..وتزوج..وأنجب..ويعيش حياة رغيدة..كان الحلم أن يسمعوا صوته..وهيهات..كانت نجوم السماء أقرب..في هذه الفترة تعرض الأب لأزمة قلبية حادة – بعد طول حزن- مات في إثرها..وارتدت الأم – وهي مازالت في ريعان فتنتها-الثوب الأسود..وارتسمت علي وجهها تجاعيد الحداد الأبدية..أما هبة فلم يكن لديها ما تفكر فيه في هذا العمر سوي نفسها..
2
كانت الغرور يسير علي قدمين..وكان لديها الحق في ذلك..فالفرق شاسع بينها وبين زميلاتها..تقف أمام المرآة – كنرسيس بطل الأسطورة الإغريقية- وتقول لنفسها
- لايوجد علي ظهر الأرض رجل يستحقني سوي ريتشارد جير..
وبخبث شديد كانت تتواضع..وتتحدث مع أكثر زملاءها الأولاد فقرا..كأنها لاتعرف أنها جميلة..وتستمتع بنظرات العشق والهيام في أعين الجميع..ولكن أحدا لم يجرؤ علي مصارحتها بشيء..مع أنها كانت مستعدة أن تفتح قلبها لأول طارق..ليس للحب ذاته..ولكن لتتعرف علي عالم الرجال عن قرب أكثر..واضطرت أن تبدأ هي..وكان أحمد توفيق هو صيدها الثمين..الأول علي الدفعة ..ومشروع الشاعر الكبير..ونجم حفلات الكلية ..وهو الوحيد الذي يتجنبها..كأنه الوحيد الذي يفهمها..يفهم كذب تواضعها..وزيف ضحكتها..وهي لذلك تريده..لتثبت لنفسها- قبل الآخرين- أنه لا رجل يستعصي عليها..وسرعان ما وقع..وتأكدت أن عزوفه عنها لم يكن إلا محاولة ريفية وطفولية لجذب اهتمامها..فالرجل الذي يستطيع مقاومة امرأة جميلة وغنية لم يخلق بعد..واحتقرته..لأنه ليس قويا..وليس واثقا في نفسه كما يحاول توصيل ذلك للآخرين..بالرغم من أنه يمتلك جميع المؤهلات التي تجعله رجلا استثنائيا..وتوقعت – علي عكس ما يتوقع له أساتذته وزملائه- أنه سينتهي شخصا عاديا جدا..العظمة تبدأ من ثقة حقيقية في الذات..وهو هش وضعيف..ويكاد يبكي إذا مر يوم ولم تتصل به كما عودته..بعد شهرين فقط قطعت علاقتها به إلي غير رجعة..وسرعان ما تحققت نبوءتها..تدهور مستواه الدراسي..واقتصر شعره علي البكاء علي أطلالها..وقال بعض الخبثاء أنها فعلت ذلك عمدا لتحتل المركز الأول الذي احتكره لثلاث أعوام متتالية..وجاء تقديره في العام الدراسي الأخيرا مخيبا للآمال..مقبول..وبهذا انطوت صفحته تماما..لعله يعمل الآن مدرسا في قريته (نوسا البحر)..ولعله سيعيش العمر معتقدا بأنه لولاها لكان له شأن كبير..وهل يستطيع أن يعيش الفاشلون دون أن يلقوا زكائب فشلهم وتعاستهم علي ظهورالآخرين؟؟
3
تعيش هبة الآن مع مامتها في شقة الدور الثاني..ويقوم الخال(زين السلاب) بالتشقير عليهم من وقت لآخر..هو رجل خمسيني حنون وتستحي منه الملائكة..ومتزوج من طبيبة تعمل في نفس تخصصه ( النسا والولادة)..ومن سخرية الأقدارأن تحرمهمامن الإنجاب ..ولكنهما راضيان وصابران(أو يحاولان ذلك بكل ما يملكان من إيمان وثقة في عدل الله) ..والخال زين يعشق شكسبيرواللورد بيرون وجون ملتون..والفضل يرجع إلي هبة وترجمة الفذ د.محمد عناني..عمر طويل وهو متقوقع في الأدب المصري العقيم..وأحلي الأوقات عندما يجلس مع هبة ويتناقش معها في مأساة الملك لير وعطيل وهاملت وماكبث..أو يستمع لها وهي تقرأ له شيئا من ملحمة بيرون الساخرة (دون جوان)..ورغم أن الأم كانت تترجاه أن يضغط علي هبة أن ترضي بواحد من زملائها الذين يتقدمون لها قبل أن يتسرب العمر من يديها إلا أنه لم يكن يفعل..فهو يعرف دماغ بنت أخته..عنيدة..وترفض أن يتصور أحد – مجرد تصور- أنه يعرف مصلحتها أكثر منها..لم تقابل الرجل الذي يملأ عينها حتي الآن..
ويعرف أيضا أن حياة أخته قد تنتهي بزواج ابنتها هبة..ويقول لنفسه هل قضي علي الإنسان أن يعيش حياته وهو مطارد بالوحدة واليأس..كيف يمكن العزف علي كمان ناقص الأوتار..لم أقابل إنسانا إلا وفي حياته وتر ناقص..يجعل كل سيمفونياته شائهة ومبتورة وجالبة للحزن أكثر من البهجة..والأمل الوحيد – ليصير للحياة معني- هو التجرد من الذات والاستغراق في الموضوع..شجرة نزرعها دون ان ننتظر ثمرها وظلها..ونهر نحفره دون أن ننتظر أن يروينا..وطريق نمهده دون أن ننتظر السير عليه..الهلاك والشقاء في انتظار نتيجة..لذلك كان أسعد البشر هم من عاشوا وماتوا في سبيل مبدأ..وبذلك لم يكن لديهم الوقت ولا الدموع للبكاء علي أنفسهم..ولكن من يستطيع أن يفعل ذلك سوي الأنبياء..
4
ليل المنصورة لايقل سحرا عن ليل القاهرة..وخصوصا علي المشاية(الكورنيش)..مزيج بديع من صفحة النيل الفضية وهي تتلألأ وتعلن رضاها عن أضواء السيارات الفاخرة وواجهات المحلات الراقية..كأن المنصورة- مركز المجموعة الشمسية- تمتلك يدا سحرية تحول القبح إلي جمال فاتن..في حوالي التاسعة مساء يكون شريف بندق – مدرس النقد وزميل هبة في الكلية- جالسا مع إحدي مززه في نادي الجزيرة..والجرسون (مدحت) يقدم لهما المنيو في انحناءة مهذبة وكريمة.. لاتوجد مهنة وضيعة..مدحت جرسون برنس..يشعر زبائنه بأنه لايقل رقيا عنهم..بتفانيه الشديد في عمله..وحرصه المطلق علي راحتهم..عندما تكون عبدا للعمل الذي تؤديه ..فحتما ستكون سيدا أوندا لمن تقدم لهم عملك..الجزمجي الشاطروالمخلص والمتفاني في عمله مستحيل أن تشعر أنك أرقي منه..كأنه لايهم المهنة التي تعملها ولكن الأهم كيف تعملها..وهذا هو الفن..طريقة ما في عمل شيء عادي جدا..هناك من يعملون في وظائف راقية جدا..ولكنك لاتحترمهم..لأنهم يؤدونها بطريقة عادية وروتينية..طريقة تخلو من الشغف والاهتمام..ولذلك يفقد مع الوقت وجههم مرونته وبشاشته وفرحه بالدنيا..ما جعلني أتكلم عن مدحت بهذا الإ سهاب هو
حب شريف بندق له..ينشرح قلبه له عند رؤيته..رغم أنه لم يتبادل معه سابق حديث.. كل ما يعرفه عنه اسمه فقط..والضحكة التي تلمع في عينيه حين يراه مع مزة جديدة..ضحكة تقول( باحسدك علي ذوقك..إنت باشا كبير قوي قوي..ممكن تقوللي إزاي بتقدر تعمل كده..)..وشريف أدمن تلك النظرة الضاحكة المتحدثة..لدرجة أنه بلهفة سأله عن سر غيابه بالأمس ..فأجاب مدحت بأدبه المعتاد
- كنت تعبان يادكتور شريف
ارتسمت علي وجه شريف ضحكة عريضة ..ضحكة إعجاب وعجز عن الامتنان..وقال
- ياااه..دانت عارف اسمي كمان
وهو مازال منحنيا بزاوية تقول بأنني خادمك المطيع ولكنني ابن ناس أيضا مثلك
- طبعا يافندم..حضرتك أشهر م النار عاالعلم
- ماشي يامدحت..ألف سلامة عليك..
- تؤمرني بأي حاجة يافندم
- شكرا يامدحت
من يعرف شريف من بعيد يتصور أنه إنسان مستهتر بلامشاعر..ولا مباديء..فهو خمورجي..وبتاع نسوان..ولا يقدس غير مصلحته ومتعته..عندما يطلبه أحد في خدمة..يرد عليه بمنتهي الجفاء والغلظة
- آسف..مش هاقدر..
مهما كانت هذه الخدمة تافهة..كأن يطلب منه أحد الزملاء أن يحضر له كارت شحن أو علبة سجائر وهو قادم في الطريق..هو لايطلب شيئا من أحد ..ولا يريد من أحد أن يطلب منه شيئا.. هو لايبالي بأي إنسان كائنا من كان ..والكلام السييء الذي يقال من خلف ظهره لا يهز شعرة في رأسه..أن تكون محبوبا من الناس فهذا معناه أن يطمعوا فيك ..وألا يكفوا عن ملاحقتك بطلباتهم الرذيلة..علاقته بالآخرين تنحصر في هذه المعادلة ( لكي أفيدك يجب أن أستفيد منك بنفس القدرحتي علي مستوي المشاعر المعنوية)..وكانت هبة لاتكف عن التفكير في هذا الإ نسان الغريب والمعقد..وتتلهف علي سماع آخر أخباره..وكم تمنت أن تنقذه من نفسه..المدهش أنه محبوب من الطلبة والطالبات..وفي محاضراته لاتكاد تعثر علي مقعد شاغر واحد ..أما محاضراتها فهي تعرف أن الطلبة لايحضرون إلا للفرجة علي طقمها الأخير..علي الصدر المفتوح..علي الساقين المخروطتين..ويستمعون إلي صوتها الذي يشبه صوت الفنانة الراحلة راقية أبراهيم..وكان لابد أن تعرف..وكانت الطريقة الوحيدة أن تقدم – بجسارة لاتفتقدها- علي حضور أحد محاضراته..وليكن ما يكون من إشاعات لايتقن المصريون شيئا سواها..
5
عندما دخلت المدرج تسارع الطلبة لتوفير مقعد مريح لأستاذتهم..ويابخته من أسعده حظه بالجلوس قريبا منها..عطرها مسكر كأقوي أنواع الخمور..وبدا المدرج كأنه صرح زجاجي حسبته (هبة) لجة فكشفت عن ساقيها..ولكن شريف لايحاول إبهارها..هو يتحدث كما اعتاد ..بطلاقة وصراحة وسخرية..وذهلت هبة..إنه يمتلك نفس روح (اللورد بيرون )الساخرة..يهزأ ويسخر من كل ما اعتدنا علي تقديسه..
ودق قلبها..لأول مرة يدق بحق وحقيق..ولمن؟..لآخر رجل في الدنيا كانت تعتقد أنه يستحق ذلك..للرجل الذي يتعامل مع المرأة كأنها زجاجة كونياك..ولا يحتقر شيئا قدر احتقاره للحب والزواج..ويردد دائما أن الوفاء لأجسادالآخرين هو خيانة لأجسادنا..ويسخر من هؤلاء الرجال الذين يعيشون ويموتون بين أفخاذ امرأة واحدة..الرجل قادر علي حب مئات النساء..ويعتقد أن سر تعاسة البشر في التعامل مع الكل لا مع الجزء..عندما نعجب بعضو في المرأة نتصور أننا نحبها كلها..حتي مع الرجال..نقول بأننا نكره فلانا لأنه كذاب ..أو لأنه لا يصلي..أو لأنه مغرور..والكراهية – كالحب- عمياء..لا تجعلنا نري الصورة بوضوح ..هناك إنسان كذاب ولكنه مرح وخبرته بالحياة تستحق أن نتعلمها..وهناك إنسان لايصلي ولكنه جدع وخدوم ومثقف ومحب للناس بإخلاص..وهناك مغرور طيب..وهناك مغرور ساذج ..فالصفات الجميلة موزعة علي البشر..والأعضاء الجميلة موزعة علي النساء..لا توجد امرأة قادرة عي إعطاء رجل جميع مايريده..والعكس أيضا..
هذه هي بعض معتقدات شريف بندق ..الذي حصل علي الماجستير في النقد الأدبي من أحد الجامعات الإنجليزية..والذي وقعت هبة في حبه دون أن يسمي أحد عليها..
6
تغيرت هبة في الفترة الأخيرة كثيرا..فقدت الكثير من نشاطها وحيويتها..وأصبحت تعاني من الشرود وفقدان الذاكرة..وأصبحت المحاضرات عبئا ثقيلا عليها..والطلبة لاحظوا ذلك..فقدت الكثير من نضارتها ووزنها..وهالات سوداء بدأت تظهر تحت عينيها..وملابسها لم تعد ملتصقة ومشدودة علي جسدها..وانقلب حسد زميلاتها لها إلي عطف وشفقة ..وإلي شماتة في بعض الأحيان..كان واضحا أنها جائعة للنوم..فهي تنام في مكتبة القسم حتي يقع الكتاب من بين يديها..وفي الكافتيريا كانت كؤوس العصير تندلق علي ملابسها..وكثر القيل والقال..والغمز واللمز..وأصبح الجميع يقسم بأن شريف بندق أفقدها عذريتها..وأنها قد تكون حاملا منه..ووصل الكلام إليها فازدادت حزنا واكتئابا..ولم يعرف أحد السبب الحقيقي..وهو الرائحة الكريهة التي بدأت تشمها في البيت..رائحة حيوان ميت ..ومسحت المنزل ركنا ركنا لعلها تعثر عليه ولكن لافائدة..الأيام تمضي والرائحة الكريهة تزداد..وتتوحش..وتستفحل..وهي تكاد تختنق..ولكن الأم لاتشمها..والخال لايشمها..هي وحدها فقط..وأصبحت ترش المنزل بكميات ضخمة من معطرات الجو..فتهدأ الرائحة ..ولاتلبث أن تظهر بعد ساعة ..فتعاود الرش..ولم تعد قادرة علي النوم..والأم تنظر لها بجزع ..وتحاول طمأنتها..أصبح الشغل الشاغل لهبة أن تشتري كل أنواع المعطرات والمنظفات في السوق..وصرفت علي ذلك مبالغ طائلة..وقل إقبالها علي القراءة..والاستماع لموسيقي بيتهوفن وموزار وفاجنر..وفقدت الرغبة في مناقشة الخال في أي موضوعات عامة أو خاصة..كان الرجل يأتي ويذهب دون أن تخرج من حجرتها لملاقاته..بدأت تدخن بشراهة..أملا في أن تنسي تلك الرائحة العفنة..
7
عندما اقترب شريف من هبة..تأكد أنها تختلف عن كل ما عرف من نساء..أميرة إنجليزية بكل ما تنطوي عليها الكلمة من معاني سامية..النبل والأصالة يجريان فيها مجري الدم في العروق..أخذت من الحياة كل ما يجعل أنوثتها تتألق وتسمو..لديها ذوق رفيع في اختيار ملابسها واكسسوارتها..وتقرأ الكتب التي ألفها مؤلفوها خصيصا لبنات الطبقة الراقية..كل شيء في حياتها إنجليزي صميم..الروايات..الأغاني ..الأفلام..وعلاقتها باللغة العربية تكاد تكون منعدمة..
في المنزل لاتتحدث مع والدتها إلا باللغة الإنجليزية..أما مع الخال فرغم أنه طبيب إلا أن طريقة نطقه مثيرة للسخرية والرثاء..وبرغم كبريائها إلا أنها أمام شريف في منتهي الخنوع والطاعة..وأخبرته بأنها لاتريد منه سوي أن تتشرف بأن تكون زوجته..وأنه حتما – وبدون تدخلها- سيمل من حياته العابثة وسيكون لها وحدها في نهاية المطاف..والواقع أن شريف اقتنع أنها هدية يقدمها له القدرعلي طبق من الماس..ومن السخافة إضاعتها..هو يكبر في السن..ولابد من الزواج..إن عاجلا أو آجلا..ولم لا؟؟وقرر أن يتخلي عن كل قناعاته السابقة ..ويتزوج..وباندفاع – اشتهر به- جذب الموبايل من تحت الوسادة وطلبها وأخبرها أن تخبر والدتها وخالها بأنه قادم غدا لطلب يدها..كان يعتقد أن الإرهاق التي عانت منه في الفترة الأخيرة بسببه..وأن هذا القراركفيل بإرجاعها إلي سابق تألقها وحيويتها..
8
ظلت تقفز علي السريرمن شدة فرحتها..وخرجت تعانق أمها التي كانت تشاهد التلفزيون وهي ساهمة..كانت الأم تفكر في الابن الذي ضاع منها.. وهاهي البنت تضيع أمام عينيها..ولاتستطيع أن تفعل أي شيء..قالت هبة منتشية ( بلغة أنجليزية ترجمتها إلي العامية)
- باركيلي ياماما
- مبروك ياحبيبتي..بس علي أيه
- شريف هييجي يقابلك بكرة..هادخل اكلم خالو زين..
( لاتوجد بنت لاتكلم والدتها عن أي علاقة عاطفية تدخلها)
طارت الأم من الفرح..وهي تري ابنتها تسترد عافيتها النفسية..ولكنها تذكرت الأب ..وتمنت أن يكون موجودا في مناسبة كتلك..وانزلقت دمعة علي خدها..وتذكرت عماد ..وأجهشت في البكاء..عادت هبة بعد أن اتصلت بخالها ورأت الأم
- ليه بتبكي ياماما
مسحت دموعها بمنديل جذبته من العلبة التي فوق المنضدة
- دموع الفرح ياهبة..مبروك ياحبيبتي..بس تفتكري هتبقي سعيدة معاه بحياته اللي عايشها دي
ردت رد من سأل نفسه هذا السؤال ألف مرة وكون إجابة واضحة ليقولها في مثل هذه الظروف
- ماما ..أنا مش بابقي سعيدة غير معاه..ماعرفش ليه ..عيني ما تجيش في عينه إلا وابقي عايزة أضحك ..واموت من الضحك..بابقي عايزه أحضنه..واحضن الدنيا عشان هو فيها..صريح صراحة مش عادية ..وبيقول كل الكلام اللي الناس بيخافوا يقولوه..أو بيتكسفوا يقولوه..ما بيعملش حساب لحاجة ولا لحد..باحس إنه طفل ..ومحتاج حد ياخد باله منه..وانا معاه بابقي طايرة..بابقي عايزة أولعله السيجارة..أمسح العرق اللي علي جبينه..أطبطب علي كتفه..وعارفه إنه أناني..ويبيع أي حد..عشان يبقي مبسوط..بالظبط كأنه صورة طبق الأصل من اخويا عماد..حد اتخلق عشان يتحب..مش عشان يحب..ماما..الريحة المعفنة بدأت تظهر تاني..هاتخنق..
وجرت نحو غرفتها لترش أكبر قدر من معطرات الجو..
9
في اليوم التالي استيقظت هبة مبكرا..وقلبت المنزل مسحا وتنظيفا حتي كاد السيراميك أن يستغيث من شدة الدعك فيه..كانت تخشي أن يشم شريف الرائحة..ويقول عنها بأنها غير نظيفة..وأنزلت صور أبيها وأجدادها الراحلين- ولم تستطع الأم أن تعارضها- من علي الجدران..فكرت أن تكون الرائحة بسبب الموتي..وفي صندوق محكم الغلق بالدور الأرضي وضعت الصور..وسرعان ما أحست بتأنيب ضمير..فقررت أن تذهب إلي المقابر لتقرأ الفاتحة علي أرواحهم..وهناك شعرت بطمأنينة عجيبة..فقد رأت أباها يفتح باب المقبرة ويخرج ليستقبلها..ويحتضنها..ويدردش معها في أحوالها..حدثته عن شريف..وحدثته عن عماد الذي لم تزل أخباره مقطوعة..وحدثته عن الملل الذي تعيش فيه..ليس في الحياة جديد..الأيام تتشابه..والناس تتشابه..والأفلام والروايات تتشابه..الجديد هو الرائحة العفنة التي بدأت تظهر في المنزل..التي لاتعرف كيف تتخلص منها..حدثته عن اللحي الطويلة والنقاب والإسدال واللون الأسود الذي يغزو الكلية..عن الطالب الذي نصحها بارتداء ملابس محتشمة..وعن الزميل الذي كان يعتقد أنها مسيحية لأنها لاترتدي حجابا..عن التعليقات السخيفة التي تسمعها وهي تتسوق في أحد المولات..وقال لها الأب بأنه السبب في كل ما تعانيه..لأنه لم يكن يعتقد في الخرافات..وأن المنزل الذي يقطنون فيه الآن بني علي أرض كانت مقبرة..
10
في الموعد المحدد جاء شريف وحيدا ومرتديا بنطالا جينزا وتشيرت نايك بربع كم وحذاء رياضيا ماركة أديداس..وكانت الأم والخال في انتظاره..وبعد الترحيب والتصافح جلس واضعا ساق علي ساق..وأخرج سجارة وعزم علي الخال ..وحين اعتذر الرجل بأنه لايدخن..أشعلها لنفسه..وجذب نفسا عميقا ونفثه في الهواء ..وبدون تحفظ تحدث بأريحية شديدة..وكان الحديث أبعد ما يكون عما أتي من أجله..تحدث عن مهزلة الانتخابات الرئاسية الأخيرة..عن الرجل الذي يرفع شعار( طربوش لكل مواطن)..عن أيمن نور وأنه لايصح أن يكون رئيس مصر اسمه أيمن..عن مبارك الذي يتعامل وكأنه يحكم شعبا من المغفلين..وهذا أكبر دليل علي عبقريته..فنحن كذلك فعلا..هل يوجد شعب في العالم يقضي ثلاثين عاما في بناء هرم..هل يوجد شعب في العالم يرضي أن يبقي لأكثر من ألفي عام تحت حكم الغرباء..ويؤمن بالدين الذي يؤمن به حكامه..ويتحدث بلغتهم..هذا شعب يستحق كل ما يحدث له..وبرغم الذل والقهر والجوع والناس مازالت مصرة علي الزواج وإنجاب أولاد ليكرروا المأساة التي عاشوها..أنا سأرتبط بالآنسة هبة ..وسنسافر إلي انجلترا..هي فين ..مش باينة؟؟..ونادي عليها بصوت جهوري:
- ياهبة..ياهبة..
بالطقم الجديد وبالمكياج تواري الشحوب واستعادت تألقها..ودون اعتبار لأحد ..قام من مكانه ..وتوجه ناحيتها..ورفع يدها ولثمها علي طريقة ليوناردو دي كابريو مع كيت وينسلت في تيتانك..الآن راح أثر الصدمة والذهول..وبدأت الأم ..وبدأ الخال في استيعاب هذا الكائن الغريب..وانشرحت الأسارير المنقبضة..ولاحت علي وجيهما -فجأة- محبة غامرة له..إنه فعلا صورة طبق الأصل من الابن عماد..نفس الغرور..ونفس الأنانية..ونفس الوقاحة..ولكنها تنطلق من حب ..لامن كراهية..فهو يعيش في العالم كأنه بيته..ويتدلل علي الناس كأنهم أهله..لا يعرف الخبث..ولا الحذر..ولا التجمل..وهو يعطي للآخرين نفس الحرية التي يعطيها لذاته..لايتدخل في حياة أحد..ولا في اختياراته..وانجذب له الخال..الذي اكتشف أنه مازال قادرا علي الضحك والتنكيت..وعلي إطلاق القفشات..وسرعان ما أصبح الاثنان صديقين حميمين..لايمر يوم دون أن يتصل أحدهما بالآخر..
11
الخال زين السلاب..أصلع..وبدين..وقصير..ومربوع القوام..ومفعم بالحيوية..وعاش عمره متدينا..وماشيا علي الصراط المستقيم..وانحرافاته اقتصرت علي فترة الجامعة في طب إسكندرية..فيها عرف التدخين..والعلاقات العاطفية المحرمة..ولكنه لم ينزلق أبدا إلي الزني..كان كل هذا في السنة الرابعة..وعندما سقط في نهاية العام..كانت كارثة بكل المقاييس..فهو لم يتعود أبدا علي الفشل..ولايعرف كيف يواجهه..أو يتعامل معه ببرود أعصاب..ثار علي نفسه..وقررأن يعود إلي ربنا..وعاد..وانضم إلي أسرة الإخوان المسلمين في الكلية..وكانت حالته الميسورة تسمح له باستئجارشقة..وكان يستضيفهم فيها..بدلا من بنات الهوي..إلي أن زاره والده علي حين غرة ..ورآهم معه..كانوا يقرآون القرآن علي سجادة في الصالة..وهم جالسون في شبة حلقة..واندفع الدم إلي رأس الأب..تاجرالعطارة الشهير في السكة الجديدة بالمنصورة..وطردهم..وبعد أن انصرفوا صاح فيه
- أنا لو جيت ولقيت عندك نسوان أهون عندي من الجماعة دول..إنت عايز تودي نفسك ورا الشمس..وما نعرفلكش طريق جرة..يازين يابني..اللي عايز يعبد ربنا..عنده القرآن..وعنده مليون جامع..أما ينضم لجماعة سياسية مستخبية ورا شعار الاسلام هو الحل ..لأ..الإسلام مش حل ..ومش مشكلة..الاسلام دين ..والدين لغة بين ربنا وبين عباده..واللغة مش كلام..وخطب..اللغة إحساس ..إشارة..تلميح ..إيماءة.. واللي بيحب ربنا بجد ..ربنا بيفيض عليه من فضله وكرمه..واللي بيحب ربنا ..بيحب الناس كلها..ويصاحب الناس كلها..وما بيكرهش..حتي اليهودي والنصراني..واللي بيعبدوا النار..
والد زين محب للصوفية..ولايفهم الإسلام إلا من خلالها..وقلبه دوما يردد مع محيي الدين ابن عربي
عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
ولم يكن زين لديه القدرة علي معارضة أبيه..لأنه هو الذي يصرف عليه..وإغضابه سيقلب حياته رأسا علي عقب..لابد أن نعترف أن المال هو عصب الحياة..وبدونه تتوقف تماما..والذي يصرف عليك ..لا يجب عليك أن تخالفه في كل ما يأمرك به..وإذا أردت التمرد فتحمل عاقبة أمرك..ولكن علاقة زين بالأب..كانت أكبر من الفلوس..كان زين واثقا بأن لايوجد رجل في المحروسة كلها يفهم الحياة كما يفهمها والده..والده الذي نشأ نشأة فقيرة في أحد أرياف مدينة دمياط..واستطاع-بعصامية- أن يصبح واحدا من أثرياء المنصورة ..والصوفية التي يحبها..ويحب أتباعها..لاتمنعه من مباشرة تجارته..والنجاح فيها..انتكاسة زين الثانية عن تدينه كانت في فترة الامتياز..تحت وطأة رغبة مشتعلة في وجود امرأة إلي جواره..بعدها عاد إلي المنصورة..وعمل في المستشفي العام..وتزوج..وحرص دائما أن تكون سمعته كالجنيه الذهب..حتي التدخين الذي لم يستطع أن يتوقف نهائيا عنه..كان يمارسه في الخباثة..وكان الأب يعرف..وبخبرة تاجر- دعكته الدنيا- لم يشأ مواجهته..أن يدخن خمس أو ست سجائر في اليوم خيرمن أن يمارسه جهرا ويصل إلي علبة وعلبتين..
انتكاسة زين الثالثة عن الدين كانت نظرية أكثر منها عملية..مشكلة العقم التي يعاني منهاوضعته وجها لوجه أمام أسئلة وجودية كثيرة..عن العدل والظلم..والصبرواليأس..والخيروالشر..عن الحكمة من تلك الحياة..والغاية من العذاب في الدنيا..وهل الإسلام هو الدين الصحيح وبقية الأديان باطلة؟؟..فأخذ يقرأ بنهم في كتب الفلسفة..في البداية لم يفهم شيئا..ومع الوقت اتضحت أمامه خارطة الطريق..وبدأت تتساقط الكثير من المسلمات..واشتعل صراع من نوع جديد..صراع بين العقل والإيمان..واقتنع أخيرا أن الإيمان يجب ألا يخضع للعقل..يجب ألا تسأل..أنت مؤمن بالله ورسله وكتبه وكفي..لا تسأل هل القصص القرآنية حدثت حقيقة أم لا؟لاتسأل عن حقيقة الإسراء والمعراج؟؟لاتسأل عن الناسخ والمنسوخ؟؟..لاتسأل هل الإنسان مسير أم مخير ؟؟..ودوما سيردد
- الإيمان يتنافي مع العقل بطريقة غريبة الشكل يادكتور شريف..أقسم بالله..فرويد وماركس وسارتربيقولوا كلام عن الدين فوق ما يتصوره عقل..كلام غريب الشكل..أنا عندي كتاب عن الدين والأسطورة..بيقول كلام أقسم بالله يكفر..يكفر بطريقة غريبة الشكل..العرب ماعادش ليهم لازمة علي وجه الكرة الأرضية..انتهت القصة خلاص..ما بنفكرش غير في الأكل والنسوان..وأفكارنا قديمة وبالية ومتحجرة بطريقة غريبة الشكل ..أقسم بالله ..يادكتورشريف..الكلام اللي أحنا بنقوله ده علي مستوي الأوضة..مايطلعش برة..أقسم بالله ..أنا في دماغي أفكار لو سمعها رجال الدين يرجموني..اللغة العربية انتهت القصة خلاص..ماعادتش تنفع..لغة ميتة وعاجزة عن استيعاب التطورات العالمية الجديدة..اقسم بالله لولا القرآن كانت انقرضت من زمان..أيه اللي السلفيين أضافوه للدين..ولا حاجة..بيتكلموا عن أهداف ما بيتكلموش عن وسايل..يابيه..أقسم بالله..اسألهم عن حل مشكلة البطالة..أو حل مشكلة التعليم ..أو حل مشكلة الصحة..أو حل مشكلتنا مع إسرائيل..هتسمع خطب عنترية غريبة الشكل..مش أكتر من كده يابيه..أنا مش مقتنع بأي واحد مش بيدخن..نفسي أعرف بيحافظ علي صحته ليه..دايما اللي بيدخن تلاقيه كريم ..ومرح بطريقة غريبة الشكل..واحد بتهون عليه صحته ..أيه اللي يهون عليه بعد كده..أقسم بالله يابيه عمرك ما هتقابل واحدة اسمها هبة ومش جميلة..مع أنها بدأت في الأيام الأخيرة تفكر بطريقة غريبة الشكل..فيه ريحة معفنة في البيت..وأقسم بالله ما فيه أي حاجة..أنا خلاص من كتر القراية ماعدتش باشوف الحمد لله..ما عادش فيا غير مناخير..أقسم بالله يابيه..
كان الخال زين اكتشافا مذهلا لشريف..فكم هو طيب..وكم هو خفيف الظل باللزمات الكلامية التي يكررها( غريب الشكل..فوق ما يتصوره عقل..أقسم بالله يابيه)وبأحكامه القاطعة التي لاتقبل الشك..وكم هو ثري في مناقشاته..والغريب أنه حريص- برغم أفكاره- علي تأدية الصلاة في مواعيدها..وحقيبته -التي يحملها أين توجه- لاتخلو من مصحف..
ويسأله شريف ذات يوم
- ممكن يادكتور زين لو مارتبطتش بهبة مشاعرك ناحيتي تتغير
فيرد الخال بتدفقه المعهود وضاحكا ضحكته الساحرة
- إزاي ..أقسم بالله ياد.شريف..صلة الأفكار أقوي من صلة الأرحام ألف مرة..أنا مابلاقيش نفسي غير معاك ..ومع مراتي..وأيام زمان مع هبة.. علاقتي بقرايبي تكاد تكون انتهت ..ماعندهمش كلام غير في الأكل والشرب وعايزين يشتروا كذا..وعايزين يصيفوا فين..وما فيش أكتر من كده..أنا متعتي في القهوة مع سجارة مارلبورو ابيض ..واقعد اقرا في كتاب للجابري أو محمد أركون..أو جابرعصفور..أو زكريا ابراهيم..أو في قعدة زي اللي احنا قاعدينها دلوقت..عمري ماانزل اجيب أي طلب للبيت مخصوص..وانا راجع من العيادة أو المستشفي أشتري بالمرة..الوقت عند الغرب بفلوس..واحنا هنا بنبعزقه بطريقة غريبة الشكل..بتضحك ليه..ياشرشر..
- لأ..أبدا ..أصل أنت عندك أفكار (غريبة الشكل)
تلمع عيناه..ويفهم الدعابة ..ويضحك..لحظتها يتأكد شريف أن العالم لم يزل بألف خير..
12
في حياة كل إنسان حقيقة مرة.. عقدة..نقطة ضعف..وصمةعار..عاهة..لعنة أبدية..يحاول إخفاءها..محوها..إنكارها..الهروب منها..وتظل تطارده..تخنقه..تحاصره..تفسد حاضره ..ومستقبله..نومه ..ويقظته..ولاحل..ولامفر..سوي بالموت..أو..الاعتراف بها..وإشهارها أمام الجميع..
والحل الأخير يحتاج إلي رقي إحساس..وإلي عبقرية إرادة..وإلي موت قلب..وهذا ما كان يفتقده شريف بندق..لايريد أن يعترف أن أباه مسجون في قضية مخدرات..وأن لحمه نبت من حرام..وأن النعيم الذي يرتع فيه الآن بسبب هذا الأب الذي يخجل منه..ولم يفكر يوما في زيارته..ولد في حي الخليفة بالقاهرة..وأبوه قهوجي..والمقهي عبارة عن زاوية صغيرة في بيت آيل للسقوط..وأخوته الكباريعملون مع الأب..وعندما كان في الثانوية العامة انتقلوا من المنزل القديم إلي منزل فخم بحي المنيل بالقرب من قصر الأمير محمد علي..ولأنه كان المتعلم الوحيد بين أخوته..وكانت تظهر عليه علامات النبوغ..قرر الأب أن يضمن له مستقبلا كريما..واشتري له عمارة في الشيخ حسنين بالمنصورة- مسقط رأس الأب- في نهاية الثمانينات ..وكتبها باسمه..ووضع عقد الملكية عند أمه(جدة شريف) هناك..وفي العام الذي التحق فيه بآداب المنصورة قبض علي الأب في صفقة ضخمة نشرتها الجرائد القومية آنذاك..وصودرت أملاك الأب..وحكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاما مع الأشغال الشاقة..وفلتت عمارة المنصورة بأعجوبة..وعاد إخوته مع والدته إلي البيت القديم..وأفشي لهم الأب بسر العمارة..ونصحهم بأن ينتظروا عامين أو ثلاث حتي تكون الأنظار ابتعدت عنهم..وأيضا يكون شريف قد بلغ إحدي وعشرين عاما..ويبيعونها..ويبدأون مشروعا نظيفا يعيشون منه..وقد كان..باعوا العمارة ..ووزعوا إيرادها عليهم بالتساوي..واشتروا لشريف الشقة التي يعيش فيها حاليا علي المشاية في إحدي العمارات القريبة من فندق المارشال الشهير..ولعل أسرة شريف هي السبب في عدم ارتباطه..وإن حاول أن يعطي الموضوع أبعادا فكرية..هو أول من يعلم ببطلانها..وهو لم يزل حتي الآن غير قادر علي مصارحة هبة بحقيقة أسرته..
الأسرة التي لابد من حضورها لتأخذ علاقتهما شكلا أكثر شرعية وجدية..
13
مازالت هبة تعاني من موضوع الرائحة إياه..ومازالت عاجزة عن النوم المشبع..ولكن بدرجة أخف كثيرا عن ذي قبل..كان الخروج مع شريف يملأها تفاؤلا وسعادة..أما شريف فقد أصبحت تلح عليه فكرة الهروب من تلك المسئولية التي ستفتح جرحا قديما..وستجعله يظهر بمظهر العاجز الضعيف الذي ينتظر رأي الآخرين فيه..البنت لقطة..وبنت ناس قوي..عاداتهم في الطعام والشراب ..وفي كل التفاصيل اليومية الصغيرة عادات أرستقراطية لايعرفها محدثو النعمة..وغنية جدا..وتحبه حبا يقترب من العبادة..ولكن لا..يفتح الله..وذات أمسية- وهما يتناولان العشاء في أحد الكافيهات الفاخرة- فاجأها
- لسة بتشمي الريحة
انتفضت ..كمن لدغها عقرب..وسألته والدموع تطل من عينيها علي استحياء
- مين قالك؟؟
- عرفت وخلاص..
- مستحيل تكون عرفت من ماما أو خالو زين..إنت أكيد شميتها..والله ياشريف إحنا ناس نضيفة قوي..ومش عارفة الريحة دي مصدرها أيه..
- أنا ما شميتش أي ريحة..الهوا اللي في بيتكوا يتعمل منه أحلي برفانات..
- بجد؟؟
- طبعا..
- طيب الحمد لله
محاولا افتعال مشكلة
- إنت هتاخديني علي قد عقلي..
- ليه ياحبيبي بتقول كده؟
- سؤال واضح ومحدد..إنت بتشمي ريحة وحشة في البيت ولا لأ؟
- باشمها.لكن من يوم ما تأكدت إني هابقي معاك علي طول ..الموضوع قل كتير..
- قل ..بس لسة موجود..لازم تعرضي نفسك علي دكتور نفسية وعصبية..
- أنا مش مجنونة ياشريف
- لأ..مجنونة
لايعرف كيف نطقها..كيف كان قاسيا إلي هذا الحد مع ملاك ..
أجهشت في البكاء..
- ما ينفعش كده..امسكي نفسك..كل الناس بتبص علينا..قومي ياللا نمشي..وعيطي في العربية علي راحتك..
14
غريب أمر هذا الحب..كأنه حرب..يفترس فيها القوي الضعيف..ما إن يكتشف أحد الأطراف ضعف الطرف الآخرحتي يستعبده..ويذله..ويهينه..ويتحكم فيه..ويتلاعب بمشاعره..وينفر منه..ويتوقف عن حبه ..والتفكير فيه..وهاهو شريف بندق..الذي لم يحلم في يوم من الأيام أن تحبه فتاة كهبة..التي كم لهث خلفها شباب من علية القوم..هاهو يركلها..لأنها أحبته بجنون..ولم تعد قادرة علي السيطرة علي مشاعرها أمامه..لم تعد تريد شيئا من الدنيا غيرأن تسمع صوته..وتتأمل ملامحه الخالية من الوسامة..كل حلمها أن ترتمي في أحضانه..وتنسي..تنسي كل شيء..ويبدو أن الإنسان- وليس شريف وحده- يرفض هذا النوع من الحب المستسلم..والداجن..الذي لا يقاوم..ولا يكذب..ولايراوغ..ولايعرف أن يقول مائة (لا) مقابل كل (نعم)..
ثلاثة أيام وهاتف شريف مغلق..ولا يأتي إلي الكلية..وهي لاتفعل شيئا غير انتظار اتصاله..اعتذرت عن المحاضرات..وجلست في المكتبة تقرأ في رواية(أوقات صعبة) لتشارلز ديكنز بنصف عقل..وكل حواسها مع هاتفها المحمول..وعندما يرن تلتقطه بلهفة..وتصدم عندما يكون اتصالا من مامتها أو خالها..تفكر في كتابة رسالة أخري..وتتراجع..فالرسالة الأولي التي كتبتها لم تصل بعد..بلغ توترها ذروته..وكان لابد أن تدخن..وباستهتار يائس أخرجت علبة السجائر من الحقيبة..وخرجت لتدخن أمام المكتبة..والعيون تنظر لها في دهشة واستنكار..
استدعاها عميد الكلية..فأطفأت سجارتها الثانية وذهبت..لم يكن الساعي موجودا..نقرت علي الباب نقرتين ..ودفعته..استقبلها الرجل بوجه بشوش
- اتفضلي ..يادكتورة هبة
جلست علي طرف الكرسي ..وهي مطرقة إلي الأرض..لا عن خوف ..ولكنها لم تكن راغبة في النظر أو الاستماع إلي أي مخلوق..أولاد الطبقة المتوسطة فقط هم من يخافون من رؤسائهم..أما الأغنياء فلا..المرتب الحكومي كله أقل من مصروفها
اليومي..
قال
- أنت تعرفين أنني كنت دائما معجبا بإخلاصك وتفانيك في عملك ..وثقتي في أخلاقك كثقتي في أخلاق بناتي تماما..ولكن الناس يابنتي الآن لم يعودوا يهتمون بغير المظاهر..وتدخينك أمامهم هكذا سيفتح بابا لكلام لا أحب أن يقال عنك..منذ فترة وأنا ألاحظ أنك مرهقة ..وأنصحك بأن تأخذي إجازة لأسبوع أو أسبوعين تستجمين فيها..نحن الآن في أواخر أكتوبر.. والجو في رأس البر رائع وبديع..وأتمني أن أراك كما اعتدت دائما متألقة وممتلئة بالحيوية..
15
لم تنتبه هبة إلي كلمة واحدة من كلام سيادة العميد..كانت تنتظر ..فقط تنتظر اتصاله..ثم فكرت بأن ماهي فيه أكبر من شريف..السبب في الرائحة الكريهة الموجودة في البيت..البيت المبني علي مقبرة..ظلت هذه الأفكارتهاجمها وهي تقود سيارتها عائدة إلي المنزل..وفي هذا اليوم تلقت شتائم لا حصر لها من سائقي الميكروباصات..ولكنها لم تعد تبالي..حتي الرائحة الكريهة لم تعد تخنقها..بل أصبحت تستمتع بها أكثر من مسرحيات شكسبير وسيمفونيات بيتهوفن..
وفي تلك اللحظة التقطت هاتفها من الحقيبة وقذفت به في الشارع..كان من نصيب شحاذ يجلس أمام أحد المساجد في شارع الجلاء..دخلت المنزل وكانت سعيدة أكثر من أي وقت مضي..وسعادتها أعمتها عن رؤية مامتها الجالسة في الصالة..توجهت إلي غرفتها..وجدتهم واقفين بلحاهم السوداء الطويلة وجلابيبهم القصيرة وأمامهم طاولة خشبية عليها زجاجات مسك في حجم الإصبع..فتحت الدولاب..وجدتهم أيضا وأمامهم نفس الزجاجات..انحنت ونظرت تحت السرير..وجدتهم أيضا..انفجرت في الضحك..وهي ترجوهم أن يظلوا معها..لأنها أدمنت رائحتهم..
انتهت..
الاثنين، 18 أبريل 2011
قصة ( الحنبلي)
الحنبلي
1
في قرية نائية من قري محافظة أسيوط نشأ ..وتلقي تعليمه الأساسى ..وبقدرة فذة علي الحفظ والصم استطاع أن يلتحق بكلية الهندسة..وفي هندسة أسيوط اختار قسم العمارة..وبعد ثماني سنوات من الكفاح والنحت في صخرالملازم تخرج..خدعوك فقالوا كلية الهندسة خمس سنوات..هكذا يكتب الطلبة علي جدران وأبواب ومقاعد المدرجات..قصير..ومفتول العضلات ..وغليظ القسمات..ووجهه عليه غضب الوسامة والقبول..نعم هناك وجوه دميمة ولها قبول وحضوروجاذبية..أما وجه حافظ الدشناوي فوجه إرهابي ..وخصوصا بعد أن أطلق لحيته ليزيد الطين بلة..ومع ذلك لايتحمل رؤية امرأة قبيحة..الجمال هو معبوده..وكأن كل إنسان يعبد ما ينقصه..وكان شرطه الأساسي عندما أراد الزواج أن تكون ملكة جمال..إذن عليك بالمنصورة..هكذا نصحه أولاد الحلال.. حافظ ليس له أي تجارب عاطفية..سبعة وعشرون عاما وهو يعيش في قوقعة من الجدية والصرامة لايخرج منها..واضح.. وصريح ..وحاد..ولايعرف المراوغة..ولا الخبث..ولا اللف والدوران..مافي قلبه علي لسانه دائما..يكره التجمل كراهية عمياء..أو علي وجه الدقة لايجيده..ولم يحاول..هو راض عن نفسه هكذا..يكره أنصاف الحلول..ولايعرف من الألوان غير الأبيض والأسود..بمعني ياتحلبي ياكسر قرنك..هو الأبن الأكبر لأب يعمل بالفلاحة ..له أخوان يصغرانه..سعيد في رابعة طب ..وعبد الرحمن يعمل في النجارة بعد أن طفش من المدرسة بسبب مدرس رياضيات بغيض..دائما مدرسو هذه المادة بغيضون..ربما لو كان إقليدس حيا لفعل بهم ما فعله هتلر باليهود..
مازال المدرسون في مصر يعتقدون أن الخرزانة هي خير وسيلة لتربية وتعليم التلاميذ..ومازالت الحكومة تعتنق نظرية العصا والجزرة في حكم الشعب..ومازال المتدينون يعتقدون أن الجلد والرجم هو الوسيلة الناجعة للحد من انتشار الفاحشة..ومازال حافظ يعتقد أن الرجل لابد أن يكون سي السيد والزوجة لابد أن تكون أمينة..
2
للمرة الأولي يخرج حافظ عن طوع أبيه ..ويرفض بإصرار أن يتزوج من ابنة عمه رحاب..الأب كان قد اتفق مع أخيه علي كل شيء..ولم يبق إلا أن يطاطيء حافظ رأسه ويقول بخجل العذاري
- اللي انت شايفه يابا
ولكن حافظ تمرد ..وجعل رأس أبيه مثل السمسمة أمام من يساوي ومن لايساوي..
والأم تهمس في حزن مولولة
- آدي اللي احنا خدناه من تعليمه..عشان ما اتعلم وبقي باشمهندس نفسه كبرت علينا..وبقي يمشي من راسه ومن دماغه..إحنا اللي نستاهل ضرب الجزمة..قالوها زمان حكمة.. العليل لما يشفي بينسي جميل المداوي..
ومنذ تلك اللحظة كانت القطيعة(غير المعلنة) بين حافظ وأهله..وبعدها بعامين سيتقدم لخطبة غادة الحداد..ملكة جمال كما أراد ..ولكنها حاصلة علي دبلوم تجارة..من قرية تابعة لمدينة المنصورة..أخت رفعت الحداد زميل دراسته .. ورفيق حجرته في المدينة الجامعية.. كان حافظ مندهشا من أن يكون هناك رجل بكل هذا الجمال..العينان الخضروان..والبشرة البيضاء كنور لمبة النيون..واليد الناعمة كالزبدة..وعندما كانت تقع عيناه عليه وهو يقوم بتغيير ملابسه كان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم..ومع ذلك كان يحلو له أن يختلس النظر إليه..وفي أحلام يقظته كان يتخيل امرأة علي شاكلته..ويسخن ويرتعش ثم يرتخي ويبرد..ثم يغتسل ويصلي..ثم يستغفر ويقرأ القرآن..ويقول له رفعت بإعجاب
- صوتك في القرآن جميل قوي ياحافظ ..أنا بجد باحسدك عليه..بس عايز أقولك حاجة مش عارف حلال ولا حرام ..أنا كان نفسي يبقي صوتي حلو عشان ابقي مطرب..
ينسي حافظ ما كان عليه منذ دقائق ويعيش دور الواعظ
- يا أخي استغفر الله..الغناء حرام بأقوال جميع الفقهاء
بسذاجة يسأله رفعت
- ليه حرام ..واحد ربنا وهبه صوت حلو بيخلي الناس تبقي سعيدة ..أيه الحرام في كده
بغضب رقيق يجيبه
- السعادة في ذكر الله يارفعت..واضح من كلامك أنك تجلس مع زميلنا العلماني أحمد طنطاوي كثيرا..وأنا أحذرك منه..سيفتنك عن دينك..
- يعني أيه علماني
- العلمانية هي اللادينية..تقول بأنه لادين في السياسة ولا سياسة في الدين..أي أنهم ينادون بالا نحلال وترك الحبل ع الغارب للنساء..
- معقول طنطاوي عايز كده..ده مش بيسيب فرض..
- حيلة يقوم بها ليقنع ضعيفي الإيمان بأن ما يدعو إليه هو الإسلام الصحيح..وهو كفر بين..
- هو انت مع الإخوان ولا السلفية
بتردد يجيب حافظ إذ انه تذكر ملفه في أمن الدولة والإهانة التي تعرض لها علي أيديهم في بداية انضمامه للسلفية..
- بقلبي مع السلفيين ولكنني لست منضما لأي جماعة..
3
لابد من القول بأن حافظ شخص غير متعصب علي الإطلاق علي عكس ما يبدو من هيئته وكلامه..بل هو إنسان يميل إلي المرح والدعابة عندما يترك نفسه علي سجيتها.. وثقافته الدينية كانت ثقافة فقر بالأساس..كانت هي الثقافة الوحيدة المتاحة والمطروحة في قريته النائية في أوائل السبعينات(أولي سنوات طفولته..هو من مواليد عام النكسة..الجيل الذي لم يأخذ من مصر شيئا ولم يعطها شيئا في المقابل) ..لم يكن في المنزل تلفزيون..ولم يكن في قريته بأكملها بيت واحد به رواية لنجيب محفوظ أو كتاب لطه حسين..لم يكن هنالك سوي راديو عتيق علي حافة نافذة وسط دارهم الطينية..
(كان من المعتاد في الدور القديمة أن تكون حواف النوافذ عريضة وتتسع لوضع أشياء كثيرة منها صينية القلل والراديو كما كانت تتسع أيضا لنوم القطط )..
هذا الراديو لايذيع سوي إذاعة القرآن الكريم..المسجد المجاور أيضا كانت به مكتبة تحتوي علي كتب مثل تفسير ابن كثير وصحيح البخاري والداء والدواء..وكانت هناك الأضرحة التي تملأ القرية..وكان هناك تسليم الفلاحين الفطري بالمكتوب والقسمة والنصيب..حتي عدد الأقباط في قريته كاد أن يكون معدوما..باختصار كانت القرية أحادية الثقافة ..وهذا ماانعكس بوضوح علي شخصيته التي لاينطبق عليها سوي وصف الحنبلية..
4
أبوه أيضا كان حنبليا باقتدار..ولم يكن يحلو له إذا سنحت له الفرصة بإمامة المصلين في صلاة جهرية سوي قراءة السور الصعبة..ولم يكن نسيانه ومراجعة المصلين له سببا وجيها لاختيار آيات أكثر سهولة وأيسر حفظا..في حوالي الستين من عمره..لايكف أبدا عن تقديم النصائح للآخرين رغم أن أحدا لا يدعوه إلي ذلك..ومن المناظر المألوفة والمملة والمضحكة أن تراه واقفا يشرح لأحد في الميضة كيف يتوضأ وضوءا صحيحا..أو كيف أن طريقة ركوعه تبطل صلاته..أو أن الجلباب الذي يرتديه أطول من اللازم وهذا مانهي عنه الرسول لأنه علامة من علامات الكبر..وفي الفلاحة نفس الكلام..يتصرف كأنه مهندس زراعي..واعتاد دائما أن يقول لأخيه نهاية كل محصول وهو يضرب كفا بكف
- أنا والله العظيم باستغرب..مافيش حد في البلد مهمل زيك.. وعويل زيك..ومع ذلك مافيش أرض بتجيب محصول قد أرضك..
ومع ذلك لم يكن يتعلم..ولم يكن يتوقف عن الاهتمام بأدق التفاصيل..هناك دفتر صغير في حجم كف اليد في جيب الصديري يدون فيه كل شادرة وواردة..كراسة لحافظ بخمسة قروش(شلن)..كيلولحمة بخمسين قرش..نقطة لابن فلان الفلاني جنيه..
ومن المدهش أن يكون حافظ الوحيد بين أخوته الذي يرث كل تلك العادات بلا استثناء..
5
كانت معرفة (حافظ )للقاهرة – طوال فترة دراسته- قاصرة علي زيارته لعمته (بدوية) في الإجازة الصيفية..ونظرا لعدم إنجابها فكان يحظي – هو وأخوته- بعطفها الشديد..تزوجت في أواخر الخمسينات من عجوز قاهري كان يعمل بتجارة الأقمشة..وانتقلت معه للسكن بحي السيدة زينب..وكان الرجل غنيا – غني غيرفاحش-وكريما..بعد وفاة زوجته وهجرة أولاده في السبعينات لدول الخليج كان لابد من امرأة شابة تخدمه وترعي مصالحه..وكان يعرف أن عطاءه الجنسي لم يعد علي مايرام..لذا كان لابد أن تكون الزوجة قطة صعيدية مغمضة وقبيحة ليضمن وفاءها..وبلعبة قدرية غير مفهومة وقع اختياره علي بدوية..كانت قد اقتربت من الثلاثين دون أن يتقدم أحد لخطبتها..والثلاثين في تلك الفترة كانت سنا كبيرة جدا بالنسبة لامرأة..كانت قريناتها قد أنجبن أولادا وبناتا في سن الزواج..ولكنها أبدا لم تيأس..وكانت تعتقد أنها ماهي فيه سببه عمل عملته لها إحدي بنات الحرام اللائي يغرن منها ومن جمالها وجمال طباعها..وكانت دائمة اللف علي المقامات والأضرحة..ونصحها بعض الطيبين أن تزور مقام الطاهرة وام العواجز السيدة زينب..ومن العجائب أن يأتي العريس فور زيارتها بأسبوع..والأكثر عجبا أن يكون من نفس الحي..وبعد أن كانت (بدوية) مثار إشفاق نساء قريتها أصبحت بين عشية وضحاها مثار حسدهن..وكان المهر الذي دفعه التاجر للمرحوم أبيها حديث القرية لمدة تقترب من العشر سنوات..استطاع أن يبني به بيتا طينيا واسعا وجميلا.. لم يكن هنالك بيت في القرية يضاهيه سوي بيوت أعيانها..ومن المفارقات أن ماكان في يوم من الأيام مدعاة للفخر والزهو أصبح مدعاة للخزي والعار..عاشت بدوية مع زوجها الطاعن في السن حياة لم تكن تحلم بها..وتعاملت مع عجزه الجنسي باعتباره أمرا من الأمور الطبيعية..لم تتصور أبدا أن رجلا يستطيع أن يعطيها متعة أكبر من تلك المتعة الخاطفة والمبتورة..ومن الأيام التي لا تنسي عندما شاهدت – وكانت قد تخطت الستين- فيلما فاضحا علي القمر الأوروبي..كانت الصدمة عنيفة ومذهلة..أن تكتشف أن حياتها انتهت دون ذرية ودون متعة جنسية حقيقية..ولحظتها احتقرت كل ما تعيش فيه من نعيم..ولم يدم إحساسها بالحزن طويلا(ماحدش بياخد أكتر من نصيبه..والمكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين ..وانا احسن من غيري كتير)..هذا الجيل القديم كان يمتلك ميزة يفتقدها الجيل الحالي وهي أنه لم يكن يعطي للمتع الدنيوية اهتماما عظيما..وكان يعتبر أن الحرمان هو الأصل في هذه الحياة..أعرف أن هذا الموقف ليس صحيحا..ولكن ليس صحيحا أيضا أن نتخيل أن الإشباع هو الأصل..وأن جميع رغباتنا لابد من تحقيقها..لاشك أن أصحاب الموقف الأخير هم أكثر عذابا وأقل فهما للحياة..
6
العمة بدوية كانت الشجرة الخضراء الوحيدة في طفولة حافظ القاحلة..فهي التي تكفلت بمصروفات تعليمه ..وهي التي كانت تكافئه عند النجاح..وهي التي كان يفخر بها أمام زملائه دائما..كانوا ينبهرون عندما يخبرهم بأن عمته تعيش في القاهرة..وأنه يزورها كل عام..ووعدته بأن تأخذه العام القادم لزيارة حديقة الحيوانات والأهرامات(أطفال هذا الجيل لم يعرفوا دريم بارك)..ولم يكن هذا صحيحا فالعمة بعد عشرين عاما أو يزيد علي السكن في القاهرة كانت بالكاد تتعرف علي شوارع الحي الذي تعيش فيه.. ولكنه كذب الأطفال الأبيض..هل يوجد كذب أبيض فعلا؟؟..أم أنها حكمة المصريين في التسامح مع كل الأخطاء البشرية..فالكذب في حدود المعقول أبيض ..والنفاق في حدود المعقول دردحة..والإدمان في حدود المعقول كيف..والإسراف في حدود المعقول نزاهة..والبخل في حدود المعقول حرص..والقسوة في حدود المعقول لابد منها لتربية الأولاد..الشعب المصري واقعي جدا..ويدين كل الأشياء في حدودها القصوي..حتي وإن كانت خيرا..فالشخص الطيب جدا هو في نظر المصريين عبيط وأهبل وخيخة ودهل وشرابة خرج..والشعب المصري لايعتبر الباطل غريبا عن الحق (عايز الحق ولا ابن عمه)..المهم أن حافظ بعد هذه الأكاذيب الطفولية لم يعد إليها بعد ذلك أبدا..
7
عقب الأزمة التي نشأت بين حافظ وأبيه بسبب رفضه الزواج من ابنة عمه تدخلت العمة بدوية وحاولت من الصلح بينهما..ولكن الأب كان رأسه ناشفا كالعادة ورأس حافظ أنشف منه..لدرجة أن الأب صرخ في وجه الابن
- قسما عظما لو مااتجوزت بنت عمك لاانت ابني ولا اعرفك..ووشي ما يجيش في وشك ولالساني يتحط علي لسانك ليوم الدين..
وعاش حافظ في تلك الفترة صراعا لاحد لقسوته..فهو المتدين الذي يعرف ذنب عقوق الوالدين..وأنه ينبغي عليه أن يطيعهما في كل شيء ماعدا الكفر..وأخبره الكثيرون من الشيوخ بأن ما يأمره به أبوه ليس من الكفر في شيء ..فهو يعرف مصلحته أكثر منه..ولكن حافظ كان يعرف أن إصرار أبيه علي هذه الزيجة يكمن خلفها طمع في الأرض التي سترثها البنت الوحيدة عن أبيها..ولكنه لم يستطع إعلان ذلك..وأخيرا وجد الحل الذي سيريحه..منذ صغره وهو مرتبط وجدانيا وعقليا ببرنامج بريد الإسلام الذي تذيعه إذاعة القرآن الكريم في السابعة من صباح كل يوم
ويعاد في السابعة مساء..وقرر أن يراسله..وكم كانت فرحته عظيمة وهو يستمع إلي مذيعه المفضل (عزت حرك) وهو يقول:
- وصلت إلي البرنامج رسالة من المستمع حاء سين دال محافظة أسيوط يقول فيها ما حكم الشرع في....................
ويذكر أن الشيخ عطية صقر- رحمه الله- رد عليه بأسلوبه المميز في الحديث بأن الخروج عن طاعة الأب في مثل هذا الأمر ليست حراما شرعا للعواقب الوخيمة التي قد تنشأ عن هذه الزيجة من عدم حفظ للفرج وغض للبصروهو ما يتعارض مع ماأمرنا به الرسول..وقال بأن البحث عن الزوجة الجميلة من الأمور المستحبة طالما كانت ذات دين..هذاوالله ورسوله أعلم..
- الرسالة التالية وردت من المستمعة عين شين ألف..يستطرد المذيع المحبوب ذو الصوت الدافيء بينما حافظ لم يزل غارقا في نشوته..
8
عام كامل وحافظ يسبح في نهر من العسل..بدأ باقتراح العمة أن ينتقل للسكن معها في القاهرة.. كانت تعيش في بيت أنيق من دورين ورثته عن المرحوم زوجها..نسيت أن أخبركم بأن سعيد – أخو حافظ الأصغر-لم يكد يكمل عامه الثالث حتي أخذته العمة لتقوم بتربيته..وتحكي العمة بأن المرحوم زوجها أحب سعيدا أكثر من أولاده أنفسهم..ولم يبخل عليه بالحب ولا بالفلوس..واليوم الذي ظهرت فيه نتيجة الثانوية العامة وكان سعيد فيه من الأوائل علي الجمهورية واتصل الوزير بنفسه بالمنزل ليقوم بتبشيرهم أغمي علي المرحوم من الفرحة..ولم يكن يصدق عينيه وهو يري السعيد علي شاشة التلفزيون في برنامج أماني وأغاني مع المذيعة جميلة سماعيل..كانت هذه الأيام السعيدة هي آخر أيام المرحوم..مات في نفس اليوم الذي وقع فيه الزلزال الشهيرفي اكتوبر1992..وقع من علي السريروارتطم رأسه بالكومودينو وأصيب بارتجاج في المخ..بعد ساعة واحدة كانت صعدت روحه ألي بارئها في استقبال مستشفي المنيرة التي يعمل بها سعيد الآن أخصائيا في الجراحة العامة..
9
رب ضارة نافعة..هاهو حافظ يعيش في بيت لم يكن يحلم به..بيت به تلفزيون ملون وثلاجة ومروحة وحمام أفرنجي وأنتريه ..بيت له جرس علي الباب..بيت له أكثر من بلكونة..بيت له فيه غرفة خاصة..بيت يطل علي بيوت تسكنها البنات الجميلات..بيت يطل علي شارع متدفق بالحياة..بالضوضاء الموسيقية..بالزحام المطمئن..
( الزحام نوعان..زحام يطمئنك..وزحام يخيفك ..)بيت لا تخرج منه إلا وأنت تتمني أن تعود إليه بأقصي سرعة..وأقصي حنين..
10
القاهرة جميلة ومرعبة..وبناتها يتكلمن بجرأة تصل إلي حد الوقاحة..وملابسهن المحزقة والملزقة تصل ألي حد الفجور..وأخوه سعيد كأنه غريب عنه..نعم أصغر منه بأربع أعوام ..ولكنه واثق في نفسه..وخبرته بالحياة كبيرة..والمصيبة أنه لايصلي..ولا يصوم رمضان..ويتحدث عن الصحابة بأسلوب غير لائق..والألفاظ القبيحة تخرج من فمه بدون صعوبة ..كأنه يتلذذ بنطقها..وشرائط عمرو دياب ومحمدمنير تملأ غرفته..ولديه نسخة – لاأدري من أين أتي بها- من قصة الملحد نجيب محفوظ التي يسخر فيها من الله والأنبياء..كيف يجرؤ الملحدون علي فعل هذا..ولماذا لاتنزل عليهم صاعقة من السماء( في نفس اللحظة التي كان يفكر فيها فوجيء بموجز عاجل للانباء عن خبرالاعتداء علي نجيب محفوظ في العجوزة..ومزقه شعور بالفرح وتأنيب الضمير) ..اصبر ياحافظ..الماسك علي دينه في هذا الزمان كالماسك علي الجمر..الإسلام عاد غريبا كما بدأ يارسول الله..اكتملت علامات الساعة ..ولم يبق سوي المسيخ الدجال والدابة التي تكلم الناس..جاهلية العرب الأولي أخف وطأة من تلك الجاهلية التي أسير بين ظهرانيها..هذه البنت التي ترتدي ملابس تظهر أكثر مما تخفي..أليس لها أب؟؟ ..أليس لها أخ ؟؟..أين ذهبت غيرتكم يامسلمون..ولكنني أريد أن أتزوج بأي ثمن..فأعصابي توشك علي الانهيار..
الأغبياء لايعرفون مدي السعادة في تطبيق شرع الله..الزواج من أربع..وما ملكت الأيمان..آه كم أتمني أن أضاجع زوجاتي الأربع في نفس الوقت..متعة ما بعدها متعة..ولكن فيما يبدو أن هذا حرام..أعوذ بالله..لولا الحرام والحلال لأصبحت أكثر أهل الأرض فجورا..من حسن حظ الفجرة أنني مؤمن وأخشي الله..وإلا ما تركت لهم امرأة يهنأون بها..
11
التحق حافظ بالعمل بإحدي شركات المقاولات في القاهرة الجديدة..ولأنه لايدخن..ولأنه لايجلس علي مقهي..ولأنه لا يدخل مطعما..ولأنه لايشتري جريدة..ولأنه ينظف أسنانه بالمسواك لا بالمعجون..ولأنه لايحلق ذقنه..فقد كان المرتب الذي يتقاضاه – 800جنيه شهريا- مجزيا جدا..وفي خلال عامين كان قد ادخر مبلغا محترما يمكنه من فتح بيت..كانت خصيتاه- من شدة احتقانهما- علي وشك الانفجار..ولم تكن امرأة قادرة علي إثارة خيالاته سوي تلك التي علي شاكلة صديقه الجامعي رفعت الحداد..في هذه الفترة كان الاحتكاك بينه وبين أخيه سعيد قليلا جدا..بمجرد التحاقه بالعمل انتقل إلي السكن بجوار موقع عمله..الذي توفره الشركة لعامليها..وكان السكن غير آدمي بالمرة ..ولايليق بعامل ناهيك عن مهندس..ولكن حافظ تعود أن يعيش في أحلك الظروف..الغرفة كانت ضيقة وخانقة..ولايوجد بها سرير..كان ينام علي حسيرة..ولم يكن بها دولاب يضع فيه مستلزماته..كان لديه شنطة ضخمة فيها كل شيء من الأبرة للصاروخ..كان زملاؤه يسمونه (حافظ تحسبا)..فهو يحتفظ بجركن ماء تحسبا لانقطاع المياه..ويحتفظ بالشموع تحسبا لانقطاع النور..ويحتفظ بأبرة وخيط تحسبا لا نقطاع الهدوم..ويحتفظ بمشمع تحسبا لنزول المطر ورشح السقف..ويحتفظ بشومة جوار الحسيرة تحسبا لهجوم لص..
ويحتفظ ببطانية بالية تحسبا لاشتعال حريقة أثناء قيامه بعمل كوب شاي علي السبرتاية..ومع ذلك فهو يعتبر تلك الفترة أسعد أيام حياته..تعاسته الحقيقية بدأت بالزواج..
12
الأثر الذي يتركه الزوج في زوجته ليلة الدخلة لايمحي..كانت المرأة في نظر حافظ عبارة عن وجبة شهية يلتهمها بكل ما يملك من حواس..لا مناغشات..لا مداعبات..لا كلام..لاشيء سوي الانقضاض المفاجيء..يحرز الأهداف قبل أن يطلق الحكم صفارة البدء..وغادة لم تكن في سذاجة أخيها رفعت..نعم هي محجبة ..ولاترفع عينها من علي الأرض..وكلامها عبارة عن همس خافت يحتاج إلي إنسان يمتلك أذن كلب لكي يسمعه..ولكنها قضت ثلاث سنوات في مدرسة التجارة..حيث تبادل الخبرات العاطفية والجنسية بين الفتيات..حيث لاكلمة تقال إلا ويوضع مكانها لفظ خارج علي الحياء..يكفي أن تقول فتاة : عايزة قلم حتي ينفجر الفصل بالضحكات الفاجرة...القلم وأصابع الطباشير والعيش الفينو الطويل والخيار والموز كلها ألفاظ لا تحتمل سوي معني واحد بذيء..وفتاة في جمال غادة وأنوثتها لم يكن من الممكن أن تنجو من يد مدرس الأقتصاد والإحصاء:إمام السلاموني..كان في الأربعين من عمره..فارع القامة..والخصلة البيضاء التي تزين مقدمة شعره تعطيه جاذبية جنسية لاتقاوم..دائما في سن المراهقة تنجذب الفتيات إلي رجال في مثل هذا العمر..المراهقة التي تبحث عن الاحتواء ..عن حضن تشعر فيه بالطمأنينة..وبتفسير فرويد يمكن أن نعتبر هذا الحب هو حب موجه إلي الأب..ولما كان هذا الحب حراما وملعونا فإن القلب يتحايل علي الموضوع ويقع في حب أقرب رجل يشبه الأب..لم يكن من الممكن أن تنسي إمام السلاموني وهو أول من لفت نظرها أنها تمتلك نهدين لانظير لهما..كانت لمساته تجعلها تحلق في سماوات من النشوة التي لاتشعر بربعها وهي في كامل علاقتها مع حافظ..لم تكن غادة راضية بهذه الزيجة من الأساس..فهي لم تفاجأ أبدا بما يفعله..كانت قد وصلت إلي مرحلة التعرف علي سلوك الرجل الجنسي من نظرة واحدة..ولم يكن لشخصية حافظ سوي التصرف بهذا الشكل..رغم تواضع تعليمها كانت تمتلك عينا قادرة علي الغوص في أعماق من تقابلهم كأنها قادرة علي رؤية جميع حقائق الوجود..وصديقاتها كن يستمعن لها باندهاش..باختصار كانت تمتلك خبرة عاهرة..رغم أنها لم تعرف سوي رجل واحد فقط ..وعلاقتها به لم تتعدي مرحلة التفريش..وزواجها من حافظ كان نابعا من ثقتها المطلقة في عقلهاوجسدها..كانت متأكدة أنها ستستطيع تغييره..الرجولة ليست جسدامفتول العضلات فحسب..الرجولة فن..قدرة علي التعبير والعزف علي أوتار الأعصاب..أعصاب الأنثي الشديدة الرهافة..وخطأ واحد قادر علي تحويل السمفونية إلي نشازوضوضاء وضجيج..الجنس الرائع- ككل عمل فني رائع- لابد أن يشترك فيه اثنان..لن يستمتع بسيمفونيات بيتهوفن سوي مستمع له نفس إحساسه..وكانت غادة شهوانية إلي أقصي درجة..وقبل الزواج كانت حياتها منحصرة في الفرجة علي الأفلام الرومانسية وقراءة روايات إحسان عبد القدوس..كانت هي دائما البطلة الظامئة والباحثة عن الارتواء..ولكنها أكتشفت بعد آلاف المحاولات أن حافظ حالة ميئوس منها..إنسان موسوس وشكاك وحنبلي..وقليل الحيلة كذبابة محاصرة بخيوط العنكبوت..خناقات لأتفه الأسباب..سلامي باليد علي ابن خالتي كفر..وضحكي أمام الغرباء عهر وفجور..وتأجيلي لغسيل أكواب الشاي قذارة..وأنني أنتمي إلي أسرة بيئة..وزيادة وزني كيلو أو اثنين (أنتي بقيتي عاملة زي الجاموسة كده ليه)..قاموس مفرادته كئيب كوجهه..كأن الكلمات الجميلة قد خاصمت لسانه..كأنه يغار من جمالي الذي يتحدي قبحه..كأنه يعرف في داخله بأنه لايستحقني..دائما يعايرني بتعليمي المتواضع..أنا في نظره غبية ومتخلفة وأدعي الذكاء..أنا التي كنت قطب صديقاتي ..ومازال عائلتي تستشيرني في كل صغيرة وكبيرة..ورغم أنه سيكون لعنة تطاردني بقية عمري..ورغم أن أهلي سيعترضون..ورغم شماتة الشامتين..ولكن لابد منه..من الطلاق فورا..
13
في حياة كل إنسان حادث ما حياته بعده تختلف تماما عن حياته بعده..وكان هذا الحادث في حياة حافظ هو الطلاق..لم يكن له أصدقاء يفتح لهم صدره ..ويفضي لهم بهمومه..كانت شئونه الخاصة سرا أعظم ..لايجوز لأحد أن يطلع عليها..وكان علي يقين من صحة أسلوبه في الحياة..وبعد الطلاق تغير الأمر..تصدعت السماء..واهتزت الأرض من تحت قدميه..وبدأ يقترب من أخيه سعيد..ومن أفكاره الغريبة..باحثا فيها عن شمعة تهديه سواء السبيل..ما الخطأ الذي ارتكبته..لقد راعيت الله فيها..لم تكن تصلي بانتظام..جعلتها تصلي..وكنت أوقظها لصلاة الفجر..وكنت أصلي ركعتين قبل أن أضاجعها..وكنت أعاملها بالحسني..ولكنها كانت فاجرة ..ولم يكن يحلو لها إغرائي سوي في أيام الحيض وفي نهار رمضان ..وكنت أضعف..ثم أنهال عليها ضربا لأنها فعلت ذلك..كانت تريد تحطيم كل ثوابتي ومعتقداتي..أريد الذهاب إلي السينما..أريد الذهاب ألي جنينة الأسماك..أريد السفر إلي أهلي..أريد..أريد..أريد..طلباتها لاتنتهي..ودائما تقارنني بزوج أختها..زوج أختها النصاب..الذي يعيش عالة علي اهلها..ولايكف عن الاستدانة منهم..ومع ذلك علي قلبهم كالعسل..أما أنا فالشيخ الحنبلي المعقد نفسيا والصعيدي القفل..كل هذا لأنني لا أقبل أن أعيش عالة علي أحد..وأريد أن أكتفي بذاتي..كل هذا لأنني لاأقبل الحال المايل..هل كان مطلوبا مني أن أكون خروفا لكي تسير المركب..نعم كانت جميلة..ولكنها تعتقد أنها أذكي إنسانة علي وجه الأرض..كانت تسخر طول الوقت من طريقة أكلي وشربي ولبسي وجماعي..وعندما كنت أقول لها كلاما عاطفيا كانت تنظر إلي نظرتها إلي أبله ومعتوه..كان واضحا أنها لاتحبني..وليست علي استعداد أن تفعل ذلك..تريد أن تصرف بلا حساب..وكأنني أجلس علي كنز..أنا مهندس علي قد حالي..والمرتب بعد الإيجاروفواتير المياه والنوروما يكفينا من أكل طوال الشهر لايتبقي منه شيء سوي دراهم معدودة..ما العيب في تدوين المصروفات..مالعيب في الالتزام بما أمر به الله من فروض وما أمر به الرسول من سنن مستحبة..مالعيب في لحيتي..هل المطلوب مني أن أرتدي جينزا وقميصا بربع كم وسلسلة وإنسيال وأضع في فمي لبانة لكي ترضي النساء عني..أين أنت ياعمر يابن الخطاب لتري نساء هذا الزمن الهباب..
14
أصبحت مأساة حافظ ملهاة زملائه في العمل..الجميع يفسر ويحلل ويسخر وينتقد وينصح ويتعاطف ويشمت ..وحافظ – إحقاقا للحق- يستمع بصدر رحب ووجه ضحوك..
- أثبتت الدراسات والاحصائيات أن تسعين في المائة من حالات الطلاق بسبب السرير
- نعم ..هناك علاقة بين السرير والسرور..وعندما يغيب السرور فلابد أن مشكلة ما في السرير..تقارب المفردات بين الحروف ليس عبثا..هناك دائما هناك علاقة حتي وإن كانت غير ظاهرة..ألا تلاحظون أن ما يحدث علي السرير لابد أن يكون سرا..
- هل معني هذا أن حافظ ضعيف جنسيا
- عيبك ياحافظ إنك واخد الجنس موضوع عافية..والموضوع مش كده..الموضوع يحتاج إلي رقة شديدة..
- سبب فشلك هو عدم التكافؤ في التعليم..البنت بتاع الدبلوم مستحيل تحب مهندس أو دكتورأوصيدلي..دي عايزة واد بيضرب ترامادول وأبتريل يطلع دين أبوها ومع ذلك تحبه وتموت فيه..
( شيك هاند..أنا معاك في الكلام ده)
- المثل بيقول إن كان لك صاحب لا تحاسبه ولا تناسبه
( بطل تقعد مع أمك كتير..)
- حاول ترجعها..واتعلم تطنش..ما تحبكهاش كده..عشان المركب تمشي..
- إنت بدقن ..يبقي لازم تتجوز واحدة منقبة..واحدة دراسات إسلامية..حاجة زي كده..
- اللي حصلك بسبب غضب ابوك وامك عليك..
( علي أساس أهلك راضيين عنك..دا بيلعنوا اليوم اللي خلفوك فيه )
- يابني الجواز نظام اجتماعي فاشل..وما عدش مناسب للعصر اللي احنا عايشينه..إزاي واحد يشتري عربية قبل ما يجربها..لازم الاتنين يجربوا بعض بما فيه الكفاية وبعدين ياخدوا قرار الجواز..ما ينفعش ع العمياني..الانسجام بين الروحين لايتضح إلا من خلال الانسجام بين الجسدين..أيام زمان الزواج كان ناجح كنوع من قبول الأمر الواقع..دلوقتي الناس بتشوف كتير..والشخص اللي ما بيخترش شريك حياته علي أساس صلب وقناعة شديدة بيعيش تعيس طول عمره..
( المشكلة عمره ما مسك إيد واحدة ..بس عايز يبان صايع ومقطع السمكة وديلها)
- عيبك ياحافظ إن ما كانش ليك أي تجارب قبل الجواز..مش قصدي تجارب حرام (وهو قصده)..أستغفر الله..قصدي الحب الطاهر(وهو غير مقتنع بالطهرأساسا) اللي بيخليك تكتشف الجمال اللي جوه روحك..والجمال اللي في الستات بعيد عن جسمهم..الجمال اللي في أغاني أم كلثوم ونجاة وعبد الحليم..الجمال اللي في القمريوم اربعتاشر..الجمال اللي في قعدة ع النيل ساعة عصاري..الحب اللي يخليك تشوف عيوبك وتغيرها عشان اللي بتحبه..عيب قوي علي مهندس يتجوز جواز تقليدي..جواز واحد يشتري جارية من سوق النخاسة..مش واحدة هتبقي شريكة حياتك..
( بعد شهر فقط ارتبط بنفس الطريقة..إذ لم يكن يثق في فتاة تبادله الحب في إطار غير شرعي)
- أنت ليه مكتئب وشايف اللي انت فيه نهاية الكون..دانت خدت القرار اللي كل المتجوزين في مصر مش قادرين ياخدوه..بكرة لما تتجوز واحدة تانية وتدوق فاكهة تانية تحمد ربنا..
(طيب.. ليه عشان اتخصم من مرتبك خمسين جنيه..كنت مكتئب وشايف اللي انت فيه نهاية الكون يابن المتفائلة)
- أنا عندي لك عروسة صاروخ بس مطلقة زيك..
( لاعنده ولانيله..بس عايز يشارك في الموضوع بدل مايبقي قاعد زي رجل البنطلون)
- إزاي عايز واحدة صاغ سليم..انت بظروفك دي حتما ولابد تتجوز واحدة معيوبة..
مطلقة..أرملة..عانس..حد في عيلتها رد سجون..اتحجزت في العباسية فترة في حياتها..قرعة وبتتباهي بشعر بنت أختها..لازم يكون عندك الشجاعة وتشوف نفسك كويس..تلاتين سنة..شكلك أعوذبالله..مطلق..صعيدي..حالتك المادية كرب ..عايز أيه؟؟..ملكة جمال ومؤدبة وبنت ناس واتنين وعشرين سنة!!..اسمحلي ورايا سفر..
( ياريت انت كمان يبقي عندك الشجاعة وتشوف نفسك..كل الناس عارف حكاية مراتك مع السعدني صاحبك وانت نايم علي صرصور ودنك)
- اسمحلي ياحافظ واحد بشخصيتك دي..قدامه طريقين..الأول يتجوز ويعيش تعيس ويتقبل ده..والتاني ما يتجوزش ويتجنن..
( غالبا لو مشي في الطريق التاني هيقابلك)
- نصيحتي ليك ترجع أسيوط ..وتحب علي إيد أبوك..وتتجوز بنت عمك..وتشيل من دماغك حكاية ملكة الجمال دي..وتعمل أفران بلدي..وانت تبقي زي الفل..
- يابني ربنا يكون في عونها الواحدة اللي تستحملك..دانت الشعر اللي علي جسمك يثبت فعلا إن الإنسان أصله قرد..
( وانت اللي يوزنك يتأكد إن الإنسان أصله فيل)
- مشكلتك أنك مش قادر تستطعم الدنيا..عمري ما سمعتك بتقول عن حاجة حلوة أبدا..كل حاجة في وجهة نظرك زبالة ومقرفة وبيئة ومعفنة وقذرة..نفسي أعرف سبب إحساسك الداخلي بالقذارة..علي فكرة كل الكلام اللي انت بتقوله ده انت في الواقع بتوجهه لنفسك..
( ياتري الكلام اللي انت قلته دلوقت موجه لنفسك ولا لحافظ..أرجوك..خد وقت قبل ما تفكر..ردودك السريعة غالبا بتبقي فلسفية أكتر م اللازم)
- حافظ ..حاول تروح لدكتور نفسي..إنت عندك مشاكل نفسية رهيبة..إلحق عقلك قبل مايروح منك وما يرجعش..مش عيب..أنا في أولي جامعة رحت لدكتور عادل صادق..واتعالجت وبقيت زي الفل..
(والله ولا بقيت زي الفل ولا حاجة..جايز كنت الأول أعقل من كده)
- أينشتين بيقول لما تتعرض لمشكلة ما تحلهاش بنفس الطرق العقلية اللي وقعتك فيها..طريقة تفكيرك أثبتت فشلها يبقي لازم تغيرها..
(كلام جميل..ماقدرش اقول حاجة عنه..بس اللي إيده في الزبادي مش زي اللي أيده الشوربة)
- مافيش حاجة اسمها مشكلة أصلا..لما بنشوفها كمشكلة بتبدأ تبان كده..
( دا كلام يتقال في صالون العقاد..ما يتقلش هنا لوسمحت)
-قبل ما تفكر في حل المشكلة لازم تحددها الأول..
( أفادكم الله..الجامعة العربية محتاجة كام واحد زيك عشان يقنعهم بالسوق العربية المشتركة)
- عيبك ياحافظ إنك متوقع من الجواز حاجات أكتر م اللي ممكن يديها فعلا..عايز واحدة تديك كل حاجة وانت ماعندكش حاجة تديها أصلا..غير شوية أوامرعقيمة..
( كلنا بنحلم ياباشمهندس..ولوبطلنا نحلم نموت)
- طول مالجواز هدف بالنسبة لك عمرك ما هتنجح فيه..لازم يبقي لك هدف كبير في حياتك..إنك تبقي متميز ومبدع في شغلك..ساعتها مش هيبقي عندك وقت تاخد بالك م التوافه..أيه المشكلة مراتك سلمت علي ابن خالتها..أو ضحكت معاه..طول ماقدامك وفي حدود الاحترام..مش هينفع تتجوز واحدة وتحبسها في قمقم..وتاني شيء الواحدة لو مش محترمة من نفسها والله لتخونك وانت نايم جنبها علي السرير..
( دا كلام جميل..بس حافظ بيحط العيش الناشف تحت السرير..يعني العشيق لو فكريستخبي..العيش هيرقع بالصوت الحياني)
- عيبك ياحافظ إنك مستغرق في ذاتك أكتر من اللازم..وكل حاجة واخدها علي أعصابك..
( ياراجل دانت السجارة مابتنطفيش في إيدك..ودا معناه إن محدش في الدنيا مستغرق في ذاته قدك..)
- عيبك أنك عايز تبقي سي السيد والدور مش لايق عليك..سي السيد راجل مخلص وصايع وخبرة وتاجر وابن سوق..وانت ما تقدرش تفرض شخصيتك علي أحقر عامل في الموقع..مش عيب إنك تبقي كده.. العيب إنك تكابروتعمل -وانت قطة- أسد..
( ومشكلتك إنك سمكة وفاكر نفسك حوت ..خد بالك لتغرق)
15
لم يعد حافظ قادرا علي النوم باستغراق كما كان يفعل في الأيام الخوالي..ساعات نومه لاتكاد تقترب من الأربع علي أقصي تقدير..والنوم لايأتي بسهولة..ساعات وهو يتقلب..وساعات وهو يحملق في السقف..وعندما ينام فإنه يصرخ بكلمات غير مفهومة..وعندما يخبره أحد زملائه بذلك فإنه يندهش ويسكت..ليته يعرف ماذا يقول وهو نائم ليستريح..أو ليته يستطيع أن يتوقف عن ذلك..كان السؤال الذي يطارده..ماذا فعلت ياإلهي حتي أستحق كل هذا العذاب الذي أعيشه..لقد كنت دوما مؤمنا بك..محافظا علي فرائضك..وعندما طلقت زوجتي..راعيتك فيها..وأعطيتها جميع حقوقها الشرعية..مؤخر صداقها ومتعتها ونفقتها..رغم أنها لاتستحق..فهي التي طلبت الطلاق..عام كامل وأنا أعيش في جحيم..كنت أعرف أنها تكرهني..تكره رائحتي..تكره كلامي..ضحكتي..صمتي..وكان تظاهرها بغير ذلك يوجعني أكثر..ماأبشع أن تكتشف أنك مكروه ..وغير مرغوب فيك..كنت أغرق ..ولاتوجد قشة واحدة أمسك بها..كانت تحاول دائما تشويه صورتي أمام أهلها..وتقول لهم بأنني بخيل..كل مافي الأمر أنني أعرف قيمة القرش الذي لايأتي بسهولة..كل مافي الأمر أنني أكره أن يأتي اليوم الذي أمد فيه يدي لأحد..طوال طفولتي وشبابي وأنا أعيش في فقر مدقع..وكنت أتعايش مع ذلك..ولم يحدث أن خجلت من أسرتي..ولم يحدث أن حقدت علي أحد..كنت راضيا وصابرا..يارب ساعدني..فأنا أريد أن أنام ..أن أنام فقط..
16
كان سعيد يتأمل أخاه ويحزن عليه..ولايعرف كيف يساعده..يتأمله وهو جالس – في اليوم الذي يزورهم فيه- ساهما يأكل في نفسه..يتأمله وهو يجري خلف قطة ويقذفها بفردة الشبشب بعنف وغل وكراهية..يتأمله وهو يطارد ذبابة ليسحقها..يتأمله وهو يدخل الحمام كل ساعتين ليغتسل..يتأمله وهو يقرأ القرآن بصوت جهوري كأنما يحاول التشويش علي نباح أفكاره المسعورة..كان عاجزا عن فهمه..فالملايين يطلقون كل لحظة..وعلماء الاجتماع تحدثوا كثيرا عن أزمة الطلاق وتأثيرها علي المرأة..ولكنهم لم يتحدثوا إلا قليلا عن الرجل..ربما تفاديا لغضب سيدة مصر الأولي..كان سعيد يري أن أزمة أخيه هي أزمة رجل متدين في زمن لاديني..في زمن لم يعد الدين هو المرجعية التي يرجع إليها الناس..الطب النفسي سحب البساط كثيرا من تحت أقدام الدين..والقوانين الوضعية ..والبحث المستميت عن المتع الحسية..والعالم الذي يرتع فيه أبطال وبطلات السينما من فيلات المنصورية وشاليهات مارينا وشواطيء شرم وديسكوهات الغردقة..الكل يتمني أن يعيش في هذا العالم الساحر..لم تعد السعادة في ركعتين بعيدا عن أنظارالناس..السعادة اليوم لم يعد لها طعم دون رؤية الآخرين لها ..الكل يضحك ليقول الناس عنه إنه اجتماعي ومرح..والكل يسافرويتغرب ليحسده الناس علي البيت الذي سيشتريه والسيارة التي سيركبها..أما حافظ فلم يزل يتباهي بأنه صلي الفجر في ليلة دخلته ..وبأنه يختم القرآن كل أسبوع..ياأخي هداك الله وعافاك..هذه الأشياء لم تعد مثار حسد..نحن نعيش في زمن السحابة السوداء لا في زمن الصحابة البيض الكرام.. ولكن أنت لست أفضل من الناس أيضا..المشكلة أنك مثلهم أيضا..ولكنهم يتباهون بالماديات وأنت تتباهي بالروحانيات..يا أخي نحن بشر ضعفاء..وكان لابد أن نرفض الأمانة كما رفضتها السماوات والأرض والجبال..
17
هل تعرفون سبب سعادة الحيوانات والبشر الذين يعيشون كالحيوانات..السبب في أنهم لايحلمون أحلاما مستحيلة..حاولوا أن تتأملواحياة قطة من أول اليوم إلي آخره..تصحو من النوم..تبحث عن أي شيء تأكله..تلعب مع قطة أخري..تنام مع أي قط يراودها عن نفسها..تحاول إطالة تلك المدة بقدر ما تستطيع..حاولوا أن تتأملوا المساحة المكانية التي تفعل فيها ذلك..هي مساحة كبيرة جدا..ملامسة وتجري عشرين مترا..ملامسة أخري وتجري أربعين مترا..وهكذا..أسلوب رائع للحصول علي أكبر قدرمن الإثارة..وأكثر روعة لعلاج سرعة القذف..حاول أن تتأمل قطة وهي نائمة..لاحظ استغراقها العميق في النوم..إنها تنام وكأنها متوفاة..تأملها وهي تشعر بالملل..إنها تتقبل ذلك ولايبدو عليها الاكتئاب بسببه..حاول أن تقسو عليها مرة..اضربها بالشبشب كحافظ..صدقني لن تكرهك..ولن يمضي وقت طويل حتي تعود إليك وهي تهز ذيلها..لاحظها وهي تختطف قطعة لحم من أختها..إنها لاتشعر بالندم من جراء ذلك..لاتعتقد أن القطة لاتعرف الصح من الخطأ..هي تعرف ذلك بالتأكيد..اقذف لها بقطعة لحم ..ستأكلها أمامك..أما إذا اختطفتها من فوق مائدتك فإنها ستجري بعيدا..حاول أن تتأمل قطة وهي تدافع عن أولادها بشجاعة تتنافي تماما مع جبنها المعهود..حاول أن تتأمل قطة وهي تختار مكانا منعزلا قدرالإمكان لتقضي فيه حاجتها..حاول أن تتأمل قطة وهي تأكل بتلذذ..وتشرب بتلذذ..راقبها وهي تموء قبل أن تدخل عليك وكأنها تلقي عليك التحية..كأنها تقول لك إحم إحم دستور ياسيادنا.. حاول أن تتعلم من القطة قوانين الوجود..وتستلهم منها حكمة الطبيعة..فهي حيوان صديق منذ آلاف السنين..وعلي المرء الذكي أن يتعلم من أصدقائه ..
18
لم يكن حافظ وحده الذي يعاني..سعيد أيضا كانت مشكلته أصعب من مشكلة فلسطين..هو يعيش غريبا كسكانها ..ولكنه لايجد من يشعر به ..أو يتعاطف معه.. أويدافع عن قضيته ..استثمارا لمجموعه الكبيردخل الطب..وفي الطب اكتشف أنه بين قوم لايشبههم ولايشبهونه..طلبة تبدأ حياتهم بالمذاكرة وتنتهي بالامتحانات..تبدأبالمرض..وتنتهي بالموت ..وهو يحلم بأن يكون مطربا..الشيء الوحيد الذي ورثه عن أبيه هو حنجرته الذهبية..وفي الحقيقة لم يكن في هذا السن مؤمنا بموهبته الإيمان الذي يجعله يحارب من أجلها..نعم.. في مراحله الدراسية السابقة كان نجما في كل الاحتفالات التي تقيمها المدرسة..فهو يقرأ القرآن..ويتغني بالابتهالات..وينال إعجاب الزملاء والمدرسين..ولكنها هواية..مجرد هواية..وكان من الجنون أن يفكر..مجرد تفكير في أن تنقلب الهواية إلي حرفة..يعتقد سعيد الآن أن العبقرية ليست كفاحا ولا يحزنون..كل مافي الأمر أن هؤلاء العباقرة لم يكونوا متفوقين دراسيا..لذا لم يكن لديهم مستقبل أفضل من الجري خلف موهبتهم الوحيدة..باختصارلم يكن لديهم ما يبكون عليه..ويضرب مثالا بعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم ومنير وعمرو دياب..وحتي الممثلين..كلهم خريجو كليات قاع ودبلوم صنايع باستثناء عدد قليل يؤكد القاعدة ولاينفيها..لايوجد من هم أكثر موهبة من الأطباء في كل المجالات..ولكن من سخرية القدرأنهم طلبة متفوقون ونجباء..وبرغم كل التبريرات التي يقولها سعيد فإن لديه إحساسا بالمرارة أنه لم يعش في الوسط الفني الذي يعشقه برغم سوء سمعته أو ربما بسبب ذلك ..وحاول الذهاب لأكثر من ملحن..ولكن لافائدة..لايحظي من أحد سوي بكلمة: الله ..صوتك حلو قوي يادكتور..وشكرا..ومن يومها وحتي الآن والصراع قائم..نحن الآن في صيف 2010وسعيد في التاسعة والثلاثين من عمره..ولكنه لم يزل يمارس الجراحة علي استحياء..وكأنه ينتظر المهنة التي خلق من أجلها :الغناء..ومتعته المريرة أن يمسك بالعود ويدندن والممرضات يحطن به كالفراشات وعلي وجوههن ابتسامة صافية ومحبة ويرددن في صوت واحد:
والله يادكتور سعيد ..صوتك أحسن من تامر حسني ألف مرة..عيد تاني..
19
في شتاء 1999مرضت العمة بدوية بسرطان الثدي..الثدي الذي لم ترضع طفلا به..انهار الحصن الذي كان يحتمي به حافظ وسعيد..كانت قد بلغت من العمرأرذله..ولكنها قبل عام واحد كانت بصحتها..كانت قادرة علي الطبخ والكنس والغسيل..كانت قادرة علي توزيع الحنان الذي لاينضب..كانت قادرة علي رسم الضحكات علي وجيهما..ورفضت استئصال ثديها..ورفضت العلاج الإشعاعي والكيماوي.. كل ما طلبته حقن مسكنة..وأصرت أن تموت في سلام..وأوصت أن تدفن بجوار زوجها..برغم كل شيء أحبت هذا الرجل..وأحبت السيدة زينب ..أحبت كل شبر في هذا الحي ..أحبت أسواقه..ومساجده..وناسه الأصلاء..وجلس الأخوان بجوارها..وتحملاها بحب وهي عاجزة كالأطفال عن فعل أي شيء..وكان يقومان بتشطيفها كل يوم دون أدني اشمئزاز..وجودك ياعمة هو ما يجعل هذا العالم محتملا..أيتها الشجرة التي لم تبخل علينا بثمارها وظلالها..عيناك جدولا طيبة..ويداك محرابا سكينة..وصوتك النيل بمائه وطميه ومراكبه..والحقول الخضراء علي جسوره..وضحكتك أطيب من ضحكة النوافذ حين تستقبل الشمس..وأدفأ من ضحكة الأرض حين تحتضن المطر..وأكثر حزنا من المناديل حين تودع المحبين..في هذه الغرفة المقدسة كم حلقت فراشات الحواديت..وكم نبتت أزهار الطمأنينة..وكم غنت بلابل الحنين..ترحلين الآن وتبقي خلفك أشياؤك..ومدامعنا..وفراغ موحش..وليالي ليس لها نهار..سلام عليك حين ولدت..وحين رحلت..وحين تبعثين..
20
قليلون هم الفنانون الذين استطاعواأن يفهموا روح الشعب المصري العظيم..ومنذ وفاة خالد الذكر سيد درويش لم يخلفه سوي صلاح جاهين..وهو الذي نبهنا في رباعياته بأن الموت لم يعد له جلال..وتعالت الأصوات التي تقول بأننا حضارة جنائزية..تهتم بالموت أكثر مما تهتم بالحياة..وأنه لايوجد شعب يحتفل بالذكري الأربعين بالميت..واعتقدوا أن الاهتمام بالموت يتناقض مع حب الحياة..وهذا فهم قاصر ومشوه..فالمصريون لم يفهموا الموت كفناء ونهاية حياة..ولكنهم اعتبروه حياة أخري..وكان احتفاءهم به هو احتفاء بالحياة وبالوجود..الموت هو جزء من الحياة ويجب احترامه..المصري بطبيعته لايعرف الأحاسيس السطحية والعابرة..هو دائما يتعمق في كل شيء..اذهبوا إلي الفلاحين في القري التي لم تتوحش فيها المدنية وراقبوهم..انظروا كيف يفرحون بالزواج فرحا فطريا لاغش فيه ولارياء..كيف يفرحون بالمولود الجديد..كيف يحتفون بحصاد القطن والغلال( للأسف انقرض محصول القطن..هذا المحصول الذي يمتلك مقدرة فذة وساحرة علي إدخال البهجة علي القلوب حين تتفتح لوزته عن سحاب أبيض تستطيع أن تلتف به وتطوف حول كعبة الأبد..)..انظروا إلي الفلاح وهو يعزق بفأسه الأرض..وهو يرويها..وهو يشرب كوب شاي علي ناصيتها..تعلموا من الفلاح الذي مازال مصرا علي زراعة أرضه رغم أنه يصرف عليها أكثرمما يربح منها..هذا طبعا في وجهة نظركم- أيها المصريون الجدد- غباء وبلاهة..النتيجة أصبحت أهم من الفعل ذاته..وهذا سبب ما تشعرون به من خواء وعدم..كل هذه الأفكار دارت برأس سعيد حين قابل زملاء عمله موت عمته العجوز بالسخرية والاستهزاء..
- تسعين سنة..اتخطفت في عز شبابها..ماكانش يومك ياحبيبتي..
- ياراجل..أراحت واستراحت..
- كده البيت فضي..وهنعيش يامعلم..
21
في هذا العام انتبه سعيد أنه أتم الثلاثين..ولم يزل غارقا في مراهقته..كل ما يهمه هو الحصول علي امرأة جديدة..وهو ملول..لايحتمل امرأة أكثر من شهر..في البداية يكون منبهرا بها..وما إن يستدرجها إلي شقته..ويقضي معها ليلة أو اثنتين أو علي الأكثر ثلاث حتي يختنق..لاشك أنه يهرب من مواجهة أحلامه المحبطة..مل من معاشرة نساء الطبقة الفقيرة والمتوسطة..يريد اختراق الطبقة الهاي..بنات الوزراء وكبار رجال الأعمال وأعضاء مجلس الشعب..ولكن كيف ؟؟..الحل هو أن يصير مطربا شهيرا..ما إن يتحقق هذا الحلم المستحيل..حتي تصبح كل الأحلام الأخري تحصيل حاصل..ولكن كيف.؟؟هذا ما ينغص عليه حياته..حياته التي يحسده عليها الكثيرون..لم يعد يجد لذة في الأجساد التي يعتصرها بحقد ويأس علي أمل أن يجد ذرة متعة..ولكن هيهات..يريد أن يصل إلي بنات الجامعة الأمريكية ونادي الصيد..يريد أن يضاجع نجمة سينمائية أو مطربة شهيرة..يريد..بكل ذرة في كيانه يريد..ولكن كيف؟؟..وجاءت كلمة صديقه شريف علي الجرح
- البنت التي تسير معها كالسيارة التي تركبها مؤشر علي مستوي النجاح الذي حققته
وجاء اتصال أبيه من البلد صادما
- إنت مش ناوي تتجوز ولا ناوي تخيب خيبة اخوك الكبير..
يتزوج؟؟..لماذا؟؟..العاجزون عن الحصول علي امرأة هم فقط من يتزوجون..العاجزون عن إقناع امرأة أن تنام معهم بدون زواج هم الذين يذهبون إلي أسرتها لتقتنع..حتي وإن كان الثمن أن يتورطوا فيها لبقية العمر..أتزوج؟؟لماذا؟؟من أجل إنجاب أولاد يحققون أحلامي التي عجزت عن تحقيقها!!..متي يتوقف الآباء عن ترديد نكاتهم القديمة والسخيفة..التي لم تعد مضحكة..هذا الفلاح الساذج المتخلف..من الذي أعطاه الحق لكي يتكلم معي بتلك الطريقة..ولماذا يتدخل في حياتي..لم أعد طفلا..أعرف مصلحتي أكثر من أي إنسان آخر..والطريق الذي أتصور أنه سيمنحني السعادة سأضع قدمي عليه بلا تردد..أتزوج؟؟لكي أستقر..يقصد أن يقول لكي أتعفن وأنتهي..لكي أدور في الساقية..لكي أعيش عيشة الكلاب..أكره البنات المؤدبات الخانعات المستسلمات لأعراف المجتمع الغبي والمنافق..وللأسف هن الصالحات للزواج..أما البنات المتفجرات بالحيوية فلا يصلحن.. لأنهن لاينتظرن تصريحا من أحد لكي يرتمين في حضن رجل انجذبن إليه..أتزوج؟لكي أكره المرأة..وماذا بعد كراهية المرأة سوي الانتحار..لابد أن تكون مسافة ليكون حب..ويكون شوق..ويكون جنون..الجنون الذي يعطي الحياة نكهتها اللذيذة..لصديقي شريف تشبيه لذيذ يقارن فيه بين المتزوج والعازب
- العازب كالرجل الشبعان والعريان..والناس لاتري إلا عريه..وينصحونه دائما أن يغطي نفسه..أما المتزوج كالرجل الجائع والكاسي..والناس لاتشعر بجوعه..ينبهرون دائما بالملابس التي يرتديها..لذا فالعازب فضيحته بجلاجل..ومشكلته التي لايمكن إنكارها علي عينك ياتاجر.. واللي ما يشتري يتفرج..
نعم ..هناك تقديس للمظاهر..فالمهم أن تظهر أمام الناس بأنك تمام ..وعال العال..وميت فل واربعتاشر..حتي وإن كان هذا علي حساب سعادتك الحقيقية..
نصف من يمتلكون السيارات في مصر مدينون لطوب الأرض..كل هذا من أجل الظهور أمام الناس بمظهر الناجحين السعداء..حتي وإن كان الثمن أن يعملوا ليلا ونهارا ليقوموا بتسديد ديونهم..والبنت ترضي بأول عريس يتقدم لها لتحصل علي لقب أول مخطوبة في دفعتها..وتضحي بسعادة عمرها من أجل رغبة مرضية في التفوق علي قريناتها وإثارة حسدهن..والمرأة تصر علي الاستمرار في الحياة مع رجل تكرهه لكي لاتلتصق بها وصمة الطلاق..أما أخي حافظ ..فلا أدري متي يتوقف عن تدمير نفسه..؟؟
22
كان الأمر في البدء يبدو طبيعيا..لم يعد لحافظ حديث سوي عن مطلقته (الجميلة جدا..مع تعطيش الجيم) وعن رغبته في زوجة في مستوي جمالها..والناس ينصتون ويستمتعون ..وتطورالأمر أن بدأ يحكي لهم تفاصيل علاقته معها وكأنه يصف فيلم بورنو..ولعل الاستحسان الذي كان يجده من الناس وكان يراه علي وجوههم جعله يتمادي إلي مالانهاية..ومع الوقت لم تعد حجرته كافية لاستيعاب الزملاء الراغبين في الاستماع إلي تجربته..ومع الوقت انضم عمال النظافة..ومع الوقت انضم أفراد الأمن..وهو يحكي باستمتاع وانتشاء..ويتشعب الحوارإلي عالم المرأة بكل تفاصيله..أكثر الأماكن إثارة في جسدها..أكثر الأوضاع الجنسية إمتاعا..جميع الأقراص التي تساعد في الوصول إلي علاقة مشبعة للطرفين..كتاب رجوع الشيخ إلي صباه..أحدث أفلام البورنو..وموضوعات أخري كثيرة أتركها لذكاء القاريء..وخرج الموضوع عن السيطرة..وازداد حدة في السنوات الأخيرة..بعد موت العمة بدوية..وقال شريف لسعيد:
- يبدو أن مشكلة أخيك لاعلاقة لها بزوجته السابقة أبدا..إنها مشكلة إنسان منبوذ اجتماعيا..وبمجرد أن وجد طريقة فتحت له قلوب الآخرين حتي انزلق فيها كصخر حطه السيل من عل..أخوك ياسعيد يسير في طريق الجنون..حاول أن تعرضه علي أحد علي دكتور نفسي..
- هل تعتقد أنهم قادرون علي فعل شيء..
- أنا معك ..مرض أخيك ليس مرض فرد..ولكنه مرض مجتمع..مجتمع يزرع في أطفاله قيما أخلاقية ليحتقرهم بعد ذلك عندما يتمسكون بها..الصدق والأمانة والنظام والغيرة علي الأم والأخت والزوجة..وهو تمسك بهذه القيم بشدة..واكتشف أن الجميع يعتزلونه بسببها بدلا من أن يحترموه ويرفعون له القبعة..
- ولكن ألا تعتقد أنه قد يعاني من مشكلة جنسية ..وهو يقوم بعملية تعويضية الآن..ليثبت لنفسه قبل الآخرين أنه شديد الفحولة..
- ربما..السبب أيضا في المجتمع- أو العولمة- الذي أعطي الجنس حجما أكبر من حجمه..أصبح معبود الناس في هذا الزمن..لم يعد يجتمع أثنان إلا والجنس ثالثهما..ولم يعد شيء قادرا علي إعطاء المتعة مثله..تضاءل دور العمل..وكادت هوايات مثل الصيد والتريكو والقراءة والعزف علي آلة موسيقية وجمع العملات وجمع الطوابع وتربية الدواجن واقتناء السلاحف أن تنقرض ..
- في رأيي أن الأزمة الحقيقية تكمن في الفراغ..عدد ساعات العمل تضاءل بشدة...نحن مثلا في نوبتجية أربعة وعشرين ساعة لانعمل فيها سوي ثلاث أو أربع ساعات..والباقي أنتخة وتفخيد..والطبيعة تكره الفراغ..لابد من التفكير في شيء..أنا أفكر في النسوان..وأنت تفكر في الحشيش..والصيدلي والبقال والكوافير والتاجر..وكل المهن..كل المهن..أصبحت تعاني من لعنة الفراغ..في كل مهنة لايعمل إلا واحد في المئة عملا جبارا والباقي بينش..
- والناس تعتبر من يعملون – وحضرتك منهم- أناسا محظوظين ..وأرزاق وقسم..وأن الفاشل ليس مسئولا عن فشله..والفقير ليس مسئولا عن فقره..وطالما الموضوع هكذا فليس مطلوبا مني سوي عمل واحد فقط ..هو أن أحقد علي هؤلاء الناجحين..وأقول في سري كتنا نيلة في حظنا الهباب..
- وما العمل في مشكلة حافظ ياصديقي الفيلسوف يامن بأحوال العباد شغوف؟؟
- دعه يتجنن..أنت حاولت بدل المرة ألف ..ولاحياة لمن تنادي..هو يعتبرك أكثر فشلا منه.. ونفسك أولي بالنصيحة منه..ولديه حق طبعا..
- معقول حافظ هيتجنن..
- لسه ها ..ياصاحبي أخوك من زمان ..والأبلاتين لادع..انتهت القصة خلاص..
- وبعدين؟؟
- ولا قبلين..إنسان قرر إنه يتجنن ..ولازم تحترم قراره..زي مانت قررت ما تتجوزش كده..
- دا حشيش النهاردة أصلي ..أصلي
- انت فاكرني هيست ( من التهييس) ولا أيه ..أنا باتكلم بجد..ما فيش مجنون بيتجنن غصب عنه..الخلاصة.. مش قادر يعيش في العالم اللي احنا فيه ..الحل أيه.. يعيش في عالم تاني..أحمد زويل ما قدرش يعيش في مصر..راح عاش في أمريكا..وأصبح لايمت لمصر بصلة..بلد تانية ..ولغة تانية ..وعادات وتقاليد تانية...
- ياصاحبي.. زويل ممكن يرجع في أي وقت ..بس المجنون بيهاجر هجرة دائمة..
- وماله؟؟ تلت أربع الشعب المصري عايز يهاجر من مصر هجرة دائمة..يعني مش أخوك لوحده العاجز عن التكيف و التأقلم ..الجو اللي احنا عايشين فيه الأنسان اللي ما يتجننش فيه يبقي أكبر مجنون..ياسوسو ..احنا عايشين في بلد سمك لبن تمر هندي.. كله علي كله علي رأي عدوية.. اتفرج علي أي بنت وركز فيها كويس ..وانت طبعا مش محتاج وصية.. هتلاقي حجاب ع الراس..والبنطلون الجينز عاصر مؤخرتها..وتيجي تعاكسها تغسلك ..ولو أصريت علي موقفك ..تاني يوم هتبقي معاك في الشقة..ومع ذلك تلاقي الموبايل عليه قرآن والرنة ابتهال لسيد النقشبندي..والغريبة بعد ما تتجوز تبقي محترمة..واللي بتخون جوزها تكتشف إن ما كانش ليها أي تجارب قبل الجواز.. وتلاقي اخوات البنات دول فاكرينهم أشرف بنات علي وجه الأرض..تناقضات تخلي أجدع عقل يشت ويروح ما يرجعش..
سيبك من الكلام ده كله ..هات العود واعزف لنا أغنية (الحلوة قامت تعجن في الفجرية..)
23
حافظ الآن يسير في شوارع السيدة مرتديا جلبابا متسخا ولحيته تصل إلي صدره وفي يده بوستر كبير للفنانة ليلي مراد..هو في أغلب الأوقات هاديء..ولكن ما أن يداعبه طفل صغير حتي يجري خلفه صارخا:
- يازبالة ..يامعفن..ياقذر..يامتخلف..يابيئة..
وسرعان ما يعود إلي هدوئه ..وإلي تأمل وجه فنانته المحبوبة..ومن المدهش أن عقله لم يذهب كلية..في أحيان كثيرة تجده قد هذب من لحيته ..وارتدي بدلة من بدله القديمة البالية ..وجلس علي المقهي ليشاهد مباراة مثيرة..أو فيلما كوميديا..أو يلعب الطاولة مع صديق يتعرف عليه لأول مرة..وإذا تصادف وجلست بالقرب منهما سيخطف أذنك حديث حافظ الشائق عن الجنس ..وعن حلمه في الارتباط من امرأة جميلة كهند رستم..وستتعاطف معه حين يخبرصديقه بأن مصر- أم الدنيا- توقفت عن إنجاب البنات الجميلات ..وأن الموجودات الآن أشباه نساء..وأن مصر بعد ثورة 1952لم تعد مصر..يسميها المصودية( علي وزن السعودية) أو المصويت ( علي وزن الكويت)..كل هذا يقوله قبل أن يكتشف الصديق أن حافظ لايجيد لعب الطاولة..وأنه كان يريد فقط أن يتكلم..فقط أن يتكلم..ويلتف الناس حوله كما كانوا يفعلون..
24
أنا شريف لمعي ..طبيب..وحشاش..وكاتب..وصديق سعيد ..وزميله في مستشفي المنيرة..أحب مراقبة الناس والإصغاء لهم..ولدي قناعة بأن وراء كل إنسان – وكل إنسان عظيم- رواية عظيمة ..مكتبتي بها أجندات أكثر بكثير من الكتب..لكل زميل أجندة ..أدون فيها كل ما أعرفه عنه..اسمه بالكامل ..وعلاقة هذا الاسم بصفاته..القرية أو المدينة التي نشأ بها..طقوسه الخاصة..الألوان التي يفضلها..الأغاني التي تطربه..درجة تدينه..علاقته بالمرأة..رأيه في الحب والزواج..أحلامه..مخاوفه..البلاد التي زارها..طريقته في نطق الكلمات.. يميل إلي المرح أم إلي الكآبة..دائما أنجذب إلي الشخصيات المرحة..التي تسخر من كل شيء..من نفسها قبل الآخرين..الحياة في نظري لا تستحق كل تلك الجدية وكل هذا اللهاث..أروع مافي الحياة هي ساعة الحظ ..تلك الساعة التي يتصرف فيها كل أحد علي سجيته..ويتذكر أجمل ما يحفظ من نكات ..وأجمل ذكريات طفولته..ويضحك حتي يكاد أن يغمي عليه..ويمتليء حبا لرفاق جلسته..ويترك لهم مساحة كافية ليمدوا أرجلهم ويسترخوا.. ويشعروا بخفة ظلهم ..ويتعالي علي كل الخلافات الصغيرة التي لابد من وجودها..وكما أحب المرح..أكره البخل ..وأكره الاصطناع..البخيل يستحيل أن يكون سخيا في مشاعره..ولاتستطيع أن تنتظرا منه خيرا..ستجده عزوفا كل عن مافي الدنيا من متع وملذات..ولكنني لا أنكر أن المتطرف في البخل هو كوميديان من الدرجة الأولي..هذا بالنسبة للناس الذين لايعتمدون عليه..أما بالنسبة لأهله ولمن يتعاملون معه بيعا وشراء فهو كارثة بكل المقاييس..والمصطنع أنواع..فهناك من يصطنع الوقار..ومن يصطنع خفة الدم ..ومن يصطنع التدين..وهو في النهاية شخص خنيق..وإن كان مادة في منتهي الثراء لكتابة المسرحيات..وعلي قفاهم وقف (موليير) وأصبح كاتبا مسرحيا عظيما..وما علاقة ذلك بقصتنا؟؟
25
انتهيت من كتابة هذه القصة في صيف 2010..وبدا لي أنه لاجديد سيحدث ويستحق الإضافة..سعيد فى التاسعة والثلاثين من عمره..جراح نص كم..ودنجوان نص كم..ومطرب نص كم..أما حافظ فقد انتهي به الحال كما ذكرت في الفقرة قبل السابقة..يلزم التنويه بأن أحداث تلك القصة حكاها لي صديقي سعيد ونحن نشرب الشاي ..وندخن المعسل علي مقهي بالقرب من المستشفي..وبالنسبة للأفكار التي كانت تدور في رأس حافظ أو رأس زوجته أو غيرهما من الشخصيات الأخري كانت استنتاجات شخصية توصل إليها سعيد..والحقيقة أنه لاأحد يعرف علي وجه التأكيد لماذا تم الطلاق أصلا بين حافظ وغادة..مازال هذا سرا غامضا..المهم ..في 25 يناير 2011قامت ثورة شعبية لإسقاط نظام الرئيس حسني مبارك..وتهورت وزارة الداخلية وأطلقت الرصاص الحي علي بعض المتظاهرين..وسقط مئات الشهداء ..كان منهم حافظ الدشناوي..لاأحد يدري لماذا ذهب إلي ميدان التحرير..هل كان عاقلا ويدعي الجنون؟هل كان واعيا – وهو في قمة تدهوره- بالفساد المستشري في البلد..؟؟(لم نعرف من قبل أن مجنونا مشي في مظاهرة).. ألف هل؟؟..رحمه الله..كانت حياته لغزا.. وكان جنونه لغزا..وكان موته لغزا..ومن سخرية القدرأن يكون حافظ – اللعنة ووصمة العار- هو السبب في انفتاح طاقة القدر لسعيد..كانت قصة حافظ الوحيدة التي لفتت انتباه أحد المخرجين كمدخل لعمل فيلم عن الثورة..فاجأني سعيد باتصال هاتفي في منتصف الليل
- مش هتصدق ياشريف .. قالها وهو يكاد أن يزغرد
- خير يابن المرة.. هذا هو اسلوب الحوار بيننا
- المخرج الكبير خالد يوسف اتصل بيا
- دلوقتي بقي مخرج كبير..دانت من شهر كنت عمال تتريق علي فيلم (كلمني شكرا)
- العظماء لازم نختلف معاهم وعليهم.. ماتنساش إنه عمل ويجا وخيانة مشروعة والريس عمر حرب.. خلينا في المهم..عايز يعمل قصة المرحوم حافظ فيلم ..وادالي معاد في جراند حياة عشان نتكلم في التفاصيل..خلاص ياصاحبي ..أنا كده دخلت الوسط من أوسع أبوابه..بلا جراحة بلا قرف..هتيجي معايا طبعا..
- أكيد طبعا..
- يارب تكون كتبت كل الحاجات اللي كنت باحكيهالك عن حافظ
- عيب عليك ..دي حاجة تفوت صاحبك
- قشطة عليك ..وصلنا يامعلم.. عايزك تكتب أغنية توجع عن الثورة..
- يامسهل..
وقابلنا خالد يوسف في الموعد المحدد..وأبدي الرجل إعجابه الشديد بصوت سعيد وبأسلوبي في الكتابة..وأخبرنا بأننا سنكون علي اتصال دائم في الفترة القادمة ..حتي يخرج الفيلم للنور..ووعد سعيد بأغنية تتر الفيلم ..ووعدني بالمشاركة في كتابة السيناريو..نحن الآن في سعادة لاتوصف ..أقدامنا ليست علي الأرض..نرفرف..ونجاح الثورة – أو فشلها- في رأينا يعتمد اعتمادا كليا علي وعود المخرج الكبير..
1
في قرية نائية من قري محافظة أسيوط نشأ ..وتلقي تعليمه الأساسى ..وبقدرة فذة علي الحفظ والصم استطاع أن يلتحق بكلية الهندسة..وفي هندسة أسيوط اختار قسم العمارة..وبعد ثماني سنوات من الكفاح والنحت في صخرالملازم تخرج..خدعوك فقالوا كلية الهندسة خمس سنوات..هكذا يكتب الطلبة علي جدران وأبواب ومقاعد المدرجات..قصير..ومفتول العضلات ..وغليظ القسمات..ووجهه عليه غضب الوسامة والقبول..نعم هناك وجوه دميمة ولها قبول وحضوروجاذبية..أما وجه حافظ الدشناوي فوجه إرهابي ..وخصوصا بعد أن أطلق لحيته ليزيد الطين بلة..ومع ذلك لايتحمل رؤية امرأة قبيحة..الجمال هو معبوده..وكأن كل إنسان يعبد ما ينقصه..وكان شرطه الأساسي عندما أراد الزواج أن تكون ملكة جمال..إذن عليك بالمنصورة..هكذا نصحه أولاد الحلال.. حافظ ليس له أي تجارب عاطفية..سبعة وعشرون عاما وهو يعيش في قوقعة من الجدية والصرامة لايخرج منها..واضح.. وصريح ..وحاد..ولايعرف المراوغة..ولا الخبث..ولا اللف والدوران..مافي قلبه علي لسانه دائما..يكره التجمل كراهية عمياء..أو علي وجه الدقة لايجيده..ولم يحاول..هو راض عن نفسه هكذا..يكره أنصاف الحلول..ولايعرف من الألوان غير الأبيض والأسود..بمعني ياتحلبي ياكسر قرنك..هو الأبن الأكبر لأب يعمل بالفلاحة ..له أخوان يصغرانه..سعيد في رابعة طب ..وعبد الرحمن يعمل في النجارة بعد أن طفش من المدرسة بسبب مدرس رياضيات بغيض..دائما مدرسو هذه المادة بغيضون..ربما لو كان إقليدس حيا لفعل بهم ما فعله هتلر باليهود..
مازال المدرسون في مصر يعتقدون أن الخرزانة هي خير وسيلة لتربية وتعليم التلاميذ..ومازالت الحكومة تعتنق نظرية العصا والجزرة في حكم الشعب..ومازال المتدينون يعتقدون أن الجلد والرجم هو الوسيلة الناجعة للحد من انتشار الفاحشة..ومازال حافظ يعتقد أن الرجل لابد أن يكون سي السيد والزوجة لابد أن تكون أمينة..
2
للمرة الأولي يخرج حافظ عن طوع أبيه ..ويرفض بإصرار أن يتزوج من ابنة عمه رحاب..الأب كان قد اتفق مع أخيه علي كل شيء..ولم يبق إلا أن يطاطيء حافظ رأسه ويقول بخجل العذاري
- اللي انت شايفه يابا
ولكن حافظ تمرد ..وجعل رأس أبيه مثل السمسمة أمام من يساوي ومن لايساوي..
والأم تهمس في حزن مولولة
- آدي اللي احنا خدناه من تعليمه..عشان ما اتعلم وبقي باشمهندس نفسه كبرت علينا..وبقي يمشي من راسه ومن دماغه..إحنا اللي نستاهل ضرب الجزمة..قالوها زمان حكمة.. العليل لما يشفي بينسي جميل المداوي..
ومنذ تلك اللحظة كانت القطيعة(غير المعلنة) بين حافظ وأهله..وبعدها بعامين سيتقدم لخطبة غادة الحداد..ملكة جمال كما أراد ..ولكنها حاصلة علي دبلوم تجارة..من قرية تابعة لمدينة المنصورة..أخت رفعت الحداد زميل دراسته .. ورفيق حجرته في المدينة الجامعية.. كان حافظ مندهشا من أن يكون هناك رجل بكل هذا الجمال..العينان الخضروان..والبشرة البيضاء كنور لمبة النيون..واليد الناعمة كالزبدة..وعندما كانت تقع عيناه عليه وهو يقوم بتغيير ملابسه كان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم..ومع ذلك كان يحلو له أن يختلس النظر إليه..وفي أحلام يقظته كان يتخيل امرأة علي شاكلته..ويسخن ويرتعش ثم يرتخي ويبرد..ثم يغتسل ويصلي..ثم يستغفر ويقرأ القرآن..ويقول له رفعت بإعجاب
- صوتك في القرآن جميل قوي ياحافظ ..أنا بجد باحسدك عليه..بس عايز أقولك حاجة مش عارف حلال ولا حرام ..أنا كان نفسي يبقي صوتي حلو عشان ابقي مطرب..
ينسي حافظ ما كان عليه منذ دقائق ويعيش دور الواعظ
- يا أخي استغفر الله..الغناء حرام بأقوال جميع الفقهاء
بسذاجة يسأله رفعت
- ليه حرام ..واحد ربنا وهبه صوت حلو بيخلي الناس تبقي سعيدة ..أيه الحرام في كده
بغضب رقيق يجيبه
- السعادة في ذكر الله يارفعت..واضح من كلامك أنك تجلس مع زميلنا العلماني أحمد طنطاوي كثيرا..وأنا أحذرك منه..سيفتنك عن دينك..
- يعني أيه علماني
- العلمانية هي اللادينية..تقول بأنه لادين في السياسة ولا سياسة في الدين..أي أنهم ينادون بالا نحلال وترك الحبل ع الغارب للنساء..
- معقول طنطاوي عايز كده..ده مش بيسيب فرض..
- حيلة يقوم بها ليقنع ضعيفي الإيمان بأن ما يدعو إليه هو الإسلام الصحيح..وهو كفر بين..
- هو انت مع الإخوان ولا السلفية
بتردد يجيب حافظ إذ انه تذكر ملفه في أمن الدولة والإهانة التي تعرض لها علي أيديهم في بداية انضمامه للسلفية..
- بقلبي مع السلفيين ولكنني لست منضما لأي جماعة..
3
لابد من القول بأن حافظ شخص غير متعصب علي الإطلاق علي عكس ما يبدو من هيئته وكلامه..بل هو إنسان يميل إلي المرح والدعابة عندما يترك نفسه علي سجيتها.. وثقافته الدينية كانت ثقافة فقر بالأساس..كانت هي الثقافة الوحيدة المتاحة والمطروحة في قريته النائية في أوائل السبعينات(أولي سنوات طفولته..هو من مواليد عام النكسة..الجيل الذي لم يأخذ من مصر شيئا ولم يعطها شيئا في المقابل) ..لم يكن في المنزل تلفزيون..ولم يكن في قريته بأكملها بيت واحد به رواية لنجيب محفوظ أو كتاب لطه حسين..لم يكن هنالك سوي راديو عتيق علي حافة نافذة وسط دارهم الطينية..
(كان من المعتاد في الدور القديمة أن تكون حواف النوافذ عريضة وتتسع لوضع أشياء كثيرة منها صينية القلل والراديو كما كانت تتسع أيضا لنوم القطط )..
هذا الراديو لايذيع سوي إذاعة القرآن الكريم..المسجد المجاور أيضا كانت به مكتبة تحتوي علي كتب مثل تفسير ابن كثير وصحيح البخاري والداء والدواء..وكانت هناك الأضرحة التي تملأ القرية..وكان هناك تسليم الفلاحين الفطري بالمكتوب والقسمة والنصيب..حتي عدد الأقباط في قريته كاد أن يكون معدوما..باختصار كانت القرية أحادية الثقافة ..وهذا ماانعكس بوضوح علي شخصيته التي لاينطبق عليها سوي وصف الحنبلية..
4
أبوه أيضا كان حنبليا باقتدار..ولم يكن يحلو له إذا سنحت له الفرصة بإمامة المصلين في صلاة جهرية سوي قراءة السور الصعبة..ولم يكن نسيانه ومراجعة المصلين له سببا وجيها لاختيار آيات أكثر سهولة وأيسر حفظا..في حوالي الستين من عمره..لايكف أبدا عن تقديم النصائح للآخرين رغم أن أحدا لا يدعوه إلي ذلك..ومن المناظر المألوفة والمملة والمضحكة أن تراه واقفا يشرح لأحد في الميضة كيف يتوضأ وضوءا صحيحا..أو كيف أن طريقة ركوعه تبطل صلاته..أو أن الجلباب الذي يرتديه أطول من اللازم وهذا مانهي عنه الرسول لأنه علامة من علامات الكبر..وفي الفلاحة نفس الكلام..يتصرف كأنه مهندس زراعي..واعتاد دائما أن يقول لأخيه نهاية كل محصول وهو يضرب كفا بكف
- أنا والله العظيم باستغرب..مافيش حد في البلد مهمل زيك.. وعويل زيك..ومع ذلك مافيش أرض بتجيب محصول قد أرضك..
ومع ذلك لم يكن يتعلم..ولم يكن يتوقف عن الاهتمام بأدق التفاصيل..هناك دفتر صغير في حجم كف اليد في جيب الصديري يدون فيه كل شادرة وواردة..كراسة لحافظ بخمسة قروش(شلن)..كيلولحمة بخمسين قرش..نقطة لابن فلان الفلاني جنيه..
ومن المدهش أن يكون حافظ الوحيد بين أخوته الذي يرث كل تلك العادات بلا استثناء..
5
كانت معرفة (حافظ )للقاهرة – طوال فترة دراسته- قاصرة علي زيارته لعمته (بدوية) في الإجازة الصيفية..ونظرا لعدم إنجابها فكان يحظي – هو وأخوته- بعطفها الشديد..تزوجت في أواخر الخمسينات من عجوز قاهري كان يعمل بتجارة الأقمشة..وانتقلت معه للسكن بحي السيدة زينب..وكان الرجل غنيا – غني غيرفاحش-وكريما..بعد وفاة زوجته وهجرة أولاده في السبعينات لدول الخليج كان لابد من امرأة شابة تخدمه وترعي مصالحه..وكان يعرف أن عطاءه الجنسي لم يعد علي مايرام..لذا كان لابد أن تكون الزوجة قطة صعيدية مغمضة وقبيحة ليضمن وفاءها..وبلعبة قدرية غير مفهومة وقع اختياره علي بدوية..كانت قد اقتربت من الثلاثين دون أن يتقدم أحد لخطبتها..والثلاثين في تلك الفترة كانت سنا كبيرة جدا بالنسبة لامرأة..كانت قريناتها قد أنجبن أولادا وبناتا في سن الزواج..ولكنها أبدا لم تيأس..وكانت تعتقد أنها ماهي فيه سببه عمل عملته لها إحدي بنات الحرام اللائي يغرن منها ومن جمالها وجمال طباعها..وكانت دائمة اللف علي المقامات والأضرحة..ونصحها بعض الطيبين أن تزور مقام الطاهرة وام العواجز السيدة زينب..ومن العجائب أن يأتي العريس فور زيارتها بأسبوع..والأكثر عجبا أن يكون من نفس الحي..وبعد أن كانت (بدوية) مثار إشفاق نساء قريتها أصبحت بين عشية وضحاها مثار حسدهن..وكان المهر الذي دفعه التاجر للمرحوم أبيها حديث القرية لمدة تقترب من العشر سنوات..استطاع أن يبني به بيتا طينيا واسعا وجميلا.. لم يكن هنالك بيت في القرية يضاهيه سوي بيوت أعيانها..ومن المفارقات أن ماكان في يوم من الأيام مدعاة للفخر والزهو أصبح مدعاة للخزي والعار..عاشت بدوية مع زوجها الطاعن في السن حياة لم تكن تحلم بها..وتعاملت مع عجزه الجنسي باعتباره أمرا من الأمور الطبيعية..لم تتصور أبدا أن رجلا يستطيع أن يعطيها متعة أكبر من تلك المتعة الخاطفة والمبتورة..ومن الأيام التي لا تنسي عندما شاهدت – وكانت قد تخطت الستين- فيلما فاضحا علي القمر الأوروبي..كانت الصدمة عنيفة ومذهلة..أن تكتشف أن حياتها انتهت دون ذرية ودون متعة جنسية حقيقية..ولحظتها احتقرت كل ما تعيش فيه من نعيم..ولم يدم إحساسها بالحزن طويلا(ماحدش بياخد أكتر من نصيبه..والمكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين ..وانا احسن من غيري كتير)..هذا الجيل القديم كان يمتلك ميزة يفتقدها الجيل الحالي وهي أنه لم يكن يعطي للمتع الدنيوية اهتماما عظيما..وكان يعتبر أن الحرمان هو الأصل في هذه الحياة..أعرف أن هذا الموقف ليس صحيحا..ولكن ليس صحيحا أيضا أن نتخيل أن الإشباع هو الأصل..وأن جميع رغباتنا لابد من تحقيقها..لاشك أن أصحاب الموقف الأخير هم أكثر عذابا وأقل فهما للحياة..
6
العمة بدوية كانت الشجرة الخضراء الوحيدة في طفولة حافظ القاحلة..فهي التي تكفلت بمصروفات تعليمه ..وهي التي كانت تكافئه عند النجاح..وهي التي كان يفخر بها أمام زملائه دائما..كانوا ينبهرون عندما يخبرهم بأن عمته تعيش في القاهرة..وأنه يزورها كل عام..ووعدته بأن تأخذه العام القادم لزيارة حديقة الحيوانات والأهرامات(أطفال هذا الجيل لم يعرفوا دريم بارك)..ولم يكن هذا صحيحا فالعمة بعد عشرين عاما أو يزيد علي السكن في القاهرة كانت بالكاد تتعرف علي شوارع الحي الذي تعيش فيه.. ولكنه كذب الأطفال الأبيض..هل يوجد كذب أبيض فعلا؟؟..أم أنها حكمة المصريين في التسامح مع كل الأخطاء البشرية..فالكذب في حدود المعقول أبيض ..والنفاق في حدود المعقول دردحة..والإدمان في حدود المعقول كيف..والإسراف في حدود المعقول نزاهة..والبخل في حدود المعقول حرص..والقسوة في حدود المعقول لابد منها لتربية الأولاد..الشعب المصري واقعي جدا..ويدين كل الأشياء في حدودها القصوي..حتي وإن كانت خيرا..فالشخص الطيب جدا هو في نظر المصريين عبيط وأهبل وخيخة ودهل وشرابة خرج..والشعب المصري لايعتبر الباطل غريبا عن الحق (عايز الحق ولا ابن عمه)..المهم أن حافظ بعد هذه الأكاذيب الطفولية لم يعد إليها بعد ذلك أبدا..
7
عقب الأزمة التي نشأت بين حافظ وأبيه بسبب رفضه الزواج من ابنة عمه تدخلت العمة بدوية وحاولت من الصلح بينهما..ولكن الأب كان رأسه ناشفا كالعادة ورأس حافظ أنشف منه..لدرجة أن الأب صرخ في وجه الابن
- قسما عظما لو مااتجوزت بنت عمك لاانت ابني ولا اعرفك..ووشي ما يجيش في وشك ولالساني يتحط علي لسانك ليوم الدين..
وعاش حافظ في تلك الفترة صراعا لاحد لقسوته..فهو المتدين الذي يعرف ذنب عقوق الوالدين..وأنه ينبغي عليه أن يطيعهما في كل شيء ماعدا الكفر..وأخبره الكثيرون من الشيوخ بأن ما يأمره به أبوه ليس من الكفر في شيء ..فهو يعرف مصلحته أكثر منه..ولكن حافظ كان يعرف أن إصرار أبيه علي هذه الزيجة يكمن خلفها طمع في الأرض التي سترثها البنت الوحيدة عن أبيها..ولكنه لم يستطع إعلان ذلك..وأخيرا وجد الحل الذي سيريحه..منذ صغره وهو مرتبط وجدانيا وعقليا ببرنامج بريد الإسلام الذي تذيعه إذاعة القرآن الكريم في السابعة من صباح كل يوم
ويعاد في السابعة مساء..وقرر أن يراسله..وكم كانت فرحته عظيمة وهو يستمع إلي مذيعه المفضل (عزت حرك) وهو يقول:
- وصلت إلي البرنامج رسالة من المستمع حاء سين دال محافظة أسيوط يقول فيها ما حكم الشرع في....................
ويذكر أن الشيخ عطية صقر- رحمه الله- رد عليه بأسلوبه المميز في الحديث بأن الخروج عن طاعة الأب في مثل هذا الأمر ليست حراما شرعا للعواقب الوخيمة التي قد تنشأ عن هذه الزيجة من عدم حفظ للفرج وغض للبصروهو ما يتعارض مع ماأمرنا به الرسول..وقال بأن البحث عن الزوجة الجميلة من الأمور المستحبة طالما كانت ذات دين..هذاوالله ورسوله أعلم..
- الرسالة التالية وردت من المستمعة عين شين ألف..يستطرد المذيع المحبوب ذو الصوت الدافيء بينما حافظ لم يزل غارقا في نشوته..
8
عام كامل وحافظ يسبح في نهر من العسل..بدأ باقتراح العمة أن ينتقل للسكن معها في القاهرة.. كانت تعيش في بيت أنيق من دورين ورثته عن المرحوم زوجها..نسيت أن أخبركم بأن سعيد – أخو حافظ الأصغر-لم يكد يكمل عامه الثالث حتي أخذته العمة لتقوم بتربيته..وتحكي العمة بأن المرحوم زوجها أحب سعيدا أكثر من أولاده أنفسهم..ولم يبخل عليه بالحب ولا بالفلوس..واليوم الذي ظهرت فيه نتيجة الثانوية العامة وكان سعيد فيه من الأوائل علي الجمهورية واتصل الوزير بنفسه بالمنزل ليقوم بتبشيرهم أغمي علي المرحوم من الفرحة..ولم يكن يصدق عينيه وهو يري السعيد علي شاشة التلفزيون في برنامج أماني وأغاني مع المذيعة جميلة سماعيل..كانت هذه الأيام السعيدة هي آخر أيام المرحوم..مات في نفس اليوم الذي وقع فيه الزلزال الشهيرفي اكتوبر1992..وقع من علي السريروارتطم رأسه بالكومودينو وأصيب بارتجاج في المخ..بعد ساعة واحدة كانت صعدت روحه ألي بارئها في استقبال مستشفي المنيرة التي يعمل بها سعيد الآن أخصائيا في الجراحة العامة..
9
رب ضارة نافعة..هاهو حافظ يعيش في بيت لم يكن يحلم به..بيت به تلفزيون ملون وثلاجة ومروحة وحمام أفرنجي وأنتريه ..بيت له جرس علي الباب..بيت له أكثر من بلكونة..بيت له فيه غرفة خاصة..بيت يطل علي بيوت تسكنها البنات الجميلات..بيت يطل علي شارع متدفق بالحياة..بالضوضاء الموسيقية..بالزحام المطمئن..
( الزحام نوعان..زحام يطمئنك..وزحام يخيفك ..)بيت لا تخرج منه إلا وأنت تتمني أن تعود إليه بأقصي سرعة..وأقصي حنين..
10
القاهرة جميلة ومرعبة..وبناتها يتكلمن بجرأة تصل إلي حد الوقاحة..وملابسهن المحزقة والملزقة تصل ألي حد الفجور..وأخوه سعيد كأنه غريب عنه..نعم أصغر منه بأربع أعوام ..ولكنه واثق في نفسه..وخبرته بالحياة كبيرة..والمصيبة أنه لايصلي..ولا يصوم رمضان..ويتحدث عن الصحابة بأسلوب غير لائق..والألفاظ القبيحة تخرج من فمه بدون صعوبة ..كأنه يتلذذ بنطقها..وشرائط عمرو دياب ومحمدمنير تملأ غرفته..ولديه نسخة – لاأدري من أين أتي بها- من قصة الملحد نجيب محفوظ التي يسخر فيها من الله والأنبياء..كيف يجرؤ الملحدون علي فعل هذا..ولماذا لاتنزل عليهم صاعقة من السماء( في نفس اللحظة التي كان يفكر فيها فوجيء بموجز عاجل للانباء عن خبرالاعتداء علي نجيب محفوظ في العجوزة..ومزقه شعور بالفرح وتأنيب الضمير) ..اصبر ياحافظ..الماسك علي دينه في هذا الزمان كالماسك علي الجمر..الإسلام عاد غريبا كما بدأ يارسول الله..اكتملت علامات الساعة ..ولم يبق سوي المسيخ الدجال والدابة التي تكلم الناس..جاهلية العرب الأولي أخف وطأة من تلك الجاهلية التي أسير بين ظهرانيها..هذه البنت التي ترتدي ملابس تظهر أكثر مما تخفي..أليس لها أب؟؟ ..أليس لها أخ ؟؟..أين ذهبت غيرتكم يامسلمون..ولكنني أريد أن أتزوج بأي ثمن..فأعصابي توشك علي الانهيار..
الأغبياء لايعرفون مدي السعادة في تطبيق شرع الله..الزواج من أربع..وما ملكت الأيمان..آه كم أتمني أن أضاجع زوجاتي الأربع في نفس الوقت..متعة ما بعدها متعة..ولكن فيما يبدو أن هذا حرام..أعوذ بالله..لولا الحرام والحلال لأصبحت أكثر أهل الأرض فجورا..من حسن حظ الفجرة أنني مؤمن وأخشي الله..وإلا ما تركت لهم امرأة يهنأون بها..
11
التحق حافظ بالعمل بإحدي شركات المقاولات في القاهرة الجديدة..ولأنه لايدخن..ولأنه لايجلس علي مقهي..ولأنه لا يدخل مطعما..ولأنه لايشتري جريدة..ولأنه ينظف أسنانه بالمسواك لا بالمعجون..ولأنه لايحلق ذقنه..فقد كان المرتب الذي يتقاضاه – 800جنيه شهريا- مجزيا جدا..وفي خلال عامين كان قد ادخر مبلغا محترما يمكنه من فتح بيت..كانت خصيتاه- من شدة احتقانهما- علي وشك الانفجار..ولم تكن امرأة قادرة علي إثارة خيالاته سوي تلك التي علي شاكلة صديقه الجامعي رفعت الحداد..في هذه الفترة كان الاحتكاك بينه وبين أخيه سعيد قليلا جدا..بمجرد التحاقه بالعمل انتقل إلي السكن بجوار موقع عمله..الذي توفره الشركة لعامليها..وكان السكن غير آدمي بالمرة ..ولايليق بعامل ناهيك عن مهندس..ولكن حافظ تعود أن يعيش في أحلك الظروف..الغرفة كانت ضيقة وخانقة..ولايوجد بها سرير..كان ينام علي حسيرة..ولم يكن بها دولاب يضع فيه مستلزماته..كان لديه شنطة ضخمة فيها كل شيء من الأبرة للصاروخ..كان زملاؤه يسمونه (حافظ تحسبا)..فهو يحتفظ بجركن ماء تحسبا لانقطاع المياه..ويحتفظ بالشموع تحسبا لانقطاع النور..ويحتفظ بأبرة وخيط تحسبا لا نقطاع الهدوم..ويحتفظ بمشمع تحسبا لنزول المطر ورشح السقف..ويحتفظ بشومة جوار الحسيرة تحسبا لهجوم لص..
ويحتفظ ببطانية بالية تحسبا لاشتعال حريقة أثناء قيامه بعمل كوب شاي علي السبرتاية..ومع ذلك فهو يعتبر تلك الفترة أسعد أيام حياته..تعاسته الحقيقية بدأت بالزواج..
12
الأثر الذي يتركه الزوج في زوجته ليلة الدخلة لايمحي..كانت المرأة في نظر حافظ عبارة عن وجبة شهية يلتهمها بكل ما يملك من حواس..لا مناغشات..لا مداعبات..لا كلام..لاشيء سوي الانقضاض المفاجيء..يحرز الأهداف قبل أن يطلق الحكم صفارة البدء..وغادة لم تكن في سذاجة أخيها رفعت..نعم هي محجبة ..ولاترفع عينها من علي الأرض..وكلامها عبارة عن همس خافت يحتاج إلي إنسان يمتلك أذن كلب لكي يسمعه..ولكنها قضت ثلاث سنوات في مدرسة التجارة..حيث تبادل الخبرات العاطفية والجنسية بين الفتيات..حيث لاكلمة تقال إلا ويوضع مكانها لفظ خارج علي الحياء..يكفي أن تقول فتاة : عايزة قلم حتي ينفجر الفصل بالضحكات الفاجرة...القلم وأصابع الطباشير والعيش الفينو الطويل والخيار والموز كلها ألفاظ لا تحتمل سوي معني واحد بذيء..وفتاة في جمال غادة وأنوثتها لم يكن من الممكن أن تنجو من يد مدرس الأقتصاد والإحصاء:إمام السلاموني..كان في الأربعين من عمره..فارع القامة..والخصلة البيضاء التي تزين مقدمة شعره تعطيه جاذبية جنسية لاتقاوم..دائما في سن المراهقة تنجذب الفتيات إلي رجال في مثل هذا العمر..المراهقة التي تبحث عن الاحتواء ..عن حضن تشعر فيه بالطمأنينة..وبتفسير فرويد يمكن أن نعتبر هذا الحب هو حب موجه إلي الأب..ولما كان هذا الحب حراما وملعونا فإن القلب يتحايل علي الموضوع ويقع في حب أقرب رجل يشبه الأب..لم يكن من الممكن أن تنسي إمام السلاموني وهو أول من لفت نظرها أنها تمتلك نهدين لانظير لهما..كانت لمساته تجعلها تحلق في سماوات من النشوة التي لاتشعر بربعها وهي في كامل علاقتها مع حافظ..لم تكن غادة راضية بهذه الزيجة من الأساس..فهي لم تفاجأ أبدا بما يفعله..كانت قد وصلت إلي مرحلة التعرف علي سلوك الرجل الجنسي من نظرة واحدة..ولم يكن لشخصية حافظ سوي التصرف بهذا الشكل..رغم تواضع تعليمها كانت تمتلك عينا قادرة علي الغوص في أعماق من تقابلهم كأنها قادرة علي رؤية جميع حقائق الوجود..وصديقاتها كن يستمعن لها باندهاش..باختصار كانت تمتلك خبرة عاهرة..رغم أنها لم تعرف سوي رجل واحد فقط ..وعلاقتها به لم تتعدي مرحلة التفريش..وزواجها من حافظ كان نابعا من ثقتها المطلقة في عقلهاوجسدها..كانت متأكدة أنها ستستطيع تغييره..الرجولة ليست جسدامفتول العضلات فحسب..الرجولة فن..قدرة علي التعبير والعزف علي أوتار الأعصاب..أعصاب الأنثي الشديدة الرهافة..وخطأ واحد قادر علي تحويل السمفونية إلي نشازوضوضاء وضجيج..الجنس الرائع- ككل عمل فني رائع- لابد أن يشترك فيه اثنان..لن يستمتع بسيمفونيات بيتهوفن سوي مستمع له نفس إحساسه..وكانت غادة شهوانية إلي أقصي درجة..وقبل الزواج كانت حياتها منحصرة في الفرجة علي الأفلام الرومانسية وقراءة روايات إحسان عبد القدوس..كانت هي دائما البطلة الظامئة والباحثة عن الارتواء..ولكنها أكتشفت بعد آلاف المحاولات أن حافظ حالة ميئوس منها..إنسان موسوس وشكاك وحنبلي..وقليل الحيلة كذبابة محاصرة بخيوط العنكبوت..خناقات لأتفه الأسباب..سلامي باليد علي ابن خالتي كفر..وضحكي أمام الغرباء عهر وفجور..وتأجيلي لغسيل أكواب الشاي قذارة..وأنني أنتمي إلي أسرة بيئة..وزيادة وزني كيلو أو اثنين (أنتي بقيتي عاملة زي الجاموسة كده ليه)..قاموس مفرادته كئيب كوجهه..كأن الكلمات الجميلة قد خاصمت لسانه..كأنه يغار من جمالي الذي يتحدي قبحه..كأنه يعرف في داخله بأنه لايستحقني..دائما يعايرني بتعليمي المتواضع..أنا في نظره غبية ومتخلفة وأدعي الذكاء..أنا التي كنت قطب صديقاتي ..ومازال عائلتي تستشيرني في كل صغيرة وكبيرة..ورغم أنه سيكون لعنة تطاردني بقية عمري..ورغم أن أهلي سيعترضون..ورغم شماتة الشامتين..ولكن لابد منه..من الطلاق فورا..
13
في حياة كل إنسان حادث ما حياته بعده تختلف تماما عن حياته بعده..وكان هذا الحادث في حياة حافظ هو الطلاق..لم يكن له أصدقاء يفتح لهم صدره ..ويفضي لهم بهمومه..كانت شئونه الخاصة سرا أعظم ..لايجوز لأحد أن يطلع عليها..وكان علي يقين من صحة أسلوبه في الحياة..وبعد الطلاق تغير الأمر..تصدعت السماء..واهتزت الأرض من تحت قدميه..وبدأ يقترب من أخيه سعيد..ومن أفكاره الغريبة..باحثا فيها عن شمعة تهديه سواء السبيل..ما الخطأ الذي ارتكبته..لقد راعيت الله فيها..لم تكن تصلي بانتظام..جعلتها تصلي..وكنت أوقظها لصلاة الفجر..وكنت أصلي ركعتين قبل أن أضاجعها..وكنت أعاملها بالحسني..ولكنها كانت فاجرة ..ولم يكن يحلو لها إغرائي سوي في أيام الحيض وفي نهار رمضان ..وكنت أضعف..ثم أنهال عليها ضربا لأنها فعلت ذلك..كانت تريد تحطيم كل ثوابتي ومعتقداتي..أريد الذهاب إلي السينما..أريد الذهاب ألي جنينة الأسماك..أريد السفر إلي أهلي..أريد..أريد..أريد..طلباتها لاتنتهي..ودائما تقارنني بزوج أختها..زوج أختها النصاب..الذي يعيش عالة علي اهلها..ولايكف عن الاستدانة منهم..ومع ذلك علي قلبهم كالعسل..أما أنا فالشيخ الحنبلي المعقد نفسيا والصعيدي القفل..كل هذا لأنني لا أقبل أن أعيش عالة علي أحد..وأريد أن أكتفي بذاتي..كل هذا لأنني لاأقبل الحال المايل..هل كان مطلوبا مني أن أكون خروفا لكي تسير المركب..نعم كانت جميلة..ولكنها تعتقد أنها أذكي إنسانة علي وجه الأرض..كانت تسخر طول الوقت من طريقة أكلي وشربي ولبسي وجماعي..وعندما كنت أقول لها كلاما عاطفيا كانت تنظر إلي نظرتها إلي أبله ومعتوه..كان واضحا أنها لاتحبني..وليست علي استعداد أن تفعل ذلك..تريد أن تصرف بلا حساب..وكأنني أجلس علي كنز..أنا مهندس علي قد حالي..والمرتب بعد الإيجاروفواتير المياه والنوروما يكفينا من أكل طوال الشهر لايتبقي منه شيء سوي دراهم معدودة..ما العيب في تدوين المصروفات..مالعيب في الالتزام بما أمر به الله من فروض وما أمر به الرسول من سنن مستحبة..مالعيب في لحيتي..هل المطلوب مني أن أرتدي جينزا وقميصا بربع كم وسلسلة وإنسيال وأضع في فمي لبانة لكي ترضي النساء عني..أين أنت ياعمر يابن الخطاب لتري نساء هذا الزمن الهباب..
14
أصبحت مأساة حافظ ملهاة زملائه في العمل..الجميع يفسر ويحلل ويسخر وينتقد وينصح ويتعاطف ويشمت ..وحافظ – إحقاقا للحق- يستمع بصدر رحب ووجه ضحوك..
- أثبتت الدراسات والاحصائيات أن تسعين في المائة من حالات الطلاق بسبب السرير
- نعم ..هناك علاقة بين السرير والسرور..وعندما يغيب السرور فلابد أن مشكلة ما في السرير..تقارب المفردات بين الحروف ليس عبثا..هناك دائما هناك علاقة حتي وإن كانت غير ظاهرة..ألا تلاحظون أن ما يحدث علي السرير لابد أن يكون سرا..
- هل معني هذا أن حافظ ضعيف جنسيا
- عيبك ياحافظ إنك واخد الجنس موضوع عافية..والموضوع مش كده..الموضوع يحتاج إلي رقة شديدة..
- سبب فشلك هو عدم التكافؤ في التعليم..البنت بتاع الدبلوم مستحيل تحب مهندس أو دكتورأوصيدلي..دي عايزة واد بيضرب ترامادول وأبتريل يطلع دين أبوها ومع ذلك تحبه وتموت فيه..
( شيك هاند..أنا معاك في الكلام ده)
- المثل بيقول إن كان لك صاحب لا تحاسبه ولا تناسبه
( بطل تقعد مع أمك كتير..)
- حاول ترجعها..واتعلم تطنش..ما تحبكهاش كده..عشان المركب تمشي..
- إنت بدقن ..يبقي لازم تتجوز واحدة منقبة..واحدة دراسات إسلامية..حاجة زي كده..
- اللي حصلك بسبب غضب ابوك وامك عليك..
( علي أساس أهلك راضيين عنك..دا بيلعنوا اليوم اللي خلفوك فيه )
- يابني الجواز نظام اجتماعي فاشل..وما عدش مناسب للعصر اللي احنا عايشينه..إزاي واحد يشتري عربية قبل ما يجربها..لازم الاتنين يجربوا بعض بما فيه الكفاية وبعدين ياخدوا قرار الجواز..ما ينفعش ع العمياني..الانسجام بين الروحين لايتضح إلا من خلال الانسجام بين الجسدين..أيام زمان الزواج كان ناجح كنوع من قبول الأمر الواقع..دلوقتي الناس بتشوف كتير..والشخص اللي ما بيخترش شريك حياته علي أساس صلب وقناعة شديدة بيعيش تعيس طول عمره..
( المشكلة عمره ما مسك إيد واحدة ..بس عايز يبان صايع ومقطع السمكة وديلها)
- عيبك ياحافظ إن ما كانش ليك أي تجارب قبل الجواز..مش قصدي تجارب حرام (وهو قصده)..أستغفر الله..قصدي الحب الطاهر(وهو غير مقتنع بالطهرأساسا) اللي بيخليك تكتشف الجمال اللي جوه روحك..والجمال اللي في الستات بعيد عن جسمهم..الجمال اللي في أغاني أم كلثوم ونجاة وعبد الحليم..الجمال اللي في القمريوم اربعتاشر..الجمال اللي في قعدة ع النيل ساعة عصاري..الحب اللي يخليك تشوف عيوبك وتغيرها عشان اللي بتحبه..عيب قوي علي مهندس يتجوز جواز تقليدي..جواز واحد يشتري جارية من سوق النخاسة..مش واحدة هتبقي شريكة حياتك..
( بعد شهر فقط ارتبط بنفس الطريقة..إذ لم يكن يثق في فتاة تبادله الحب في إطار غير شرعي)
- أنت ليه مكتئب وشايف اللي انت فيه نهاية الكون..دانت خدت القرار اللي كل المتجوزين في مصر مش قادرين ياخدوه..بكرة لما تتجوز واحدة تانية وتدوق فاكهة تانية تحمد ربنا..
(طيب.. ليه عشان اتخصم من مرتبك خمسين جنيه..كنت مكتئب وشايف اللي انت فيه نهاية الكون يابن المتفائلة)
- أنا عندي لك عروسة صاروخ بس مطلقة زيك..
( لاعنده ولانيله..بس عايز يشارك في الموضوع بدل مايبقي قاعد زي رجل البنطلون)
- إزاي عايز واحدة صاغ سليم..انت بظروفك دي حتما ولابد تتجوز واحدة معيوبة..
مطلقة..أرملة..عانس..حد في عيلتها رد سجون..اتحجزت في العباسية فترة في حياتها..قرعة وبتتباهي بشعر بنت أختها..لازم يكون عندك الشجاعة وتشوف نفسك كويس..تلاتين سنة..شكلك أعوذبالله..مطلق..صعيدي..حالتك المادية كرب ..عايز أيه؟؟..ملكة جمال ومؤدبة وبنت ناس واتنين وعشرين سنة!!..اسمحلي ورايا سفر..
( ياريت انت كمان يبقي عندك الشجاعة وتشوف نفسك..كل الناس عارف حكاية مراتك مع السعدني صاحبك وانت نايم علي صرصور ودنك)
- اسمحلي ياحافظ واحد بشخصيتك دي..قدامه طريقين..الأول يتجوز ويعيش تعيس ويتقبل ده..والتاني ما يتجوزش ويتجنن..
( غالبا لو مشي في الطريق التاني هيقابلك)
- نصيحتي ليك ترجع أسيوط ..وتحب علي إيد أبوك..وتتجوز بنت عمك..وتشيل من دماغك حكاية ملكة الجمال دي..وتعمل أفران بلدي..وانت تبقي زي الفل..
- يابني ربنا يكون في عونها الواحدة اللي تستحملك..دانت الشعر اللي علي جسمك يثبت فعلا إن الإنسان أصله قرد..
( وانت اللي يوزنك يتأكد إن الإنسان أصله فيل)
- مشكلتك أنك مش قادر تستطعم الدنيا..عمري ما سمعتك بتقول عن حاجة حلوة أبدا..كل حاجة في وجهة نظرك زبالة ومقرفة وبيئة ومعفنة وقذرة..نفسي أعرف سبب إحساسك الداخلي بالقذارة..علي فكرة كل الكلام اللي انت بتقوله ده انت في الواقع بتوجهه لنفسك..
( ياتري الكلام اللي انت قلته دلوقت موجه لنفسك ولا لحافظ..أرجوك..خد وقت قبل ما تفكر..ردودك السريعة غالبا بتبقي فلسفية أكتر م اللازم)
- حافظ ..حاول تروح لدكتور نفسي..إنت عندك مشاكل نفسية رهيبة..إلحق عقلك قبل مايروح منك وما يرجعش..مش عيب..أنا في أولي جامعة رحت لدكتور عادل صادق..واتعالجت وبقيت زي الفل..
(والله ولا بقيت زي الفل ولا حاجة..جايز كنت الأول أعقل من كده)
- أينشتين بيقول لما تتعرض لمشكلة ما تحلهاش بنفس الطرق العقلية اللي وقعتك فيها..طريقة تفكيرك أثبتت فشلها يبقي لازم تغيرها..
(كلام جميل..ماقدرش اقول حاجة عنه..بس اللي إيده في الزبادي مش زي اللي أيده الشوربة)
- مافيش حاجة اسمها مشكلة أصلا..لما بنشوفها كمشكلة بتبدأ تبان كده..
( دا كلام يتقال في صالون العقاد..ما يتقلش هنا لوسمحت)
-قبل ما تفكر في حل المشكلة لازم تحددها الأول..
( أفادكم الله..الجامعة العربية محتاجة كام واحد زيك عشان يقنعهم بالسوق العربية المشتركة)
- عيبك ياحافظ إنك متوقع من الجواز حاجات أكتر م اللي ممكن يديها فعلا..عايز واحدة تديك كل حاجة وانت ماعندكش حاجة تديها أصلا..غير شوية أوامرعقيمة..
( كلنا بنحلم ياباشمهندس..ولوبطلنا نحلم نموت)
- طول مالجواز هدف بالنسبة لك عمرك ما هتنجح فيه..لازم يبقي لك هدف كبير في حياتك..إنك تبقي متميز ومبدع في شغلك..ساعتها مش هيبقي عندك وقت تاخد بالك م التوافه..أيه المشكلة مراتك سلمت علي ابن خالتها..أو ضحكت معاه..طول ماقدامك وفي حدود الاحترام..مش هينفع تتجوز واحدة وتحبسها في قمقم..وتاني شيء الواحدة لو مش محترمة من نفسها والله لتخونك وانت نايم جنبها علي السرير..
( دا كلام جميل..بس حافظ بيحط العيش الناشف تحت السرير..يعني العشيق لو فكريستخبي..العيش هيرقع بالصوت الحياني)
- عيبك ياحافظ إنك مستغرق في ذاتك أكتر من اللازم..وكل حاجة واخدها علي أعصابك..
( ياراجل دانت السجارة مابتنطفيش في إيدك..ودا معناه إن محدش في الدنيا مستغرق في ذاته قدك..)
- عيبك أنك عايز تبقي سي السيد والدور مش لايق عليك..سي السيد راجل مخلص وصايع وخبرة وتاجر وابن سوق..وانت ما تقدرش تفرض شخصيتك علي أحقر عامل في الموقع..مش عيب إنك تبقي كده.. العيب إنك تكابروتعمل -وانت قطة- أسد..
( ومشكلتك إنك سمكة وفاكر نفسك حوت ..خد بالك لتغرق)
15
لم يعد حافظ قادرا علي النوم باستغراق كما كان يفعل في الأيام الخوالي..ساعات نومه لاتكاد تقترب من الأربع علي أقصي تقدير..والنوم لايأتي بسهولة..ساعات وهو يتقلب..وساعات وهو يحملق في السقف..وعندما ينام فإنه يصرخ بكلمات غير مفهومة..وعندما يخبره أحد زملائه بذلك فإنه يندهش ويسكت..ليته يعرف ماذا يقول وهو نائم ليستريح..أو ليته يستطيع أن يتوقف عن ذلك..كان السؤال الذي يطارده..ماذا فعلت ياإلهي حتي أستحق كل هذا العذاب الذي أعيشه..لقد كنت دوما مؤمنا بك..محافظا علي فرائضك..وعندما طلقت زوجتي..راعيتك فيها..وأعطيتها جميع حقوقها الشرعية..مؤخر صداقها ومتعتها ونفقتها..رغم أنها لاتستحق..فهي التي طلبت الطلاق..عام كامل وأنا أعيش في جحيم..كنت أعرف أنها تكرهني..تكره رائحتي..تكره كلامي..ضحكتي..صمتي..وكان تظاهرها بغير ذلك يوجعني أكثر..ماأبشع أن تكتشف أنك مكروه ..وغير مرغوب فيك..كنت أغرق ..ولاتوجد قشة واحدة أمسك بها..كانت تحاول دائما تشويه صورتي أمام أهلها..وتقول لهم بأنني بخيل..كل مافي الأمر أنني أعرف قيمة القرش الذي لايأتي بسهولة..كل مافي الأمر أنني أكره أن يأتي اليوم الذي أمد فيه يدي لأحد..طوال طفولتي وشبابي وأنا أعيش في فقر مدقع..وكنت أتعايش مع ذلك..ولم يحدث أن خجلت من أسرتي..ولم يحدث أن حقدت علي أحد..كنت راضيا وصابرا..يارب ساعدني..فأنا أريد أن أنام ..أن أنام فقط..
16
كان سعيد يتأمل أخاه ويحزن عليه..ولايعرف كيف يساعده..يتأمله وهو جالس – في اليوم الذي يزورهم فيه- ساهما يأكل في نفسه..يتأمله وهو يجري خلف قطة ويقذفها بفردة الشبشب بعنف وغل وكراهية..يتأمله وهو يطارد ذبابة ليسحقها..يتأمله وهو يدخل الحمام كل ساعتين ليغتسل..يتأمله وهو يقرأ القرآن بصوت جهوري كأنما يحاول التشويش علي نباح أفكاره المسعورة..كان عاجزا عن فهمه..فالملايين يطلقون كل لحظة..وعلماء الاجتماع تحدثوا كثيرا عن أزمة الطلاق وتأثيرها علي المرأة..ولكنهم لم يتحدثوا إلا قليلا عن الرجل..ربما تفاديا لغضب سيدة مصر الأولي..كان سعيد يري أن أزمة أخيه هي أزمة رجل متدين في زمن لاديني..في زمن لم يعد الدين هو المرجعية التي يرجع إليها الناس..الطب النفسي سحب البساط كثيرا من تحت أقدام الدين..والقوانين الوضعية ..والبحث المستميت عن المتع الحسية..والعالم الذي يرتع فيه أبطال وبطلات السينما من فيلات المنصورية وشاليهات مارينا وشواطيء شرم وديسكوهات الغردقة..الكل يتمني أن يعيش في هذا العالم الساحر..لم تعد السعادة في ركعتين بعيدا عن أنظارالناس..السعادة اليوم لم يعد لها طعم دون رؤية الآخرين لها ..الكل يضحك ليقول الناس عنه إنه اجتماعي ومرح..والكل يسافرويتغرب ليحسده الناس علي البيت الذي سيشتريه والسيارة التي سيركبها..أما حافظ فلم يزل يتباهي بأنه صلي الفجر في ليلة دخلته ..وبأنه يختم القرآن كل أسبوع..ياأخي هداك الله وعافاك..هذه الأشياء لم تعد مثار حسد..نحن نعيش في زمن السحابة السوداء لا في زمن الصحابة البيض الكرام.. ولكن أنت لست أفضل من الناس أيضا..المشكلة أنك مثلهم أيضا..ولكنهم يتباهون بالماديات وأنت تتباهي بالروحانيات..يا أخي نحن بشر ضعفاء..وكان لابد أن نرفض الأمانة كما رفضتها السماوات والأرض والجبال..
17
هل تعرفون سبب سعادة الحيوانات والبشر الذين يعيشون كالحيوانات..السبب في أنهم لايحلمون أحلاما مستحيلة..حاولوا أن تتأملواحياة قطة من أول اليوم إلي آخره..تصحو من النوم..تبحث عن أي شيء تأكله..تلعب مع قطة أخري..تنام مع أي قط يراودها عن نفسها..تحاول إطالة تلك المدة بقدر ما تستطيع..حاولوا أن تتأملوا المساحة المكانية التي تفعل فيها ذلك..هي مساحة كبيرة جدا..ملامسة وتجري عشرين مترا..ملامسة أخري وتجري أربعين مترا..وهكذا..أسلوب رائع للحصول علي أكبر قدرمن الإثارة..وأكثر روعة لعلاج سرعة القذف..حاول أن تتأمل قطة وهي نائمة..لاحظ استغراقها العميق في النوم..إنها تنام وكأنها متوفاة..تأملها وهي تشعر بالملل..إنها تتقبل ذلك ولايبدو عليها الاكتئاب بسببه..حاول أن تقسو عليها مرة..اضربها بالشبشب كحافظ..صدقني لن تكرهك..ولن يمضي وقت طويل حتي تعود إليك وهي تهز ذيلها..لاحظها وهي تختطف قطعة لحم من أختها..إنها لاتشعر بالندم من جراء ذلك..لاتعتقد أن القطة لاتعرف الصح من الخطأ..هي تعرف ذلك بالتأكيد..اقذف لها بقطعة لحم ..ستأكلها أمامك..أما إذا اختطفتها من فوق مائدتك فإنها ستجري بعيدا..حاول أن تتأمل قطة وهي تدافع عن أولادها بشجاعة تتنافي تماما مع جبنها المعهود..حاول أن تتأمل قطة وهي تختار مكانا منعزلا قدرالإمكان لتقضي فيه حاجتها..حاول أن تتأمل قطة وهي تأكل بتلذذ..وتشرب بتلذذ..راقبها وهي تموء قبل أن تدخل عليك وكأنها تلقي عليك التحية..كأنها تقول لك إحم إحم دستور ياسيادنا.. حاول أن تتعلم من القطة قوانين الوجود..وتستلهم منها حكمة الطبيعة..فهي حيوان صديق منذ آلاف السنين..وعلي المرء الذكي أن يتعلم من أصدقائه ..
18
لم يكن حافظ وحده الذي يعاني..سعيد أيضا كانت مشكلته أصعب من مشكلة فلسطين..هو يعيش غريبا كسكانها ..ولكنه لايجد من يشعر به ..أو يتعاطف معه.. أويدافع عن قضيته ..استثمارا لمجموعه الكبيردخل الطب..وفي الطب اكتشف أنه بين قوم لايشبههم ولايشبهونه..طلبة تبدأ حياتهم بالمذاكرة وتنتهي بالامتحانات..تبدأبالمرض..وتنتهي بالموت ..وهو يحلم بأن يكون مطربا..الشيء الوحيد الذي ورثه عن أبيه هو حنجرته الذهبية..وفي الحقيقة لم يكن في هذا السن مؤمنا بموهبته الإيمان الذي يجعله يحارب من أجلها..نعم.. في مراحله الدراسية السابقة كان نجما في كل الاحتفالات التي تقيمها المدرسة..فهو يقرأ القرآن..ويتغني بالابتهالات..وينال إعجاب الزملاء والمدرسين..ولكنها هواية..مجرد هواية..وكان من الجنون أن يفكر..مجرد تفكير في أن تنقلب الهواية إلي حرفة..يعتقد سعيد الآن أن العبقرية ليست كفاحا ولا يحزنون..كل مافي الأمر أن هؤلاء العباقرة لم يكونوا متفوقين دراسيا..لذا لم يكن لديهم مستقبل أفضل من الجري خلف موهبتهم الوحيدة..باختصارلم يكن لديهم ما يبكون عليه..ويضرب مثالا بعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم ومنير وعمرو دياب..وحتي الممثلين..كلهم خريجو كليات قاع ودبلوم صنايع باستثناء عدد قليل يؤكد القاعدة ولاينفيها..لايوجد من هم أكثر موهبة من الأطباء في كل المجالات..ولكن من سخرية القدرأنهم طلبة متفوقون ونجباء..وبرغم كل التبريرات التي يقولها سعيد فإن لديه إحساسا بالمرارة أنه لم يعش في الوسط الفني الذي يعشقه برغم سوء سمعته أو ربما بسبب ذلك ..وحاول الذهاب لأكثر من ملحن..ولكن لافائدة..لايحظي من أحد سوي بكلمة: الله ..صوتك حلو قوي يادكتور..وشكرا..ومن يومها وحتي الآن والصراع قائم..نحن الآن في صيف 2010وسعيد في التاسعة والثلاثين من عمره..ولكنه لم يزل يمارس الجراحة علي استحياء..وكأنه ينتظر المهنة التي خلق من أجلها :الغناء..ومتعته المريرة أن يمسك بالعود ويدندن والممرضات يحطن به كالفراشات وعلي وجوههن ابتسامة صافية ومحبة ويرددن في صوت واحد:
والله يادكتور سعيد ..صوتك أحسن من تامر حسني ألف مرة..عيد تاني..
19
في شتاء 1999مرضت العمة بدوية بسرطان الثدي..الثدي الذي لم ترضع طفلا به..انهار الحصن الذي كان يحتمي به حافظ وسعيد..كانت قد بلغت من العمرأرذله..ولكنها قبل عام واحد كانت بصحتها..كانت قادرة علي الطبخ والكنس والغسيل..كانت قادرة علي توزيع الحنان الذي لاينضب..كانت قادرة علي رسم الضحكات علي وجيهما..ورفضت استئصال ثديها..ورفضت العلاج الإشعاعي والكيماوي.. كل ما طلبته حقن مسكنة..وأصرت أن تموت في سلام..وأوصت أن تدفن بجوار زوجها..برغم كل شيء أحبت هذا الرجل..وأحبت السيدة زينب ..أحبت كل شبر في هذا الحي ..أحبت أسواقه..ومساجده..وناسه الأصلاء..وجلس الأخوان بجوارها..وتحملاها بحب وهي عاجزة كالأطفال عن فعل أي شيء..وكان يقومان بتشطيفها كل يوم دون أدني اشمئزاز..وجودك ياعمة هو ما يجعل هذا العالم محتملا..أيتها الشجرة التي لم تبخل علينا بثمارها وظلالها..عيناك جدولا طيبة..ويداك محرابا سكينة..وصوتك النيل بمائه وطميه ومراكبه..والحقول الخضراء علي جسوره..وضحكتك أطيب من ضحكة النوافذ حين تستقبل الشمس..وأدفأ من ضحكة الأرض حين تحتضن المطر..وأكثر حزنا من المناديل حين تودع المحبين..في هذه الغرفة المقدسة كم حلقت فراشات الحواديت..وكم نبتت أزهار الطمأنينة..وكم غنت بلابل الحنين..ترحلين الآن وتبقي خلفك أشياؤك..ومدامعنا..وفراغ موحش..وليالي ليس لها نهار..سلام عليك حين ولدت..وحين رحلت..وحين تبعثين..
20
قليلون هم الفنانون الذين استطاعواأن يفهموا روح الشعب المصري العظيم..ومنذ وفاة خالد الذكر سيد درويش لم يخلفه سوي صلاح جاهين..وهو الذي نبهنا في رباعياته بأن الموت لم يعد له جلال..وتعالت الأصوات التي تقول بأننا حضارة جنائزية..تهتم بالموت أكثر مما تهتم بالحياة..وأنه لايوجد شعب يحتفل بالذكري الأربعين بالميت..واعتقدوا أن الاهتمام بالموت يتناقض مع حب الحياة..وهذا فهم قاصر ومشوه..فالمصريون لم يفهموا الموت كفناء ونهاية حياة..ولكنهم اعتبروه حياة أخري..وكان احتفاءهم به هو احتفاء بالحياة وبالوجود..الموت هو جزء من الحياة ويجب احترامه..المصري بطبيعته لايعرف الأحاسيس السطحية والعابرة..هو دائما يتعمق في كل شيء..اذهبوا إلي الفلاحين في القري التي لم تتوحش فيها المدنية وراقبوهم..انظروا كيف يفرحون بالزواج فرحا فطريا لاغش فيه ولارياء..كيف يفرحون بالمولود الجديد..كيف يحتفون بحصاد القطن والغلال( للأسف انقرض محصول القطن..هذا المحصول الذي يمتلك مقدرة فذة وساحرة علي إدخال البهجة علي القلوب حين تتفتح لوزته عن سحاب أبيض تستطيع أن تلتف به وتطوف حول كعبة الأبد..)..انظروا إلي الفلاح وهو يعزق بفأسه الأرض..وهو يرويها..وهو يشرب كوب شاي علي ناصيتها..تعلموا من الفلاح الذي مازال مصرا علي زراعة أرضه رغم أنه يصرف عليها أكثرمما يربح منها..هذا طبعا في وجهة نظركم- أيها المصريون الجدد- غباء وبلاهة..النتيجة أصبحت أهم من الفعل ذاته..وهذا سبب ما تشعرون به من خواء وعدم..كل هذه الأفكار دارت برأس سعيد حين قابل زملاء عمله موت عمته العجوز بالسخرية والاستهزاء..
- تسعين سنة..اتخطفت في عز شبابها..ماكانش يومك ياحبيبتي..
- ياراجل..أراحت واستراحت..
- كده البيت فضي..وهنعيش يامعلم..
21
في هذا العام انتبه سعيد أنه أتم الثلاثين..ولم يزل غارقا في مراهقته..كل ما يهمه هو الحصول علي امرأة جديدة..وهو ملول..لايحتمل امرأة أكثر من شهر..في البداية يكون منبهرا بها..وما إن يستدرجها إلي شقته..ويقضي معها ليلة أو اثنتين أو علي الأكثر ثلاث حتي يختنق..لاشك أنه يهرب من مواجهة أحلامه المحبطة..مل من معاشرة نساء الطبقة الفقيرة والمتوسطة..يريد اختراق الطبقة الهاي..بنات الوزراء وكبار رجال الأعمال وأعضاء مجلس الشعب..ولكن كيف ؟؟..الحل هو أن يصير مطربا شهيرا..ما إن يتحقق هذا الحلم المستحيل..حتي تصبح كل الأحلام الأخري تحصيل حاصل..ولكن كيف.؟؟هذا ما ينغص عليه حياته..حياته التي يحسده عليها الكثيرون..لم يعد يجد لذة في الأجساد التي يعتصرها بحقد ويأس علي أمل أن يجد ذرة متعة..ولكن هيهات..يريد أن يصل إلي بنات الجامعة الأمريكية ونادي الصيد..يريد أن يضاجع نجمة سينمائية أو مطربة شهيرة..يريد..بكل ذرة في كيانه يريد..ولكن كيف؟؟..وجاءت كلمة صديقه شريف علي الجرح
- البنت التي تسير معها كالسيارة التي تركبها مؤشر علي مستوي النجاح الذي حققته
وجاء اتصال أبيه من البلد صادما
- إنت مش ناوي تتجوز ولا ناوي تخيب خيبة اخوك الكبير..
يتزوج؟؟..لماذا؟؟..العاجزون عن الحصول علي امرأة هم فقط من يتزوجون..العاجزون عن إقناع امرأة أن تنام معهم بدون زواج هم الذين يذهبون إلي أسرتها لتقتنع..حتي وإن كان الثمن أن يتورطوا فيها لبقية العمر..أتزوج؟؟لماذا؟؟من أجل إنجاب أولاد يحققون أحلامي التي عجزت عن تحقيقها!!..متي يتوقف الآباء عن ترديد نكاتهم القديمة والسخيفة..التي لم تعد مضحكة..هذا الفلاح الساذج المتخلف..من الذي أعطاه الحق لكي يتكلم معي بتلك الطريقة..ولماذا يتدخل في حياتي..لم أعد طفلا..أعرف مصلحتي أكثر من أي إنسان آخر..والطريق الذي أتصور أنه سيمنحني السعادة سأضع قدمي عليه بلا تردد..أتزوج؟؟لكي أستقر..يقصد أن يقول لكي أتعفن وأنتهي..لكي أدور في الساقية..لكي أعيش عيشة الكلاب..أكره البنات المؤدبات الخانعات المستسلمات لأعراف المجتمع الغبي والمنافق..وللأسف هن الصالحات للزواج..أما البنات المتفجرات بالحيوية فلا يصلحن.. لأنهن لاينتظرن تصريحا من أحد لكي يرتمين في حضن رجل انجذبن إليه..أتزوج؟لكي أكره المرأة..وماذا بعد كراهية المرأة سوي الانتحار..لابد أن تكون مسافة ليكون حب..ويكون شوق..ويكون جنون..الجنون الذي يعطي الحياة نكهتها اللذيذة..لصديقي شريف تشبيه لذيذ يقارن فيه بين المتزوج والعازب
- العازب كالرجل الشبعان والعريان..والناس لاتري إلا عريه..وينصحونه دائما أن يغطي نفسه..أما المتزوج كالرجل الجائع والكاسي..والناس لاتشعر بجوعه..ينبهرون دائما بالملابس التي يرتديها..لذا فالعازب فضيحته بجلاجل..ومشكلته التي لايمكن إنكارها علي عينك ياتاجر.. واللي ما يشتري يتفرج..
نعم ..هناك تقديس للمظاهر..فالمهم أن تظهر أمام الناس بأنك تمام ..وعال العال..وميت فل واربعتاشر..حتي وإن كان هذا علي حساب سعادتك الحقيقية..
نصف من يمتلكون السيارات في مصر مدينون لطوب الأرض..كل هذا من أجل الظهور أمام الناس بمظهر الناجحين السعداء..حتي وإن كان الثمن أن يعملوا ليلا ونهارا ليقوموا بتسديد ديونهم..والبنت ترضي بأول عريس يتقدم لها لتحصل علي لقب أول مخطوبة في دفعتها..وتضحي بسعادة عمرها من أجل رغبة مرضية في التفوق علي قريناتها وإثارة حسدهن..والمرأة تصر علي الاستمرار في الحياة مع رجل تكرهه لكي لاتلتصق بها وصمة الطلاق..أما أخي حافظ ..فلا أدري متي يتوقف عن تدمير نفسه..؟؟
22
كان الأمر في البدء يبدو طبيعيا..لم يعد لحافظ حديث سوي عن مطلقته (الجميلة جدا..مع تعطيش الجيم) وعن رغبته في زوجة في مستوي جمالها..والناس ينصتون ويستمتعون ..وتطورالأمر أن بدأ يحكي لهم تفاصيل علاقته معها وكأنه يصف فيلم بورنو..ولعل الاستحسان الذي كان يجده من الناس وكان يراه علي وجوههم جعله يتمادي إلي مالانهاية..ومع الوقت لم تعد حجرته كافية لاستيعاب الزملاء الراغبين في الاستماع إلي تجربته..ومع الوقت انضم عمال النظافة..ومع الوقت انضم أفراد الأمن..وهو يحكي باستمتاع وانتشاء..ويتشعب الحوارإلي عالم المرأة بكل تفاصيله..أكثر الأماكن إثارة في جسدها..أكثر الأوضاع الجنسية إمتاعا..جميع الأقراص التي تساعد في الوصول إلي علاقة مشبعة للطرفين..كتاب رجوع الشيخ إلي صباه..أحدث أفلام البورنو..وموضوعات أخري كثيرة أتركها لذكاء القاريء..وخرج الموضوع عن السيطرة..وازداد حدة في السنوات الأخيرة..بعد موت العمة بدوية..وقال شريف لسعيد:
- يبدو أن مشكلة أخيك لاعلاقة لها بزوجته السابقة أبدا..إنها مشكلة إنسان منبوذ اجتماعيا..وبمجرد أن وجد طريقة فتحت له قلوب الآخرين حتي انزلق فيها كصخر حطه السيل من عل..أخوك ياسعيد يسير في طريق الجنون..حاول أن تعرضه علي أحد علي دكتور نفسي..
- هل تعتقد أنهم قادرون علي فعل شيء..
- أنا معك ..مرض أخيك ليس مرض فرد..ولكنه مرض مجتمع..مجتمع يزرع في أطفاله قيما أخلاقية ليحتقرهم بعد ذلك عندما يتمسكون بها..الصدق والأمانة والنظام والغيرة علي الأم والأخت والزوجة..وهو تمسك بهذه القيم بشدة..واكتشف أن الجميع يعتزلونه بسببها بدلا من أن يحترموه ويرفعون له القبعة..
- ولكن ألا تعتقد أنه قد يعاني من مشكلة جنسية ..وهو يقوم بعملية تعويضية الآن..ليثبت لنفسه قبل الآخرين أنه شديد الفحولة..
- ربما..السبب أيضا في المجتمع- أو العولمة- الذي أعطي الجنس حجما أكبر من حجمه..أصبح معبود الناس في هذا الزمن..لم يعد يجتمع أثنان إلا والجنس ثالثهما..ولم يعد شيء قادرا علي إعطاء المتعة مثله..تضاءل دور العمل..وكادت هوايات مثل الصيد والتريكو والقراءة والعزف علي آلة موسيقية وجمع العملات وجمع الطوابع وتربية الدواجن واقتناء السلاحف أن تنقرض ..
- في رأيي أن الأزمة الحقيقية تكمن في الفراغ..عدد ساعات العمل تضاءل بشدة...نحن مثلا في نوبتجية أربعة وعشرين ساعة لانعمل فيها سوي ثلاث أو أربع ساعات..والباقي أنتخة وتفخيد..والطبيعة تكره الفراغ..لابد من التفكير في شيء..أنا أفكر في النسوان..وأنت تفكر في الحشيش..والصيدلي والبقال والكوافير والتاجر..وكل المهن..كل المهن..أصبحت تعاني من لعنة الفراغ..في كل مهنة لايعمل إلا واحد في المئة عملا جبارا والباقي بينش..
- والناس تعتبر من يعملون – وحضرتك منهم- أناسا محظوظين ..وأرزاق وقسم..وأن الفاشل ليس مسئولا عن فشله..والفقير ليس مسئولا عن فقره..وطالما الموضوع هكذا فليس مطلوبا مني سوي عمل واحد فقط ..هو أن أحقد علي هؤلاء الناجحين..وأقول في سري كتنا نيلة في حظنا الهباب..
- وما العمل في مشكلة حافظ ياصديقي الفيلسوف يامن بأحوال العباد شغوف؟؟
- دعه يتجنن..أنت حاولت بدل المرة ألف ..ولاحياة لمن تنادي..هو يعتبرك أكثر فشلا منه.. ونفسك أولي بالنصيحة منه..ولديه حق طبعا..
- معقول حافظ هيتجنن..
- لسه ها ..ياصاحبي أخوك من زمان ..والأبلاتين لادع..انتهت القصة خلاص..
- وبعدين؟؟
- ولا قبلين..إنسان قرر إنه يتجنن ..ولازم تحترم قراره..زي مانت قررت ما تتجوزش كده..
- دا حشيش النهاردة أصلي ..أصلي
- انت فاكرني هيست ( من التهييس) ولا أيه ..أنا باتكلم بجد..ما فيش مجنون بيتجنن غصب عنه..الخلاصة.. مش قادر يعيش في العالم اللي احنا فيه ..الحل أيه.. يعيش في عالم تاني..أحمد زويل ما قدرش يعيش في مصر..راح عاش في أمريكا..وأصبح لايمت لمصر بصلة..بلد تانية ..ولغة تانية ..وعادات وتقاليد تانية...
- ياصاحبي.. زويل ممكن يرجع في أي وقت ..بس المجنون بيهاجر هجرة دائمة..
- وماله؟؟ تلت أربع الشعب المصري عايز يهاجر من مصر هجرة دائمة..يعني مش أخوك لوحده العاجز عن التكيف و التأقلم ..الجو اللي احنا عايشين فيه الأنسان اللي ما يتجننش فيه يبقي أكبر مجنون..ياسوسو ..احنا عايشين في بلد سمك لبن تمر هندي.. كله علي كله علي رأي عدوية.. اتفرج علي أي بنت وركز فيها كويس ..وانت طبعا مش محتاج وصية.. هتلاقي حجاب ع الراس..والبنطلون الجينز عاصر مؤخرتها..وتيجي تعاكسها تغسلك ..ولو أصريت علي موقفك ..تاني يوم هتبقي معاك في الشقة..ومع ذلك تلاقي الموبايل عليه قرآن والرنة ابتهال لسيد النقشبندي..والغريبة بعد ما تتجوز تبقي محترمة..واللي بتخون جوزها تكتشف إن ما كانش ليها أي تجارب قبل الجواز.. وتلاقي اخوات البنات دول فاكرينهم أشرف بنات علي وجه الأرض..تناقضات تخلي أجدع عقل يشت ويروح ما يرجعش..
سيبك من الكلام ده كله ..هات العود واعزف لنا أغنية (الحلوة قامت تعجن في الفجرية..)
23
حافظ الآن يسير في شوارع السيدة مرتديا جلبابا متسخا ولحيته تصل إلي صدره وفي يده بوستر كبير للفنانة ليلي مراد..هو في أغلب الأوقات هاديء..ولكن ما أن يداعبه طفل صغير حتي يجري خلفه صارخا:
- يازبالة ..يامعفن..ياقذر..يامتخلف..يابيئة..
وسرعان ما يعود إلي هدوئه ..وإلي تأمل وجه فنانته المحبوبة..ومن المدهش أن عقله لم يذهب كلية..في أحيان كثيرة تجده قد هذب من لحيته ..وارتدي بدلة من بدله القديمة البالية ..وجلس علي المقهي ليشاهد مباراة مثيرة..أو فيلما كوميديا..أو يلعب الطاولة مع صديق يتعرف عليه لأول مرة..وإذا تصادف وجلست بالقرب منهما سيخطف أذنك حديث حافظ الشائق عن الجنس ..وعن حلمه في الارتباط من امرأة جميلة كهند رستم..وستتعاطف معه حين يخبرصديقه بأن مصر- أم الدنيا- توقفت عن إنجاب البنات الجميلات ..وأن الموجودات الآن أشباه نساء..وأن مصر بعد ثورة 1952لم تعد مصر..يسميها المصودية( علي وزن السعودية) أو المصويت ( علي وزن الكويت)..كل هذا يقوله قبل أن يكتشف الصديق أن حافظ لايجيد لعب الطاولة..وأنه كان يريد فقط أن يتكلم..فقط أن يتكلم..ويلتف الناس حوله كما كانوا يفعلون..
24
أنا شريف لمعي ..طبيب..وحشاش..وكاتب..وصديق سعيد ..وزميله في مستشفي المنيرة..أحب مراقبة الناس والإصغاء لهم..ولدي قناعة بأن وراء كل إنسان – وكل إنسان عظيم- رواية عظيمة ..مكتبتي بها أجندات أكثر بكثير من الكتب..لكل زميل أجندة ..أدون فيها كل ما أعرفه عنه..اسمه بالكامل ..وعلاقة هذا الاسم بصفاته..القرية أو المدينة التي نشأ بها..طقوسه الخاصة..الألوان التي يفضلها..الأغاني التي تطربه..درجة تدينه..علاقته بالمرأة..رأيه في الحب والزواج..أحلامه..مخاوفه..البلاد التي زارها..طريقته في نطق الكلمات.. يميل إلي المرح أم إلي الكآبة..دائما أنجذب إلي الشخصيات المرحة..التي تسخر من كل شيء..من نفسها قبل الآخرين..الحياة في نظري لا تستحق كل تلك الجدية وكل هذا اللهاث..أروع مافي الحياة هي ساعة الحظ ..تلك الساعة التي يتصرف فيها كل أحد علي سجيته..ويتذكر أجمل ما يحفظ من نكات ..وأجمل ذكريات طفولته..ويضحك حتي يكاد أن يغمي عليه..ويمتليء حبا لرفاق جلسته..ويترك لهم مساحة كافية ليمدوا أرجلهم ويسترخوا.. ويشعروا بخفة ظلهم ..ويتعالي علي كل الخلافات الصغيرة التي لابد من وجودها..وكما أحب المرح..أكره البخل ..وأكره الاصطناع..البخيل يستحيل أن يكون سخيا في مشاعره..ولاتستطيع أن تنتظرا منه خيرا..ستجده عزوفا كل عن مافي الدنيا من متع وملذات..ولكنني لا أنكر أن المتطرف في البخل هو كوميديان من الدرجة الأولي..هذا بالنسبة للناس الذين لايعتمدون عليه..أما بالنسبة لأهله ولمن يتعاملون معه بيعا وشراء فهو كارثة بكل المقاييس..والمصطنع أنواع..فهناك من يصطنع الوقار..ومن يصطنع خفة الدم ..ومن يصطنع التدين..وهو في النهاية شخص خنيق..وإن كان مادة في منتهي الثراء لكتابة المسرحيات..وعلي قفاهم وقف (موليير) وأصبح كاتبا مسرحيا عظيما..وما علاقة ذلك بقصتنا؟؟
25
انتهيت من كتابة هذه القصة في صيف 2010..وبدا لي أنه لاجديد سيحدث ويستحق الإضافة..سعيد فى التاسعة والثلاثين من عمره..جراح نص كم..ودنجوان نص كم..ومطرب نص كم..أما حافظ فقد انتهي به الحال كما ذكرت في الفقرة قبل السابقة..يلزم التنويه بأن أحداث تلك القصة حكاها لي صديقي سعيد ونحن نشرب الشاي ..وندخن المعسل علي مقهي بالقرب من المستشفي..وبالنسبة للأفكار التي كانت تدور في رأس حافظ أو رأس زوجته أو غيرهما من الشخصيات الأخري كانت استنتاجات شخصية توصل إليها سعيد..والحقيقة أنه لاأحد يعرف علي وجه التأكيد لماذا تم الطلاق أصلا بين حافظ وغادة..مازال هذا سرا غامضا..المهم ..في 25 يناير 2011قامت ثورة شعبية لإسقاط نظام الرئيس حسني مبارك..وتهورت وزارة الداخلية وأطلقت الرصاص الحي علي بعض المتظاهرين..وسقط مئات الشهداء ..كان منهم حافظ الدشناوي..لاأحد يدري لماذا ذهب إلي ميدان التحرير..هل كان عاقلا ويدعي الجنون؟هل كان واعيا – وهو في قمة تدهوره- بالفساد المستشري في البلد..؟؟(لم نعرف من قبل أن مجنونا مشي في مظاهرة).. ألف هل؟؟..رحمه الله..كانت حياته لغزا.. وكان جنونه لغزا..وكان موته لغزا..ومن سخرية القدرأن يكون حافظ – اللعنة ووصمة العار- هو السبب في انفتاح طاقة القدر لسعيد..كانت قصة حافظ الوحيدة التي لفتت انتباه أحد المخرجين كمدخل لعمل فيلم عن الثورة..فاجأني سعيد باتصال هاتفي في منتصف الليل
- مش هتصدق ياشريف .. قالها وهو يكاد أن يزغرد
- خير يابن المرة.. هذا هو اسلوب الحوار بيننا
- المخرج الكبير خالد يوسف اتصل بيا
- دلوقتي بقي مخرج كبير..دانت من شهر كنت عمال تتريق علي فيلم (كلمني شكرا)
- العظماء لازم نختلف معاهم وعليهم.. ماتنساش إنه عمل ويجا وخيانة مشروعة والريس عمر حرب.. خلينا في المهم..عايز يعمل قصة المرحوم حافظ فيلم ..وادالي معاد في جراند حياة عشان نتكلم في التفاصيل..خلاص ياصاحبي ..أنا كده دخلت الوسط من أوسع أبوابه..بلا جراحة بلا قرف..هتيجي معايا طبعا..
- أكيد طبعا..
- يارب تكون كتبت كل الحاجات اللي كنت باحكيهالك عن حافظ
- عيب عليك ..دي حاجة تفوت صاحبك
- قشطة عليك ..وصلنا يامعلم.. عايزك تكتب أغنية توجع عن الثورة..
- يامسهل..
وقابلنا خالد يوسف في الموعد المحدد..وأبدي الرجل إعجابه الشديد بصوت سعيد وبأسلوبي في الكتابة..وأخبرنا بأننا سنكون علي اتصال دائم في الفترة القادمة ..حتي يخرج الفيلم للنور..ووعد سعيد بأغنية تتر الفيلم ..ووعدني بالمشاركة في كتابة السيناريو..نحن الآن في سعادة لاتوصف ..أقدامنا ليست علي الأرض..نرفرف..ونجاح الثورة – أو فشلها- في رأينا يعتمد اعتمادا كليا علي وعود المخرج الكبير..
الاثنين، 11 أبريل 2011
حياة جميلة في انتظارك
حياة جميلة في انتظارك
أعترف لك بأنني لم أتخيل أن تكوني صعبة إلي هذا الحد..وخصوصا أن صداقتنا بدأت بسرعة غير متخيلة ..في خلال جلسة واحدة كنا نتحدث كصديقين يعرفان بعضهما منذ سنوات الطفولة..كان هناك انسجام ..وكان هناك ارتياح ..وكان هناك إعجاب متبادل..وكشاعر – والشاعر بطبيعته إنسان متطرف- اعتبرت إعجابي بك حبا..نعم أحببتك ورأيت فيك المرأة التي أتمني أن أعيش معها وأري مراكب أحلامي تطفو في بحيرتي عينيها الصافيتين..ولكن هذه الأمنية كانت مستحيلة..الدين كان جدارا عازلا..ولا أخفي عليك سرا بأن هذا لم يوجعني ..بالعكس ..أفرحني كثيرا..فأنا أكره كل العلاقات التي يفرض عليها العرف أو الدين شكلا محددا..الحب – كالقصيدة- يختار الشكل الذي يلائمه..كالسفينة التي تبحر ولاتدري علي أي ميناء سترسو..كالمسافر الذي ينزل في بلد ولا يعرف متي يعود..شعور سخيف ومؤلم وضد طبيعتنا أن نتخذ قرارا لا رجعة فيه ..لماذا يمتلك الإنسان حرية الإقدام ولا يمتلك حرية التراجع ..أن يعترف بأنه كان نائما واستيقظ ..أن يعترف بأن هذا النوع من النبيذ لم يعد يسكره ..وتلك الأغنية لم تعد تطربه ..الجدارالعازل جعلني أراك بوضوح أكثر..جعلني أسبح في بحارك دون أن أخشي الغرق ..وأجلس علي شواطئك دون أن أخشي التورط..كنت جميلة ..ومرحة ..ومتألقة.. كنجمة من نجمات هوليود ..وكانت رسائلك – المكتوبة بلغة إنجليزية أنيقة – تملؤني نشوة كتلك التي أشعر بها وأنا أقرأ قصائد نزارقباني وإبراهيم ناجي وجبران خليل جبران..وكم صدمني أن ترفضي دعوتي لك لمشاهدة فيلم ليوناردو دي كابريو الأخير(INCEPTION)
الفيلم المستوحي من قصة قصيرة تحكي عن امرأة تعيش في فيلا مهجورة معتزلة الحياة الأمريكية اللاهثة..هذه المرأة عرفت كيف تسعد نفسها بأن تحلم كل يوم حلما وتعيش فيه بكل ذرة من كيانها..وابتدأت تعاستها عندما باعت أحلامها لرجل أعمال بثروة ضخمة..فجأة لم يعد لديها أحلام ..لم يعد لديها إلا واقع رتيب وعفن..واقع لامجال فيه للطفولة والبراءة والتلقائية..كل شيء محسوب بالأرقام..الأرقام التي كلما زادت في البنوك ونقصت علي لوحة السيارة كلما ازدادت أهمية الإنسان..اعتبرت رفضك نوعا من المراوغة ..المراوغة التي تحترفها كل أنثي جميلة..وبها تشتعل رغبة الذكر ويزداد إصرارا علي مطاردة فريسته..ولكنك لم تكوني أبدا بالنسبة لي مجرد فتاة جميلة أسعي إلي ضمها إلي رصيد انتصاراتي العاطفية..بصدق أقول لك أن ثوب الدنجوان أوسع مني بكثير..ولا أمتلك وردة الخسة التي يضعها في عروة جاكتته..نعم يخجلني أن أكون شابا بلا تجارب ( وهو نموذج أنفر منه)..ولكن هذا لا يعني أن كل ما يهمني- علي حد قولك في مكالمتك الأخيرة- أن أصل إلي جسدك(طبعا منعك الحياء من أن تقولي هذا صراحة) ..الشهور التي مضت علي لقائنا الأول ..والأحاديث التي دارت بيننا..واللقاءت القليلة التي جمعتنا في مكان عملنا..أثبتت لي أنك أصبحت مني ..وأن وجودك في حياتي أصبح ضروريا ضرورة الجفن للعين ..والأصابع لليد..والنجوم لأمسيات العاشقين..
وهذا ما تأكدت منه عندما أصبحت حريصا علي أن أراقبك من النافذة- عندما تتركيني وترحلين – مراقبة أب لابنته الحبيبة..هل يضحكك هذا التشبيه؟؟..هل تريدين أن تصعدي علي برج القاهرة وتصرخي( يانصاااااااااااااااااااااااااااااب)..لم يعد يهمني أن تصدقي أو لاتصدقي..فأنا علي يقين بأن العالم – بكل أكاذيبه- لايستطيع الوقوف في وجه كلمة صادقة..ولن أقسم لك لأن أصدق المتألمين هم من يتألمون في صمت..وأصدق العاشقين هم الذين عاشوا قبل ظهورالأغاني العاطفية..والعصفور الذي يرتعش تحت المطر لا يحتاج إلي أخبارأحد بما يشعر به من برد..أعرف ياصديقتي أن العمر لم يعد يسمح لنا بترف التحليق في سماوات المشاعر الأفلاطونية..كبرنا علي لعبة الحب من أجل الحب..للواقع قوانينه الظالمة..ولكلام الناس جبروته..وللقلب أن يضع – بكبرياء ذليل- شرايينه في كلابشات الزمن الحديدية..وللأحلام الخضراء أن تختنق في زنزانة الكوابيس..
منذ أكثر من خمس سنوات شاهدت فيلما فرنسيا جميلا يحكي قصة شبيهة لقصتنا وطوال الفيلم كنت أنتظر أن يبدأ..ولكنه انتهي فجأة..ونظرت غير مصدق للساعة فإذا بساعتين قد مرا منذ بداية الفيلم وأنا لا أشعر..وتعلمت من هذا الفيلم أن جمال الحياة يكمن في رتابتها لافي إثارتها..وفي أحداثها العادية لا في أحداثها الصاخبة..وأن أروع السيمفونيات تلك التي يعزفها طفل أفريقي علي مزمار من البوص وهو جالس علي شاطيء نهر في أعماق غابة..تعلمت أن أكتشف حواسي المطمورة تحت ركام
الضجيج اللوني والصوتي والشكلي..تعلمت أن أقرأ في كل موعد أراك فيه تاريخ الشوق وجغرافيا الحنين..وأن أسمع في كل مكالمة هاتفية جميع ماهمس به النسيم في أذن الشجر وفي أذن الضفائر..تعلمت أن أصطحبك – وأنت جالسة في بيتك- إلي فنادق الشعر وأبراج البوح وحدائق البهجة..قلت لك من قبل أنك سقطت علي كما سقطت التفاحة علي نيوتن..وهذا ليس صحيحا..فأنا أحببتك مع سبق الإصرار والترصد..منذ ولادتي وأنا أبحث عن أمراة لها نفس ملامحك ..ونفس ثرثرتك ..ونفس سكوتك الدفيء..في يوم ما سأذكر أنك سرت في طرقات قلبي ..وجلست علي المقاعد الخشبية تحت شرايينه ..واستحممت عارية في جداوله..وأعدك أنني لن أفتح صدري بعد افتراقنا- الذي أتمني ألا يكون ولكنني واقعي-إلا امرأة لها طيبتك وذكاؤك وجاذبيتك..أعرف أن مشاعري قد لاتكون صادقة مئة فى المئة..وقد يكون خلف هذه الرسالة الطيبة نية خبيثة في إقناعك بأن رجلا علي وجه الحب أو علي ظهره لن يحبك كما أحببتك..بل المصيبة أنني قد لا أستطيع أن أحب أحدا سوي ذاتي..فمن خلال قراءتي لقصص حياة الشعراء السابقين اكتشفت تلك الحقيقة المؤسفة..وهي أننا – معشر الشعراء- عاجزون عن الخروج من أنفسنا والدخول في إنسان آخر..ولكنني اكتشفت أيضا – وهذا سلواني- أنني أحب نفسي فيك..ومعك لا أشعر أنني أجلس في حضرة إنسان غريب عني..بل أنت أنا..معك لا أحتاج للتجمل..ولا أفكر في الكلام قبل النطق به..ولا أتحفظ..ولا أشعر بالحرج من أي شيء..وربما لو وجدت امرأة مثلك – علي نفس ديني- ما ترددت لحظة واحدة في الارتباط بها..المهم أن ترضي هي بي..أفكر فيك كثيرا وأقول لنفسي بأن وجودك في حياتي مهم ..ولكن هل العكس صحيح؟؟..وأحاول أن أضع نفسي مكانك ..ويصدمني أن تكون الإجابة (لا) ..ومع ذلك أتقبلها..لأن العقل هو الذي يقول هكذا..والصراع الذي تعانيه كل البنات في المجتمعات الشرقية هو الصراع بين التوقع والواقع..هناك بنات يقبلن بمنتهي الواقعية أول من يطرق الباب ويمتلك الحد الأدني من توقعاتهن..فطالما هو جاهز ماديا وقادرعلي فتح بيت ويوجد شيء من الارتياح فهو مقبول..قد لايكون بالوسامة المتوقعة..ولابالرجولة وقوة الشخصية المتوقعة..ولكن هذه الأشياء لا توجد إلا في السينما فقط..المهم أن تري الزميلات في الدراسة أو العمل الدبلة وهي تلمع في اليد اليمني..وبقدر الإمكان سأحاول الظهور أمامهن بمظهر السعيد لكي أستمتع بنظرات الحسد في عيونهن..فخطوبتي المبكرة معناها أنني أكثر أنوثة منهن حتي وإن كنت أقل جمالا..هكذا تقول البنت الواقعية لنفسها..وأحيانا ما تقوم بواقعية لا أخلاقية – بمنطق الزمن الذي نعيشه- بتقسيم العمل..بمعني أنه لايجوز أن نخلط بين الزواج والحب..ودع مالله لله وما لقيصر لقيصر..هي تتزوج إرضاء للمجتمع وتمشي علي حل شعرها إرضاء لشهوة القلب والجسد..والبنت من هذا النوع هي غالبا لاتعرف معني للحب الروحاني..الحب دائما هو لقاء الجسد بالجسد..الحب هو سيل لاينقطع من الدباديب والاكسسوارات وزجاجات البرفان..ولعلك تعرفين الكثيرات من هذا النوعية..وهذه النوعية نوعان..واحدة تستمتع بإذلال الرجل الذي يلهث خلفها وتقوم بابتزازه ماديا ومعنويا(وهو طبعا يستحق ذلك)..والأخري لاتحب إلا الرجل الذي يريها النجوم في عز الظهر ولا يتورع عن إهانتها وضربها أمام الناس ومع ذلك هي تبوس التراب الذي يسير عليه وقد تنتحرإن تخلي عنها أو تعيش العمر تبكي عليه..وهذه النوعية هي التي تنتمي إليها أغلب بنات مجتمعنا ياصديقتي..أما أنت فأرفع من ذلك وإن كنت علي يقين بأنك مررت – في مرحلة من حياتك- بجميع المشاعر السابقة قبل أن تصلي إلي ما أنت فيه اليوم من عقلانية ومثالية في النظر إلي موضوع الزواج..ويؤسفني أن أقول لك بأن الموقف الأخيربقدر ما فيه من ترفع وقوة وحرية بقدر مافيه من قلق ووحدة ويأس..أنت الآن ياصديقتي قررت أن تختاري زوج المستقبل بمحض إرادتك وبكامل حريتك واعتبرت تدخل الأهل والأقارب والجيران تدخلا لامعني له ..فهذه حياتك أنت لا حياتهم..وهذا صحيح..ولكنك في نفس الوقت مطالبة بتحمل مسئولية نفسية ثقيلة..وبإذن الله ستقدرين علي تحملها..وسيكون قلق نافع ولن يكون يأس ..فمن له مثل عقلك وقلبك لاخوف عليه من تلك المشاعر السلبية..أنا علي ثقة بأن حياة جميلة – تستحقينها عن جدارة- في انتظارك..
أعترف لك بأنني لم أتخيل أن تكوني صعبة إلي هذا الحد..وخصوصا أن صداقتنا بدأت بسرعة غير متخيلة ..في خلال جلسة واحدة كنا نتحدث كصديقين يعرفان بعضهما منذ سنوات الطفولة..كان هناك انسجام ..وكان هناك ارتياح ..وكان هناك إعجاب متبادل..وكشاعر – والشاعر بطبيعته إنسان متطرف- اعتبرت إعجابي بك حبا..نعم أحببتك ورأيت فيك المرأة التي أتمني أن أعيش معها وأري مراكب أحلامي تطفو في بحيرتي عينيها الصافيتين..ولكن هذه الأمنية كانت مستحيلة..الدين كان جدارا عازلا..ولا أخفي عليك سرا بأن هذا لم يوجعني ..بالعكس ..أفرحني كثيرا..فأنا أكره كل العلاقات التي يفرض عليها العرف أو الدين شكلا محددا..الحب – كالقصيدة- يختار الشكل الذي يلائمه..كالسفينة التي تبحر ولاتدري علي أي ميناء سترسو..كالمسافر الذي ينزل في بلد ولا يعرف متي يعود..شعور سخيف ومؤلم وضد طبيعتنا أن نتخذ قرارا لا رجعة فيه ..لماذا يمتلك الإنسان حرية الإقدام ولا يمتلك حرية التراجع ..أن يعترف بأنه كان نائما واستيقظ ..أن يعترف بأن هذا النوع من النبيذ لم يعد يسكره ..وتلك الأغنية لم تعد تطربه ..الجدارالعازل جعلني أراك بوضوح أكثر..جعلني أسبح في بحارك دون أن أخشي الغرق ..وأجلس علي شواطئك دون أن أخشي التورط..كنت جميلة ..ومرحة ..ومتألقة.. كنجمة من نجمات هوليود ..وكانت رسائلك – المكتوبة بلغة إنجليزية أنيقة – تملؤني نشوة كتلك التي أشعر بها وأنا أقرأ قصائد نزارقباني وإبراهيم ناجي وجبران خليل جبران..وكم صدمني أن ترفضي دعوتي لك لمشاهدة فيلم ليوناردو دي كابريو الأخير(INCEPTION)
الفيلم المستوحي من قصة قصيرة تحكي عن امرأة تعيش في فيلا مهجورة معتزلة الحياة الأمريكية اللاهثة..هذه المرأة عرفت كيف تسعد نفسها بأن تحلم كل يوم حلما وتعيش فيه بكل ذرة من كيانها..وابتدأت تعاستها عندما باعت أحلامها لرجل أعمال بثروة ضخمة..فجأة لم يعد لديها أحلام ..لم يعد لديها إلا واقع رتيب وعفن..واقع لامجال فيه للطفولة والبراءة والتلقائية..كل شيء محسوب بالأرقام..الأرقام التي كلما زادت في البنوك ونقصت علي لوحة السيارة كلما ازدادت أهمية الإنسان..اعتبرت رفضك نوعا من المراوغة ..المراوغة التي تحترفها كل أنثي جميلة..وبها تشتعل رغبة الذكر ويزداد إصرارا علي مطاردة فريسته..ولكنك لم تكوني أبدا بالنسبة لي مجرد فتاة جميلة أسعي إلي ضمها إلي رصيد انتصاراتي العاطفية..بصدق أقول لك أن ثوب الدنجوان أوسع مني بكثير..ولا أمتلك وردة الخسة التي يضعها في عروة جاكتته..نعم يخجلني أن أكون شابا بلا تجارب ( وهو نموذج أنفر منه)..ولكن هذا لا يعني أن كل ما يهمني- علي حد قولك في مكالمتك الأخيرة- أن أصل إلي جسدك(طبعا منعك الحياء من أن تقولي هذا صراحة) ..الشهور التي مضت علي لقائنا الأول ..والأحاديث التي دارت بيننا..واللقاءت القليلة التي جمعتنا في مكان عملنا..أثبتت لي أنك أصبحت مني ..وأن وجودك في حياتي أصبح ضروريا ضرورة الجفن للعين ..والأصابع لليد..والنجوم لأمسيات العاشقين..
وهذا ما تأكدت منه عندما أصبحت حريصا علي أن أراقبك من النافذة- عندما تتركيني وترحلين – مراقبة أب لابنته الحبيبة..هل يضحكك هذا التشبيه؟؟..هل تريدين أن تصعدي علي برج القاهرة وتصرخي( يانصاااااااااااااااااااااااااااااب)..لم يعد يهمني أن تصدقي أو لاتصدقي..فأنا علي يقين بأن العالم – بكل أكاذيبه- لايستطيع الوقوف في وجه كلمة صادقة..ولن أقسم لك لأن أصدق المتألمين هم من يتألمون في صمت..وأصدق العاشقين هم الذين عاشوا قبل ظهورالأغاني العاطفية..والعصفور الذي يرتعش تحت المطر لا يحتاج إلي أخبارأحد بما يشعر به من برد..أعرف ياصديقتي أن العمر لم يعد يسمح لنا بترف التحليق في سماوات المشاعر الأفلاطونية..كبرنا علي لعبة الحب من أجل الحب..للواقع قوانينه الظالمة..ولكلام الناس جبروته..وللقلب أن يضع – بكبرياء ذليل- شرايينه في كلابشات الزمن الحديدية..وللأحلام الخضراء أن تختنق في زنزانة الكوابيس..
منذ أكثر من خمس سنوات شاهدت فيلما فرنسيا جميلا يحكي قصة شبيهة لقصتنا وطوال الفيلم كنت أنتظر أن يبدأ..ولكنه انتهي فجأة..ونظرت غير مصدق للساعة فإذا بساعتين قد مرا منذ بداية الفيلم وأنا لا أشعر..وتعلمت من هذا الفيلم أن جمال الحياة يكمن في رتابتها لافي إثارتها..وفي أحداثها العادية لا في أحداثها الصاخبة..وأن أروع السيمفونيات تلك التي يعزفها طفل أفريقي علي مزمار من البوص وهو جالس علي شاطيء نهر في أعماق غابة..تعلمت أن أكتشف حواسي المطمورة تحت ركام
الضجيج اللوني والصوتي والشكلي..تعلمت أن أقرأ في كل موعد أراك فيه تاريخ الشوق وجغرافيا الحنين..وأن أسمع في كل مكالمة هاتفية جميع ماهمس به النسيم في أذن الشجر وفي أذن الضفائر..تعلمت أن أصطحبك – وأنت جالسة في بيتك- إلي فنادق الشعر وأبراج البوح وحدائق البهجة..قلت لك من قبل أنك سقطت علي كما سقطت التفاحة علي نيوتن..وهذا ليس صحيحا..فأنا أحببتك مع سبق الإصرار والترصد..منذ ولادتي وأنا أبحث عن أمراة لها نفس ملامحك ..ونفس ثرثرتك ..ونفس سكوتك الدفيء..في يوم ما سأذكر أنك سرت في طرقات قلبي ..وجلست علي المقاعد الخشبية تحت شرايينه ..واستحممت عارية في جداوله..وأعدك أنني لن أفتح صدري بعد افتراقنا- الذي أتمني ألا يكون ولكنني واقعي-إلا امرأة لها طيبتك وذكاؤك وجاذبيتك..أعرف أن مشاعري قد لاتكون صادقة مئة فى المئة..وقد يكون خلف هذه الرسالة الطيبة نية خبيثة في إقناعك بأن رجلا علي وجه الحب أو علي ظهره لن يحبك كما أحببتك..بل المصيبة أنني قد لا أستطيع أن أحب أحدا سوي ذاتي..فمن خلال قراءتي لقصص حياة الشعراء السابقين اكتشفت تلك الحقيقة المؤسفة..وهي أننا – معشر الشعراء- عاجزون عن الخروج من أنفسنا والدخول في إنسان آخر..ولكنني اكتشفت أيضا – وهذا سلواني- أنني أحب نفسي فيك..ومعك لا أشعر أنني أجلس في حضرة إنسان غريب عني..بل أنت أنا..معك لا أحتاج للتجمل..ولا أفكر في الكلام قبل النطق به..ولا أتحفظ..ولا أشعر بالحرج من أي شيء..وربما لو وجدت امرأة مثلك – علي نفس ديني- ما ترددت لحظة واحدة في الارتباط بها..المهم أن ترضي هي بي..أفكر فيك كثيرا وأقول لنفسي بأن وجودك في حياتي مهم ..ولكن هل العكس صحيح؟؟..وأحاول أن أضع نفسي مكانك ..ويصدمني أن تكون الإجابة (لا) ..ومع ذلك أتقبلها..لأن العقل هو الذي يقول هكذا..والصراع الذي تعانيه كل البنات في المجتمعات الشرقية هو الصراع بين التوقع والواقع..هناك بنات يقبلن بمنتهي الواقعية أول من يطرق الباب ويمتلك الحد الأدني من توقعاتهن..فطالما هو جاهز ماديا وقادرعلي فتح بيت ويوجد شيء من الارتياح فهو مقبول..قد لايكون بالوسامة المتوقعة..ولابالرجولة وقوة الشخصية المتوقعة..ولكن هذه الأشياء لا توجد إلا في السينما فقط..المهم أن تري الزميلات في الدراسة أو العمل الدبلة وهي تلمع في اليد اليمني..وبقدر الإمكان سأحاول الظهور أمامهن بمظهر السعيد لكي أستمتع بنظرات الحسد في عيونهن..فخطوبتي المبكرة معناها أنني أكثر أنوثة منهن حتي وإن كنت أقل جمالا..هكذا تقول البنت الواقعية لنفسها..وأحيانا ما تقوم بواقعية لا أخلاقية – بمنطق الزمن الذي نعيشه- بتقسيم العمل..بمعني أنه لايجوز أن نخلط بين الزواج والحب..ودع مالله لله وما لقيصر لقيصر..هي تتزوج إرضاء للمجتمع وتمشي علي حل شعرها إرضاء لشهوة القلب والجسد..والبنت من هذا النوع هي غالبا لاتعرف معني للحب الروحاني..الحب دائما هو لقاء الجسد بالجسد..الحب هو سيل لاينقطع من الدباديب والاكسسوارات وزجاجات البرفان..ولعلك تعرفين الكثيرات من هذا النوعية..وهذه النوعية نوعان..واحدة تستمتع بإذلال الرجل الذي يلهث خلفها وتقوم بابتزازه ماديا ومعنويا(وهو طبعا يستحق ذلك)..والأخري لاتحب إلا الرجل الذي يريها النجوم في عز الظهر ولا يتورع عن إهانتها وضربها أمام الناس ومع ذلك هي تبوس التراب الذي يسير عليه وقد تنتحرإن تخلي عنها أو تعيش العمر تبكي عليه..وهذه النوعية هي التي تنتمي إليها أغلب بنات مجتمعنا ياصديقتي..أما أنت فأرفع من ذلك وإن كنت علي يقين بأنك مررت – في مرحلة من حياتك- بجميع المشاعر السابقة قبل أن تصلي إلي ما أنت فيه اليوم من عقلانية ومثالية في النظر إلي موضوع الزواج..ويؤسفني أن أقول لك بأن الموقف الأخيربقدر ما فيه من ترفع وقوة وحرية بقدر مافيه من قلق ووحدة ويأس..أنت الآن ياصديقتي قررت أن تختاري زوج المستقبل بمحض إرادتك وبكامل حريتك واعتبرت تدخل الأهل والأقارب والجيران تدخلا لامعني له ..فهذه حياتك أنت لا حياتهم..وهذا صحيح..ولكنك في نفس الوقت مطالبة بتحمل مسئولية نفسية ثقيلة..وبإذن الله ستقدرين علي تحملها..وسيكون قلق نافع ولن يكون يأس ..فمن له مثل عقلك وقلبك لاخوف عليه من تلك المشاعر السلبية..أنا علي ثقة بأن حياة جميلة – تستحقينها عن جدارة- في انتظارك..
مجموعة قصصية
1أضحوكة الجميع
تشتهيها.. كأن إكسير الحياة في كوب الشاي الذي تقدمه لك قبل أن تضع سماعتك علي صدر أول مريض..تقدم ياأحمد ولاتقف..أن تعيش بالجنون أفضل ألف مرة من أن تعيش بالعقل والندم..ما أبشع أن تكتشف فجأة أنك عشت طوال حياتك أضحوكة للجميع..أحمد هو الشخص الذي بلغ سن اليأس ولم يحتلم بعد..هذا ما يقوله أولاد الأفاعي عنك في غيابك.. عشت عمرك – في رحاب المرحومة – مستمتعا بقفا الدنيا الباسم فهل كان من الممكن أن تموت دون أن ترى وجهها الدميم.. ربما يقولون أيضا أنك تعانى عقدة أوديب..وكلامهم – رغم بشاعته -لايخلو من حقيقة..في الخمسين من عمرك ولاعيادة لك.. ولازوجة لك..ولا عشيقة لك.. ولا هواية لك.. ليس لك إلا أحلام اليقظة والعادة اللعينة..ليس لك إلا مشاهدة أفلام الكرتون ولعب الفيفا..ليس لك إلا البكاء علي عمرك المسكوب.. مبارك عليك..لم يكن بالإمكان أن ترضي بك سوي هذه الممرضة الأربعينية الطيبة العانس مثلك..التى لاتشتهيها..لاتشتهي سوي كوب الشاي الذي تقدمه لك..ما أبشع أن تتأكد فجأة أنك ستظل بقية عمرك أضحوكة نفسك..
2 كائنات تستحق الضرب بالحذاء
بعد حصولك علي بكالوريس التربية بتقدير جيد جدا سيكون كل حلمك أن تعمل مدرسا بالحصة في المدرسة الاعدادية التى كنت تدرس بها..وبوساطة عضو مجلس الشعب – ابن عم خالة والدتك – سوف يتحقق حلمك..ستفرح فرحة طاغية .. وستوزع والدتك زجاجات البيبسي علي سكان شارعك.. بعدها سيكون كل حلمك أن يتم تثبيتك.. لكنك ستضطر أن تصحو مبكرا للتوقيع في دفتر الحضور..يامن تعودت علي السهر حتي صلاة الفجر..لماذا تنام قبل أن تصلي؟؟ ستثور علي نفسك بدون مقدمات..وسيأتيك اليقين – بمساعدة شيوخ الفضائيات والميكروباصات – بأن ابتعادك عن طريق ربنا هو سبب ما أنت فيه..لذا ستطلق لحيتك ولن يضايقك منظرها الرث يا دنجوان زمانك .. وتنضم إلي جماعة التوحيد لمدة شهرين كاملين.. ثم تفاجأ بثورة أبيك وسخرية طلابك وتهديد ا.ابو الفضل – ناظر المدرسة – بإلغاء التعاقد معك..ستتراجع لأنك أجبن من أن يكون لك موقف..وستحاول الاندماج مع مجتمعك الجديد..ولكن ستشعر بالاغتراب حين تجلس مع زملاءك – مدرسيك سابقا – في الحجرة التي تعبق بالملل والكآبة كأحاديثهم وسندوتشاتهم..كائنات كنت تظن أنها انقرضت فكيف عادت إلي الحياة .. كيف؟؟
كائنات كنت تسمح لها بالاعتداءعليك بالسب والضرب اذا ما تكاسلت عن أداء واجب بغيض كوجوهم الكالحة..كيف؟؟ وشكل المدرسات الذكوري سيجعلك تتساءل لماذا لاتحاكم الدولة أزواجهن بتهمة الشذوذ العلنى..
ولكن أ. أبوالفضل – الخارج لتوه من مسلسل تاريخي مصري- سيعيد تربيتك من جديد.. سيمنعك من دخول المدرسة بقميصك الربع كم وبنطلونك الجينز وحذاءك الرياضى ..ولكن الأمر ليس بيدك..الأمر بيد جو سبتمبر الخنيق وحرائق قش الأرزوعوادم الجرارات الزراعية والتكاتك ومياه المجاري الطافحة باستمرار..وسينهزم الزمالك – ناديك الاثير للأسف- أمام مركز شباب بني عبيد..ولن تضحك علي إفيه واحد في فيلم الزعيم الاخيروعليه العوض في ثمن التذكرة..
في اليوم التالي ستذهب إلي المدرسة وعفاريت الغضب تقفز في وجهك.. لذا ستشرح الحصة في أقل من عشر دقائق ثم تنام مرهقا علي مكتبك..من سوء حظك سيدخل أ. أبو الفضل ويقوم بتوبيخك ويبدأفي الموشح المعتاد عن زمن التعليم الجميل..ستنفلت
أعصابك كما لم يحدث لك من قبل..وستخلع حذاءك وتنهال به علي أم رأسه فى ضربات متوالية عنيفة وأنت تصرخ:
الجو صعب..وحال الزمالك صعب..وحال السينما صعب ..وانت صعب..يلعن أبوك ياكلب يابن الكلب..
ثم تهدأ فجأة..ثم يسود صمت عميق للحظات..ثم يجتاحك تصفيق الطلبة المدوي..
وهتافاتهم المؤيدة المتعاطفة..وسيحاول الجميع بعد ذلك – بما فيهم الكائنات المنقرضة- أن يكون لهم موقف مثلك يابطل...
3 زوجة الشيخ
لايزال هذا الرجل بالنسبة لي حتي الآن لغزا لاأفهمه ولا يفهمه أحد من شارعنا..
حتي أبي-صديقه الحميم-لايتحدث عنه إلا بكل خير..وأسأل نفسي تراه لا يعرف ماذا
يقول الناس عن سيرة زوجته وسيرة أهلها؟؟
ولكنني أدين له بالفضل..فعلي يديه حفظت القرآن كاملا..قبل أن أدخل المدرسة الابتدائية..وبفضل علاقاته الطيبة مع جميع أساتذتي تمتعت بالتدليل منهم طوال فترة دراستي..الغريب أن الناس رغم ما يتاهمسون به سرا إلا أنهم يحترمونه ويلجأون إليه في حل مشكلاتهم..قلت لنفسي لعلها إشاعات..وفي بداية المراهقة هجمت الهرمونات هجمة شرسة علي أعصابي ولم أستطع أن أتصدي لها بكل ما أحفظ من أقوال مأثورة.. لذا وجدتني أقف بالساعات خلف شيش شباك حجرتى المطلة علي حجرة نوم الشيخ..وعندم لمحتني زوجته وأنا أتلصص عليها وهي تخلع قميص نومها
شعرت بالرعب إلا أنها ضحكت..فتأكدت من صدق ما يقال..وفي لحظة شجاعة دفعتني إليها رغبة متأججة ذهبت إليها في وقت صلاة..تنفتح لي أبواب النعيم أنهل منها كيفما أشاء..وتكرر الذهاب وزاد الاطمئنان وطال المكوث..وكان لابد أن تأتي الطوبة في المعطوبة..يفاجئنا الشيخ..لا أتذكر ما حدث بعد ذلك إلا وجودي في قطار متجه إلي مدينة نائية..وعلي عكس ما تصورت سرعان ما أخذتني الحياة ونسيت الحادث وعاري وعار عائلتي الطيبة..وإن كان إحساس غامض بالقذارة لايفارقني..
أخلق لنفس آلاف المبررات ولكني لا أستعيد راحة بالي المفقودة..أفكر أن أرسل له رسالة اعتذارثم أتراجع خشية أن يستدل علي عنوانى..
بمرور الاعوام تتبدل ملامحي بصورة تجعل من المستحيل أن يعرفني أحد من أهل قريتي..معي من المال ما يكفي لشراء منزل جميل وميني ماركت أستعين به علي المعيشة في الايام الباقية لي في هذه الحياة..عندما تقف السيارة فى مدخل القرية أشعر بالرعب ..القرية هي هي..لم يكد يتغير فيها شىء..كأنني فارقتهاالبارحة..متى يتوقف كل أحدوكل شىء عن خداعي؟؟..الاب والام والشيخ والمكان والزمان والقرية والمدينة..وما معنى هذا المشهد الذي أراه الآن؟؟ الشيخ يخرج من الجامع متأبطا ذراع أبي..ويلوحان لي بذراعهما!!!
4 لعبة الأب وابنه
لايعرف أحد في عربة القطار أن تلك المحجبة الجميلةكانت حبيبتي طوال أربع سنوات كاملة..وأنني أحفظ جسدها جزءا جزءا عن ظهر يد وعن ظهر لسان..وان الطفل الوسيم خفيف الظل الذي يجلس علي ركبة الأخ الملتحي جوارها ربما كان ابنى..سبحان مغير الاحوال..في البداية لم أعرفها..ولو لم ألمح طيف ابتسامةعلي شفتيهاعندما التقت عينانا لقلت يخلق من الشبه أربعين..يابنت الأيه يامروة؟؟مالذي جمع الشامي علي المغربي؟؟الله يتقبل التوبة..ولكن نظرة عينيك الشهوانيةتؤكد لي أن توبتك غير نصوح..اذن ألست أولي من الغريب..المرأة لكى تصطاد عريسا لابدأن تكون بريئة بلهاء أو عاهرة لئيمة .. جملة قرأتها ذات مرة ولاأذكر لمن..لم ينتشلني من أمواج ذكرياتي المتلاطمة سوي صوت الطفل المسرسع وهو يدبدب في الارض:
بابا ..هاتلي بالونة من الراجل ده..والنبي ياماما قوليله يشتريلي بالونة..
لايعرف أحد في القطار أن بائع البالونات حاصل على بكالوريوس علوم سواها..
الأب يجيب بلهجة حازمة:
عشان حلفت بالنبي مش جايب بالونات..قلتلك ألف مرة حرام
اضطر للا نصراف
يجهش الطفل بالبكاء:
أنا مش عايزك تبقي بابا
ويمسك بطرف قميصي:
أنا عايزك انت تبقي بابا
أومىء بالايجاب وأناأبتسم ابتسامة حانية ممتزجة بالمرارة وأنظر لابيه المتجهم:
ابنك زي العسل يابيه..تسمحلي أديله بالونة هدية..
ينفجر: انت هتبقشش عليا يا حيوان..أكتم غيظى ..
يتأملني الطفل مندهشا من صمتي ويصرخ غاضبا:
هو مافيش حد في البلد دي قادر يوقف الراجل ده عند حده ليه؟؟
همست في سري:أمك استطاعت ولكنها لاتجرؤ علي إعلان ذلك..
5 الفشار
- ارحم صدرك م الدخان يا حبيبي شوية..حرام عليك شبابك..
تقولها أمى بصوت يتمزق خوفا علي..وأنا كالذي يذهب إلي حتفه طائعا..يرتبط التفكير عندي بالتدخين..كأن السجارة هي المهندس الذي ينقب عن الأفكار في آبار عقلي..وفي النهاية مالذي يعود علي من إبداعي سوي خيبات أمل متكررة..نحن في زمن الكتاب الذين لايعرفون شيئا عن عباس العقاد سوي أنه شارع شهير في مدينة نصر..يقول لي صديق يعاني نفس إحباطي:
اسمع ياخالد..أيام عبد الناصر كان فيه زعامة في كل حاجة..
عبد الناصر زعيم سياسي..نجيب محفوظ زعيم الرواية..يوسف أدريس زعيم القصة القصيرة..أم كلثوم زعيمة الأغنية ..وهكذا..أما في هذا الزمن فالشخص العادي والمحدود الطموح والقدرات هو الذي تولي الزعامة..حاول ان تتأمل الموجودين علي الساحة الآن في كل المجالات..مطربون أصواتهم لا تكاد تتميز عن صوت الشخص العادي ومذيعون أسلوبهم في الحوار لا يختلف عن أسلوب رواد المقاهي..وسياسيون لايفهون في السياسة أكثر من ربة منزل..
أتذكر رواية الشحاذ ..وأقول لأمي أنني سأتوقف عن التدخين في مقابل أن تعلمني كيفية عمل الفشار..
يسقط لتنهض
1
ماهي العلاقة بين الشعر(بكسر الشين) والشعر(بفتحها)..قلت لنفسي لابد أن هناك علاقة ما.. وأطلقت لخيالي العنان..الشعر ( بكسر الشين) كان عند العرب القدماء بمثابة التاج الذي يلبسه الشاعر وتفتخر به القبيلة..والشعر الجميل ( بفتح الشين) كان أيضا رمزا للعزة والكبرياء..وكانت حلاقة الشعر علي الزيرو ( زلبطة) تحمل معني الخضوع والاستسلام..تأملوا مثلا ما يحدث في الحج ..وما يحدث مع عساكر الجيش..وأتذكر – ونحن أطفال- كان أكبر عقاب هو أن يقوم الأب بحلاقة شعر الأبن بالموس..وكم كان مخزيا أن نسير بين رفاقنا ونحن علي هذا الوضع المهين..وفي التاريخ الحديث كانت تغطية الشعر دليلا علي الالتزام والاستقامة..ومن المفارقات التي لا تخلو من طرافة أن وضع أحد المرشحين للرئاسة في عام 2005بندا رئيسيا
يطالب فيه بعودة الطربوش ..واعتبر ذلك خطوة أولي لعودة الأحترام والشهامة في
الشارع المصري..
2
يبدو لي اليوم الذي أحلق فيه شعري ككابوس..دائما أخرج من صالون الحلاقة ويمزقني شعور غامض بأنني تعرضت لعملية تشويه..وأعود للبيت وأنا أتمني ألا يراني أحد من أصدقائي..وأظل فترة كارها النظر ألي شعري في المرآة..كما أن المبلغ الذي أدفعه للحلاق أراه دائما أكثر مما يستحق..وتضاعف كربي عندما أخبرني صديق – ونظرات الشماتة والفرح تلمع في عينيه- أن رأسي في طريقها نحو التصحر..ولم يعد حديث يدور بيني وبين الحلاق سوي عن سقوط شعري اللعين
(اللي لو كان عزيز ..ما كانش طلع في........)..قررت ألا أذهب إلي هذا الحلاق الرذيل( وهل يوجد حلاق علي وجه الأرض لا يتمتع بتلك الفضيلة؟؟)..
وظللت أنتقل من حلاق إلي آخر حتي أهتديت إلي سيد أبو حلاوة..شاب في الثلاثين من عمره ..شديد الهدوء ..والابتسامة البلهاء لا تفارق شفتيه..نادرا ما يغامر ويجرؤ علي فتح أي حوار..هو دائما صامت..صمت أبي الهول..وكان هذا ما أبحث عنه..كلام الناس لم يعد له غاية سوي حرق الدم وتسميم البدن..نادرا ما تقابل إنسانا يتحدث عن مزاياك المادية أو المعنوية..الجميع يفتش عن عيوبك..
- شعرك راح فين يابوعلي..طب اجدعن والحق اتجوز..البنات ما يكرهوش قد العريس الأ صلع..
- وكمان بقالك كرش ..أصلع وبكرش..إنت حالك بقي يصعب ع الكافر..
- والله وكبرت يابوعلي ..دانت ولا اللي عنده خمسين سنة..
- مش ناوي تسافر بقي عشان تعملك قرشين وتبدأ حياتك..
- أيه البلوفر اللي انت لابسه ده..موضته انتهت م الستينات
3
ذات مرة فاجأني سيد وتكلم ..وكان كلامه مليئا بالشجن والتأمل..قال
- عارف يأستاذ حسن ..أنا عمري ما قابلت حد اسمه حسن ومش أصلع..
وأذهلتني ملاحظته..وبسرعة تذكرت كل من لهم نفس اسمي ..وكدت أن أنقلب علي ظهري من الضحك عندما وجدتها صحيحة ..علي الأقل في دائرة معارفي..
ومنذ هذا اليوم أدمنت الحديث معه..هاهو إنسان قادر علي إدخال السرور علي قلب من يتحدث معه بعفوية طفل عجوز..ومرة أخري قال
- أنا مش متخيل الواحد يكبر من غير ما شعره يقع..باحس إن الزمن بيضحك عليه..سقوط الشعر وبياضه لفتة جميلة من القدرإننا نعرف قيمة العمر اللي بيعدي واحنا مش دريانين..إنت مش ملاحظ يأستاذ حسن إن كل الدكاترة والأساتذة المشهورين في بلدنا صلع ..زي ما يكون الصلع بيخليهم يسابقوا الزمن..مش فيه حديث بيقول الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ..والصلع عبارة عن موت جزء من أجسام الجسم ..عشان كده الصلع بيفوقوا..طلبة الثانوية العامة قبل الامتحانات بييجوا يحلقوا ع الزيرو واسألهم ليه يقولوا عشان نفوق للمذاكرة..يابختك يأستاذ حسن..
4
من يومها وأنا لا أري صلعتي في المرآة إلا وأتذكر كلمات سيد أبو حلاوة ..وأضحك من أعماق قلبي..وأنتظر النجاحات التي ستأتيني بسببها..
الوليمة
أنا خلف سالم ..أحد هؤلاء الذين صاروا في المظاهرات التي هزت عرش وزير الثقافة سنة 2000 بخصوص رواية (وليمة لأعشاب البحر) للروائي السوري حيدرحيدر..وأفيد علم سيادتكم بأنني لم أقرأ الرواية ولم يسبق لي أن قرأت أي رواية أخري..القراءة عادة كريهة بالنسبة لي..الكل يمتدحها ولا أعرف لماذا..وكل القراء الذين أقابلهم هم شخصيات مترددة ومعقدة ومريضة نفسيا..هم أناس لايثقون في عقولهم ..ويتسولون الأفكار من الآخرين..أنا – بلا فخر- قادر علي قراءة وجوه البشر أفضل من كل الكتاب..إنني أستمع إلي أحاديثهم التلفزيونية وأندهش كيف ينال هؤلاء البلهاء الساذجون كل تلك الشهرة..علاقتي بالقراءة تنحصر في قراءة مانشيتات الصحف الخاصة بالفن والرياضة..أنا خلف سالم ( اسمي له وقع جميل علي أذني لذا أحب أن أردده كثيرا)..طبيب بشري ..تخصصت في طب النسا والولادة..في الثالثة والثلاثين من عمري..تخرجت في جامعة الأزهر..في المدينة الجامعية كنت أجلس في أمان الله وأفعل أبغض الحلال إلي نفسي..أذاكر( أكاد أن أتقيأ وأنا أنطق بتلك الكلمة الجوفاء)..لا بد من صوت محمد فؤاد بجانبي لكي أستطيع المواصلة..أغانيه هي الزيت والليمون الذي أضعه علي فول الكتب..وبذلك أستطيع أن أهضمها..فجأة سمعنا صراخا في شبابيك المدينة الجامعية الخاصة بالطالبات..في أقل من خمس دقائق كنا محتشدين كالخراتيت أمام مبني مدينة الطالبات..تخيلنا حريقا في السكن..ولابد أن ينزلن الآن بملابسهن الداخلية..ويالها من لحظة تاريخية وأنت تري المحجبات والمنقبات وهن في قمصان النوم..في تلك السن كانت أي كلمة تنتهي بتاء التأنيث كفيلة بإشعال آلاف الحرائق في الدماء والعيون وأعضاء أخري..حالة من الهرج والمرج..يراودني إحساس مبهج بأنني علي وشك دخول بيت دعارة يسمح بممارسة الجنس الجماعي..أسأل الشربيني- أتخن طالب في الدفعة-
- هو فيه أيه ياشربيني؟؟
يجيبني بخفة ظل يتمتع بها كل ذوي السمنة المفرطة
- بيقولوا البنات عاملين مظاهرة عشان كلية الطب تبقي مشتركة..
إذن الموضوع يستحق أن نتظاهر معهم..ساعة ونحن محتشدون ولا نعرف السبب الحقيقي..كل ما نشعر به هو سعادة عصية علي التفسير..كانت الا متحانات علي الأبواب..وكنا متوترين..وكان هذا الاحتشاد فرصة للهروب من التوتر..ومن المذاكرة..ومن الكبت الجنسي الرهيب..كانت هناك طاقة مكبوتة ..وها هي الآن تجد ثغرة للانطلاق..ولكن لابد أن يكون هناك سبب ..وإلا كنا مجانين..يزداد الهرج والمرج..الأمن يتجمع..يتجرأ بعض الطلبة ويقذفون الأمن بالحجارة..بدأ القلق يتسرب إلي نفسي ..ولم أشعر بالارتياح إلا حين صاح أحد الطلبة الذين ينتمون إلي أسرة النصر المنشود ( إخوان مسلمون) بأن وزارة الثقافة طبعت رواية يتطاول مؤلفها الملحد علي الله والرسول والقرآن..ازداد الهرج والمرج..قلت لنفسي أنها فرصة ذهبية للضغط علي رئيس الجامعة..ومحاولة لإرضائنا من المؤكد أنه سيعطي الأوامر للعميد ليجعل الامتحانات سهلة..ازددت غضبا..وأنا أندد بالوزير الكافر..وبقية الطلبة ينددون ويصرخون ..حتي الشربيني- مدمن أفلام البورنو – كان يندد..ويسب بالدين المؤلف والوزير..اتصل الأمن برئيس الجامعة( أحمد عمر هاشم)..جاءنا الرجل مفزوعا وأعلن تضامنه معنا..وصلي معنا الفجر..ووعدنا أن يثير الأمر في مجلس الشعب..هدأنا قليلا..إحساس رائع أن يستمع إلي صوتك أحد من علية القوم..القوم الذين اعتادوا أن يأمروك ..ها أنت تأمرهم ولا يملكون إلا الإذعان..في الصباح الباكر عدنا إلي نفس هياج البارحة..إعادة التجارب الناجحة غريزة بشرية متوحشة..عندما تحكي نكتة وتنال الاستحسان لابد أن تكررها..وعندما تضاجع امرأة وتصل إلي الأورجازم لابد أن تعيد المحاولة آملا في الحصول علي نفس اللذة..ولكن هيهات..غالبا ما يخيب ظنك..وعندما يغضب طفل ويتمرغ علي الأرض ويلمح أمارات الجزع علي وجه أمه فإنه يعتقد – بخبث شيطاني- أن مزيدا من التمرغ يعني مزيدا من تعذيب الأم ومزيدا من إحساسها بالندم ومزيدا من النزول علي تلبية رغباته في المرات القادمة..وانقلبت القاهرة..حشود غفيرة من الأمن المركزي تحاول السيطرة علي الهياج..قنابل مسيلة للدموع..مزيد من الهياج..طلقات مطاطية في الهواء ..مزيد من الهياج..وفجأة انقلبت الملهاة إلي مأساة ..عندا اخترقت رصاصة مطاطية عين الشربيني..وابتدأ الهروب الكبير..الأمر كان بالنسبة لمعظم
الطلبة محض تمثيلية مسلية..ولم يتصوروا أبدا أن يصل الأمر إلي هذا الحد ..حد أن يفقد أحدهم عينه..وبالتالي مستقبله..عاهة ستظل تطاردك في سكناتك وحركاتك..كيف ستعمل ..ومن سترضي بك للزواج..والمشكلة أنك لم تفقدها في الدفاع عن عرضك أو شرفك أو وطنك أو دينك..العدو كان أتفه من محاربته..روائي حقير يتطاول علي مقدساتك الدينية..إن في محاربتك له إكبار وتشريف لا يستحقه..وما الخطورة علي شجرة طيبة – أصلها ثابت وفرعها في السماء- من حجر يقذفه طائش أو أحمق أو مجنون..عنف الأمن بدأ من تجمع المظاهرات في طريق صلاح سالم( أورطي القاهرة)..كادت القاهرة أن تصاب بالشلل التام ..هناك طائرات لا بد أن تقلع في مواعيد محددة..هناك أفواج سياحية..هناك وهناك وهناك..كل شيء في الحياة لابد أن يمر بثلاث مراحل ..بداية ووسط ونهاية كما يقول أرسطو..في المدينة نعتصم ..نضرب عن الطعام لمدة ثلاثة أيام ..لا نأكل إلا ما يجعلنا أحياء( أصارحكم أنني كنت آكل وأشرب وأدخن في الخفاء)..جريدة الشعب تتزعم الغضب( خبطة صحفية يجب اعتصارها إلي أقصي قطرة..فرصة ذهبية للوصول إلي أعلي رقم توزيع)..
وأسرة النصر المنشود( فرصة لاستعراض الإخوان المسلمين لعضلاتهم السياسية أمام حكومة الحزب الوطني..إحنا محظورة..طب اتفرجوا..والله لنجيب عاليها واطيها) ..شيخ الأزهر يعلن تضامنه معنا..البابا يعلن تضامنه معنا..الفنانون يعلنون تضامنهم معنا..لكم أن تتخيلوا شعورنا- نحن طلبة الأزهر- وقد أصبحنافي بؤرة الضوء..والجميع يسعي لإرضائنا..وللأسف تم سحب الرواية من المكتبات..وانتهي كل شيء..كأن كل هذا قد حدث ليفقد الشربيني إحدي عينيه فقط..
حيث لايعرف الصغار شيئا عن محصول القطن
لا أستطيع أن أتذكر أيام طفولتي دون أن أتذكر محصول القطن..الخولي..جمع الدودة..منظر الطائرة الهيلوكوبترأثناء الرش..عيدان الحطب فوق البيوت الطينية الواطئة..موسم الحصاد الأشبه بالمهرجان..حالة البهجة التي كانت تملأ كل الوجوه..أكياس القطن في وسط الدار..محفظة أبي المليئة بالنقود..أطقم ملابس جديدة لي..لا أستطيع أن أتذكر أيام طفولتي دون أن أتذكر أحمد فوفو..فتوة أطفال شارعنا..الذي لولاه لأصبحت من ضمن الأنفار الذين يجمعون القطن..يؤمن بموهبتي..يسميني الساحر..يقدمني للعب في شلة الأطفال الأكبر سنا رغم أنف الجميع..ويكون أول من يتصدي لمحاولات انحرافي الأولي وأنا علي أعتاب المراهقة..وبفضل تشجيعه تقدمت للانضمام في فريق الناشئين في نادي المينة التابعة لها قريتي..وتبدأ أولي خطواتي في طريق المجد والشهرة والمال..وأصبح في غضون سنوات قلائل واحدا من ألمع النجوم في تاريخ الكرة المصرية..وأنضم – أناوأسرتي- لشعب آخر لايمت للشعب المصري المطحون بصلة اللهم إلا خانة الجنسية في البطاقة..في الأيام القليلة الماضية تذكرت أن لي قرية ولدت بها منذ عصر سحيق..وأنني يمكنني أن أكون نائبا عن الدائرة التي تضمها في مجلس الشعب في دورته القادمة..وعندما عدت إلي القرية كانت معالمها قد تغيرت تماما..امتلأت بالبيوت الشاهقة والسيارات الفارهة والمحلات الأنيقة وأطباق الدش ومقاهي النت..ولكن لابهجة في عيون الكبار..والصغار لايعرفون شيئا عن محصول القطن..واحمد فوفو الله يرحمه..
حادث انتحار مخرج مغمور
1
الآن فقط يلتف الآخرون حولك..يهتفون باسمك..يعرفون قدرك..لاحديث للفضائيات ولا للجرائد الصفراء والحمراء والسوداء إلا عنك..أنت الذي لم يشعر بك أحد طوال عمرك المنصرم..انتحار المخرج الواعد..انتحارصاحب الفيلم الأجرأ في السينما المصرية..الجميع يشهدون لك بالعبقرية..ويشهدون لأنفسهم أنهم تنبأوا بذلك..رفاق الطفولة..مدرسوك..سكان شارعك..أزهار شرفتك..مفتاح شقتك..وعن انتحارك الشيوخ يتحدثون..فاصل إعلاني..والأطباء يتحدثون..فاصل إعلاني..والنجوم يتحدثون..فاصل إعلاني..حوار مع والدتك وهي تسير في جنازتك متشحة بالسواد والدهشة..فاصل إعلاني..وعلي الشريط الذي يمر أسفل الشاشة سؤال من مواطن بسيط يريد أن يعرف من أنت؟؟.. ثم فاصل إعلاني..فاصل إعلاني ..فاصل إعلاني..
2
ينتهي عرض فيلمك الأول..تلتهب أكف الحاضرين بالتصفيق..تلتف أسراب الجراد حول البطل..وسيل من الشتائم في الجرائد ينهال عليك..الإخراج كسيح ولكن البطل استطاع أن يحلق في سماء الفن من خلال أدائه السيمفوني المعجز ..لا اتصال هاتفي من قناة فضائية ولا من جريدة ولامن كانز البيبسي الرابض فوق مائدة مذيع..والمنتج يماطلك في إعطائك حقوقك المادية رغم أن الفيلم يتصدر قائمة الإيرادات..
3
رسوب متكرر في كلية الهندسة..ابكوا معي..قرار مجنون للالتحاق بمعهد السينما..ابكوا معي..موت أبيك بالسكتة القلبية كما يقول الأطباء وبالحسرة كما تقول أمك..ابكوا معي..عيون غاضبة..عيون محتقرة..عيون مشفقة..ابكوا معي وعليا بدون أية فواصل..
4
أنت أكثر طلاب مدرستك تفوقا..ولكن الطالب المثالي هو ابن الناظر..ورئيس اتحاد الطلاب هو ابن الناظر..وعندما تبوح لزميلة بحبك تسخر منك لأنها تحب ابن ......!!
السيدة (ن) وزيرة
كل الاشياء الطيبة في هذه الحياة لابد أن تكون صلبة في ليونة أولينة في صلابة..ابتداءا بالنهد المثير وانتهاءا بالكرسى المريح..وهذه المرأة ناشفة كقرن الخروب..لاماء يتفجر من حجارة جسدها الهزيل..وأراهنكم بأن البيت الذى نشأت فيه كان يخاصم الشمس والعصافير..وأراهنكم أيضا بأن والدها كان رجلا جلفا ولم يحدث ذات مرة بأن دخل علي أهل بيته بكيس برتقال..وأراهنكم أخيرابأنها تخطت مرحلة المراهقة دون أن ينظر لها شاب نظرة حب أو اشتهاء..ولكنها مسئولة عن تلك الكراهية التى تحاصرها كمعطف..ومسئوليتها تبدأمن ذلك اليوم الذي اتخذت فيه قرارا بأن تنطوي علي نفسها وعلي قبحها وعلي تعاستها الحقودة..اليوم الذي وقفت فيه أمام المرآة وأقسمت بأغلظ الأيمان بأن تجعل العالم أشد قبحا من وجهها وأكثر سوادا من قلبها..ورحلة صعودها الاجتماعي بدأت من قدرتها علي إثارة شفقة الآخرين عليها..من قدرتها علي إقناعهم بأنها امرأة جادة ومستقيمة وجدعة..يقولون في الأمثال القديمة بأن كل ذي عاهة جبار..والدمامة هي سيدة العاهات بلا منازع.. وبسلاسة شديدة نالت رضا رؤسائها..متعة أن يجد الانسان الضعيف من هو أضعف منه ..وان يجد القبيح من هو أكثر منه قبحا..وهذا كان سر قوتهاالذي لم يدركه أحد غيرها..في وجودها شعر زملائها ورؤسائها بالطمأنينة ..وأدركت هي ذلك..وكان هذا يملأها إصرارا بأن تجعلهم يدفعون الثمن غاليا..نجاحاتها الصغيرة لم تلفت انتباه أحد..هل تتذكرون قصة الأرنب والسلحفاة حينما دخلا في سباق ..هذه القصة تخبرنا كيف يصل معدومو القدرات إلي المقدمة..السر هو استهتار الأذكياء بهم..تسألوني لماذا ترتدي السيدة (ن) هذا الزي البالي المهلهل رغم مرتبها الذي يصل إلي عشرات الألاف شهريا؟وأقول لكم لعدة أسباب..الأول انها لاتريد أن تلفت انتباه أحد إليها..كالشحاذ الذي يخشي أن يظهر أثر النعمة عليه فيتوقف سيل الأحسان..الثاني أنها لاتريد أن تري مسحة من جمال علي نفسها ..الجمال هو عدوها اللدود ولا تحتمل أن تضع يدها في يده بعد ان ماتت احلى سنوات عمرها في حروبها معه..الثالث أنها زهدت كل اللذات إلا لذة الانتقام..الانتقام من هذا العالم الكريه الذي حرمها من أغلي ما فيه.. أن يحبها أحد..أن تضع رأسها علي صدر رجل يحبها وتبكى ..هذا البكاء الذي يغسلنا من غبار الوحدةوالاغتراب والألم..تسألوني وهل تعامل هذه المرأة أولادها –فلذات أكبادها- بمثل ما تعاملنا به؟وأقول لكم بكل تأكيد نعم..فكل إناء ينضح بما فيه..وهذه المرأة لاتملك إلا الكراهية والاحتقار لنفسها قبل الآخرين..المشاعر التى تعطيها لغيرك هي نفسها التي تعطيها لذاتك..واللغة التى تخاطب بها غيرك هي نفس اللغة التى تخاطب بها ذاتك..هل تخلو السيدة (ن) من ذرة خير؟؟ بالتأكيد لا..أحيانا ما تكتشف بأن الدنيا لم تكن بهذا القبح الذي رأته بها..ولكنها وصلت إلي مرحلة من الدناءة لايمكنها التراجع عنها..لذا فهي تعتبر ومضة النور فكرة طفولية سخيفة ومضحكة..التراجع معناه أن تعود إلي نقطة الصفر..بل وما قبل الصفر أيضا.. أن تتخلي عن كل مكتسباتها..وستكون في نظر نفسها وفي نظر الآخرين مجنونة رسمي ..في كل ما سبق حدثتكم عن البذرة ويبقى الحديث عن التربة والمناخ التى تنمو فيه..أقصد المجتمع الذي يسمح لانسان كالسيدة (ن) أن يصبح أحد نجومه..هو مجتمع يكره الحياة ويعتبرها عبئا ثقيلا.. المطلوب فقط أن تمضى الايام ..هو مجتمع يكره المغامرة والتحريض علي التفكير..لأن الهدف واحد..لكى تحصل على احترام الناس لابد أن تكون أفضل منهم..أفضل منهم ماديا..أن تقتني السلع التى يعجزون عن اقتنائها..أن تفطر قلبهم دائما ..كأن تقيم فرحا لنجلك بمبلغ يعجزون عن كسبه بعد عشر سنوات من العمل المتواصل..لذا لكي تنجح في هذا المجتمع ضع عقلك جانبا وتعلم كيف تكون خبيثا وموالسا ومذلا ومذلولا ومخيفا وخائفا وصدوقا وكذوبا وعدوا وحبيبا..انتبه ياصديقى انت في مجتمع توظيف أموال وتوظيف مشاعر..والسيدة (ن)اتقنت لعبة توظيف المشاعر..الكل كان يحاول..ولكن المجتمع في هذه اللحظة التاريخية كان في حالة وفاق معجز مع مؤهلاتها..مجتمع كفر بكل أحلام الستينات المغرقة في المثالية بعد الهزيمة المروعة..مجتمع محبط يائس قرر أن ينتحر علي طريقة البنت الطيبة التى فقدت عذريتها إثر خديعة فقررت أن تحترف الدعارة..الدعارة التى همست في أذنها بأنها الطريق الوحيد المتاح..كم أثلج صدري حين علمت ياأصدقائى أنكم في لحظة مقدسة انهلتم على رأسها بالأحذية..فهي أحد الكائنات التي تستحق ذلك بالتأكيد..
حياة جميلة في انتظارك
أعترف لك بأنني لم أتخيل أن تكوني صعبة إلي هذا الحد..وخصوصا أن صداقتنا بدأت بسرعة غير متخيلة ..في خلال جلسة واحدة كنا نتحدث كصديقين يعرفان بعضهما منذ سنوات الطفولة..كان هناك انسجام ..وكان هناك ارتياح ..وكان هناك إعجاب متبادل..وكشاعر – والشاعر بطبيعته إنسان متطرف- اعتبرت إعجابي بك حبا..نعم أحببتك ورأيت فيك المرأة التي أتمني أن أعيش معها وأري مراكب أحلامي تطفو في بحيرتي عينيها الصافيتين..ولكن هذه الأمنية كانت مستحيلة..الدين كان جدارا عازلا..ولا أخفي عليك سرا بأن هذا لم يوجعني ..بالعكس ..أفرحني كثيرا..فأنا أكره كل العلاقات التي يفرض عليها العرف أو الدين شكلا محددا..الحب – كالقصيدة- يختار الشكل الذي يلائمه..كالسفينة التي تبحر ولاتدري علي أي ميناء سترسو..كالمسافر الذي ينزل في بلد ولا يعرف متي يعود..شعور سخيف ومؤلم وضد طبيعتنا أن نتخذ قرارا لا رجعة فيه ..لماذا يمتلك الإنسان حرية الإقدام ولا يمتلك حرية التراجع ..أن يعترف بأنه كان نائما واستيقظ ..أن يعترف بأن هذا النوع من النبيذ لم يعد يسكره ..وتلك الأغنية لم تعد تطربه ..الجدارالعازل جعلني أراك بوضوح أكثر..جعلني أسبح في بحارك دون أن أخشي الغرق ..وأجلس علي شواطئك دون أن أخشي التورط..كنت جميلة ..ومرحة ..ومتألقة.. كنجمة من نجمات هوليود ..وكانت رسائلك – المكتوبة بلغة إنجليزية أنيقة – تملؤني نشوة كتلك التي أشعر بها وأنا أقرأ قصائد نزارقباني وإبراهيم ناجي وجبران خليل جبران..وكم صدمني أن ترفضي دعوتي لك لمشاهدة فيلم ليوناردو دي كابريو الأخير(INCEPTION)
الفيلم المستوحي من قصة قصيرة تحكي عن امرأة تعيش في فيلا مهجورة معتزلة الحياة الأمريكية اللاهثة..هذه المرأة عرفت كيف تسعد نفسها بأن تحلم كل يوم حلما وتعيش فيه بكل ذرة من كيانها..وابتدأت تعاستها عندما باعت أحلامها لرجل أعمال بثروة ضخمة..فجأة لم يعد لديها أحلام ..لم يعد لديها إلا واقع رتيب وعفن..واقع لامجال فيه للطفولة والبراءة والتلقائية..كل شيء محسوب بالأرقام..الأرقام التي كلما زادت في البنوك ونقصت علي لوحة السيارة كلما ازدادت أهمية الإنسان..اعتبرت رفضك نوعا من المراوغة ..المراوغة التي تحترفها كل أنثي جميلة..وبها تشتعل رغبة الذكر ويزداد إصرارا علي مطاردة فريسته..ولكنك لم تكوني أبدا بالنسبة لي مجرد فتاة جميلة أسعي إلي ضمها إلي رصيد انتصاراتي العاطفية..بصدق أقول لك أن ثوب الدنجوان أوسع مني بكثير..ولا أمتلك وردة الخسة التي يضعها في عروة جاكتته..نعم يخجلني أن أكون شابا بلا تجارب ( وهو نموذج أنفر منه)..ولكن هذا لا يعني أن كل ما يهمني- علي حد قولك في مكالمتك الأخيرة- أن أصل إلي جسدك(طبعا منعك الحياء من أن تقولي هذا صراحة) ..الشهور التي مضت علي لقائنا الأول ..والأحاديث التي دارت بيننا..واللقاءت القليلة التي جمعتنا في مكان عملنا..أثبتت لي أنك أصبحت مني ..وأن وجودك في حياتي أصبح ضروريا ضرورة الجفن للعين ..والأصابع لليد..والنجوم لأمسيات العاشقين..
وهذا ما تأكدت منه عندما أصبحت حريصا علي أن أراقبك من النافذة- عندما تتركيني وترحلين – مراقبة أب لابنته الحبيبة..هل يضحكك هذا التشبيه؟؟..هل تريدين أن تصعدي علي برج القاهرة وتصرخي( يانصاااااااااااااااااااااااااااااب)..لم يعد يهمني أن تصدقي أو لاتصدقي..فأنا علي يقين بأن العالم – بكل أكاذيبه- لايستطيع الوقوف في وجه كلمة صادقة..ولن أقسم لك لأن أصدق المتألمين هم من يتألمون في صمت..وأصدق العاشقين هم الذين عاشوا قبل ظهورالأغاني العاطفية..والعصفور الذي يرتعش تحت المطر لا يحتاج إلي أخبارأحد بما يشعر به من برد..أعرف ياصديقتي أن العمر لم يعد يسمح لنا بترف التحليق في سماوات المشاعر الأفلاطونية..كبرنا علي لعبة الحب من أجل الحب..للواقع قوانينه الظالمة..ولكلام الناس جبروته..وللقلب أن يضع – بكبرياء ذليل- شرايينه في كلابشات الزمن الحديدية..وللأحلام الخضراء أن تختنق في زنزانة الكوابيس..
منذ أكثر من خمس سنوات شاهدت فيلما فرنسيا جميلا يحكي قصة شبيهة لقصتنا وطوال الفيلم كنت أنتظر أن يبدأ..ولكنه انتهي فجأة..ونظرت غير مصدق للساعة فإذا بساعتين قد مرا منذ بداية الفيلم وأنا لا أشعر..وتعلمت من هذا الفيلم أن جمال الحياة يكمن في رتابتها لافي إثارتها..وفي أحداثها العادية لا في أحداثها الصاخبة..وأن أروع السيمفونيات تلك التي يعزفها طفل أفريقي علي مزمار من البوص وهو جالس علي شاطيء نهر في أعماق غابة..تعلمت أن أكتشف حواسي المطمورة تحت ركام
الضجيج اللوني والصوتي والشكلي..تعلمت أن أقرأ في كل موعد أراك فيه تاريخ الشوق وجغرافيا الحنين..وأن أسمع في كل مكالمة هاتفية جميع ماهمس به النسيم في أذن الشجر وفي أذن الضفائر..تعلمت أن أصطحبك – وأنت جالسة في بيتك- إلي فنادق الشعر وأبراج البوح وحدائق البهجة..قلت لك من قبل أنك سقطت علي كما سقطت التفاحة علي نيوتن..وهذا ليس صحيحا..فأنا أحببتك مع سبق الإصرار والترصد..منذ ولادتي وأنا أبحث عن أمراة لها نفس ملامحك ..ونفس ثرثرتك ..ونفس سكوتك الدفيء..في يوم ما سأذكر أنك سرت في طرقات قلبي ..وجلست علي المقاعد الخشبية تحت شرايينه ..واستحممت عارية في جداوله..وأعدك أنني لن أفتح صدري بعد افتراقنا- الذي أتمني ألا يكون ولكنني واقعي-إلا امرأة لها طيبتك وذكاؤك وجاذبيتك..أعرف أن مشاعري قد لاتكون صادقة مئة فى المئة..وقد يكون خلف هذه الرسالة الطيبة نية خبيثة في إقناعك بأن رجلا علي وجه الحب أو علي ظهره لن يحبك كما أحببتك..بل المصيبة أنني قد لا أستطيع أن أحب أحدا سوي ذاتي..فمن خلال قراءتي لقصص حياة الشعراء السابقين اكتشفت تلك الحقيقة المؤسفة..وهي أننا – معشر الشعراء- عاجزون عن الخروج من أنفسنا والدخول في إنسان آخر..ولكنني اكتشفت أيضا – وهذا سلواني- أنني أحب نفسي فيك..ومعك لا أشعر أنني أجلس في حضرة إنسان غريب عني..بل أنت أنا..معك لا أحتاج للتجمل..ولا أفكر في الكلام قبل النطق به..ولا أتحفظ..ولا أشعر بالحرج من أي شيء..وربما لو وجدت امرأة مثلك – علي نفس ديني- ما ترددت لحظة واحدة في الارتباط بها..المهم أن ترضي هي بي..أفكر فيك كثيرا وأقول لنفسي بأن وجودك في حياتي مهم ..ولكن هل العكس صحيح؟؟..وأحاول أن أضع نفسي مكانك ..ويصدمني أن تكون الإجابة (لا) ..ومع ذلك أتقبلها..لأن العقل هو الذي يقول هكذا..والصراع الذي تعانيه كل البنات في المجتمعات الشرقية هو الصراع بين التوقع والواقع..هناك بنات يقبلن بمنتهي الواقعية أول من يطرق الباب ويمتلك الحد الأدني من توقعاتهن..فطالما هو جاهز ماديا وقادرعلي فتح بيت ويوجد شيء من الارتياح فهو مقبول..قد لايكون بالوسامة المتوقعة..ولابالرجولة وقوة الشخصية المتوقعة..ولكن هذه الأشياء لا توجد إلا في السينما فقط..المهم أن تري الزميلات في الدراسة أو العمل الدبلة وهي تلمع في اليد اليمني..وبقدر الإمكان سأحاول الظهور أمامهن بمظهر السعيد لكي أستمتع بنظرات الحسد في عيونهن..فخطوبتي المبكرة معناها أنني أكثر أنوثة منهن حتي وإن كنت أقل جمالا..هكذا تقول البنت الواقعية لنفسها..وأحيانا ما تقوم بواقعية لا أخلاقية – بمنطق الزمن الذي نعيشه- بتقسيم العمل..بمعني أنه لايجوز أن نخلط بين الزواج والحب..ودع مالله لله وما لقيصر لقيصر..هي تتزوج إرضاء للمجتمع وتمشي علي حل شعرها إرضاء لشهوة القلب والجسد..والبنت من هذا النوع هي غالبا لاتعرف معني للحب الروحاني..الحب دائما هو لقاء الجسد بالجسد..الحب هو سيل لاينقطع من الدباديب والاكسسوارات وزجاجات البرفان..ولعلك تعرفين الكثيرات من هذا النوعية..وهذه النوعية نوعان..واحدة تستمتع بإذلال الرجل الذي يلهث خلفها وتقوم بابتزازه ماديا ومعنويا(وهو طبعا يستحق ذلك)..والأخري لاتحب إلا الرجل الذي يريها النجوم في عز الظهر ولا يتورع عن إهانتها وضربها أمام الناس ومع ذلك هي تبوس التراب الذي يسير عليه وقد تنتحرإن تخلي عنها أو تعيش العمر تبكي عليه..وهذه النوعية هي التي تنتمي إليها أغلب بنات مجتمعنا ياصديقتي..أما أنت فأرفع من ذلك وإن كنت علي يقين بأنك مررت – في مرحلة من حياتك- بجميع المشاعر السابقة قبل أن تصلي إلي ما أنت فيه اليوم من عقلانية ومثالية في النظر إلي موضوع الزواج..ويؤسفني أن أقول لك بأن الموقف الأخيربقدر ما فيه من ترفع وقوة وحرية بقدر مافيه من قلق ووحدة ويأس..أنت الآن ياصديقتي قررت أن تختاري زوج المستقبل بمحض إرادتك وبكامل حريتك واعتبرت تدخل الأهل والأقارب والجيران تدخلا لامعني له ..فهذه حياتك أنت لا حياتهم..وهذا صحيح..ولكنك في نفس الوقت مطالبة بتحمل مسئولية نفسية ثقيلة..وبإذن الله ستقدرين علي تحملها..وسيكون قلق نافع ولن يكون يأس ..فمن له مثل عقلك وقلبك لاخوف عليه من تلك المشاعر السلبية..أنا علي ثقة بأن حياة جميلة – تستحقينها عن جدارة- في انتظارك..
تشتهيها.. كأن إكسير الحياة في كوب الشاي الذي تقدمه لك قبل أن تضع سماعتك علي صدر أول مريض..تقدم ياأحمد ولاتقف..أن تعيش بالجنون أفضل ألف مرة من أن تعيش بالعقل والندم..ما أبشع أن تكتشف فجأة أنك عشت طوال حياتك أضحوكة للجميع..أحمد هو الشخص الذي بلغ سن اليأس ولم يحتلم بعد..هذا ما يقوله أولاد الأفاعي عنك في غيابك.. عشت عمرك – في رحاب المرحومة – مستمتعا بقفا الدنيا الباسم فهل كان من الممكن أن تموت دون أن ترى وجهها الدميم.. ربما يقولون أيضا أنك تعانى عقدة أوديب..وكلامهم – رغم بشاعته -لايخلو من حقيقة..في الخمسين من عمرك ولاعيادة لك.. ولازوجة لك..ولا عشيقة لك.. ولا هواية لك.. ليس لك إلا أحلام اليقظة والعادة اللعينة..ليس لك إلا مشاهدة أفلام الكرتون ولعب الفيفا..ليس لك إلا البكاء علي عمرك المسكوب.. مبارك عليك..لم يكن بالإمكان أن ترضي بك سوي هذه الممرضة الأربعينية الطيبة العانس مثلك..التى لاتشتهيها..لاتشتهي سوي كوب الشاي الذي تقدمه لك..ما أبشع أن تتأكد فجأة أنك ستظل بقية عمرك أضحوكة نفسك..
2 كائنات تستحق الضرب بالحذاء
بعد حصولك علي بكالوريس التربية بتقدير جيد جدا سيكون كل حلمك أن تعمل مدرسا بالحصة في المدرسة الاعدادية التى كنت تدرس بها..وبوساطة عضو مجلس الشعب – ابن عم خالة والدتك – سوف يتحقق حلمك..ستفرح فرحة طاغية .. وستوزع والدتك زجاجات البيبسي علي سكان شارعك.. بعدها سيكون كل حلمك أن يتم تثبيتك.. لكنك ستضطر أن تصحو مبكرا للتوقيع في دفتر الحضور..يامن تعودت علي السهر حتي صلاة الفجر..لماذا تنام قبل أن تصلي؟؟ ستثور علي نفسك بدون مقدمات..وسيأتيك اليقين – بمساعدة شيوخ الفضائيات والميكروباصات – بأن ابتعادك عن طريق ربنا هو سبب ما أنت فيه..لذا ستطلق لحيتك ولن يضايقك منظرها الرث يا دنجوان زمانك .. وتنضم إلي جماعة التوحيد لمدة شهرين كاملين.. ثم تفاجأ بثورة أبيك وسخرية طلابك وتهديد ا.ابو الفضل – ناظر المدرسة – بإلغاء التعاقد معك..ستتراجع لأنك أجبن من أن يكون لك موقف..وستحاول الاندماج مع مجتمعك الجديد..ولكن ستشعر بالاغتراب حين تجلس مع زملاءك – مدرسيك سابقا – في الحجرة التي تعبق بالملل والكآبة كأحاديثهم وسندوتشاتهم..كائنات كنت تظن أنها انقرضت فكيف عادت إلي الحياة .. كيف؟؟
كائنات كنت تسمح لها بالاعتداءعليك بالسب والضرب اذا ما تكاسلت عن أداء واجب بغيض كوجوهم الكالحة..كيف؟؟ وشكل المدرسات الذكوري سيجعلك تتساءل لماذا لاتحاكم الدولة أزواجهن بتهمة الشذوذ العلنى..
ولكن أ. أبوالفضل – الخارج لتوه من مسلسل تاريخي مصري- سيعيد تربيتك من جديد.. سيمنعك من دخول المدرسة بقميصك الربع كم وبنطلونك الجينز وحذاءك الرياضى ..ولكن الأمر ليس بيدك..الأمر بيد جو سبتمبر الخنيق وحرائق قش الأرزوعوادم الجرارات الزراعية والتكاتك ومياه المجاري الطافحة باستمرار..وسينهزم الزمالك – ناديك الاثير للأسف- أمام مركز شباب بني عبيد..ولن تضحك علي إفيه واحد في فيلم الزعيم الاخيروعليه العوض في ثمن التذكرة..
في اليوم التالي ستذهب إلي المدرسة وعفاريت الغضب تقفز في وجهك.. لذا ستشرح الحصة في أقل من عشر دقائق ثم تنام مرهقا علي مكتبك..من سوء حظك سيدخل أ. أبو الفضل ويقوم بتوبيخك ويبدأفي الموشح المعتاد عن زمن التعليم الجميل..ستنفلت
أعصابك كما لم يحدث لك من قبل..وستخلع حذاءك وتنهال به علي أم رأسه فى ضربات متوالية عنيفة وأنت تصرخ:
الجو صعب..وحال الزمالك صعب..وحال السينما صعب ..وانت صعب..يلعن أبوك ياكلب يابن الكلب..
ثم تهدأ فجأة..ثم يسود صمت عميق للحظات..ثم يجتاحك تصفيق الطلبة المدوي..
وهتافاتهم المؤيدة المتعاطفة..وسيحاول الجميع بعد ذلك – بما فيهم الكائنات المنقرضة- أن يكون لهم موقف مثلك يابطل...
3 زوجة الشيخ
لايزال هذا الرجل بالنسبة لي حتي الآن لغزا لاأفهمه ولا يفهمه أحد من شارعنا..
حتي أبي-صديقه الحميم-لايتحدث عنه إلا بكل خير..وأسأل نفسي تراه لا يعرف ماذا
يقول الناس عن سيرة زوجته وسيرة أهلها؟؟
ولكنني أدين له بالفضل..فعلي يديه حفظت القرآن كاملا..قبل أن أدخل المدرسة الابتدائية..وبفضل علاقاته الطيبة مع جميع أساتذتي تمتعت بالتدليل منهم طوال فترة دراستي..الغريب أن الناس رغم ما يتاهمسون به سرا إلا أنهم يحترمونه ويلجأون إليه في حل مشكلاتهم..قلت لنفسي لعلها إشاعات..وفي بداية المراهقة هجمت الهرمونات هجمة شرسة علي أعصابي ولم أستطع أن أتصدي لها بكل ما أحفظ من أقوال مأثورة.. لذا وجدتني أقف بالساعات خلف شيش شباك حجرتى المطلة علي حجرة نوم الشيخ..وعندم لمحتني زوجته وأنا أتلصص عليها وهي تخلع قميص نومها
شعرت بالرعب إلا أنها ضحكت..فتأكدت من صدق ما يقال..وفي لحظة شجاعة دفعتني إليها رغبة متأججة ذهبت إليها في وقت صلاة..تنفتح لي أبواب النعيم أنهل منها كيفما أشاء..وتكرر الذهاب وزاد الاطمئنان وطال المكوث..وكان لابد أن تأتي الطوبة في المعطوبة..يفاجئنا الشيخ..لا أتذكر ما حدث بعد ذلك إلا وجودي في قطار متجه إلي مدينة نائية..وعلي عكس ما تصورت سرعان ما أخذتني الحياة ونسيت الحادث وعاري وعار عائلتي الطيبة..وإن كان إحساس غامض بالقذارة لايفارقني..
أخلق لنفس آلاف المبررات ولكني لا أستعيد راحة بالي المفقودة..أفكر أن أرسل له رسالة اعتذارثم أتراجع خشية أن يستدل علي عنوانى..
بمرور الاعوام تتبدل ملامحي بصورة تجعل من المستحيل أن يعرفني أحد من أهل قريتي..معي من المال ما يكفي لشراء منزل جميل وميني ماركت أستعين به علي المعيشة في الايام الباقية لي في هذه الحياة..عندما تقف السيارة فى مدخل القرية أشعر بالرعب ..القرية هي هي..لم يكد يتغير فيها شىء..كأنني فارقتهاالبارحة..متى يتوقف كل أحدوكل شىء عن خداعي؟؟..الاب والام والشيخ والمكان والزمان والقرية والمدينة..وما معنى هذا المشهد الذي أراه الآن؟؟ الشيخ يخرج من الجامع متأبطا ذراع أبي..ويلوحان لي بذراعهما!!!
4 لعبة الأب وابنه
لايعرف أحد في عربة القطار أن تلك المحجبة الجميلةكانت حبيبتي طوال أربع سنوات كاملة..وأنني أحفظ جسدها جزءا جزءا عن ظهر يد وعن ظهر لسان..وان الطفل الوسيم خفيف الظل الذي يجلس علي ركبة الأخ الملتحي جوارها ربما كان ابنى..سبحان مغير الاحوال..في البداية لم أعرفها..ولو لم ألمح طيف ابتسامةعلي شفتيهاعندما التقت عينانا لقلت يخلق من الشبه أربعين..يابنت الأيه يامروة؟؟مالذي جمع الشامي علي المغربي؟؟الله يتقبل التوبة..ولكن نظرة عينيك الشهوانيةتؤكد لي أن توبتك غير نصوح..اذن ألست أولي من الغريب..المرأة لكى تصطاد عريسا لابدأن تكون بريئة بلهاء أو عاهرة لئيمة .. جملة قرأتها ذات مرة ولاأذكر لمن..لم ينتشلني من أمواج ذكرياتي المتلاطمة سوي صوت الطفل المسرسع وهو يدبدب في الارض:
بابا ..هاتلي بالونة من الراجل ده..والنبي ياماما قوليله يشتريلي بالونة..
لايعرف أحد في القطار أن بائع البالونات حاصل على بكالوريوس علوم سواها..
الأب يجيب بلهجة حازمة:
عشان حلفت بالنبي مش جايب بالونات..قلتلك ألف مرة حرام
اضطر للا نصراف
يجهش الطفل بالبكاء:
أنا مش عايزك تبقي بابا
ويمسك بطرف قميصي:
أنا عايزك انت تبقي بابا
أومىء بالايجاب وأناأبتسم ابتسامة حانية ممتزجة بالمرارة وأنظر لابيه المتجهم:
ابنك زي العسل يابيه..تسمحلي أديله بالونة هدية..
ينفجر: انت هتبقشش عليا يا حيوان..أكتم غيظى ..
يتأملني الطفل مندهشا من صمتي ويصرخ غاضبا:
هو مافيش حد في البلد دي قادر يوقف الراجل ده عند حده ليه؟؟
همست في سري:أمك استطاعت ولكنها لاتجرؤ علي إعلان ذلك..
5 الفشار
- ارحم صدرك م الدخان يا حبيبي شوية..حرام عليك شبابك..
تقولها أمى بصوت يتمزق خوفا علي..وأنا كالذي يذهب إلي حتفه طائعا..يرتبط التفكير عندي بالتدخين..كأن السجارة هي المهندس الذي ينقب عن الأفكار في آبار عقلي..وفي النهاية مالذي يعود علي من إبداعي سوي خيبات أمل متكررة..نحن في زمن الكتاب الذين لايعرفون شيئا عن عباس العقاد سوي أنه شارع شهير في مدينة نصر..يقول لي صديق يعاني نفس إحباطي:
اسمع ياخالد..أيام عبد الناصر كان فيه زعامة في كل حاجة..
عبد الناصر زعيم سياسي..نجيب محفوظ زعيم الرواية..يوسف أدريس زعيم القصة القصيرة..أم كلثوم زعيمة الأغنية ..وهكذا..أما في هذا الزمن فالشخص العادي والمحدود الطموح والقدرات هو الذي تولي الزعامة..حاول ان تتأمل الموجودين علي الساحة الآن في كل المجالات..مطربون أصواتهم لا تكاد تتميز عن صوت الشخص العادي ومذيعون أسلوبهم في الحوار لا يختلف عن أسلوب رواد المقاهي..وسياسيون لايفهون في السياسة أكثر من ربة منزل..
أتذكر رواية الشحاذ ..وأقول لأمي أنني سأتوقف عن التدخين في مقابل أن تعلمني كيفية عمل الفشار..
يسقط لتنهض
1
ماهي العلاقة بين الشعر(بكسر الشين) والشعر(بفتحها)..قلت لنفسي لابد أن هناك علاقة ما.. وأطلقت لخيالي العنان..الشعر ( بكسر الشين) كان عند العرب القدماء بمثابة التاج الذي يلبسه الشاعر وتفتخر به القبيلة..والشعر الجميل ( بفتح الشين) كان أيضا رمزا للعزة والكبرياء..وكانت حلاقة الشعر علي الزيرو ( زلبطة) تحمل معني الخضوع والاستسلام..تأملوا مثلا ما يحدث في الحج ..وما يحدث مع عساكر الجيش..وأتذكر – ونحن أطفال- كان أكبر عقاب هو أن يقوم الأب بحلاقة شعر الأبن بالموس..وكم كان مخزيا أن نسير بين رفاقنا ونحن علي هذا الوضع المهين..وفي التاريخ الحديث كانت تغطية الشعر دليلا علي الالتزام والاستقامة..ومن المفارقات التي لا تخلو من طرافة أن وضع أحد المرشحين للرئاسة في عام 2005بندا رئيسيا
يطالب فيه بعودة الطربوش ..واعتبر ذلك خطوة أولي لعودة الأحترام والشهامة في
الشارع المصري..
2
يبدو لي اليوم الذي أحلق فيه شعري ككابوس..دائما أخرج من صالون الحلاقة ويمزقني شعور غامض بأنني تعرضت لعملية تشويه..وأعود للبيت وأنا أتمني ألا يراني أحد من أصدقائي..وأظل فترة كارها النظر ألي شعري في المرآة..كما أن المبلغ الذي أدفعه للحلاق أراه دائما أكثر مما يستحق..وتضاعف كربي عندما أخبرني صديق – ونظرات الشماتة والفرح تلمع في عينيه- أن رأسي في طريقها نحو التصحر..ولم يعد حديث يدور بيني وبين الحلاق سوي عن سقوط شعري اللعين
(اللي لو كان عزيز ..ما كانش طلع في........)..قررت ألا أذهب إلي هذا الحلاق الرذيل( وهل يوجد حلاق علي وجه الأرض لا يتمتع بتلك الفضيلة؟؟)..
وظللت أنتقل من حلاق إلي آخر حتي أهتديت إلي سيد أبو حلاوة..شاب في الثلاثين من عمره ..شديد الهدوء ..والابتسامة البلهاء لا تفارق شفتيه..نادرا ما يغامر ويجرؤ علي فتح أي حوار..هو دائما صامت..صمت أبي الهول..وكان هذا ما أبحث عنه..كلام الناس لم يعد له غاية سوي حرق الدم وتسميم البدن..نادرا ما تقابل إنسانا يتحدث عن مزاياك المادية أو المعنوية..الجميع يفتش عن عيوبك..
- شعرك راح فين يابوعلي..طب اجدعن والحق اتجوز..البنات ما يكرهوش قد العريس الأ صلع..
- وكمان بقالك كرش ..أصلع وبكرش..إنت حالك بقي يصعب ع الكافر..
- والله وكبرت يابوعلي ..دانت ولا اللي عنده خمسين سنة..
- مش ناوي تسافر بقي عشان تعملك قرشين وتبدأ حياتك..
- أيه البلوفر اللي انت لابسه ده..موضته انتهت م الستينات
3
ذات مرة فاجأني سيد وتكلم ..وكان كلامه مليئا بالشجن والتأمل..قال
- عارف يأستاذ حسن ..أنا عمري ما قابلت حد اسمه حسن ومش أصلع..
وأذهلتني ملاحظته..وبسرعة تذكرت كل من لهم نفس اسمي ..وكدت أن أنقلب علي ظهري من الضحك عندما وجدتها صحيحة ..علي الأقل في دائرة معارفي..
ومنذ هذا اليوم أدمنت الحديث معه..هاهو إنسان قادر علي إدخال السرور علي قلب من يتحدث معه بعفوية طفل عجوز..ومرة أخري قال
- أنا مش متخيل الواحد يكبر من غير ما شعره يقع..باحس إن الزمن بيضحك عليه..سقوط الشعر وبياضه لفتة جميلة من القدرإننا نعرف قيمة العمر اللي بيعدي واحنا مش دريانين..إنت مش ملاحظ يأستاذ حسن إن كل الدكاترة والأساتذة المشهورين في بلدنا صلع ..زي ما يكون الصلع بيخليهم يسابقوا الزمن..مش فيه حديث بيقول الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ..والصلع عبارة عن موت جزء من أجسام الجسم ..عشان كده الصلع بيفوقوا..طلبة الثانوية العامة قبل الامتحانات بييجوا يحلقوا ع الزيرو واسألهم ليه يقولوا عشان نفوق للمذاكرة..يابختك يأستاذ حسن..
4
من يومها وأنا لا أري صلعتي في المرآة إلا وأتذكر كلمات سيد أبو حلاوة ..وأضحك من أعماق قلبي..وأنتظر النجاحات التي ستأتيني بسببها..
الوليمة
أنا خلف سالم ..أحد هؤلاء الذين صاروا في المظاهرات التي هزت عرش وزير الثقافة سنة 2000 بخصوص رواية (وليمة لأعشاب البحر) للروائي السوري حيدرحيدر..وأفيد علم سيادتكم بأنني لم أقرأ الرواية ولم يسبق لي أن قرأت أي رواية أخري..القراءة عادة كريهة بالنسبة لي..الكل يمتدحها ولا أعرف لماذا..وكل القراء الذين أقابلهم هم شخصيات مترددة ومعقدة ومريضة نفسيا..هم أناس لايثقون في عقولهم ..ويتسولون الأفكار من الآخرين..أنا – بلا فخر- قادر علي قراءة وجوه البشر أفضل من كل الكتاب..إنني أستمع إلي أحاديثهم التلفزيونية وأندهش كيف ينال هؤلاء البلهاء الساذجون كل تلك الشهرة..علاقتي بالقراءة تنحصر في قراءة مانشيتات الصحف الخاصة بالفن والرياضة..أنا خلف سالم ( اسمي له وقع جميل علي أذني لذا أحب أن أردده كثيرا)..طبيب بشري ..تخصصت في طب النسا والولادة..في الثالثة والثلاثين من عمري..تخرجت في جامعة الأزهر..في المدينة الجامعية كنت أجلس في أمان الله وأفعل أبغض الحلال إلي نفسي..أذاكر( أكاد أن أتقيأ وأنا أنطق بتلك الكلمة الجوفاء)..لا بد من صوت محمد فؤاد بجانبي لكي أستطيع المواصلة..أغانيه هي الزيت والليمون الذي أضعه علي فول الكتب..وبذلك أستطيع أن أهضمها..فجأة سمعنا صراخا في شبابيك المدينة الجامعية الخاصة بالطالبات..في أقل من خمس دقائق كنا محتشدين كالخراتيت أمام مبني مدينة الطالبات..تخيلنا حريقا في السكن..ولابد أن ينزلن الآن بملابسهن الداخلية..ويالها من لحظة تاريخية وأنت تري المحجبات والمنقبات وهن في قمصان النوم..في تلك السن كانت أي كلمة تنتهي بتاء التأنيث كفيلة بإشعال آلاف الحرائق في الدماء والعيون وأعضاء أخري..حالة من الهرج والمرج..يراودني إحساس مبهج بأنني علي وشك دخول بيت دعارة يسمح بممارسة الجنس الجماعي..أسأل الشربيني- أتخن طالب في الدفعة-
- هو فيه أيه ياشربيني؟؟
يجيبني بخفة ظل يتمتع بها كل ذوي السمنة المفرطة
- بيقولوا البنات عاملين مظاهرة عشان كلية الطب تبقي مشتركة..
إذن الموضوع يستحق أن نتظاهر معهم..ساعة ونحن محتشدون ولا نعرف السبب الحقيقي..كل ما نشعر به هو سعادة عصية علي التفسير..كانت الا متحانات علي الأبواب..وكنا متوترين..وكان هذا الاحتشاد فرصة للهروب من التوتر..ومن المذاكرة..ومن الكبت الجنسي الرهيب..كانت هناك طاقة مكبوتة ..وها هي الآن تجد ثغرة للانطلاق..ولكن لابد أن يكون هناك سبب ..وإلا كنا مجانين..يزداد الهرج والمرج..الأمن يتجمع..يتجرأ بعض الطلبة ويقذفون الأمن بالحجارة..بدأ القلق يتسرب إلي نفسي ..ولم أشعر بالارتياح إلا حين صاح أحد الطلبة الذين ينتمون إلي أسرة النصر المنشود ( إخوان مسلمون) بأن وزارة الثقافة طبعت رواية يتطاول مؤلفها الملحد علي الله والرسول والقرآن..ازداد الهرج والمرج..قلت لنفسي أنها فرصة ذهبية للضغط علي رئيس الجامعة..ومحاولة لإرضائنا من المؤكد أنه سيعطي الأوامر للعميد ليجعل الامتحانات سهلة..ازددت غضبا..وأنا أندد بالوزير الكافر..وبقية الطلبة ينددون ويصرخون ..حتي الشربيني- مدمن أفلام البورنو – كان يندد..ويسب بالدين المؤلف والوزير..اتصل الأمن برئيس الجامعة( أحمد عمر هاشم)..جاءنا الرجل مفزوعا وأعلن تضامنه معنا..وصلي معنا الفجر..ووعدنا أن يثير الأمر في مجلس الشعب..هدأنا قليلا..إحساس رائع أن يستمع إلي صوتك أحد من علية القوم..القوم الذين اعتادوا أن يأمروك ..ها أنت تأمرهم ولا يملكون إلا الإذعان..في الصباح الباكر عدنا إلي نفس هياج البارحة..إعادة التجارب الناجحة غريزة بشرية متوحشة..عندما تحكي نكتة وتنال الاستحسان لابد أن تكررها..وعندما تضاجع امرأة وتصل إلي الأورجازم لابد أن تعيد المحاولة آملا في الحصول علي نفس اللذة..ولكن هيهات..غالبا ما يخيب ظنك..وعندما يغضب طفل ويتمرغ علي الأرض ويلمح أمارات الجزع علي وجه أمه فإنه يعتقد – بخبث شيطاني- أن مزيدا من التمرغ يعني مزيدا من تعذيب الأم ومزيدا من إحساسها بالندم ومزيدا من النزول علي تلبية رغباته في المرات القادمة..وانقلبت القاهرة..حشود غفيرة من الأمن المركزي تحاول السيطرة علي الهياج..قنابل مسيلة للدموع..مزيد من الهياج..طلقات مطاطية في الهواء ..مزيد من الهياج..وفجأة انقلبت الملهاة إلي مأساة ..عندا اخترقت رصاصة مطاطية عين الشربيني..وابتدأ الهروب الكبير..الأمر كان بالنسبة لمعظم
الطلبة محض تمثيلية مسلية..ولم يتصوروا أبدا أن يصل الأمر إلي هذا الحد ..حد أن يفقد أحدهم عينه..وبالتالي مستقبله..عاهة ستظل تطاردك في سكناتك وحركاتك..كيف ستعمل ..ومن سترضي بك للزواج..والمشكلة أنك لم تفقدها في الدفاع عن عرضك أو شرفك أو وطنك أو دينك..العدو كان أتفه من محاربته..روائي حقير يتطاول علي مقدساتك الدينية..إن في محاربتك له إكبار وتشريف لا يستحقه..وما الخطورة علي شجرة طيبة – أصلها ثابت وفرعها في السماء- من حجر يقذفه طائش أو أحمق أو مجنون..عنف الأمن بدأ من تجمع المظاهرات في طريق صلاح سالم( أورطي القاهرة)..كادت القاهرة أن تصاب بالشلل التام ..هناك طائرات لا بد أن تقلع في مواعيد محددة..هناك أفواج سياحية..هناك وهناك وهناك..كل شيء في الحياة لابد أن يمر بثلاث مراحل ..بداية ووسط ونهاية كما يقول أرسطو..في المدينة نعتصم ..نضرب عن الطعام لمدة ثلاثة أيام ..لا نأكل إلا ما يجعلنا أحياء( أصارحكم أنني كنت آكل وأشرب وأدخن في الخفاء)..جريدة الشعب تتزعم الغضب( خبطة صحفية يجب اعتصارها إلي أقصي قطرة..فرصة ذهبية للوصول إلي أعلي رقم توزيع)..
وأسرة النصر المنشود( فرصة لاستعراض الإخوان المسلمين لعضلاتهم السياسية أمام حكومة الحزب الوطني..إحنا محظورة..طب اتفرجوا..والله لنجيب عاليها واطيها) ..شيخ الأزهر يعلن تضامنه معنا..البابا يعلن تضامنه معنا..الفنانون يعلنون تضامنهم معنا..لكم أن تتخيلوا شعورنا- نحن طلبة الأزهر- وقد أصبحنافي بؤرة الضوء..والجميع يسعي لإرضائنا..وللأسف تم سحب الرواية من المكتبات..وانتهي كل شيء..كأن كل هذا قد حدث ليفقد الشربيني إحدي عينيه فقط..
حيث لايعرف الصغار شيئا عن محصول القطن
لا أستطيع أن أتذكر أيام طفولتي دون أن أتذكر محصول القطن..الخولي..جمع الدودة..منظر الطائرة الهيلوكوبترأثناء الرش..عيدان الحطب فوق البيوت الطينية الواطئة..موسم الحصاد الأشبه بالمهرجان..حالة البهجة التي كانت تملأ كل الوجوه..أكياس القطن في وسط الدار..محفظة أبي المليئة بالنقود..أطقم ملابس جديدة لي..لا أستطيع أن أتذكر أيام طفولتي دون أن أتذكر أحمد فوفو..فتوة أطفال شارعنا..الذي لولاه لأصبحت من ضمن الأنفار الذين يجمعون القطن..يؤمن بموهبتي..يسميني الساحر..يقدمني للعب في شلة الأطفال الأكبر سنا رغم أنف الجميع..ويكون أول من يتصدي لمحاولات انحرافي الأولي وأنا علي أعتاب المراهقة..وبفضل تشجيعه تقدمت للانضمام في فريق الناشئين في نادي المينة التابعة لها قريتي..وتبدأ أولي خطواتي في طريق المجد والشهرة والمال..وأصبح في غضون سنوات قلائل واحدا من ألمع النجوم في تاريخ الكرة المصرية..وأنضم – أناوأسرتي- لشعب آخر لايمت للشعب المصري المطحون بصلة اللهم إلا خانة الجنسية في البطاقة..في الأيام القليلة الماضية تذكرت أن لي قرية ولدت بها منذ عصر سحيق..وأنني يمكنني أن أكون نائبا عن الدائرة التي تضمها في مجلس الشعب في دورته القادمة..وعندما عدت إلي القرية كانت معالمها قد تغيرت تماما..امتلأت بالبيوت الشاهقة والسيارات الفارهة والمحلات الأنيقة وأطباق الدش ومقاهي النت..ولكن لابهجة في عيون الكبار..والصغار لايعرفون شيئا عن محصول القطن..واحمد فوفو الله يرحمه..
حادث انتحار مخرج مغمور
1
الآن فقط يلتف الآخرون حولك..يهتفون باسمك..يعرفون قدرك..لاحديث للفضائيات ولا للجرائد الصفراء والحمراء والسوداء إلا عنك..أنت الذي لم يشعر بك أحد طوال عمرك المنصرم..انتحار المخرج الواعد..انتحارصاحب الفيلم الأجرأ في السينما المصرية..الجميع يشهدون لك بالعبقرية..ويشهدون لأنفسهم أنهم تنبأوا بذلك..رفاق الطفولة..مدرسوك..سكان شارعك..أزهار شرفتك..مفتاح شقتك..وعن انتحارك الشيوخ يتحدثون..فاصل إعلاني..والأطباء يتحدثون..فاصل إعلاني..والنجوم يتحدثون..فاصل إعلاني..حوار مع والدتك وهي تسير في جنازتك متشحة بالسواد والدهشة..فاصل إعلاني..وعلي الشريط الذي يمر أسفل الشاشة سؤال من مواطن بسيط يريد أن يعرف من أنت؟؟.. ثم فاصل إعلاني..فاصل إعلاني ..فاصل إعلاني..
2
ينتهي عرض فيلمك الأول..تلتهب أكف الحاضرين بالتصفيق..تلتف أسراب الجراد حول البطل..وسيل من الشتائم في الجرائد ينهال عليك..الإخراج كسيح ولكن البطل استطاع أن يحلق في سماء الفن من خلال أدائه السيمفوني المعجز ..لا اتصال هاتفي من قناة فضائية ولا من جريدة ولامن كانز البيبسي الرابض فوق مائدة مذيع..والمنتج يماطلك في إعطائك حقوقك المادية رغم أن الفيلم يتصدر قائمة الإيرادات..
3
رسوب متكرر في كلية الهندسة..ابكوا معي..قرار مجنون للالتحاق بمعهد السينما..ابكوا معي..موت أبيك بالسكتة القلبية كما يقول الأطباء وبالحسرة كما تقول أمك..ابكوا معي..عيون غاضبة..عيون محتقرة..عيون مشفقة..ابكوا معي وعليا بدون أية فواصل..
4
أنت أكثر طلاب مدرستك تفوقا..ولكن الطالب المثالي هو ابن الناظر..ورئيس اتحاد الطلاب هو ابن الناظر..وعندما تبوح لزميلة بحبك تسخر منك لأنها تحب ابن ......!!
السيدة (ن) وزيرة
كل الاشياء الطيبة في هذه الحياة لابد أن تكون صلبة في ليونة أولينة في صلابة..ابتداءا بالنهد المثير وانتهاءا بالكرسى المريح..وهذه المرأة ناشفة كقرن الخروب..لاماء يتفجر من حجارة جسدها الهزيل..وأراهنكم بأن البيت الذى نشأت فيه كان يخاصم الشمس والعصافير..وأراهنكم أيضا بأن والدها كان رجلا جلفا ولم يحدث ذات مرة بأن دخل علي أهل بيته بكيس برتقال..وأراهنكم أخيرابأنها تخطت مرحلة المراهقة دون أن ينظر لها شاب نظرة حب أو اشتهاء..ولكنها مسئولة عن تلك الكراهية التى تحاصرها كمعطف..ومسئوليتها تبدأمن ذلك اليوم الذي اتخذت فيه قرارا بأن تنطوي علي نفسها وعلي قبحها وعلي تعاستها الحقودة..اليوم الذي وقفت فيه أمام المرآة وأقسمت بأغلظ الأيمان بأن تجعل العالم أشد قبحا من وجهها وأكثر سوادا من قلبها..ورحلة صعودها الاجتماعي بدأت من قدرتها علي إثارة شفقة الآخرين عليها..من قدرتها علي إقناعهم بأنها امرأة جادة ومستقيمة وجدعة..يقولون في الأمثال القديمة بأن كل ذي عاهة جبار..والدمامة هي سيدة العاهات بلا منازع.. وبسلاسة شديدة نالت رضا رؤسائها..متعة أن يجد الانسان الضعيف من هو أضعف منه ..وان يجد القبيح من هو أكثر منه قبحا..وهذا كان سر قوتهاالذي لم يدركه أحد غيرها..في وجودها شعر زملائها ورؤسائها بالطمأنينة ..وأدركت هي ذلك..وكان هذا يملأها إصرارا بأن تجعلهم يدفعون الثمن غاليا..نجاحاتها الصغيرة لم تلفت انتباه أحد..هل تتذكرون قصة الأرنب والسلحفاة حينما دخلا في سباق ..هذه القصة تخبرنا كيف يصل معدومو القدرات إلي المقدمة..السر هو استهتار الأذكياء بهم..تسألوني لماذا ترتدي السيدة (ن) هذا الزي البالي المهلهل رغم مرتبها الذي يصل إلي عشرات الألاف شهريا؟وأقول لكم لعدة أسباب..الأول انها لاتريد أن تلفت انتباه أحد إليها..كالشحاذ الذي يخشي أن يظهر أثر النعمة عليه فيتوقف سيل الأحسان..الثاني أنها لاتريد أن تري مسحة من جمال علي نفسها ..الجمال هو عدوها اللدود ولا تحتمل أن تضع يدها في يده بعد ان ماتت احلى سنوات عمرها في حروبها معه..الثالث أنها زهدت كل اللذات إلا لذة الانتقام..الانتقام من هذا العالم الكريه الذي حرمها من أغلي ما فيه.. أن يحبها أحد..أن تضع رأسها علي صدر رجل يحبها وتبكى ..هذا البكاء الذي يغسلنا من غبار الوحدةوالاغتراب والألم..تسألوني وهل تعامل هذه المرأة أولادها –فلذات أكبادها- بمثل ما تعاملنا به؟وأقول لكم بكل تأكيد نعم..فكل إناء ينضح بما فيه..وهذه المرأة لاتملك إلا الكراهية والاحتقار لنفسها قبل الآخرين..المشاعر التى تعطيها لغيرك هي نفسها التي تعطيها لذاتك..واللغة التى تخاطب بها غيرك هي نفس اللغة التى تخاطب بها ذاتك..هل تخلو السيدة (ن) من ذرة خير؟؟ بالتأكيد لا..أحيانا ما تكتشف بأن الدنيا لم تكن بهذا القبح الذي رأته بها..ولكنها وصلت إلي مرحلة من الدناءة لايمكنها التراجع عنها..لذا فهي تعتبر ومضة النور فكرة طفولية سخيفة ومضحكة..التراجع معناه أن تعود إلي نقطة الصفر..بل وما قبل الصفر أيضا.. أن تتخلي عن كل مكتسباتها..وستكون في نظر نفسها وفي نظر الآخرين مجنونة رسمي ..في كل ما سبق حدثتكم عن البذرة ويبقى الحديث عن التربة والمناخ التى تنمو فيه..أقصد المجتمع الذي يسمح لانسان كالسيدة (ن) أن يصبح أحد نجومه..هو مجتمع يكره الحياة ويعتبرها عبئا ثقيلا.. المطلوب فقط أن تمضى الايام ..هو مجتمع يكره المغامرة والتحريض علي التفكير..لأن الهدف واحد..لكى تحصل على احترام الناس لابد أن تكون أفضل منهم..أفضل منهم ماديا..أن تقتني السلع التى يعجزون عن اقتنائها..أن تفطر قلبهم دائما ..كأن تقيم فرحا لنجلك بمبلغ يعجزون عن كسبه بعد عشر سنوات من العمل المتواصل..لذا لكي تنجح في هذا المجتمع ضع عقلك جانبا وتعلم كيف تكون خبيثا وموالسا ومذلا ومذلولا ومخيفا وخائفا وصدوقا وكذوبا وعدوا وحبيبا..انتبه ياصديقى انت في مجتمع توظيف أموال وتوظيف مشاعر..والسيدة (ن)اتقنت لعبة توظيف المشاعر..الكل كان يحاول..ولكن المجتمع في هذه اللحظة التاريخية كان في حالة وفاق معجز مع مؤهلاتها..مجتمع كفر بكل أحلام الستينات المغرقة في المثالية بعد الهزيمة المروعة..مجتمع محبط يائس قرر أن ينتحر علي طريقة البنت الطيبة التى فقدت عذريتها إثر خديعة فقررت أن تحترف الدعارة..الدعارة التى همست في أذنها بأنها الطريق الوحيد المتاح..كم أثلج صدري حين علمت ياأصدقائى أنكم في لحظة مقدسة انهلتم على رأسها بالأحذية..فهي أحد الكائنات التي تستحق ذلك بالتأكيد..
حياة جميلة في انتظارك
أعترف لك بأنني لم أتخيل أن تكوني صعبة إلي هذا الحد..وخصوصا أن صداقتنا بدأت بسرعة غير متخيلة ..في خلال جلسة واحدة كنا نتحدث كصديقين يعرفان بعضهما منذ سنوات الطفولة..كان هناك انسجام ..وكان هناك ارتياح ..وكان هناك إعجاب متبادل..وكشاعر – والشاعر بطبيعته إنسان متطرف- اعتبرت إعجابي بك حبا..نعم أحببتك ورأيت فيك المرأة التي أتمني أن أعيش معها وأري مراكب أحلامي تطفو في بحيرتي عينيها الصافيتين..ولكن هذه الأمنية كانت مستحيلة..الدين كان جدارا عازلا..ولا أخفي عليك سرا بأن هذا لم يوجعني ..بالعكس ..أفرحني كثيرا..فأنا أكره كل العلاقات التي يفرض عليها العرف أو الدين شكلا محددا..الحب – كالقصيدة- يختار الشكل الذي يلائمه..كالسفينة التي تبحر ولاتدري علي أي ميناء سترسو..كالمسافر الذي ينزل في بلد ولا يعرف متي يعود..شعور سخيف ومؤلم وضد طبيعتنا أن نتخذ قرارا لا رجعة فيه ..لماذا يمتلك الإنسان حرية الإقدام ولا يمتلك حرية التراجع ..أن يعترف بأنه كان نائما واستيقظ ..أن يعترف بأن هذا النوع من النبيذ لم يعد يسكره ..وتلك الأغنية لم تعد تطربه ..الجدارالعازل جعلني أراك بوضوح أكثر..جعلني أسبح في بحارك دون أن أخشي الغرق ..وأجلس علي شواطئك دون أن أخشي التورط..كنت جميلة ..ومرحة ..ومتألقة.. كنجمة من نجمات هوليود ..وكانت رسائلك – المكتوبة بلغة إنجليزية أنيقة – تملؤني نشوة كتلك التي أشعر بها وأنا أقرأ قصائد نزارقباني وإبراهيم ناجي وجبران خليل جبران..وكم صدمني أن ترفضي دعوتي لك لمشاهدة فيلم ليوناردو دي كابريو الأخير(INCEPTION)
الفيلم المستوحي من قصة قصيرة تحكي عن امرأة تعيش في فيلا مهجورة معتزلة الحياة الأمريكية اللاهثة..هذه المرأة عرفت كيف تسعد نفسها بأن تحلم كل يوم حلما وتعيش فيه بكل ذرة من كيانها..وابتدأت تعاستها عندما باعت أحلامها لرجل أعمال بثروة ضخمة..فجأة لم يعد لديها أحلام ..لم يعد لديها إلا واقع رتيب وعفن..واقع لامجال فيه للطفولة والبراءة والتلقائية..كل شيء محسوب بالأرقام..الأرقام التي كلما زادت في البنوك ونقصت علي لوحة السيارة كلما ازدادت أهمية الإنسان..اعتبرت رفضك نوعا من المراوغة ..المراوغة التي تحترفها كل أنثي جميلة..وبها تشتعل رغبة الذكر ويزداد إصرارا علي مطاردة فريسته..ولكنك لم تكوني أبدا بالنسبة لي مجرد فتاة جميلة أسعي إلي ضمها إلي رصيد انتصاراتي العاطفية..بصدق أقول لك أن ثوب الدنجوان أوسع مني بكثير..ولا أمتلك وردة الخسة التي يضعها في عروة جاكتته..نعم يخجلني أن أكون شابا بلا تجارب ( وهو نموذج أنفر منه)..ولكن هذا لا يعني أن كل ما يهمني- علي حد قولك في مكالمتك الأخيرة- أن أصل إلي جسدك(طبعا منعك الحياء من أن تقولي هذا صراحة) ..الشهور التي مضت علي لقائنا الأول ..والأحاديث التي دارت بيننا..واللقاءت القليلة التي جمعتنا في مكان عملنا..أثبتت لي أنك أصبحت مني ..وأن وجودك في حياتي أصبح ضروريا ضرورة الجفن للعين ..والأصابع لليد..والنجوم لأمسيات العاشقين..
وهذا ما تأكدت منه عندما أصبحت حريصا علي أن أراقبك من النافذة- عندما تتركيني وترحلين – مراقبة أب لابنته الحبيبة..هل يضحكك هذا التشبيه؟؟..هل تريدين أن تصعدي علي برج القاهرة وتصرخي( يانصاااااااااااااااااااااااااااااب)..لم يعد يهمني أن تصدقي أو لاتصدقي..فأنا علي يقين بأن العالم – بكل أكاذيبه- لايستطيع الوقوف في وجه كلمة صادقة..ولن أقسم لك لأن أصدق المتألمين هم من يتألمون في صمت..وأصدق العاشقين هم الذين عاشوا قبل ظهورالأغاني العاطفية..والعصفور الذي يرتعش تحت المطر لا يحتاج إلي أخبارأحد بما يشعر به من برد..أعرف ياصديقتي أن العمر لم يعد يسمح لنا بترف التحليق في سماوات المشاعر الأفلاطونية..كبرنا علي لعبة الحب من أجل الحب..للواقع قوانينه الظالمة..ولكلام الناس جبروته..وللقلب أن يضع – بكبرياء ذليل- شرايينه في كلابشات الزمن الحديدية..وللأحلام الخضراء أن تختنق في زنزانة الكوابيس..
منذ أكثر من خمس سنوات شاهدت فيلما فرنسيا جميلا يحكي قصة شبيهة لقصتنا وطوال الفيلم كنت أنتظر أن يبدأ..ولكنه انتهي فجأة..ونظرت غير مصدق للساعة فإذا بساعتين قد مرا منذ بداية الفيلم وأنا لا أشعر..وتعلمت من هذا الفيلم أن جمال الحياة يكمن في رتابتها لافي إثارتها..وفي أحداثها العادية لا في أحداثها الصاخبة..وأن أروع السيمفونيات تلك التي يعزفها طفل أفريقي علي مزمار من البوص وهو جالس علي شاطيء نهر في أعماق غابة..تعلمت أن أكتشف حواسي المطمورة تحت ركام
الضجيج اللوني والصوتي والشكلي..تعلمت أن أقرأ في كل موعد أراك فيه تاريخ الشوق وجغرافيا الحنين..وأن أسمع في كل مكالمة هاتفية جميع ماهمس به النسيم في أذن الشجر وفي أذن الضفائر..تعلمت أن أصطحبك – وأنت جالسة في بيتك- إلي فنادق الشعر وأبراج البوح وحدائق البهجة..قلت لك من قبل أنك سقطت علي كما سقطت التفاحة علي نيوتن..وهذا ليس صحيحا..فأنا أحببتك مع سبق الإصرار والترصد..منذ ولادتي وأنا أبحث عن أمراة لها نفس ملامحك ..ونفس ثرثرتك ..ونفس سكوتك الدفيء..في يوم ما سأذكر أنك سرت في طرقات قلبي ..وجلست علي المقاعد الخشبية تحت شرايينه ..واستحممت عارية في جداوله..وأعدك أنني لن أفتح صدري بعد افتراقنا- الذي أتمني ألا يكون ولكنني واقعي-إلا امرأة لها طيبتك وذكاؤك وجاذبيتك..أعرف أن مشاعري قد لاتكون صادقة مئة فى المئة..وقد يكون خلف هذه الرسالة الطيبة نية خبيثة في إقناعك بأن رجلا علي وجه الحب أو علي ظهره لن يحبك كما أحببتك..بل المصيبة أنني قد لا أستطيع أن أحب أحدا سوي ذاتي..فمن خلال قراءتي لقصص حياة الشعراء السابقين اكتشفت تلك الحقيقة المؤسفة..وهي أننا – معشر الشعراء- عاجزون عن الخروج من أنفسنا والدخول في إنسان آخر..ولكنني اكتشفت أيضا – وهذا سلواني- أنني أحب نفسي فيك..ومعك لا أشعر أنني أجلس في حضرة إنسان غريب عني..بل أنت أنا..معك لا أحتاج للتجمل..ولا أفكر في الكلام قبل النطق به..ولا أتحفظ..ولا أشعر بالحرج من أي شيء..وربما لو وجدت امرأة مثلك – علي نفس ديني- ما ترددت لحظة واحدة في الارتباط بها..المهم أن ترضي هي بي..أفكر فيك كثيرا وأقول لنفسي بأن وجودك في حياتي مهم ..ولكن هل العكس صحيح؟؟..وأحاول أن أضع نفسي مكانك ..ويصدمني أن تكون الإجابة (لا) ..ومع ذلك أتقبلها..لأن العقل هو الذي يقول هكذا..والصراع الذي تعانيه كل البنات في المجتمعات الشرقية هو الصراع بين التوقع والواقع..هناك بنات يقبلن بمنتهي الواقعية أول من يطرق الباب ويمتلك الحد الأدني من توقعاتهن..فطالما هو جاهز ماديا وقادرعلي فتح بيت ويوجد شيء من الارتياح فهو مقبول..قد لايكون بالوسامة المتوقعة..ولابالرجولة وقوة الشخصية المتوقعة..ولكن هذه الأشياء لا توجد إلا في السينما فقط..المهم أن تري الزميلات في الدراسة أو العمل الدبلة وهي تلمع في اليد اليمني..وبقدر الإمكان سأحاول الظهور أمامهن بمظهر السعيد لكي أستمتع بنظرات الحسد في عيونهن..فخطوبتي المبكرة معناها أنني أكثر أنوثة منهن حتي وإن كنت أقل جمالا..هكذا تقول البنت الواقعية لنفسها..وأحيانا ما تقوم بواقعية لا أخلاقية – بمنطق الزمن الذي نعيشه- بتقسيم العمل..بمعني أنه لايجوز أن نخلط بين الزواج والحب..ودع مالله لله وما لقيصر لقيصر..هي تتزوج إرضاء للمجتمع وتمشي علي حل شعرها إرضاء لشهوة القلب والجسد..والبنت من هذا النوع هي غالبا لاتعرف معني للحب الروحاني..الحب دائما هو لقاء الجسد بالجسد..الحب هو سيل لاينقطع من الدباديب والاكسسوارات وزجاجات البرفان..ولعلك تعرفين الكثيرات من هذا النوعية..وهذه النوعية نوعان..واحدة تستمتع بإذلال الرجل الذي يلهث خلفها وتقوم بابتزازه ماديا ومعنويا(وهو طبعا يستحق ذلك)..والأخري لاتحب إلا الرجل الذي يريها النجوم في عز الظهر ولا يتورع عن إهانتها وضربها أمام الناس ومع ذلك هي تبوس التراب الذي يسير عليه وقد تنتحرإن تخلي عنها أو تعيش العمر تبكي عليه..وهذه النوعية هي التي تنتمي إليها أغلب بنات مجتمعنا ياصديقتي..أما أنت فأرفع من ذلك وإن كنت علي يقين بأنك مررت – في مرحلة من حياتك- بجميع المشاعر السابقة قبل أن تصلي إلي ما أنت فيه اليوم من عقلانية ومثالية في النظر إلي موضوع الزواج..ويؤسفني أن أقول لك بأن الموقف الأخيربقدر ما فيه من ترفع وقوة وحرية بقدر مافيه من قلق ووحدة ويأس..أنت الآن ياصديقتي قررت أن تختاري زوج المستقبل بمحض إرادتك وبكامل حريتك واعتبرت تدخل الأهل والأقارب والجيران تدخلا لامعني له ..فهذه حياتك أنت لا حياتهم..وهذا صحيح..ولكنك في نفس الوقت مطالبة بتحمل مسئولية نفسية ثقيلة..وبإذن الله ستقدرين علي تحملها..وسيكون قلق نافع ولن يكون يأس ..فمن له مثل عقلك وقلبك لاخوف عليه من تلك المشاعر السلبية..أنا علي ثقة بأن حياة جميلة – تستحقينها عن جدارة- في انتظارك..
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)